الفصل السابع

روسيا (١٨١٥–١٨٤٨): استمرار الأوتقراطية في روسيا وإلغاء الحكومة الذاتية في فنلندة وبولندة

تمهيد

في مفتتح القرن التاسع عشر كانت تختلف روسيا في تكوينها السياسي كل الاختلاف عن الدول الواقعة في أوروبا الوسطى والغربية؛ فكان الفستيولا، النهر الذي يمر في بولندة ويخترق بروسيا الغربية قبل أن يصب في بحر البلطيق، يفصل بين روسيا (في الشرق)، والتي بقيت دولة شبه آسيوية، وبين الدول التي تمتعت (في الغرب) بأقدار متفاوتة من الوحدة السياسية، والتي كان من المنتظر أن تزيد وحدتها السياسية توثقًا خلال القرن التاسع عشر، نتيجة لانتصار المذاهب القومية والحرَّة، وهو الانتصار الذي أسفر عن استعلاء نفوذ الطبقة البورجوازية، وكان في الوقت نفسه نتيجة له، واستئثار هذه الطبقة بالسيطرة في شئون الدولة. ولقد كانت روسيا وقتئذ بعيدة كل البعد عن هذا النظام السياسي والاجتماعي والاقتصادي السائد في غرب أوروبا.

والعوامل التي أوقفت تطور الشعب الروسي، ومنعت سيره الطبيعي في طريق الرقي كانت كثيرة، لعل أهمها: تأثره برواسب «البربرية» المتخلفة من غارات المغول في القرنين الثالث عشر والرابع عشر، ثم العزلة التي تحتم على شعب روسيا أن يعيش فيها؛ بسبب تكوين البلاد الجغرافي، الذي أوجد منحدرين للمياه لتجري أكثر أنهارها إما صوب الشمال نحو المحيط المتجمد الشمالي، وإما صوب الجنوب إلى بحر قزوين والبحر الأسود، فعاشت روسيا بسبب ذلك في عزلة فعلية عن بقية أوروبا قرونًا طويلة، ولا تشبه تضاريس روسيا أو مناخها في شيء تضاريس سائر أوروبا أو مناخها. فروسيا في مجموعها متناسبة التركيب جغرافيًّا؛ إذ تمتد بها السهول من جبال أورال في الشرق إلى جبال الكربات في الغرب. فكان من أثر هذه العوامل الجغرافية ازدياد عزلة روسيا، ثم اتسامها بذلك الطابع الشخصي الذي اقترن بحياتها الانفرادية، والذي كان أهم خصائصه؛ الركود العميق الذي أصاب بالشلل كل نشاط أو محاولة للسير في ركب الحضارة الأوروبية (الغربية)، وهكذا ظل ملايين الروس بمنأى عن نفوذ الدولة الرومانية الغربية، ولم يتأثروا بالنهضة الأوروبية، ولم تمتد إلى بلادهم حركة الإصلاح الديني، وهذه القوى الثلاث كانت ذات أثر بالغ في تطور أوروبا (الوسطى والغربية) الحضاري، ويرى كثيرون أن هؤلاء الروس الذين يعدون بالملايين، والذين عاشوا بمعزل عن المؤثرات التي ذكرناها، هم الذين تألَّف منهم ذلك الحاجز، أو «خط الحدود» الذي فصل روسيا عن أوروبا.

وكان بطرس الأكبر (١٦٨٢–١٧٢٥) أول قيصر بذل جهودًا جبارة لإدخال الحضارة الأوروبية (الغربية) إلى بلاده، ولكن هذه المحاولة لم تتجدد في عهد خلفائه؛ بطرس الثاني، ثم بطرس الثالث، ثم كاترين الثانية (١٧٦٢–١٧٩٦). حقيقة أفلحت هذه الأخيرة في أن ترفع شأن روسيا في محيط السياسة الأوروبية، ولكنها لم تفعل شيئًا لمعالجة المشكلة الكبرى؛ مشكلة إعادة البناء أو التنظيم الداخلي. ثم بقيت الحاجة ملحة للإصلاح الداخلي، وبصورة تعيد بناء المجتمع الروسي؛ سياسيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا على أسس متفقة مع المبادئ التي نادى بها الأحرار في أوروبا طوال القرن التاسع عشر. فالقيصر بول الأول (١٧٩٦–١٨٠١) ابن كاترين الثانية، والذي كان يكن لوالدته كراهية عظيمة بسبب إرهاقها له في حياتها، كان أوتقراطيًّا شديد التطرف، ولو أنه حاول كسب محبة الشعب وعطفه عليه، بالسماح لأفراد الشعب مثلًا بأن يبعثوا «بعرائضهم» للقيصر؛ ليتولى القيصر نفسه النظر في شكاواهم، والرد عليها، ونشر هذه الردود في صحف العاصمة «بطرسبرج»، ويعترف المؤرخون بأن القيصر بول، كان يبدو صادق الرغبة في إجبار روسيا على التخلي عن حياتها القديمة، والسير في طريق جديد يقود إلى حياة جديدة، ولو أن هؤلاء المؤرخين أنفسهم كانوا يشكون في أن لدى القيصر بول فكرة واضحة عن الغرض الذي يبغي تحقيقه؛ بل إن تصرفات القيصر في إدارة شئون البلاد الداخلية والخارجية معًا — وهو الذي أنهى محالفته مع الدولة الغربية ضد نابليون، وتحول ضد إنجلترة والنمسا، ثم أخذ يتأهب لإرسال حملة إلى الهند — نقول: إن هذا التصرف من جانب القيصر بول أفزع رجال البلاط والحاشية الذين عدوه، بالإضافة إلى نوبات الغضب الشديد، والنزعات الشخصية الهوائية «والجنون»، خطرًا يتهدد ليس أشخاصهم فحسب، بل والدولة كذلك، فتآمروا على قتله، وقتلوه في ١١ مارس ١٨٠١.

(١) الأمل في «الإصلاح»

وكان الذين تآمروا على حياة القيصر بول هم النبلاء، أصحاب الأراضي الواسعة، ثم كبار الممولين، الذين احتكروا المؤسسات الصناعية، والتجار الذين اعتمدوا في أرباحهم على التجارة مع إنجلترة خصوصًا، وكل هؤلاء من أهل الطبقات العليا، وهذا إلى جانب الوزراء وكبار رجال الدولة، والبلاط والحاشية والعسكريين الذين أصابت في الصميم إجراءات القيصر الأوتقراطية مصالحهم «الإقطاعية»، فاعتبروا وفاته «ضرورة» لا غنى عنها لبقاء النظام القائم. وأما سواد الشعب الروسي الذي لم تؤثر شيئًا في أسلوب حياته العادية، إجراءات القيصر الأوتقراطية، بل انتظر نتائج طيبة من ذلك العطف الذي بدا نحوه من جانب القيصر، فقد اختلف نظر سواد الشعب لوفاة القيصر بول عن نظر الطبقات العليا لهذا الحادث اختلافًا بَيِّنًا، فعقد الروس آمالًا كبيرة على خليفة بول وابنه الشاب إسكندر الأول (١٨٠١–١٨٢٥)، سواء كان هؤلاء من أهل الطبقات العليا أو من سواد الشعب.

فقد بدأ مع القرن التاسع عشر عهد ارتبط بالتغيير الذي حدث، من حيث اعتلاء عاهل جديد عرش القيصرية، وهو تغيير أوجد في أذهان الناس صورة لذلك «الإصلاح» الذي ساد الشعور بأنه قد بات ضروريًّا، سواء سار هذا الإصلاح في طريقه الطبيعي، أو اتخذ اتجاهًا عكسيًّا، ومعنى الاتجاه العكسي؛ أن يسترد الذين نالت من سلطاتهم إجراءات القيصر بول الأوتقراطية، كل امتيازاتهم القديمة التقليدية. فيرضى هؤلاء حينئذٍ عن «الإصلاح» في هذا العهد الجديد المنتظر، ومن شأن ذلك استمرار «الأوتقراطية القيصرية» بكل حذافيرها، وهي التي لم يغير شيئًا من جوهرها استئثار القيصرية المركزية بشطر أوفى من السلطة الحكومية الاستبدادية، على نحو ما هدف إليه القيصر بول الأول، ولم يكن من المتوقع أن يضعفها كذلك مشاركة النبلاء والعسكريين وحكام الأقاليم وأهل الطبقات العليا عمومًا في ممارسة السلطة، على نحو ما كان يريد هؤلاء من «الإصلاح» الذي نشدوه.

أما إذا سار الإصلاح المرجو في طريقه الطبيعي، فمعنى ذلك أن المبادئ الحرَّة سوف تنتشر في روسيا، وأن انتشار هذه المبادئ سوف يفضي، بعد خطوات قد تكون بطيئة أو سريعة، إلى تغيير الأنظمة الأوتقراطية القائمة، بفضل تأسيس الحكومة الدستورية، وإزالة مساوئ الحياة الاقتصادية والاجتماعية المرتبطة بهذه الأوتقراطية، وشر هذه المساوئ؛ نظام رقيق الأرض Serfdom المتغلغل في كيان المجتمع الروسي، ولا جدال في أن الإصلاح المرتقب وقتئذ إذا سلك طريقه الطبيعي في ضوء الآراء الحديثة التي أتت بها الثورة الفرنسية، ونشرتها في أوروبا حروب هذه الثورة والحروب النابليونية، فإنه سوف يؤدي إلى نتائج قريبة أو بعيدة الأثر، لعل أهمها؛ تحرير الفلاحين وهم الذين يتألَّف منهم رقيق الأرض، وظهور طبقة متوسطة (بورجوازية) ذات كيان واضح في المجتمع، وذلك على أنقاض الطبقة الإقطاعية التي سوف ينجم من زوالها؛ تغيير في نظام الإنتاج ووسائله تتشكَّل بمقتضاه العلاقات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في المجتمع الجديد.

ومع ذلك، فقد واجهت القيصرية في هذا العهد «الجديد» وهو العهد الذي بدأ باعتلاء القيصر إسكندر الأول العرش، مشكلات عاجلة، تتطلب حلولًا حاسمة وسريعة، يمكن إيجازها في ضرورة إنشاء جهاز حكومي لإدارة شئون الحكومة المركزية وفي الأقاليم، يفسح مجال العمل للمديرين الأكفاء، ويقضي على عوامل الرشوة والفساد في الأداة الحكومية، ثم ضرورة إعداد ميزانية متوازنة ولا عجز فيها، وتقدير إيرادات الدولة على أسس سليمة بفضل إعادة النظر في موضوع الضرائب من مباشرة وغير مباشرة، والتدقيق في وجوه إنفاق هذه الإيرادات، وتنظيم الجيش والبحرية، ومعالجة الشئون الدينية على أساس الحد من سلطات القساوسة ومجالسهم الدينية في المجتمع الروسي، والبحث في مسائل الثقافة والتعليم ومعالجة مشكلة رقيق الأرض، وتلك — كما هو واضح — مسائل تتصل جميعها بكيان المجتمع نفسه، ولم يكن القياصرة — من خلفاء بطرس الأكبر، وعلى نحو ما ذكرنا — قد حاولوا معالجتها، واتجهت بسببها الأنظار إذن للعاهل الجديد ليفعل ما عجز عنه أسلافه.

وعقد «المتنورون» — وكانوا من أهل الطبقات العليا خصوصًا — على القيصر إسكندر الأول الآمال الكبار في أن الإصلاح على المبادئ الحرَّة (الغربية) سوف يتم على يد هذا الحاكم الشاب، ولكن هؤلاء «المتنورين» والراغبين في «الإصلاح الطبيعي» لم يكونوا أصحاب الغلبة في هذا العهد أو حتى لسنوات طويلة بعد ذلك في العهود التالية، بل وُجدت إلى جانب هؤلاء الطبقة الرجعية، التي أصرَّت على التمسك «بالأوتقراطية» الصارمة التي يكفل بقاؤها استمرار قواعد المجتمع الإقطاعي الذي تمتعوا في نظامه بكل الامتيازات التي صارت لهم من أقدم الأزمنة، وتوقف لذلك، وإلى حد بعيد إذن، نجاح الإصلاح المنشود أو فشله على رغبة القيصر الشاب وإرادته، ومكانه في الصراع الذي نشب بين «الأحرار» و«الرجعيين».

ولقد مرَّ بنا كيف أن القيصر إسكندر في أول عهده كان يميل للمبادئ الحرَّة، التي لقنه إياها مربيه السويسري «فردريك سيزار لاهارب»، وكان هذا صاحب تأثير كبير على القيصر. فبقي إسكندر لا يستطيع إلى آخر أيامه أن ينبذ عنه تمامًا هذه المبادئ الحرَّة، وظل ذهنه «مفتوحًا للآراء الحرَّة، ولو أنه كان يخضع لموجات من التشاؤم»، ولا يجد ما يشجعه على المضي في تعضيد هذه الآراء الحرَّة، على نحو ما ظهر من مسلكه أثناء الحروب النابليونية، ثم أثناء عهد المؤتمرات الأوروبية في الفترة التالية. فكان القيصر كثير التحول من مبدأ إلى آخر، وكثير التردد بين معسكري الأحرار والرجعيين، فاتسمت سياسة القيصر بطابع التردد، وهو التردد الذي حاول مترنخ أن يجد تفسيرًا له فيما عزاه إلى ذلك التقلب الذي لا ينفك يحدث في آراء القيصر منذ أن تبدأ تختمر فكرة غضة في ذهنه، إلى وقت زوال هذه الفكرة لتحل محلها فكرة أخرى. فقال مترنخ: إن فكرة ما قد تشغل ذهن القيصر مدة عامين، قبل أن تخرج إلى عالم الوجود في شكل «نظام» معين، لا يلبث أن يجد القيصر نفسه مشغولًا طوال العام الثالث في «تطبيق» هذا النظام وتنفيذه، حتى إذا جاء العام الرابع، أخذت الشكوك تساور القيصر في قيمة النتائج التي يسفر عنها هذا النظام، ثم تقوى هذه الشكوك، حتى إذا جاء العام الخامس شوهد هذا النظام، وقد أخذ يتلاشى لتسود الفوضى مكانه، فلا يكون هناك إذن معدى عن نشوء «فكرة» أخرى جديدة، تتغلب في هذه المراحل ذاتها، وهكذا دواليك. مما جعل مترنخ يصف عقل القيصر بأنه يمر أو يتنقل في دورات، مدة كل واحدة منها خمس سنوات، وواضح أن هذا التبدل الذهني، كان لا يمكن أن تستقر بسببه أية «إصلاحات»، يترتب عليها تعديل أو تغيير جوهري في النظام السياسي القائم؛ أضف إلى هذا أن القيصر إسكندر كان يخضع «لعادة ذهنية» لا يتفق وجودها مع فن السياسة الصحيح؛ أي تدبير شئون الحكم بنجاح في الداخل والخارج معًا، ونعني بذلك شعوره بالاحتقار لشعبه، وإن كان لدرجة قليلة.

وينقسم عهد إسكندر إلى قسمين؛ أولهما: من ١٨٠١ إلى ١٨١٢، وثانيهما: ينتهي عند وفاته سنة ١٨٢٥. تميزت الفترة الأولى بأن مستشاري القيصر وموضع ثقته كانوا رجالًا مِمَّنْ عرفوا أوروبا الغربية ونالت الحياة الدستورية في إنجلترة تقديرهم، ومن هؤلاء كان الأمير البولندي آدم تزارتورسكي Adam Czartoryski، والنبيل الروسي كونت نيقولا نوفوسيلتزوف Novossilzoff، وزميله كونت بول ستروجانوف Stroganoff، ثم كونت ميخائيل سبرانسكي Speranski (١٧٧٢–١٨٣٩)، وكان سبرانسكي أصلًا من غير طبقة النبلاء الذين احتكروا في العادة كل المناصب الكبيرة في الدولة، ولكنه كان صاحب كفاءة إدارية، معجبًا بالإصلاحات الفرنسية، عَيَّنه القيصر وزيرًا للداخلية سنة ١٨٠٦، بالرغم من اصطدام هذا التعيين بالرأي السائد في دوائر النبلاء، وبقي سبرانسكي مستشارًا للقيصر حتى سنة ١٨١٢، وكان بفضل هذا الوزير أن أُدخلت تحسينات كثيرة على القوانين الروسية، فقد كان سبرانسكي معجبًا «بقانون نابليون»، ثم إن الآراء الحرَّة لم تلبث أن راجت رواجًا كبيرًا بين الأوساط المثقفة في روسيا بعد معاهدة «تلست» سنة ١٨٠٧ والتحالف مع فرنسا؛ حتى إن القيصر كلَّف وزيره بإعداد مشروع كامل للإصلاح، فوضع سبرانسكي في سنة ١٨٠٩ مشروعًا لدستور ينشئ برلمانًا دوما Duma من مجلسين، ويقرِّر مسئولية الوزراء أمام الهيئة التشريعية، ولكن هذا الدستور لم يُصدر بسبب مقاومة الرجعيين العنيفة أنصار «النظام القديم» في بلاد كان لا يزال تكوينها من كل النواحي إقطاعيًّا. ثم تآمر ضد سبرانسكي أعداؤه وهم الذين أوذيت مصالحهم بسبب إصلاحاته وتخوَّفوا من مشروعاته، ولما كان ذهن القيصر قد أتم إحدى «دوراته» التي وصفها مترنخ، فقد عمد القيصر فجأة ودون إنذار سابق إلى عزل سبرانسكي (في ١٧ مارس ١٨١٢)، فنفاه إلى الأورال (في برم Perm بإقليم قازان Kazan، ومن ذلك الحين وقف «إصلاح» الحكومة في روسيا، ولقد عاش سبرانسكي نفسه ليقوم في عهد القيصر نيقولا الأول، بجمع شتات القوانين الروسية في مجموعة قانونية واحدة، وكانت وفاته في سنة ١٨٣٩.

وفي القسم الثاني من عهد القيصر إسكندر؛ وقعت حملة نابليون على روسيا (١٨١٢)، كما اشترك الروس في «حرب الأمم» بعد ذلك لتحرير ألمانيا من السيطرة النابليونية، وتلك أحداث كان لها أثر عميق في حياة الروس وتفكيرهم، ثم إنها ساعدت بقوة على رواج المبادئ الحرَّة رواجًا عظيمًا بين طبقتي النبلاء والبورجوازية في روسيا؛ إذ اندفع الشباب في حماس شديد للانخراط في الجندية من أجل الاشتراك في الحرب التحريرية، ثم رجع الضباط من باريس بعد الانتصار على نابليون، وهم يحملون إلى أوطانهم الآراء الحرَّة الغربية لينشروها بها، ومع ذلك فقد أنهت الحروب ذاتها «عهد سبرانسكي»؛ أي عهد الإصلاح الحكومي على الآراء الحرَّة الغربية، باعتبار أن سبرانسكي كان مشايعًا للأساليب والأنظمة الفرنسية، وعلى ذلك ففي حين أدت الحرب إلى رواج المبادئ الحرَّة في روسيا، فإنها قد أبعدت في الوقت نفسه «الحكومة» ذاتها عن التأثر بها. فمع أن القيصر في السنوات القليلة التي تلت الحروب النابليونية، استمر حتى سنة ١٨١٨ يبدي في سياسته الخارجية ميولًا ظاهرة نحو تأييد المبادئ الحرَّة، فقد ظل في داخل بلاده لا يريد إدخال تغيير ما على الأوضاع السائدة عمومًا، (وإن كان قد أظهر بعض الميول الحرَّة في معالجة مشكلة رقيق الأرض)، فاستمرت الرجعية على شدتها، وضاع كل أمل في إصلاح شئون البلاد إصلاحًا يستند على المبادئ التي ينادي بها الأحرار في أوروبا، عندما تخلى القيصر عن آرائه الحرَّة كذلك في السنوات الخارجية بعد الحوادث التي وقعت في أوروبا بين سنتي ١٨١٧، ١٨٢٠، خصوصًا والتي ذكرناها عند الكلام عن «الاتحاد الأوروبي»، ولعل الاتجاه «الحر» الوحيد في هذه الفترة كان منح غراندوقية فنلندة «حكمًا ذاتيًّا» منذ ١٨٠٩، وإنشاء «مملكة بولندة الدستورية» سنة ١٨١٥، ومع ذلك فقد وقعت الاعتداءات على «حقوق» هذه الحكومات الذاتية الدستورية قبل وفاة القيصر إسكندر نفسه، ثم إن شيئًا ما لم يتغير في شئون روسيا الداخلية، وبقيت الأوتقراطية القيصرية على حالها، بالرغم من إعطاء بولندة «دستورًا»، وفنلندة «حكومة ذاتية».

وروسيا في سنة ١٨١٥؛ أي بعد انتهاء الحروب النابليونية، كانت قد بلغت ذروة رقعتها كدولة أوروبية، بفضل ما أظهره أباطرتها من جلد وقدرة على المثابرة أثناء الحروب النابليونية، ثم بفضل ما صار لها من نفوذ أدبي، رفع شأنها كنصير قوي لقضية الحرية بين الأمم الأوروبية، وخرجت روسيا من هذه الحروب التي كفلت لها التمتع بسمعة أدبية عالية، وقد جنت فوائد «مادية» ظاهرة، حيث قد استطاعت أن ترسم بصورة نهائية حدودها الغربية، وأن تتوسع في الوقت نفسه صوب الشرق والجنوب. فالقيصر إسكندر إلى جانب الحرب ضد نابليون، قد خاض في المدة من ١٨٠١ إلى ١٨١٥ حروبًا أخرى عديدة مع كل جيرانه — فيما عدا الصين؛ أي مع السويد وبولندة وبروسيا والنمسا وتركيا، وقبائل فنلندة، ومن بولندة؛ غراندوقية وارسو، ومن بروسيا؛ إقليم بياليستوك، ومن فارس: مقاطعات جورجيا وداغستان وإيميريتا Imeritia وجوريا Goria (وتقع كلها في جهات القوقاز)، ثم من النمسا؛ إقليم تارنبول Tarnopol، ومن تركيا؛ بسارابيا، وبذلك اتسعت رقعة روسيا من خمسة عشر مليونًا من الكيلومترات المربعة يقطن بها سكان عددهم (٣٣) مليون نسمة في عهد كاترين الثانية (١٧٦٢–١٧٩٦)، إلى عشرين مليونًا من الكيلومترات المربعة، وسكان يبلغون (٤٥) مليون نسمة في سنة ١٨١٥، ولا جدال في أن هذا الاتساع العريض والذي حصل «فجأة» أي في سنوات معدودات فقط، كان لا مناص من أن يضيف أعباء جديدة وخطيرة، تركت آثارها في كل نواحي الحياة الداخلية في روسيا.

(٢) بين «الإصلاح» والأوتقراطية

وكان من المشاكل التي نجمت من هذا الاتساع «المفاجئ»، ما تضخم ميزانية الدولة، وتزايد عجز الإيرادات عن سد نفقات الإدارة وشئون الحكم الأخرى، وما صحب ذلك من لجوء الدولة إلى فرض الضرائب الثقيلة، وتضخم النقد وانخفاض قيمة العملة الورقية.

ففي أول عهد القيصر إسكندر، بلغت الإيرادات حسب الميزانية الْمُعَدَّة لسنة ١٨٠٢؛ سبعة وسبعين مليون روبل (وقيمة الروبل وقتئذ ثلاثة شلنات إنجليزية)، والمصروفات تسعة وسبعين مليون روبل، وفي سنة ١٨١٠ حسب تقدير سبرانسكي وزير الداخلية، بلغت الإيرادات ١٢٧ مليونًا، والمصروفات ١٩٣ مليون روبل؛ أي إن العجز بلغ ٦٦ مليون روبل، وبلغت ديون الدولة الداخلية ٥٧٧ مليونًا من الروبلات، والخارجية ١٠٠ مليون؛ أي إنها بلغت أجمعها ٦٧٧ مليون روبل، وكان من أثر الحروب التي خاضتها روسيا ضد نابليون أن ارتفعت الميزانية ارتفاعًا عظيمًا، كما ارتفع العجز كذلك ارتفاعًا كبيرًا، فقد قُدِّرت الإيرادات في الميزانية لسنة ١٨١٤ بنحو ( ) مليون روبل، والمصروفات بنحو (٤٠٥) مليون روبل، بعجز يزيد على (٩٢) مليونًا وذلك قيمة العجز في الظاهر فقط؛ لأن العجز كان يزيد على هذا المبلغ كثيرًا؛ والسبب في ذلك أن الإيرادات المنتظرة كانت تشمل «موارد» مصطنعة، وفي العام التالي (١٨١٥) أمكن وضع ميزانية «متوازنة» في حدود (٣١٦) مليون روبل لكل من الإيرادات والمصروفات.
وكانت أهم أبواب الإيرادات المنتظرة عند وضع هذه الميزانية المتوازنة؛ ضريبة فردة الروس، والأوبروك Obrok — وهذه الأخيرة عبارة عن مبالغ معينة يدفعها الرقيق الذي لا يريد المالك استخدامهم في أرضه، ويأذن لهم «بإعارة» عملهم للغير في نظير أجر ينال منه المالك نسبة معينة في شكل جعل يدفعه الرقيق لأسيادهم سنويًّا، ويدفع هذه الضرائب الفلاحون التابعون للتاج (أي للدولة)، وكذلك الفلاحون الذين يملكهم الأفراد (أي الملاك) العاديون، ثم كان من أبواب الإيرادات؛ الضرائب الْمُحَصَّلة من التجار، وفردة الروس الْمُحَصَّلة من طبقة الملاك في المدن، وأعضاء النقابات، والضرائب التي يدفعها ملاك الأرض، ثم تلك الْمُحَصَّلة على الفودكا والمشروبات الروحية الأخرى، وأخيرًا الضرائب الجمركية.
أما أهم أبواب المصروفات فكانت؛ نفقات البلاط، والجيش والبحرية، ووزارات المالية والبوليس، وأقل المصروفات كانت على التربية والتعليم؛ حيث بلغت مليوني روبل فقط، وفي آخر عهد القيصر إسكندر قُدِّرت الإيرادات لميزانية ١٨٢٥ بمبلغ ٣٩٣ مليونًا من الروبلات. كانت قيمة الضريبة الْمُحَصَّلة على المشروبات الروحية، والفودكا فقط (١٢١) مليونًا، في حين ارتفعت الضرائب الجمركية إلى (٤٨) مليون روبل، وكان نصيب التربية والتعليم من المصروفات مليون.

وساءت مالية الدولة؛ بسبب انخفاض قيمة العملة المتداولة، واختفاء المسكوكات من الذهب والفضة، ونقص قيمة العملة النحاسية، ولم تلبث أن اختفت في السنوات التالية العملة الذهبية والفضية اختفاءً كاد يكون تامًّا، وانخفضت قيمة العملة النحاسية، في حين زادت العملة الورقية حتى بلغت في سنة ١٨١٥؛ سبعمائة مليون روبل، وفي أواخر سنة ١٨١٦؛ ثمانمائة وستة وثلاثين مليونًا، وفقد الورق النقدي حوالي ثلاثة أرباع قيمته، مما كان معناه أن الدولة صارت في حالة إفلاس فعلي، وحتى يمكن وقف الهبوط الذي حدث في قيمة الروبل الورق تدخلت الدولة في سنة ١٨١٧ لوقف إصدار العملة الورقية، واتخذت الإجراءات لسحب قدر من العملة الورقية من التعامل، فبلغ ما أمكن سحبه منها خلال خمس سنوات: (١٨١٧–١٨٢٢) مائتين وأربعين مليونًا. على أنه كان من المتعذر المضي في سحب العملة الورقية؛ بسبب العجز المزمن في الميزانية، والذي ألجأ الدولة إلى عقد القروض، واستصدار السندات اللازمة بقيمة هذه القروض، وكانت هذه بفائدة تزيد على ٧٪، يصير استهلاكها بدفع العملة الورقية التي هي صكوك دين بدون فائدة (على الدولة).

وابتلع الجيش، أداة السيطرة الفعالة في يد السلطة الحاكمة، وموضع اهتمام الحكومة الرئيسي حوالي ثلث إيرادات الدولة، وكان عبئًا ثقيلًا، استنفد قوى الأمة، حينما استطالت الخدمة في الجندية، فبلغت خمسة وعشرين عامًا، يخضع المجند خلالها لنظام صارم وبخاصة إذا كان جنديًّا عاديًّا، ولا يجد غذاء يكفيه حتى من أردأ أنواع الأطعمة، ويعيش عيشة تعسة في ملبسه ومسكنه، وأما عدد الذين فقدهم الجيش الروسي أثناء الحروب المتصلة بين سنتي ١٨٠٥، ١٨١٥، فقد بلغ (١٢٠٠٠٠٠) نسمة. كانت نسبة الذين سقطوا منهم في ساحة الوغى — ولا شك — قليلة بجانب أولئك الذين فتك بهم المرض والمشاق التي صادفوها أثناء الحملات العسكرية، وفي نفس هذه المدة بلغ عدد المجندين الجدد مليونًا ونصف مليون نسمة، وذلك خلاف فرسان القوازق الذين بلغوا أعدادًا عظيمة، واشتطت الحكومة في تجنيد الصالحين للخدمة بين سن الثامنة عشرة والخامسة والثلاثين، فشمل التجنيد المجرمين والمتشردين، وأما إذا تعذر وجود مجند لائق للخدمة في قرية من القرى، فقد كانت تستبدل به السلطات صبيًّا في سن الثانية عشرة لتدريبه وتهيئته للخدمة العسكرية، وأقفرت بعض الأقاليم (مثل: أستراخان Astrakhan من الشبان أو الرجال تمامًا، فصار لا يوجد بها غير النساء والأطفال والشيوخ والمصابين بالعاهات؛ لأن شباب الإقليم ورجاله الذين لم يُجَنَّدوا استطاعوا الهرب إلى فارس (إيران)، قبل أخذهم للجيش، وأبدى أهل الريف في حالات كثيرة مقاومة عنيفة ضد سلطات التجنيد، خصوصًا في المقاطعات البلطيقية، كما أن اللائقين للخدمة العسكرية كانوا يشوهون أجسامهم فرارًا من التجنيد، فبلغت نسبة الذين فعلوا ذلك في إقليم نوفجورود Novgorod مثلًا: ١٥٪، وكان اليهود معفيين من الخدمة العسكرية في نظير جعل كبير يدفعونه، ولكن ابتداء من سنة ١٨٢٧ صار التجنيد يشملهم، ومع أن عقوبات قاسية كانت توقع على الفارين من الجيش، فقد بلغ عدد الهاربين من صفوف الجيش كل سنة حوالي خمسة آلاف «جندي».
وابتدع القيصر إسكندر الأول نظام «المستعمرات العسكرية» تحت ستار إنساني يدعو في ضرورة أن يعيش الجند في زمن السلم مع عائلاتهم، وأن يزاولوا حرفهم وأشغالهم العادية. في حين كان الغرض الحقيقي من هذا النظام؛ أن يتكفل الفلاحون بحاجات الجند من الأغذية، وبحاجات خيولهم من العلف، فيعيش الجيش على موارد الفلاحين، ولا تتحمل خزانة الدولة نفقات جنودها، ولقد كان القيصر يريد قبل أي شيء آخر من نظام المستعمرات العسكرية، تأسيس «حرس إمبراطوري»، يلتف حول شخصه ويدين بالطاعة التامة للقيصر مباشرة، ويعيش منفصلًا عن الشعب وبعيدًا عنه، فيعطي الجنود (مع عائلاتهم) في هذه المستعمرات الأرض لزراعتها والحيوانات لاستخدامها في فلاحتها، ويزودون بالمباني لسكناهم إلخ، وأدخل القيصر هذا النظام لأول مرة سنة ١٨١٠ في مقاطعة موهيليف Mohilev التي أجبر كل الفلاحين بها على إخلائهم والانتقال مسافة طويلة من روسيا البيضاء، حيث توجد بها موهيليف إلى مديرية أخرى مقاطعة نوفوروسيسك Novorossisk في الجنوب على الشاطئ الشمالي الشرقي للبحر الأسود، في جهات القوقاز، وفي سنة ١٨١٥ أنشأ القيصر مستعمرة أخرى في ناحية فيزوتسك Visotsk من إقليم أو مديرية نوفجرود (في الشمال الغربي)، وفي هذه المرة أبقى الفلاحون، ولكن بعد وضعهم تحت سلطان قائد القوات العسكرية المطلق، وأدخل جميع أهل الناحية، من الإناث والذكور في عداد المعمرين العسكريين، واعتبر الأطفال من وقت ولادتهم ملحقين بالخدمة في هذه المستعمرة العسكرية، واعتبرت البنات الصغيرات زوجات في المستقبل للجنود، وحُرم الأهلون في المنطقة من بيوتهم وأسراتهم وعاداتهم وحرياتهم وكل حقوقهم، حتى الأولية منها، وتولى أحد مستشاريه والمقربين منه؛ الجنرال أليكسيس أراكشييف Arakchieff، تنفيذ هذا البرنامج (الذي لم يكن هو صاحبه أو مقترحه) بكل ما يملك من جهد وحيلة، لإنشاء سلسلة من المستعمرات العسكرية، التي تتألَّف من «الجنود الفلاحين»، والتي كان المنتظر من وجودها وعند نجاحها، أن تجعل الملكية (أي القيصرية) مستقلة عن طبقة كبار أصحاب الأراضي، ومتحررة من نفوذهم، وأن يتحول بفضلها الجيش الروسي إلى «شعب مسلح»، ولم تكن هذه في ذاتها «فكرة» جديدة، فقد سبق أن عمد إيفان الرابع الفظيع (١٥٣٣–١٥٨٤) إلى تأسيس بيروقراطية مؤلَّفة من طبقة من الموظفين الملتحقين بخدمة القيصر مباشرة، تتكفل الدولة بكل حاجاتهم ونفقاتهم، ثم لم يلبث أن نقل إليهم في أواخر أيامه نصف أملاكه مع تخويلهم حق استغلالها، وفرض ضرائب جديدة عليها، وتشغيل أهلها في أعمال السخرة، وذلك للإنفاق من إيرادها على الجيش والبلاد فحسب.
وقد عُرف هذا النظام باسم أوبرشنينا Oprichnina، والموظفون في هذا النظام باسم أوبرشنيك Oprichniks، وكان غرض القيصر إيفان الرابع من إنشاء هذا النظام حماية سلطانه، وحكومته الأوتقراطية، من طبقة كبار ملاك الأراضي، أو البويار Boyars، فأراد القيصر إسكندر الأول الآن، بإنشاء هذه «المستعمرات العسكرية» أن يتحرر النظام القيصري من أي نفوذ لهؤلاء الملاك الذين ما فتئوا يتذمرون من حرمانهم ثمرة «جهودهم»، كلما انتزع التجنيد الإجباري «فلاحيهم» من الأرض التي يملكونها، (وبما عليها من فلاحين كذلك)، واعتقد القيصر إسكندر إذن أن تدعيم الأوتقراطية القيصرية سوف يترتب حتمًا عن إنشاء «المستعمرات العسكرية»، وأن من شأن هذا النظام عند نجاحه أن ينقل «القيصرية الإقطاعية»، التي تأسست أصلًا على قاعدة التمثيل الطبقي (عن النبلاء ورجال الكنيسة والمزارعين أو الفلاحين من غير الأقنان، في المجالس التي كانت تدعوها القيصرية للتشاور من وقت لآخر)؛ ينقلها إلى استبدادية عسكرية بحتة، وهو غرض سوف يتمكن القيصر كذلك من تحقيقه، وعلى نحو ما صح عليه عزمه، بفضل فصله الضباط وجعلهم يعيشون بعيدين ومعزولين عن النبلاء في هذه المستعمرات العسكرية. كما كان من المنتظر عزل الضباط النبلاء في آلايات «حرس سان بطرسبرج» على حدة في الجيش الذي سوف يعاد تنظيمه.
ومع أنه كان من المستحيل نجاح مثل هذا النظام، في آخر الأمر، لسبب جوهري واحد، هو اصطدامه مع رغبات «وإرادة» الجنود، والضباط، وملاك الأراضي، والفلاحين (بطبيعة الحال)، وعلى حد سواء. في حين أخفقت السخرة المستخدمة في فلاحة الأرض في إنتاج المحاصيل الطيبة، ولم يسفر «تدريب الجنود» عن نتائج طيبة كذلك، وكان رؤساء هذه المستعمرات العسكرية يجهلون شئون الزراعة، وكثيرًا ما هلك «الجنود الفلاحون» من المجاعة، ومع ذلك، وبالرغم مما هو معروف عن تردد القيصر وعدم ثبوته طويلًا على شيء واحد، فقد ظل إسكندر الأول متشبثًا بتنفيذ مشروع «المستعمرات العسكرية»، وتحت إشراف الجنرال «أراكشييف» تقدم تنفيذ هذا المشروع بكل سرعة، حتى صارت هذه المستعمرات العسكرية في خلال عشر سنوات فقط منتشرة في جهات عديدة من روسيا، وحتى صارت تضم في سنة ١٨٢٥ (وهي آخر سني حكم إسكندر الأول) ثلث قوات الجيش الروسي تقريبًا. فكانت هذه المستعمرات العسكرية تؤلِّف «جيوشًا» منفصلة، وموزعة في هذه المراكز المختلفة، فبلغت (٩٠) أورطة في مستعمرة نوفجرود، و(٢٤٩) كتيبة في مستعمرات خاركوف Kharkoff وخرسون Kherson، إيكاتير ينوسلاف Ekaterinoslaff، وكلها في إقليم الأوكرين، ويقع عبء «إعالة» كل هذه القوات على عاتق أربعمائة ألف من الفلاحين، وكان القيصر إسكندر يريد تعميم هذا النظام في كل روسيا، ولكن حالت وفاته دون نزول هذه الكارثة «بالفلاحين» خصوصًا، ولما كان القيصر بعد سنة ١٨١٥ قد أراد بقاء الجيش في الخدمة العاملة دائمًا، وأن يكون لروسيا جيش يضاهي في عدده قوات النمسا وبروسيا مجتمعة، فقد بلغ عدد الجيش العامل في روسيا في سنة ١٨٢٥ حوالي؛ خمسمائة قائد وثمانية عشر ألف ضابط من الرتب الأخرى، وسبعمائة وثلاثين ألف جندي.
وكان في عهد القيصر بول الأول أن أُعيد تنظيم البحرية (١٧٩٧)؛ بسبب شغفه بشئون البحر فاتخذ لقب «أمير البحر العام»، وفي عهده تألَّف الأسطول الروسي من (١٢) بارجة قوة كل منها (١٠٠) مدفع، و(٢٦) أخرى قوة كل واحدة منها (٧٤) مدفعًا، ثم (١٢) تحمل كل منها (٦٦) مدفعًا، وهذا إلى جانب (٤٥) فرقاطة، وكان هذا النشاط وقتذاك موجهًا ضد إنجلترة الدولة البحرية الكبيرة، والتي نقض القيصر تحالف روسيا معها (ومع بروسيا والنمسا) ضد نابليون، ولكن لم يلبث أن تغير الموقف عند اعتلاء القيصر إسكندر العرش وَقَلَّ الاهتمام بالبحرية، حينما صار إسكندر من بداية عهده، وخلال أكثر سنوات حكمه يطلب مؤازرة إنجلترة من جهة، ويوجه كل عنايته لتعزيز قواته (جيوشه) البرية، وفي عهد هذا القيصر بدأ في سنة ١٨١٧ بناء السفن التجارية في روسيا لأول مرة، وعند وفاته (١٨٢٥) كانت البحرية الروسية تتألَّف من أسطول بحر البلطيق، من خمس بوارج، وعشر فرقاطات، وجميعها في حالة سيئة، ثم حوالي (١٥–٢٠) سفينة أخرى لا تصلح للخدمة، ثم أسطول البحر الأسود، وذلك كان في حالة أفضل نسبيًّا، ويشمل عشر بوارج وست فرقاطات واثنتي عشرة سفينة صغيرة، وكلها صالحة للخدمة، ثم أسطول بحر قزوين، من خمس سفن صغيرة وسبع نقالات، وأما أسطول الباسيفيكي (في بحر أوخوتسك) في Okhotsk في الطرف الشمالي الشرقي من سيبريا، فكان من سبع نقالات فقط.

ولقد حظي الأسطول بعناية القيصر نيقولا الأول (١٨٢٧–١٨٥٥)؛ بسبب أن آراء هذا القيصر السياسية كانت تقوده إلى الاصطدام مع تركيا وإنجلترة، ولأن النصر السهل الذي أحرزته أساطيل الدول المتحالفة (روسيا، فرنسا، إنجلترة) على الأسطول العثماني المصري في مياه نقارين (١٨٢٧) جعله يتحمس لبناء أسطول روسي كبير. فبلغت قوة أسطول بحر البلطيق في سنة ١٨٣٠؛ ثماني وعشرين بارجة، وسبع عشرة فرقاطة، وأسطول البحر الأسود؛ إحدى عشرة بارجة وثماني فرقاطات، ومع ذلك فقد كانت دراية رجال هذه الأساطيل وكفاءة ملاحيها دون المستوى المطلوب في فنون البحر والملاحة، كما كانت قدرة الأسطول نفسه الحربية موضع شك كبير.

ولقد كانت تهيمن على إدارة شئون الحكم — هيمنة ظاهرية ولا شك — ثلاث هيئات إدارية هي؛ مجلس الدولة، ومجلس الشيوخ، ولجنة الوزراء، وتأسس مجلس الدولة سنة ١٨٠١ ليضطلع أصلًا بشئون التشريع والقضاء، ولكن لم يلبث أن جُعلت وظائفه في سنة ١٨٠٤ مقصورة على مسائل التشريع. حتى إذا وضع سبرانسكي مشروعه المعروف للإصلاح بتكليف من القيصر (في سنة ١٨٠٩)، كان من المنتظر أن يكون لهذا المجلس شأن كبير في الإصلاحات الدستورية وتلك المتعلِّقة بالملكية (أو القيصرية) في الإمبراطورية، ولكن بسقوط سبرانسكي (١٨١٢) بقي مجلس الدولة هيئة مختصة بشئون التشريع، ولو أن نشاطه كان على وجه الخصوص نشاطًا علميًّا (أكاديميًّا)، حيث عنى بجمع القوانين وتنظيمها في مجموعة قانونية واحدة، وذلك عمل استغرق سنوات عديدة، وتكلَّف نفقات وجهودًا طائلة، ثم تَبَيَّن في آخر الأمر أنه يكاد يكون عديم القيمة. فقد تشكَّلت لجنة جمع القوانين في سنة ١٨٠٤ — وكانت هذه هي العاشرة من نوعها منذ سنة ١٧٠٠ — واستطاعت بعد سنوات عديدة إنجاز ثلاثة أقسام فحسب من مشروع القانون المدني، وهي الخاصة بالأشخاص والأشياء والالتزامات، ولكن لم يلبث أن توقف هذا العمل عند عرض مشروع هذه القوانين على مجلس الدولة، ثم تعطل العمل نهائيًّا بعد سنة ١٨١٥، وفيما عدا التظاهر بإعداد مجموعة قوانين الدولة هذه، لم يبدُ من جانب مجلس الدولة في هذا الوقت أي نشاط آخر؛ بل إن هذا المجلس لم يكن له نفوذ ما في توجيه شئون الحكم أو معالجة مشكلات سياسة البلاد الداخلية.

وكانت اختصاصات مجلس الشيوخ الرئيسية إدارية وقضائية معًا، وبصورة كان يجب أن تجعل من هذا المجلس «محكمة استئناف عليا» من ناحية، وتخوله الحق كأداة حكومية في الإشراف الرئيسي على الإدارة من ناحية أخرى، ولكن هذا المجلس استمر يفقد تدريجيًّا ما كان له من سمعة طيبة، وذلك ابتداءً من عهد بطرس الأكبر، حتى لم يعُد له شأن ما أيام القيصر إسكندر، فأصبح على أيامه خاضعًا لرئيسه؛ وزير العدل، الذي كان «عين الإمبراطور»، ولم يعد لمجلس الشيوخ أية أهمية سياسية؛ بل إنه صار عاجزًا عن تأدية وظائفه القضائية بصورة مرضية. فكان المجلس يتألَّف مناصفة من بين القواد العسكريين القدامى الذين تركوا الجيش، ومن بين قدامى الموظفين، الذين تقدمت بهم السن وصاروا لا يصلحون لخدمة الدولة، ولم يكن الشيوخ من الفريقين — إلا في حالات نادرة — حريصين على تأدية واجباتهم، أو يواظبون على الحضور، كما كانوا يجهلون القوانين، ولا خبرة لهم في تصريف الشئون العامة، وكثيرًا ما كانت تُنظر القضايا في هذا المجلس أمام شيخين، أو أمام شيخ واحد فقط، وأدى جهل الشيوخ بالقانون إلى استئثار موظفي المجلس بالفصل في القضايا، حتى صار هؤلاء هم الذين يقومون بوظائف الشيوخ القضائية؛ فأُتيحت الفرصة لانتشار الرشوة، وتراكمت القضايا التي لم يفصل فيها المجلس، من سنة إلى أخرى. ثم إن مجلس الشيوخ لم يقم بتأدية وظيفته الرئيسية، وهي وضع القوانين، فظل يتأجل استصدار القوانين (الأوامر) القيصرية Ukases سنوات طويلة، (خمسة عشر عامًا في إحدى الحالات)، كما تعطل وضع القوانين التي يستصدرها مجلس الشيوخ موضع التنفيذ بسبب سوء التنظيم الإداري، فبلغ عدد القوانين أو الأوامر القيصرية التي أصدرتها المصالح المختلفة إلى جانب مجلس الشيوخ؛ ما يزيد على خمسة آلاف بين سنتي ١٨٠٥ و١٨١٩، لم يكن حتى سنة ١٨٢٢ قد تنفذ منها قانون واحد، ولقد نشط مجلس الشيوخ في «التفتيش» على الإدارة في المديريات، وذلك في السنوات التي تلت استتباب السلام (بعد الحروب النابليونية) عندما كان القيصر إسكندر لا يزال متحمسًا لإصلاح مساوئ الإدارة، ومع ذلك فقد كان الشيوخ المكلَّفون بهذه الجولات التفتيشية يجهلون الأوضاع المحلية، ولا يحاولون معرفة أسباب هذه المساوئ الإدارية، فكان تفتيشهم «سطحيًّا»، ولم يكن يسفر عن نتيجة غير استقالة حاكم المقاطعة وتعيين آخر محله كثيرًا ما كان أردأ من سابقه، وذلك في الحالات التي قد «تثمر» فيها هذه الجولات التفتيشية.

وأما لجنة الوزراء، فقد تأسَّست في سنة ١٨٠٢، ولم تكن هذه هيئة ذات كيان مستقل وخاص بها؛ بل كانت «معبرًا» يقدم الوزراء بالاشتراك فيما بينهم تقاريرهم إلى القيصر بطريقه، ولم تلبث هذه اللجنة أن نالت سلطات أوسع عندما خرج القيصر للاشتراك في حملة سنة ١٨٠٥ (ضد نابليون)، ثم صار لها في سنة ١٨٠٨ حق الإشراف البوليسي الكامل على شئون الأمن العام، وعندما خرج القيصر في حملة ١٨١٢ أُعيد تنظيم لجنة الوزراء، وتعيَّن لها رئيس دائم، كما انضم إليها رؤساء المصالح في مجلس الدولة والحاكم العسكري لبطرسبرج، ومع ذلك فإن لجنة الوزراء هذه لم تلبث أن فقدت أهميتها لدرجة كبيرة بعد انتهاء حروب نابليون (١٨١٥)، فصار القيصر يطلب من كل وزير تقديم تقريره عن وزارته، على حدة، وعلى نحو ما كان متبعًا في الماضي، ولم يعد القيصر يحضر جلسات اللجنة، وهكذا لم تعد لجنة الوزراء، الهيئة التي تتركز بها السلطة العليا في الدولة؛ ولقد كان ذلك هو الغرض الأساسي الذي أُنشئت من أجله هذه اللجنة، وصار الوزراء يؤثرون عرض مسائلهم وتقاريرهم على القيصر مباشرةً، بدلًا من تقديمها للجنة؛ ولقد ترتب على ذلك أن أصبحت لجنة الوزراء مجرد أداة من أدوات البيروقراطية القيصرية تتحمل الدولة بسببها نفقات طائلة، ولا تفيد شيئًا من وجودها، ومع ذلك فقد بقيت الوزارات التي تأسست منذ ١٨٠٢، تحتفظ بذلك التنظيم الذي أدخله عليها «سبرانسكي» في سنة ١٨١١. فكان لكل وزارة مجلس وزاري من رؤساء المصالح التابعة لها وكبار موظفي الوزارة، ومهمته التشاور مع الوزير. وبلغ عدد الوزارات ثمانية؛ الخارجية، والداخلية، والحرب، والبحرية، والتعليم، والمالية، والقضاء والبوليس، في حين جُعلت مصلحتا الأشغال العامة والمراقبة المالية من درجة هذه الوزارات، وانفردت بمركز خاص كل من إدارة البلاط الإمبراطوري وإدارة الشئون الكنسية. وفي سنة ١٨٢٠ ضُمت وزارة البوليس إلى وزارة الداخلية، وفي سنة ١٨٢٦؛ تحددت اختصاصات سلطات الوزارات رسميًّا بالصورة التي بقيت متبعة إلى أوائل القرن التالي، وفي رأي كثيرين، لم يكن يوجد من بين الوزراء الذين شغلوا مناصبهم في عهدي إسكندر الأول ونيقولا الأول، مَنْ يمكن وصفه بالذكاء أو قوة الشخصية الحقيقية، وذلك إذا استثنينا «كابوديستريا» الذي تولى وزارة الخارجية حتى سنة ١٨٢٢.

وفي الأقاليم، كان يرأس «الحكام» أو المديرون الإدارة المحلية في المقاطعات، تعاونهم المجالس والمحاكم، ويشرف مديرو البوليس على أعمال الشرطة في المدن الرئيسية في المديريات، والمأمورون في المراكز، وضباط البوليس الريفيون Ispravnik في النقط الريفية، وقد استمر العمل بهذا النظام في عهد إسكندر الأول ابتداءً من سنة ١٨١٥ إلى نهاية أيامه، وكان إسكندر متأثرًا في هذا النظام بفكرته القائلة بضرورة تقسيم إمبراطوريته الواسعة إلى وحدات إدارية ذات استقلال داخلي، وهي نفس الفكرة التي ارتبطت ارتباطًا وثيقًا بأغراضه من التنظيم «الدستوري» الذي أراده لروسيا ومشروعاته الخاصة بتوسع «مملكته» في بولندة التي أراد أن يضم إليها على الأقل أجزاء من مقاطعات ليتوانيا Lithuania، وبعد سنة ١٨١٥، كانت هناك اثنتا عشرة «حكمدارية» عسكرية من هذا الطراز. على أنه كان كذلك يوجد إلى جانب هذه الحكمداريات العسكرية الاثنتي عشرة، أقاليم ذات إدارات خاصة بها؛ مثل مملكة بولندة، وغراندوقية فنلندة، ثم مقاطعة بيالستوك Bialystok التي ضُمت في سنة ١٨٠٧، ثم أُدمجت بعد سنوات عدة (١٨٤٢) في مقاطعة جردنو Grodno، وكذلك الإدارة العسكرية في القوقاز، وإقليم قوزاق نهر دون Don، وأخيرًا الإدارة العسكرية المنفصلة في كل من بطرسبرج وموسكو.

والرأي متفق على أن الفساد كان مستشريًا في كل فروع الإدارة في هذه الإمبراطورية الواسعة؛ فالوظائف العامة تُباع وتُشترى، ولا يشغلها غير الذين لهم القدرة على دفع أكبر ثمن لها، أو يعتمدون على توصية من صاحب جاه أو نفوذ، وكانت الرشوة ضاربة أطنابها في كل فروع الإدارة ووظائفها، وتعتبر موردًا هامًّا للرزق لطائفة ضخمة من الموظفين الذين يتناولون المرتبات الضئيلة، ولم يطرأ تغيير على فئات المرتبات، التي حُدِّدت منذ سنة ١٧٧٢ بالرغم من ارتفاع نفقات المعيشة وانخفاض قيمة النقود (قوتها الشرائية)، وانعدمت الرقابة كلية، بل كان الحكام (المديرون)، أصحاب السلطان المطلق في مديرياتهم، والذين لم يكونوا مسئولين إلا أمام القيصر نفسه، يرتكبون كل أنواع المخالفات والجرائم. وأسوأ مثال يحتذي به الموظفون تحت إدارتهم، فهم ينهبون الخزانة العامة في مقاطعاتهم، ويبتزون الأموال من الأهلين، ويرغمونهم على تقديم الرشوة لهم، وضج الأهلون، وكثرت شكاياتهم؛ فقامت لجان للتفتيش على أعمال الحكام، في السنوات القليلة التالية لسنة ١٨١٥، فأسفر تفتيشها عن عزل بعض الحكام وتقديمهم للمحاكمة، ومع ذلك فقد خلفهم حكام كانوا أسوأ من سابقيهم وخشي الناس من انتقام الرؤساء، فامتنعوا عن الشكوى، وإن كان الحال قد زاد سوءًا، ويذكر المؤرخون مثالًا على مبلغ ما وصل إليه الفساد، ما يُعرف باسم «إيراد الفودكا» أو الدخل المتحصل من إقبال الأهلين على شربها، فقد صار ملتزمو هذا الشراب الأثرياء يرشون الحكام أو المديرين؛ حتى يتعاونوا معهم على ترويج الفودكا، من جهة، واختلاس قسم كبير من الأموال المتحصلة من بيعها، من جهة أخرى. فلم تلبث الحكومة أن احتكرت في سنة ١٨١٩ هذا الشراب في المديريات الرئيسية حتى تعوض خسارتها، ومن ذلك الحين أبدت الحكومة نشاطًا كبيرًا في جعل الأهلين يشربون ويسكرون، فأنشأت المحال العامة، والحانات، وصالات الرقص والموسيقى، والبلياردو في كل مكان، ولم يعدم الحكام أو المديرون الوسيلة التي جعلتهم يستفيدون من هذا النشاط الحكومي، فكان صنائعهم هم الذين يديرون هذه المحال العامة والحانات إلخ، كما صاروا يتفقون سرًّا مع ملتزمي «الفودكا» السابقين على إدارة هذه المحال، ووقع العبء على كاهل الأهلين، الذين دفعوا عن مشروب الفودكا الذي ارتفع حتى بلغ الضعف، وعندئذٍ لم تجد الحكومة مناصًا من إلغاء احتكار الفودكا (سنة ١٨٢٧) والعودة إلى نظام الالتزام.

وحذا صغار الموظفين ورجال الإدارة حذو كبارهم، فصاروا ينهبون ويسرقون الناس دون شفقة أو رحمة، ولم يكن هناك أي رجاء في أن ينال متقاضٍ حقه إلا إذا دفع رشوة كبيرة للقضاة، سواء في المحاكم الصغيرة، أو أمام المحكمة العليا، واستولى المسئولون عن «السجون» على الأموال المخصصة للإنفاق على المسجونين بها، فعاش هؤلاء الأخيرون في شقاء، حيث كادت تكون أبنية السجون مُهدمة خربة تمامًا، ويعيش نزلاؤها على إحسانات الناس وصدقاتهم، وأما هذه السجون القذرة وَالْمُخَرَّبة فكانت تضم إليها الرجال والنساء والأطفال، دون تمييز نوع الجرم الذي ارتكبوه، ودون أن تعزل فريقًا عن فريق. وحدث في سنة ١٨١٨ أن حضر إلى بطرسبرج اثنان من أتباع مذهب الكويكرية، هما وليم ألن William Allen، جريل دي موبيليه Grelle de Mobillier لزيارة سجون روسيا، فاستبد بهما الفزع من حالة السجون لدرجة أنهما أبلغا القيصر نفسه نتيجة مشاهدتهما لعله يفعل شيئًا لإدخال الإصلاح اللازم، ومع أن إسكندر أبدى اهتمامًا زائدًا بأقوالهما، إلا أن شيئًا لم يحدث لتغير نظام السجون في روسيا.
وفي هذا الوقت، كان أكثر من ثلثي سكان روسيا من أتباع الكنيسة الأرثوذكسية، فبلغ عدد الأهلين الأرثوذكس في سنة ١٨٢٥ (نهاية عهد إسكندر الأول) حوالي ٣٤ مليونًا (عدا الجيش)، أما عدد القساوسة والرهبان فبلغ ١١٥٧٠٠، عدا الراهبات وعددهن ٥٣٠٠، وبلغ عدد الكنائس ٢٧٠٠٠ منها ٤٥٠ كتدرائية، وحوالي ٨٠٠ معبد صغير. أما الأديرة للرهبان فكانت ٣٧٧، وللراهبات ٩٩، وبلغ عدد المعاهد العليا الكنسية ثلاثة، والكليات الإكليرية ٣٩، والمدارس الكنسية بمختلف أنواعها ٢٩٨، وعدد تلاميذها ٤٥٠٠٠، وبلغت قيمة الأموال التي كانت في يد الكنيسة الأرثوذكسية للإنفاق منها على التعليم: ١٠٥٠٠٠٠٠ روبل، في حين بلغ ما تنفقه الكنيسة سنويًّا حوالي ٩٠٠٠٠٠ روبل، وكانت هناك أربع رسالات تبشيرية في أوسيتيان Ossetian في القوقاز، وفي ساموييد Samoyede في أركانجل Archangel، وفي سيبريا، ثم في بكين في الصين، وكانت الصينية والمنشورية تُستخدمان للتعليم في هذه البعثة أو الإرسالية التبشيرية الأخيرة، كما كانت تقوم بدور سياسي كذلك.

وعاشت الغالبية العظمى من هؤلاء القساوسة الأرثوذكس عيشة بؤس وتأخر، من النواحي الخلقية، والذهنية (الثقافية)، والمادية، ولما كان المتزوجون منهم أصحاب أسرات كبيرة، فقد عاشوا هم وأولادهم في فقر، تخيم عليهم الجهالة، وكانوا في أبرشياتهم موضع ازدراء الناس وتحقيرهم. وكان في سنة ١٨٠٢ فقط أن صدر أمر قيصري يمنع توقيع العقوبة البدنية على القساوسة، ومنذ ١٨٠٨ صدر أمر آخر لمنع توقيعها على زوجاتهم، وكان الرهبان على وجه الخصوص، أكثر تنورًا من سائر رجال الدين، ثم إنهم كانوا على جانب من القوة، أمكنهم بفضله أن يحموا أموال الأديرة وأملاكها من أن تمتد إليها أيدي السلطات الزمنية، ومع ذلك فقد كان كبار رجال الدين (والكنيسة) الذين نشئوا بين هؤلاء الرهبان، وتولوا الزعامة، من الذين عُرفوا بالجشع، والتعصب، والطموح المتطرف.

وكان مجمع الكنيسة Synod هو صاحب السلطة الكنسية العليا، ومنذ إنشائه في سنة ١٧٢١ بقي هذا المجمع خاضعًا — في الظاهر على الأقل — خضوعًا كليًّا للسلطات الزمنية الحكومية، وفي عهدي كاترين الثانية (١٧٦٢–١٧٩٦)، وبول الأول (١٧٩٦–١٨٠١) فرضت عليه «الحكومة» رقابة فعالة، ولو أن «المجمع المقدس» كان لا يني يطمح سرًّا في التحرر من كل سلطان حكومي عليه، والظفر باستقلاله، بل وأن يكون له نفوذ على الحكومة ذاتها، وكان سيرافيم Seraphim رئيس أساقفة تفير Tver (ثم موسكو، وأخيرًا بطرسبرج، ورئيسًا للسنيود حتى سنة ١٨٤٣) أبرز مَنْ يمثل هذا الاتجاه من رجال «مجمع الكنيسة»، وكان ضيق الأفق، معروفًا بشدة التعصب، كما كان «سياسيًّا» ماهرًا، استخدم أداة لتنفيذ أغراضه الأرشمندريتي فوتيوس Photius، من رجال الدين الذين اشتهروا بالعبادة والورع، وكان صاحب أطماع واسعة، عُرف بالمكر والدهاء، ومع ذلك فقد ضم «مجمع الكنيسة» رجلًا من طراز آخر، هو فيلاريت Philaret، رئيس أساقفة ياروسلاف Jaroslaff، ثم منذ ١٨٢١ موسكو)، وكان صاحب ثقافة عالية ويدين بآراء حرَّة، ويؤمن بضرورة إصلاح الكنيسة، ولكنه في الوقت نفسه لم يكن له نفوذ، ثم لم يلبث «فوتيوس» أن اتهمه بأنه من «الماسونيين»، كما اتهمه «سيرافيم» بأنه خارج على الأرثوذكسية، وصاحب ميول لوثرية.
وأراد إسكندر إصلاح الكنيسة، وإزالة المساوئ التي شكا منها الأهلون، الذين استغلهم القساوسة والرهبان أسوأ استغلال، كما أراد أن يُعَيَّن لرجال الدين مرتبات ثابتة، وأن تعنى الحكومة برفع مستواهم الروحي والذهني، وبالفعل بدأت الحكومة تدفع المرتبات لهؤلاء منذ سنة ١٨١٤، وفي سنة ١٨١٢ تأسست بمعاونة القيصر «جميعة للكتاب المقدس» على غرار جمعية «الكتاب المقدس البريطانية»، ونجحت هذه الجمعية في أعمالها، فأخرجت خلال السنوات التسع الأولى من حياتها (١٢٩) طبعة للكتاب المقدس، بلغ عدد نسخها (٦٧٥٠٠٠)، وحاولت الحكومة إخضاع النظام الإداري الكنسي لرقابتها، فصدر أمر في سنة ١٨١٧ لإصلاح هذه الإدارة ووضعها تحت إشراف وزارة التعليم، وهي التي أشرف وزيرها جاليتزين Galitzin كذلك مباشرةً على «مجمع الكنيسة» بعد أن أُعيد تنظيمه، ومما يجدر ذكره أن القيصر إسكندر الذي عرفنا أنه كان متأثرًا «بصوفية» مدام دي كرودبز، في ميوله الدينية في هذا الوقت، لم يلبث أن أنشأ صلات مع «روما» وعيَّن سفيرًا مقيمًا لدى الكرسي البابوي، وفي سنة ١٨١٨ أبرم اتفاقية دينية (كونكردات) مع البابا «بيوس السابع» تأسَّست بمقتضاها رياسة أساقفة «كنيسة» وارسو، وصار تنسيق العلاقات بين الكنيستين (الأرثوذكسية والكاثوليكية) في رئاسة أساقفة «موهيليف»، ويبدو أن فكرة اتحاد الكنيستين كانت تجول في ذهن إسكندر — وكانت قد بدأت جديًّا في عهد القيصر بول — ولو أن إسكندر لم يكن يدرك الصعوبات التي تعترض إخراج هذه الفكرة إلى حيز الوجود، ومع ذلك فإن القيصر لم يلبث أن نبذ ظهريًّا حتى تلك القرارات «المتواضعة» التي اتُّخذت لتنظيم شئون الكنيسة الأرثوذكسية.
فقد كان المنتظر أن يلمس «مجمع الكنيسة» في الإجراءات التي سبقت، خطرًا يتهدد السلطة الكهنوتية القائمة؛ ولذلك فإنه سرعان ما دخل في نضال عنيف مع الحكومة، وتولى «سيرافيم» قيادة هذا النضال، كما كان أكبر الذين حرضوا عليه، وثابر على استثارة الشعور ضد الإصلاح من سنوات مضت بين أفراد طبقات المجتمع العليا، المعروفين بالرجعية، واستخدم «فوتيوس» للتأثير على القيصر. فما إن تغيرت ميول القيصر الحرَّة، حتى انتهز «فوتيوس» الفرصة لمقابلة القيصر (سنة ١٨٢٢)، والتنديد ليس بأنصار الإصلاح فحسب، مثل الوزير «جاليتزين»؛ بل وبالحركة المؤيِّدة لحرية الرأي، وجمعية الكتاب المقدس، والجمعيات السِّريَّة عمومًا، وبالكاثوليك، واللوثريين، والمتصوفين، ووصف كل هؤلاء بالخيانة والعداء «للعرش والمذبح»، ومع أن القيصر لم يشأ أن يرضخ لادعاءات «فوتيوس»، فقد تغلبت طبيعته المترددة، وكان من المتعذر عليه نسيان أنه إنما اعتلى العرش على جثة والده المقتول، وعلى ذلك، فقد عاود «سيرافيم» الهجوم ضد «جاليتزين» في مقابلة مع القيصر في مايو سنة ١٨٢٤، متهمًا الوزير بالعداء ضد الأرثوذكسية ومطالبًا بطرده، وعبثًا حاول القيصر الدفاع عن «جاليتزين» ليس بوصفه أحد رعاياه فحسب؛ بل بوصفه صديقًا له. وَأَصَرَّ «سيرافيم» على موقفه، فأخرج القيصر «جاليتزين» من الوزارة، وعيَّن مكانه وزيرًا رجعيًّا هو شيشكوف Shishkoff، وكان القيصر قبل ذلك قد أصدر أمرًا في أغسطس ١٨٢٢ بحل كل الجمعيات السِّريَّة والمحافل الماسونية، وفي ٢٤ مايو ١٨٢٤ صدرت إرادة قيصرية استعاد «مجمع الكنيسة» بفضلها المركز الذي كان يتمتع به قبل سنة ١٨١٧، وذلك حتى يتم إنشاء وزارة للشئون الكنسية، (ولو أن هذه الوزارة لم تنشأ إطلاقًا). وأما جمعية الكتاب المقدس، فقد اتهمها «سيرافيم» في ديسمبر ١٨٢٤ بأنها على صلة بالجمعية البريطانية للكتاب المقدس، فأوقف نشاطها، ثم أُلغيت في سنة ١٨٢٦ بعد وفاة إسكندر، وكان في عهد القيصر نيقولا الأول أن استأنفت الكنيسة الأرثوذكسية، على نطاق واسع، إرغام أتباع الكنائس الأخرى على اعتناق الأرثوذكسية؛ أي استئناف ذلك النشاط «التبشيري» الذي كان قد أُوقف منذ وفاة كاترين الثانية، ولقد كان لنجاح الرجعية الكنسية خلال السنوات الأخيرة من عهد إسكندر الأول أكبر الأثر على توجيه السياسة الداخلية في روسيا في المستقبل، كما أنه كان لها بطريقة غير مباشرة أسوأ الأثر على مملكة بولندة، وعلى تشكيل العلاقات البولندية الروسية.

(٣) المجتمع الروسي «الإقطاعي»

وكانت دعامة المجتمع الإقطاعي في روسيا تتألَّف من الأقنان (رقيق الأرض) في أحد طرفيه، ومن طبقة النبلاء في الطرف الآخر.

ويقوم نظام رقيق الأرض على الأوامر التي أصدرها بطرس الأكبر سنة ١٧١٩، ثم القيصرة الياصابات سنتي ١٨٤٢، ١٨٤٧ (وهي المتعلِّقة ببيع الأقنان للخدمة في الجندية)، وسنة ١٧٦٠ (بشأن نفي الأقنان إلى سيبريا على يد أسيادهم)، ثم القيصرة كاترين الثانية في سنتي ١٧٦٥، ١٧٦٧، ولقد زادت حال الفلاحين الروس سوءًا؛ بسبب تقسيم بولندة المعروف في سنوات ١٧٧٢، ١٧٩٣، ١٧٩٥، والذي نجم منه توزيع الأرض بما عليها من أقنان. أضف إلى هذا أن كاترين الثانية والقيصر بول الأول، كانا قد درجا على إعطاء المقربين إليهما وكبار الضباط (والموظفين) هبات من الأرض والأقنان، فبلغ عدد الأقنان الذين «وُهبوا» بهذه الصورة حوالي خمسة ملايين نسمة، كان القسم الأكبر منهم من الفلاحين التابعين للتاج، ومع أن هؤلاء كانوا في السابق أحسن حالًا نسبيًّا من سائر الفلاحين (والأقنان) فقد تدهورت حالهم الآن. فتبيَّن أن الفلاحين التابعين للتاج في مقاطعة «قازان» في سنة ١٨١٨ قد دفعوا في سنة واحدة ضرائب غير قانونية قيمتها ٤٠٠٠٠٠ روبل، إلى جانب ٢٠٠٠٠٠ روبل دُفعت كرشاوى، وذلك ما عدا ما أُخذ منهم عينًا، كتسخيرهم في العمل ونقل الأثقال … إلخ دون أجر. وعاش الفلاحون (والأقنان) الذين في حوزة أصحاب الأرض، عيشة بؤس وتعاسة، عندما كان أكثر الملاك قد أدركهم الإفلاس، وأرادوا تغطية مراكزهم ببيع ما لديهم من أقنان وتسخير ما كان متبقيًا منهم في العمل دون أجر، ثم السماح للأقنان الذين يزيدون عن الحاجة بالذهاب إلى أي مكان يشاءون العمل به على شرط أن يدفع له هؤلاء مبلغًا معينًا سنويًّا، وَيُسَمَّى هذا النظام الأخير بالأوبروك Obrok، وفي بعض الأماكن بلغت قيمة هذا «الأوبروك» — أي المبالغ المدفوعة تبعًا لهذا النظام — (١٣٥) ألف روبل، وذلك في سنة ١٨١٦، وكان الأقنان يُباعون حسب مشيئة المالك، فتتوزع أفراد الأسرة الواحدة منهم على عدة مشترين، وهلك سنويًّا عدد عظيم من الأقنان الذين عملوا في فلاحة الأرض، ثم في المصانع التي تأسَّست في هذا الحين، نتيجة القسوة والعقوبات الوحشية التي وقعت عليهم، وحبسهم في سجون تحت سطح الأرض، وضربهم بالسياط حتى الموت، وهكذا، ولقد ثبت أن الأقنان الذين في حوزة كبار رجال الحكومة، وأصحاب الشهرة الواسعة من الفلاسفة والمفكرين والسياسيين في الدولة، كانوا يلقون من صنوف التعذيب وسوء المعاملة ما كان يلقاه إخوانهم الآخرون عادة، حتى إن تولستوي Tolstoi نفسه كان من زمرة الذين أثبت التفتيش الذي حدث بعد سنة ١٨١٥، أن الأقنان الذين في أملاكهم، يعيشون في شظف وبؤس، وفي تعذيب مستمر.
وكان أقسى هؤلاء الملاك الذين ساموا الأقنان العذاب، محظي القيصر، أراكشييف وتُضرب بقسوته الأمثال، ذلك بأنه خَوَّلَ عشيقته نستاسيا منكين Nastasia Minkin سلطة التصرف المطلق ليس في المستعمرات العسكرية التي تحت إدارته فحسب، بل وفي كل أملاكه الواسعة كذلك، فحكمت هذه السيدة الأقنان بيد من حديد، وسامت النساء على وجه الخصوص كل صنوف العذاب، وانتقم منها شقيق إحدى هؤلاء النسوة بأن طعنها بخنجر قضى على حياتها. فأطلق القيصر يد محظيه «أراكشييف» في الانتقام لقتل معشوقته، فأعدم القاتل ثم اثنين وعشرين فلاحًا من الأبرياء، بدعوى أنهم شركاء للقاتل، وذلك بدون محاكمة وبعد أن عذبهم جميعًا تعذيبًا شديدًا (١٨٢٥)، ولقد وصف بزتوزيف Bestuzheff، وهو أحد الوطنيين الروس الذين اشتركوا في حركة ديسمبر — وسيأتي الكلام عنها في موضعه — الحال التي وصل إليها الأقنان في روسيا في ذلك الحين، فذكر (في سنة ١٨٢٦) أن الملاك كانوا يُرغمون الفلاحات على احتضان الجراء من كلاب الصيد لإرضاعها بألبانهن، وقال: إن الزنوج في المزارع الواسعة في أمريكا كانوا قطعًا أكثر سعادة في عيشهم من الأقنان في روسيا.
ولم يكن للإجراءات التي اتخذها القيصر إسكندر الأول، من أجل تحسين أحوال الفلاحين، سوى آثار ضئيلة؛ من ذلك قانون صدر في سنة ١٨٠٣ يُجيز لأصحاب الأملاك تحرير أقنانهم وإعطاءهم الأرض في الوقت نفسه. فقد تبيَّن أن عدد الملاك الذين مارسوا هذا الحق خلال نصف قرن (١٨٠٥–١٨٥٥) كانوا حوالي ٣٨٤ فقط، وعدد الأقنان الذين تحرَّروا كانوا: (١١٦) ألفًا، وكان النبلاء البولنديون هم أول مَنْ حاول تنفيذ هذا القانون، بإعطاء الأرض إلى الأقنان، وذلك في سنة ١٨٠٧ على أثر تسليم مقاطعة بياليستوك لبروسيا، ولكن لم يلبث هذا العمل أن قوبل بالرفض من جانب الحكومة، وفي سنة ١٨١٠ أراد «سبرانسكي» وضع قيود على الرق، ولكنه لم يتقدم بمقترحات جدية، ولم يُصْدَر قانون لتنفيذها. ولقد اهتم القيصر إسكندر بعد سنة ١٨١٥ بمشكلة رقيق الأرض، وخصوصًا بعد إنشاء مملكة بولندة، حيث قد صار عليه معالجة موقف نشأ عن وجود «فلاحين» لا يمتلكون أرضًا، ولكنهم محرَّرون من الرق فعلًا، وكان الأمر القيصري الذي صدر في يونيو ١٨١٦، خاصًّا بإلغاء الرق في مقاطعة إستونيا Esthonia، لا يشمل تقرير مصير الأرض، بل خَوَّلَ الفلاحين والملاك حق الاتفاق فيما بينهم على تعيين صلاتهم القانونية مع بعضهم بعضًا، وفي سنة ١٨١٧ انتقل أثر هذا الأمر القيصري إلى مقاطعة كورلاند Courland، ثم إلى ليفونيا Livonia في سنة ١٨١٩، ومنذ ١٨١٨ صدر أمر إلى الحاكم العام في ليتوانيا ليتبيَّن رأي أصحاب الأراضي بشأن إلغاء رق الأرض، وعمد النبلاء البولنديون بناءً على ذلك، في دياط فيلنا Vilna في السنة نفسها إلى إعداد خطة لتحرير أقنانهم، وألَّفوا وفدًا لمقابلة القيصر لهذه الغاية، ولكنَّ المسئولين أغفلوا هذه «الخطة»، فلم تُوضع موضع التنفيذ، ومع ذلك فقد أدت إلى استصدار أمر قيصري في ٢ مارس ١٨١٨، بشأن «مقاطعة مينسك Minsk والمقاطعات الأخرى المأخوذة من بولندة»، والتي نال فيها الفلاحون بفضل هذا الأمر القيصري بعض المزايا، مثل؛ حرية التصرف في محاصيلهم، وبيعها كما يشاءون، وجعل السخرة مقصورة على أيام معينة، وفي الوقت نفسه كلَّف القيصر، قبل ذهابه لحضور اجتماع الدياط في وارسو في بداية سنة ١٨١٨ مستشاره الكونت «أراكشييف» أن يضع مشروعًا لتحرير الفلاحين من رق الأرض، وذلك بأن تقوم «الخزانة» تدريجيًّا بشراء هؤلاء الفلاحين «الأقنان» مع الأرض التي يعيشون عليها، وتشكَّلت لجنة لهذا الغرض، ولكن صعوبات عديدة حالت دون نجاح هذا المشروع، فلم تلبث أن وقَّفت اللجنة أعمالها. فكان مشروع تحرير رقيق الأرض أحد المشاريع أو الإصلاحات «الحرَّة» التي عنى بها القيصر إسكندر في هذه السنوات الأربع (١٨١٦–١٨٢٠) التي تميزت بالأوامر والقوانين «الحرَّة» التي ما يكاد القيصر يصدرها حتى يتخلى عنها، وهكذا لم تسفر كل هذه الإجراءات عن شيء، وسارت الأمور على منوالها القديم؛ أي إن الفلاحين الروس بقوا يرسفون في أغلال الرق والعبودية خمسين سنة أخرى، وبقوا يعيشون في بؤس وضنك إلى وقت قيام ثورة أكتوبر ١٩١٧.
ومن بين سكان المدن، «والطبقة المتوسطة» الذين بلغ عددهم وقتئذ مليونًا ونصف المليون كان حوالي المائة ألف من التجار الذين تضمهم النقابات الروسية، وكانت «الأسواق» الكبيرة هي مراكز التجارة الداخلية في روسيا، مثل سوق ماكارييف Makarieff، الذي انتقل بعد ذلك إلى نجيني نوفجورود Nijni-Novgorod، ومثل أسواق رومني Romny، وإربيت Irbit، ولقد أمكن تشجيع عدد من الصناعات، على غرار ما حصل في بولندة، وخصوصًا صناعة المنسوجات، لسد حاجة الجيش، كما تقدمت بعض الشيء المصنوعات الحديدية، وقامت مصانع للحديد في ديميدوف Demidoff وبيرد Berd، وأبدى حفنة من الوزراء نشاطًا ملحوظًا في هذا الميدان، كان منهم: وزير الداخلية «كوزو دفليف Kozodaveff»، ووزير المالية كانكرين Kankrin، ولكن لم يلبث أن أدى تشجيع الصناعة إلى إضاعة الأموال الطائلة دون مقابل؛ بسبب الفساد والرشوة المنتشرين في أعمال الحكومة، عند توزيع المنح المالية لمعاونة المشتغلين في الصناعة، فلم تستفد الصناعة شيئًا من هذه المعاونة الحكومية. أضف إلى هذا أن التجارة الخارجية تأثرت بالحروب المستمرة تأثيرًا سيئًا. فلم تكن تزيد الواردات في سنة ١٨١٢ على ما قيمته ٢٢ مليونًا من الروبلات الفضية، والصادرات عن ٣٧ مليونًا، وبلغت الواردات في سنة ١٨١٤ ما قيمته: مليونًا (بما في ذلك أربعة ملايين روبل أُنفقت على الأنبذة المستوردة والغالية الثمن)، وكانت قيمة الصادرات ٤٩ مليونًا. على أنه لم تلبث أن لوحظت زيادة مطردة في التجارة الخارجية بعد ذلك، فبلغت قيمة الواردات ٤٢ مليونًا، والصادرات ٧٤ مليونًا من الروبلات (الريالات) الفضية، وكان نصف الصادرات من القمح.

وأما النبلاء بالوراثة، فكانت طبقتهم في نهاية العهد الذي ندرسه في روسيا تتألَّف من حوالي (١٤٠) ألف أسرة، من بين هؤلاء ١٥٠٠ من الملاك الذين يملك كل منهم أكثر من ألف من الأقنان، ولما كان الإيراد المتحصل سنويًّا من كل فرد من هؤلاء الأقنان يُقَدَّر في المتوسط بمائة روبل، فقد كان هؤلاء الملاك من كبار الأغنياء الذين بلغ دخل الواحد منهم مائة ألف روبل سنويًّا، وفي حالات كثيرة مليونًا من الروبلات أو يزيد، وإلى جانب هؤلاء كان عدد الملاك الذين يملك الواحد منهم خمسمائة قن، أكثر من ألفين، ثم إن الذين يملكون أكثر من مائتي قن كانوا (١٧) ألفًا، وكان يلي هذه الطبقة التي عاش أهلها في ثراء فاحش، طبقة من النبلاء الفقراء من ١٢٠ ألف أسرة، لا يمتلك ثلثهم أكثر من ثماني أقنان الفرد الواحد ويعيشون في حالة فقر. زِدْ على ذلك أن الأثرياء الذين تقدمت الإشارة إليهم، كانت ثرواتهم قد نقصت نقصًا ملحوظًا بسبب التبذير والإسراف من جهة، وسوء إدارة و«اختلاسات» وكلائهم من جهة أخرى، وفي تقدير بعض الْكُتَّاب أن تسعة أعشار الثروة التي كانت للنبلاء في هذا الوقت قد تبددت.

وساد الإبهام العلاقات بين الحكومة والنبلاء، فالأخيرون كانوا يعتمدون على رضاء الحكومة عنهم، وهم يشغلون أكثر مناصبها أهمية، ويستطيعون بفضل ذلك حماية مصالحهم، ولكنهم من ناحية أخرى كانوا يشعرون بوطأة «الإشراف» الذي تفرضه عليهم الحكومة عندما أخضعتهم لسلطانها المستبد، ولم يكونوا يرضون عن خطة الحكومة التي عمدت إلى إدخال عناصر جديدة في طبقتهم، أيام بطرس الأكبر، من فئات معينة من موظفي الدولة، وضباطها في الجيش والبحرية، كما أنهم لم يستسيغوا ذلك النفوذ المستعلي الذي صار للموظفين الألمان في مصالح الحكومة والخدمة العامة، وهم الذين استمر يعلو نفوذهم طوال عهود القياصرة الثلاثة، ثم حنقوا على نظام البيروقراطية المركزية، الذي توطدت أقدامه وزادت أهميته بصورة مطردة، ولقد كان التذمر من هذا كله السبب فيما ظهر من عداء ضد البيت القيصري المالك من جانب الأسر الكبيرة، التي كان بعضها من سلالة روريك Rurik؛ أي أعرق في القدم من أسرة رومانوف الحاكمة ذاتها، ومع ذلك فقد أخفت هذه الأسر عداءها للبيت المالك تحت ستار من الولاء الظاهري له، ولم يكن في مقدور هؤلاء النبلاء نسيان ما وقع من التحامات بينهم وبين البيت المالك، حتى في الأزمنة القريبة، وهي التحامات أسفرت عن إرسال عدد من أفرادهم إلى المنفى في سيبريا، أو إلى الشنق. أما أثر هذا العداء فقد كان متجلِّيًا في ترحيب هؤلاء النبلاء بكل «ظاهرة» أو حادث مُوجَّه ضد النظام القائم.
وساد الإبهام كذلك العلاقات بين النبلاء وسائر طبقات المجتمع، فهم كانوا بلا مراء بفضل وظائفهم الإدارية والمراكز التي شغلوها من أهم العوامل التي سببت شقاء الشعب، ولكنه كان يوجد لدى العناصر المستنيرة من بين هؤلاء النبلاء شعور بمسئوليتهم عن الحالة السيئة التي وصلت إليها بلادهم، وبمسئوليتهم عن الالتزامات التي كانت عليهم نحوها، فاعتبروا أنفسهم ملزمين على العمل من أجل عظمة روسيا ومعالجة الأدواء التي تشكو منها، وشعروا بأن ثمة رباطًا متينًا يربطهم بأولئك الروس من سواد الناس الذين يعيشون في ضنك وبؤس، ولا جدال أنه كان لاشتراك هؤلاء النبلاء في «حملات» وحروب الغرب، ولاحتكاكهم بأعلام الفكر في الغرب، وبثقافة الغرب عمومًا، كما كان لاحتلال غراندوقية وارسو العسكري، وهو الاحتلال الذي استمر سنوات عدة، ثم لإقامة النبلاء في فرنسا، أكبر الأثر في خلق هذه الآراء السامية، التي تحدثنا عنها، وفي شعورهم بالمسئوليات العالية الملقاة على عاتقهم، وفي رأي كثيرين أن قول نابليون المأثور: «إن الجيش الذي يرى الخدمة خارج حدود الوطن، إنما هو الدولة بذاتها تقوم برحلة في الخارج.»١ — إنما ينطبق كل الانطباق على جماعة أو هيئة الضباط في الجيش الروسي، والتي كانت تتألَّف بأكملها من بين النبلاء وحدهم، فقد عاد هؤلاء إلى الوطن بعد سنة ١٨١٥، وقد اتسع أفق تفكيرهم، وصاروا يدينون بآراء ومبادئ أكثر استنارة من تلك التي كانت لديهم قبلًا.
ولقد كانت طبقة النبلاء الروس تكاد وحدها تمثل وقتئذ العنصر المثقف في روسيا، ولم تكن روسيا من البلاد التي انتشر فيها التعليم، فلم تتشكَّل بها وزارة للتربية والتعليم إلا في سنة ١٨٠٢، بعد أن كان يشرف على التعليم «لجنة للمدارس»، ومنذ ١٨٠٣ أُنشئ في بطرسبرج «ديوان رئيسي للمدارس» أُلحق بوزارة التعليم، كان من بين أعضائه عدد من البولنديين الممتازين، مثل «تزارتوريسكي» وبوتوكي Potocki، وبلاتر Plater، وكان لهذا الديوان نشاط حميد الأثر في المقاطعات التي أُخذت من بولندة؛ حيث ازدهرت جامعة «فيلنا» برئاسة «تزارتوريسكي» مديرها، وحيث أُنشئت المدارس بمختلف أنواعها ودرجاتها. على أن حركة التربية والتعليم في روسيا ذاتها، لم تكن تلقى غير الصعاب في طريقها. فمع أن الحكومة وضعت برنامجًا في سنة ١٨٠٢ لإنشاء المدارس الأولية في أراضي الحكومة وفي أملاك السلطات الكنسية، وأراضي الأفراد تحت إشراف معاهد العلم الراقية Gymnasia، فإن شيئًا من هذا البرنامج لم يُنفذ، وكذلك لم يسفر استصدار قرار بشأن التعليم الأولي في سنة ١٨٢٨ عن شيء، وأما المدارس الثانوية، التي لم يكن عددها بأي حالٍ كبيرًا، كانت لا تزيد سنوات الدراسة بها على أربع، ولم يكن يزيد عدد المدرسين بكل واحدة منها على ثمانية على الأكثر، وقد زاد عدد سنوات الدراسة بفضل قرار ١٧٢٨، فصارت سبعًا، كما زاد عدد المدرسين بكل مدرسة فصار اثني عشر، ولكن عدد المدارس نفسها بقي على حاله، وكان فيما بعد لسياسة القيصر نيقولا الأول الرجعية أسوأ الأثر على التعليم، وخصوصًا على المدارس الثانوية. وفيما يتعلق بالتعليم الجامعي، صدر في سنة ١٨٠٤ قانون خاص بتنظيم الجامعات كان يقوم على مبادئ حرَّة نسبيًّا، بفضل جهود «تزارتيروسكي»، كفل للجامعات إدارة ذاتية، وجعل تعيين المديرين والعمداء بالانتخاب، مع العناية بالبرامج … إلخ، ولكن الرجعيين في السنوات الأخيرة من حكم القيصر إسكندر عطلوا تمامًا هذا القانون، عندما صاروا يعتبرون الشباب المثقف والجامعي خطرًا على الدولة، فعمدوا إلى التضييق على الجامعات واضطهاد أساتذتها وطلابها، يحذون في ذلك حذو ألمانيا التي ضيَّقت على الجامعات والتعليم الجامعي بها وقتئذ، ولقد انتهى الأمر بإلغاء قانون ١٨٢٨، وذلك باستصدار قانون للجامعات جديد «رجعي» على يد القيصر نيقولا الأول في سنة ١٨٣٥.
وأما الكتب المدرسية، بمختلف أنواعها ومستوياتها، فقد صارت خاضعة لرقابة صارمة، بفضل «التعليمات» الرجعية التي أصدرها وزير المعارف «جاليتزن» في سنة ١٨١٨، وزيادة على ذلك فقد تحتم أن يصير لكل ما يُلقى من محاضرات في الفلسفة وفقه اللغة والتاريخ، والعلوم الطبيعية والطب والرياضيات، غرض رئيسي، هو خدمة أغراض السياسة والدين، ولم يمضِ زمن طويل، حتى صار استبعاد كل الأساتذة الذين تشككت الحكومة في آرائهم الدينية والسياسية، وفي ولائهم للدولة، واتخذت وسائل شاذة لإجراء هذا التطهير في الجامعات؛ من ذلك أن مدير جامعة قازان أمر بمصادرة أدوات التشريح، وقام بدفنها في احتفال مهيب في أرض مقدسة أو مباركة، ولقد حدث هذا التضييق والتطهير في وقت كان التعليم فيه بالجامعات الروسية — مع استثناء جامعتي فيلنا ودروبات Dropat — يقل في مستواه عن التعليم في الجامعات في أوروبا الغربية. فلم يكن بالجامعات الروسية معامل أو عيادات أو مكتبات، وكان في سنة ١٨١٤ فقط أن فُتحت للأهلين أبواب المكتبة العامة في بطرسبرج، وتألَّفت أصلًا هذه المكتبة بأسرها من مكتبة بولندية مشهورة — مكتبة زالوسكي Zaluski — نقلها القائد سوفروف Suvoroff من وارسو إلى بطرسبرج في سنة ١٧٩٥ بعد مصادرتها، وكانت مجلداتها «أكثر من مائة وخمسين ألفًا» ومخطوطاتها «خمسمائة» باللغتين اللاتينية والبولندية، وأما جامعة بطرسبرج، فقد كان عدد طلابها عند تأسيسها في سنة ١٨١٩ أربعة وعشرين، ولم يزيدوا في سنة ١٨٢٢ على أربعين طالبًا وحسب.
وفي هذه الظروف إذن، لم يكن أكثر العناصر ثقافة واستنارة في المجتمع الروسي من الذين تخرجوا في هذه الجامعات أو المعاهد التي تعرضت لكل أسباب التعنت والضغط والإرهاق، والتي كانت موضع التحقير والازدراء؛ بل كان هؤلاء من بين شباب الطبقة الأرستقراطية الذين تعلموا في المؤسسات الخاصة، أو انخرطوا في سلك المدارس الحربية، أو تلقوا العلم في منازلهم على أيدي المؤدبين والمعلمين الخصوصيين، ولقد ظهر من بين هؤلاء عدد من أنصار الآراء الجديدة، الذين عُرفوا بالاستقلال في الرأي والرغبة في التقدم والارتقاء، وكانوا يريدون الإصلاح السياسي والاجتماعي، ويمثلون في نشاطهم الذهني أو العملي في ميادين الأدب والخدمة العامة «روسيا الفتاة» أو روسيا الناهضة، من هؤلاء كان جريبويدوف Griboyedoff صاحب التمثيليات الهزلية الاجتماعية التي انتقد فيها عيوب معاصريه دون هوادة، ثم «بزتوزيف» الذي سبقت الإشارة إليه، ثم من الشعراء؛ البرنس فيازمسكي Viazemski، والبارون ديلفيج Delvig، وكوخيليكو Küchelbecker، وريلييف Ryleieff، وأخيرًا نابغة الأدب الروسي؛ بوشكين Pushkin، ولقد تأثر كل هؤلاء بالتيارات الفكرية المنبثقة من الأحداث العظيمة التي وقعت في أوروبا في ذلك الحين؛ أحداث الثورة الفرنسية، وإمبراطورية نابليون، والحركات المضادة في فرنسا في السياسة والأدب، في عهد الملكية الراجعة بها، وضجة المطالبين بالتحرر الاجتماعي في ألمانيا، والتي نجمت من النضال الذي خاضت غماره ألمانيا أخيرًا ضد السيطرة الفرنسية. أضف إلى هذا تأثر هؤلاء المفكرين وَالْكُتَّاب الروس بكتابات ومنظومات الشاعر اللورد بايرون Byron، وأخيرًا فإن هذه الحركة في روسيا كانت متأثرة بدرجة كبيرة بالروح الوطنية (القومية) التي ظهرت في بولندة، وبالتطور الذي حصل في الأدب البولندي، فهم قد تأثروا بأغاني وكتابات نيمتزيفتش Niemczevicz، وبآراء الجامعة السلافية التي نادى بها ستانزيك Staszic، وقبل كل شيء بالحركة الرومانسية لبولندة الفتاة، والتي كان يمثلها أقوى تمثيل مكيفيتش Mickievicz، الذي استطاع الاتصال بأكبر ممثلي حركة روسيا الفتاة شأنًا أثناء إقامته في أوديسا وموسكو وبطرسبرج (بين سنتي ١٨٢٥–١٨٢٩).
أما الشباب الروسي المثقف، والذي كان ينشد التضحية في سبيل العمل من أجل نهضة روسيا والذي كان ينتمي لطبقة النبلاء، فقد وجد في التنظيم السياسي السري، من وقت مبكر، أفضل الوسائل لبلوغ غايته، وكان بسبب تأثرهم بالتنظيمات السرية السياسية في الجيش الألماني، التي احتكوا بها — وكانت هذه موجهة ضد السيطرة النابليونية في ألمانيا — أن ألَّف الشباب الروسي منذ ١٨١٤ جميعة أعضاؤها من الضباط الروس، خصوصًا تحت اسم «جمعية المصباح الأخضر»،٢ يتبرع أعضاؤها بعُشر دخولهم للإنفاق من الموارد المتحصلة على نشاطها، ولقد أُعيد تنظيم هذه الجمعية، كما اتسعت دائرة نشاطها وصارت تُدعى «جمعية الخلاص العام»،٣ ويبدو أن هذه المحاولة الأولى لإعادة تنظيمها، تم بموافقة القيصر إسكندر الأول وبعلمه، وهو الذي كان لا يزال في هذا الوقت يدين بالمبادئ الحرَّة، والذي كان انشغاله بمشروعات تحرير الفلاحين، (ورقيق الأرض)، ودعم أركان مملكة بولندة، ومساعدة اليونانيين على الاستقلال، ينبغي الحصول على تأييد مثل هذه العناصر المتحرَّرة من بين شباب «روسيا الفتاة» ضد قوى الرجعية، ولقد كان لهذا السبب نفسه، أن صار القيصر ينظر بعين التسامح لجمعية الإخوان «هيتريا» اليونانية السرية، وللمنظمات الوطنية البولندية، على أن الجمعيات السرية في روسيا لم تلبث أن صارت تشق طريقها مستقلة عن كل نفوذ، وعلى نحو ما هو منتظر في مثل هذه الحالات، ولم تلبث أن تزايدت كراهيتها وعداوتها للعرش نفسه.
ولقد حدث كنتيجة للإصلاح أو إعادة التنظيم الذي حصل في الجمعية، أن نشأت في سنة ١٨١٨ جمعية أخرى باسم «الاتحاد للصالح العام»،٤ بلغ أعضاؤها أكثر من المائتين، ولم يلبث فريق من أعضاء هذه الجمعية أن أظهروا استعدادهم للقيام بحركة انقلاب حكومي، بل وقتل القيصر نفسه، وذلك عندما تطايرت الشائعات عن نوايا القيصر إسكندر بأنه يريد توسيع نطاق مملكة بولندة بضم المقاطعات اللتوانية إليها، وفي سنة ١٨٢٠ انقسم الأعضاء على أنفسهم فتألَّفت جمعيتان؛ الأولى «الجمعية الشمالية» ومركزها في بطرسبرج، بزعامة نيكيتا مورافييف Nikita Muravieff، ونيقولا ترجنييف Turgenieff، ثم ريلييف Ryleieff، وذلك بعد سنة ١٨٢٣، ومبدؤها؛ ملكية دستورية، كما كانت تعارض في فصل «ليتوانيا» من الإمبراطورية (روسيا)، والثانية كانت «الجمعية الجنوبية»، ومقرها تولكزين Tulezyn، بزعامة الضابط بول بستيل Paul Pestel، مؤلِّف مجموعة القوانين الروسية Russkaya Pravda، التي كانت عبارة عن برنامج يستند على آراء جمهورية ويحتوي على حقوق ضئيلة للبولنديين، وكان من هذه الجمعية أن انبثقت بعد ذلك جماعة الراديكاليين الروس باسم «السلاف المتحدين»،٥ وكان منها كذلك أن ظهرت فكرة التقارب مع الجماعات السرية في المملكة البولندية، في يناير ١٨٢٤، ويناير ١٨٢٥، وبفضل هذه الحركات أمكن أن تتشكَّل وتقوى تدريجيًّا الآراء الداعية للجامعة السلافية. فكان «بستيل» يريد إنشاء اتحاد سلافي (فدرائي) يمتد من جبال أورال إلى بحر الأدرياتيك، ومع ذلك فقد كان أكثر هؤلاء «الفدرائيين»، خصوصًا في موسكو وبطرسبرج، لا يثقون في البولنديين.
ولكن مما تجدر ملاحظته أن أعضاء هذه الجمعيات التي ذكرناها، وإن كانت تحدوهم الرغبة الصادقة في خدمة الوطن، بإخلاص كامل، ويتصفون بالشجاعة ونكران الذات، ويحبون الوطن العزيز عليهم محبة خالصة، فإنهم كانوا في الوقت نفسه، وكما وصفهم أحد البولنديين الذي كاد أن يكون حليفًا لهم — وهو إسكندر كرايفسكي Kraievski: «جيلًا لا آباء ولا أبناء لهم»، يسبقون معاصريهم بحوالي قرن من الزمان، فلا يستندون على تأييد سواد الناس لهم، ولا أمل لذلك في نجاحهم، ولما لم يكن لديهم أية خطة منطقية ومعقولة للعمل، فقد كان من المتوقع أن يستنفدوا جهودهم ونشاطهم في ثورة واحدة (يتيمة) تعتمد على مواتاة الظروف، والحظ الطيب فحسب، وكان مقضيًّا عليها بالفشل.

(٤) غراندوقية فنلندة

كانت فنلندة جزءًا من السويد، ثم استولت روسيا عليها في سنة ١٨٠٨، ثم صدر بإدماجها في الإمبراطورية إعلان إمبراطوري في يونيو في السنة نفسها، وفي ٢٧ مارس ١٨٠٩ صار انضمامها إلى روسيا «دستوريًّا» بإعلان من القيصر مُوَجَّه إلى الشعب الفنلندي وإلى الدياط المجتمع في بورجو Borgo، وبمقتضى هذا الإعلان الأخير، صار الاعتراف بغراندوقية فنلندة كوحدة سياسية منفصلة، ذات كيان قانوني، ومرتبطة بالإمبراطورية الروسية، ولكن على أن يحتفظ بحقوقها الأساسية وبالدستور الذي كان لها حتى هذا الوقت؛ ليبقى نافذًا وكاملًا ودون تغيير، ولقد أُضيفت مقاطعة فيبورج Viborg (وكانت قد استولت عليها القيصرة الياصابات من السويد منذ سنة ١٧٤١) إلى فنلندة، وذلك في سنة ١٨١١، فبلغت مساحة فنلندة في سنة ١٨٢٥؛ ثلاثمائة وسبعين ألفًا من الكيلومترات المربعة، وصار عدد سكانها؛ مليونًا وثلاثمائة ألف نسمة.
وكانت لفنلندة محكمتان للقضاء العالي، لم تلبث أن أُضيفت لهما محكمة عليا ثالثة في فيبورج، وكان يقوم بأعباء الإدارة بها «مجلس للحكم» أو الوصاية،٦ صدر أمر قيصري في فبراير ١٨١٦ باستبدال «مجلس شيوخ فنلندي» به، وتسلم السلطات العليا «حاكم عام»، ولقد قامت (منذ ١٨١٠) إلى جانب ذلك «لجنة دائمة» مقرها بطرسبرج، برياسة البارون أرمفلت Armfelt، خاصة بشئون فنلندة، كانت الهيئة التي يتم بواسطتها الاتصال بين مجلس الشيوخ الفنلندي، والقيصر بوصفه «غراندوق» فنلندة في كل ما يتعلَّق بشئون الإدارة والتشريع، ويعاون وزير للشئون الفنلندية القيصر في القيام بمهام الحكم، ويتلقى هذا الوزير (حسب التعليمات التي صدرت بها أوامر القيصر في نوفمبر ١٨١٠)، من العرش مباشرة كل القرارات الخاصة بفنلندة، وهي التي كان يوقعها القيصر، ثم الوزير، على أن يبلغها الحاكم العام بعدئذ إلى مجلس الشيوخ. وتبعًا للتعليمات القيصرية الصادرة في أغسطس ١٨١٠، كان هذا الوزير كذلك مستقلًّا عن الحاكم العام، وأما الحاكم العام فقد كان مطلوبًا منه (حسب تعليمات فبراير ١٨١٢) أن يوجِّه خطابه إلى مجلس الشيوخ الفنلندي بلغتين هما؛ السويدية والروسية، كما كان من واجبه (حسبما صدر إليه من أوامر سرية في سبتمبر ١٨١٠) أن يشرف على نشاط مجلس الشيوخ ويراقب أعماله.
وفي فنلندة بقيت العملة السويدية متداولة، ولو أنه تحتم دفع الضرائب بالعملة الروسية (الروبل)، ثم تأسَّس مصرف (بنك) لفنلندة أمدَّه القيصر إسكندر الأول بمليون من الروبلات في شكل قرض من غير فوائد، مدته عشرون عامًا، وكان بفضل الإدارة الفنلندية الطيبة أن انتشر الرخاء سريعًا في البلاد، وبذلت (الحكومة) قصارى جهدها لتحسين طرق المواصلات البرية والبحرية، وتجفيف المستنقعات واستصلاح الأراضي، وتنمية الزراعة والتجارة، وإنشاء المصانع للحديد والصلب، وعنى الفنلنديون بالتربية والتعليم، خصوصًا في مراحل التعليم الأولية والثانوية، وأُنشئت مدرسة للحربية في فردريكشام Frederikshamn، وعُني بأمر الجامعة. ونهض دليلًا على ازدهار الثقافة في البلاد وقتئذ؛ اشتهار أعلام في القانون والأدب من طراز المحامي كالونيوس Calonius، والكاتب الفيلسوف سنيلمان Snellman، والشاعر الوطني رونبرج Runeberg، الذي تغنَّى في منظوماته بفروسية الفنلنديين في نضالهم الطويل ضد روسيا. ولا جدال أنه كان لذلك «الوضع الدستوري» الذي كفل لفلندة كيانها (كغراندوقية) ذات نظام حكومي خاص بها واستقلال إداري داخلي، أكبر الأثر في هذا التقدم الذي حدث، ولكن فنلندة كانت مهددة دائمًا بتدخل الأوتقراطية الروسية في شئونها، وزوال نظام الحكم الذاتي الذي تمتعت به.
لقد حرص القيصر إسكندر في السنوات الأولى من تأسيس غراندوقية فنلندة على توطيد الحقوق التشريعية التي نالتها فنلندة منذ ١٨٠٩، بل وزيادة هذه الحقوق بإنشاء «اللجنة الفنلندية» التي سبقت الإشارة إليها. ثم إنه عمل على زيادة مساحة الغراندوقية، بأن أعاد إليها مقاطعة فيبورج (فنلندة القديمة)، وصار يبذل قصارى جهده لاستمالة الشعب الفنلندي إلى روسيا، وكان مبعث هذه السياسة، أن القيصر في نضاله المرير ضد نابليون كان يبغي المحالفة مع السويد، ويستبد به القلق على سلامة العاصمة (بطرسبرج) ذاتها، ولكن ما أن انتهى الصراع مع نابليون؛ حتى طرأ تغيير على هذه السياسة، فنبذ القيصر دور الحاكم (الغرندوق) الدستوري ليقوم بدور صاحب السلطان المطلق، ووقع الاعتداء على الدستور. من ذلك أن قانونين من القوانين الرئيسية السويدية الْمُنَفَّذة في فنلندة وقت غزوها، ويؤلِّفان جزءًا من الدستور، كانا معطلين تمامًا. أما هذان القانونان فأحدهما كان قد صدر منذ ٢١ أغسطس ١٧٧٢، والآخر منذ ٣ أبريل ١٧٨٩، وينصان على أن يشغل الوظائف أهل البلاد الذين يتبعون المذهب اللوثري، وإنه من المتعذر على «الملك» اعتماد قانون جديد أو إلغاء قانون قائم دون موافقة «مجلس الطبقات» وعلمه، وأن لمجلس الطبقات الحق في مراقبة استخدام أموال الخزانة لضمان إنفاق هذه الأموال فيما يعود بالنفع على البلاد ولصالحها، ومع ذلك فإن الدياط (مجلس الطبقات) لم يجتمع إطلاقًا بعد الفتح. وشغل الوظائف المدنية والعسكرية موظفون من الروس أتباع المذهب الأرثوذوكسي، ولم يكن للدياط (الذي لم يجتمع كما ذكرنا) أي إشراف على المالية، فتولَّت الحكومة إنفاق الأموال حسب مشيئتها، وزيادة على ذلك، فإن الأوامر المتعلِّقة بالتشريع (أي ذات الصبغة التشريعية) صارت تصدر دون إشراك «الدياط». من ذلك أن القيصر إسكندر أصدر أمرًا في سنة ١٨٢٣ بضرورة فحص كل الكتب الأجنبية قبل تداولها في فنلندة، ومصادرة الكتب التي تدخل البلاد دون فحص سابق لها، وكان هذا الإجراء مخالفًا للقانون السويدي المتعلِّق بالمطبوعات، والذي كان لا يزال ساريًا في فنلندة وقتئذ، والذي منع «الرقابة» على المطبوعات، وفي عهد القيصر نيقولا الأول طلب تنفيذ قوانين ١٨٢٩ الصارمة الخاصة بالرقابة الروسية في فنلندة وفُرضت ضريبة قدرها ٪ من قيمة الكتب المستوردة من السويد.
وفي العامين الأخيرين من حكم القيصر إسكندر، زادت الحال سوءًا في فنلندة. حقيقة حصل اعتداء على الدستور في الفترة السابقة، أثناء «حكمدارية» أرمفيلت الذي كان فنلنديًّا، ثم من بعده شتاينهايل Steinheil وكان جرماني الأصل، ولكن لم يحدث «هجوم» متعمد على هذا الدستور، لإبطال أثره كلية أو لإلغائه. غير أنه حدث في أغسطس ١٨٢٣ أن تعيَّن حاكمًا عامًّا (حكمدارًا) لفنلندة، رجل اشتهر بمعارضته لنظام الغراندوقية القائم والذي يكفل لها حكمًا ذاتيًّا منفصلًا عن الإمبراطورية، فبدأ هذا الحاكم الجديد — زاكريفسكي Zakrevski — نشاطه بأن صار يعمل لإلغاء الأنظمة الفنلندية ولإدماج البلاد في الإمبراطورية الروسية، وكانت وسيلته إلى ذلك، أن صار منذ صيف ١٨٢٤ يحاول إثارة أهل الريف في أنحاء البلاد ضد الأرستقراطية الفنلندية، وفي مايو ١٨٢٥ بعث مباشرة إلى مجلس الشيوخ «منشورات» باللغة الروسية فقط، تتضمن مبدأ استخدام الروس أتباع المذهب الأرثوذكسي في مختلف الوظائف الرسمية، كحق طبيعي ومقرَّر لهم، ومبدأ تخويل الحكام سلطة طرد القضاة المحليين ومأموري الضبط، حسبما يتراءى لهم، وبادر مجلس الشيوخ بإرسال شكواه ضد هذا الحاكم العام إلى القيصر إسكندر، وكان هذا الأخير موجودًا وقتئذ في «وارسو» لحضور جلسات «الدياط»، ولكن الشيوخ لم يتلقوا ردًّا على شكايتهم، وعند وفاة إسكندر في ديسمبر ١٨٢٥، أرغم «زاكريفسكي» مجلس الشيوخ والسلطات الفنلندية على حلف يمين الولاء للعاهل الجديد، وفق الصيغة المتبعة في أنحاء الإمبراطورية الروسية، ودون أي ذكر للحقوق الدستورية «المنفصلة» التي كانت لغراندوقية فنلندة.

على أن القيصر نيقولا الأول، الذي تسلم مقاليد الحكم في ظروف عصيبة، وكان عليه أن يواجه وقتئذ الموقف ليس في فنلندة وحدها، بل وفي بولندة كذلك، لم يلبث أن اضطر في «بيانه الأول» الذي افتتح به عهده الجديد والذي وجهه إلى الغراندوقية في يناير ١٨٢٦ — اضطر إلى ذكر الضمانات والحقوق التي أُعطيت إلى فنلندة في بيان أو منشور ١٨٠٩ في عهد سلفه. ولكن سرعان ما نهض الدليل على أن هذه «الضمانات والحقوق» لن تكون موضع الاحترام في عهد هذا القيصر؛ ذلك أن نيقولا استصدر أمرًا في هذه السنة نفسها (١٨٢٦) بتطبيق عقوبة النفي إلى سيبريا في فنلندة، ثم استصدر في أغسطس ١٨٢٧ أمرًا أعلن رسميًّا صلاحية أتباع المذهب الأرثوذكسي لشغل الوظائف في الغراندوقية، ولم يكن الفنلنديون يستطيعون المقاومة إطلاقًا. فجيش فنلندة — أو الحرس الأهلي — كان لا يزيد عدده في سنة ١٨٢٥ على (٣٦٠٠) رجل فحسب، إلى جانب خمسمائة من طلاب المدرسة الحربية، ولم تكن هذه القوات تجتمع للتدريب غير مرَّة واحدة سنويًّا، ولمدة ستة أسابيع فقط، وفي عهد نيقولا الأول، لم يكن عدد هذا الجيش يزيد عن (٣٠٠٠). فلم يكن في وسع هذه القوة الصغيرة الدفاع عن حريات وحقوق البلاد، بل لقد كانت على العكس من ذلك؛ تُستخدم في القضاء على حريات وحقوق شعوب أخرى، عندما اشتركت القوات الفنلندية نزولًا على إرادة القيصر نيقولا الأول، في الحملة البولندية سنة ١٨٣١، وقتال البولنديين.

(٥) السنوات الأخيرة من عهد إسكندر الأول

في سنة ١٨١٥، كان القيصر إسكندر يبلغ من العمر ٣٨ عامًا، ولم يكن حتى هذا الوقت قد أنجب من زوجه الياصابات (وأصلها من بادن Baden، ولما كان يعيش منفصلًا عن زوجه، فقد بَعُد احتمال أن يُولد له وارث للعرش، فكان صاحب الحق في وراثة العرش من بعده؛ أخوه قنسطنطين Constantine الذي يصغره بسنتين، وكان هذا الأخير كذلك لا ولد له، ويعيش منفصلًا عن زوجه؛ ولذلك فقد صار صاحب الحق في الوراثة بعد هذين الاثنين؛ الأخ الثالث نيقولا، الذي وُلد في ٦ يوليو ١٧٩٦، وقد تزوج نيقولا — باقتراح من أخيه القيصر — من أميرة روسية، شارلوت Charlotte التي تسمَّت باسم ألكسندرا فيدوروفنا Feodorovna، وذلك في بطرسبرج في يوليو ١٨١٧، فاستولدها «إسكندر» في ٢٩ أبريل ١٨١٨، وهو الذي صار فيما بعد الإمبراطور إسكندر الثاني (١٨٥٥–١٨٨١).
وكان مولد إسكندر «الثاني» حادثًا هامًّا؛ لتأثيره الفاصل على مسألة وراثة العرش من جهة، ولأن العلاقات قد زادت توثقًا بفضله بين روسيا وبروسيا، في القسم الأكبر من القرن التاسع عشر، ولقد حدث بعد ذلك أن حصل قنسطنطين، بموافقة القيصر، على قرار من مجلس الكنيسة (السنيود) في مارس ١٨٢٠، بالطلاق من زوجه، صدر قرار قيصري بتأكيده في أبريل، فتزوج «قنسطنطين» في شهر مايو وفي مدينة وارسو، من سيدة بولندية الأميرة لوفيتش Lovicz، ولكنه لم ينجب منها ولدًا، ومنذ يوليو ١٨١٩ كان القيصر قد أخبر نيقولا بعزمه على نقل حقوق الوراثة إليه، ولكن لم تُتخذ أية خطوات جدية لفعل ذلك، حتى طلب القيصر (في ٢٦ يناير ١٨٢٢) من قنسطنطين التنازل رسميًّا عن حقوقه، وقد فعل قنسطنطين ذلك، ولكن — على ما يبدو — بشريطة أن يبقى هذا التنازل سرًّا مكتومًا باعتبار أنه إجراء أملته الضرورة فقط، بل إن هناك ما يدل على أن الحافز على هذا التنازل كان اقتناع قنسطنطين بأن القيصر إسكندر نفسه يعتزم هو الآخر التنازل عن العرش، وكان إسكندر قد فكر فعلًا في السنوات الأخيرة في اتخاذ هذه الخطوة، والواضح أن القيصر إسكندر ما كان يتردد إطلاقًا في نشر هذا التنازل الذي حصل من جانب قنسطنطين، لو أنه كان متيقنًا من أنه تنازل نهائي، ولا يمكن النكوص عنه، ولأمكنه (أي إسكندر) أن يبلغ نيقولا رسميًّا انتقال حقوق الوراثة إليه، ولكن الذي حدث أن القيصر دون علم قنسطنطين أعدَّ نسخًا من وثيقة التنازل التي اعترف فيها هذا الأخير، أن من أسباب تنازله عن حقوقه: «أنه لا يملك الشجاعة أو الكفاءة، أو القدرة والقوة اللازمة لكل مَنْ يضطلع بشئون الحكم.» كما وقَّع هو نفسه وثيقة في ٢٨ أغسطس ١٨٢٥ أعلن فيها تنازل قنسطنطين عن حقوقه، وأن صاحب الحق في اعتلاء العرش من بعده هو أخوه نيقولا. ثم أودع أصول هذه الوثائق في كتدرائية أسبنسكي Uspenski بموسكو، وصورها لدى مجلس الكنيسة (السنيود)، ومجلس الشيوخ، ومجلس الدولة في بطرسبرج، ولم يكن يعرف أحد محتويات هذه الوثائق سوى ثلاثة هم: «أراكشييف» و«جاليتزن» و«فيلاريت». كما يبدو أن نيقولا نفسه وقف على مضمونها من أحد هؤلاء الثلاثة. في حين لم يكن قنسطنطين — على ما يبدو — يعرف شيئًا عنها حتى وفاة إسكندر، ولم يكن يعتبر بالرغم من تنازله، أن الطريق إلى العرش قد صار مغلقًا نهائيًّا أمامه.

أما إسكندر، فإنه عند انتهاء النضال ضد نابليون (سنة ١٨١٥)، وتحقيق غايته الكبرى، لم يلبث أن احتضن خلال السنوات الأربع التالية (١٨١٥–١٨١٩) مشروعات جديدة ضخمة في ميادين النشاط الخارجية والداخلية على السواء، باعتبار أنها قسم من السياسة «الحرَّة» التي يريد اتباعها، ومن بين هذه المشاريع الكبيرة «الحرَّة» كان الضغط على الدولة العثمانية وإزعاجها، ومناصرة اليونانيين في حركتهم الوطنية، وتوسيع نطاق مملكة بولندة، بإضافة أقاليم جديدة إليها، ثم إعادة تنظيم روسيا على أسس دستورية وفيدرالية في الوقت نفسه وإصلاح شئونها، وتحرير رقيق الأرض (الأقنان). ولقد كانت هذه الرغبة في الإصلاح وتحرير الأقنان، مبعث تشكيل «لجان التفتيش» التي ذكرنا شيئًا من نشاطها وآثارها، ثم إنها كانت مبعث كل تلك الإجراءات التي اتُّخذت والقرارات التي صدرت بشأن الكنيسة والفلاحين.

على أن الرغبة في الإصلاح لم تلبث أن أفضت في النهاية إلى إصدار القيصر وهو في وارسو في سنة ١٨١٨، التعليمات اللازمة لوضع دستور لروسيا، وقد صدرت هذه التعليمات إلى «نوفوسيلتزوف»، الوكيل الأمين للقيصر لدى حكومة بولندة، وقد أعد «نوفوسيلتزوف» مشروع دستور للإمبراطورية، يشبه في قسم منه دستور مملكة بولندة، وبمقتضى هذا الدستور تُقَسَّم الإمبراطورية إلى عشرة مقاطعات، وبكل إقليم (دياط) من غرفتين (أو مجلسين) يُنتخب أعضاؤه مرَّة كل ثلاث سنوات، على أن ينشأ «دياط مركزي» للإمبراطورية إما في بطرسبرج وإما في موسكو، يُدعى للانعقاد كل خمس سنوات. وقد بحث القيصر هذا المشروع مع واضعه في وارسو في أكتوبر ١٨١٩، ولم يكن قنسطنطين يدري شيئًا مما يحدث. ثم إن القيصر كلَّف «نوفوسيلتزوف» أن يعد له مقتبسات من القوانين التي صدرت في عهد جاجيلو Jagiello (١٣٨٦–١٤٣٤) ملك بولندة، في سنة ١٤١٣، في هورودلو Horodlo بشأن الاتحاد البولندي الليتواني، ثم في عهد الملك إسكندر (١٥٠١–١٥٠٦) في بيوتركوف Piotrkof سنة ١٥٠١، ولقد نهض هذا التكليف إلى جانب أشياء أخرى دليلًا على أن القيصر يريد ضم ليتوانيا إلى مملكة بولندة، ومن المعروف أن روسيا كانت قد استولت على ليتوانيا في تقسيم ١٧٩٣ كما استولت بروسيا على قسم منها في هذا التقسيم نفسه، ومع ذلك فقد أعد «نوفوسيلتزوف» في الوقت نفسه مُسَوَّدة لبيان يعلن إلى جانب إعطاء الإمبراطورية دستورًا، إلغاء مملكة بولندة واعتبارها ضمن المقاطعات التي يتولى الحكم فيها (نائب الملك) — أي تجريدها بذلك من دستورها المنفصل — وأن يطلق على جيشها اسم «الجيش الغربي» بدلًا من الجيش البولندي، وهكذا كانت تضارب المشاريع المتناقضة في ذهن القيصر إسكندر الذي اشتهر بعدم الثبات على رأي واحد، ولو أن هذه المشاريع لم يتنفذ منها شيء في النهاية.
وتعتبر الفترة القصيرة (١٨١٩-٢٠) أخطر الفترات في حكم إسكندر؛ لأنه كان في شهورها القليلة أن حدث ذلك التغيير الذي جعل القيصر يتخلى عن مشاريعه «الخيالية» وإن كانت قد استندت هذه المشاريع في الأكثر على آراء «حرَّة» تقدمية، فيعود إلى أساليب الرجعية، ثم إلى ذلك النوع من التفكير في أسباب مسلكه الشخصي ونوازعه النفسية، والذي جعله مترددًا، ومتناقضًا في إجراءاته ومشاريعه السياسية، وكان سبب التغيير الذي حدث وقوع طائفة من الحوادث، تقدم ذكر بعضها في فصول أخرى سابقة، منها: مصرع كوتزبيو Kotzebue في مارس ١٨١٩، كما حدث في أغسطس من السنة نفسها أن ثار «المعمرون العسكريون» في شوجييف Chuguieff (على نهر الدون)، كما اجتمع بالقيصر في تزاريسكو سيلو Tsarskoie Selo في آخر أكتوبر ١٧١٩، المؤرخ الروسي كارامزين Karamzin، وكان عدوًّا لاستقلال بولندة، وللحكومة الدستورية، ولتحرير الأقنان، فأخذ يحذر القيصر من المضي في الطريق التي اختارها لنفسه، ويطلب إليه العودة إلى اقتفاء أثر القيصرة كاترين الثانية، ثم وقع في فبراير ١٨٢٠ مصرع الدوق دي بري Debry في فرنسا، كما تميزت هذه السنة بقيام الثورات في إسبانيا ونابولي والبورتغال، وأخيرًا وقعت ثورة آلاي الحرس الروسي في بطرسبرج في أكتوبر، وهي الثورة التي وصلت القيصر أنباؤها وهو بمؤتمر «ترباو»، ومع أن هذا العصيان لم يكن بدافع سياسي، ونجم من تذمر الجنود بسبب سوء معاملة رئيسهم لهم، ثم أمكن إخماده بكل سرعة، فقد كان مفاجأة أذهلت القيصر وسببت له الألم؛ حيث قد أثار هذا الحادث في ذهن القيصر ذكريات ذلك الدور التقليدي الذي اضطلع به «الحرس الروسي» دائمًا كأداة للانقلابات السابقة، عندما خلع الحرس الروسي القيصر بطرس الثالث (١٧٦٢) من على العرش، ثم قتلوه وقتلوا كذلك القيصر بول الأول (١٨٠١).
وكان إسكندر الأول يعلم من مدة طويلة، أن هناك جمعيات سرية في روسيا وبولندة، ولقد ذكرنا أنه كان ينظر إلى هذه الجمعيات في أول الأمر بعين التسامح، وحدث بعد عودته إلى بطرسبرج في سنة ١٨٢١ بعد غيبة طويلة في أوروبا أن وصلته أخبار هامة عن نشاط أعضاء هذه الجمعيات السرية، والمتآمرين ضده، أوَّلًا؛ في شكل تقرير مسهب أعدَّه رئيس أركان الحرس الروسي الجنرال بنكندوروف Benckendorff يحوي أسماء المتآمرين، ومعلومات مُفَصَّلة عن نشاطهم، وثانيًا؛ في تقرير آخر أعدَّه الجنرال فازيلشيكوف Vasilchikoff رئيس المجلس الإمبراطوري، ولكن القيصر لم يشأ اتخاذ إجراء ما، ولو أنه أخذ من هذا الحين يصغي لمشورة الرجعيين باهتمام أكبر، ويستجيب لمطالب «مجلس الكنيسة» السينود Synod ويعمل لتغيير نظام الوراثة، بالصورة التي عرفناها، ويفكر هو نفسه في التنازل عن العرش، وزاد عبوس القيصر وصارت تساوره الشكوك الكبيرة، عندما أخذ يشعر بالعزلة، وأنه يعيش بعيدًا عن الناس، لا رفيق ولا صديق له في أرض وطنه وفي أوروبا بأسرها، يفزعه شبح أبيه القيصر بول الأول في نومه وتفزعه ذكراه في صحوه، ولم يكن يقدر نسيان أنه ضالع في قتله، وأفزعه كذلك أنه صار الآن موضع تآمر المتآمرين الذين يريدون قتله هو نفسه، وتزايد يقينه سنة بعد أخرى من أنه عاجز عن فعل شيء في الداخل، ومن أن الفشل حليف سياسته في الخارج. ولقد بلغت القيصر في أغسطس ١٨٢٥ تفاصيل مثيرة عن مؤامرة جديدة تُدَبَّر في الجيش ضده، ولكنه تلقى هذه الأخبار في هدوء، ولم يتخذ أية إجراءات للوقاية منها، وغادر بطرسبرج في الشهر التالي (سبتمبر) إلى تاجنروج Taganrog على بحر آزوف، ولكن سرعان ما تدهورت صحته فجأة ورفض تناول أي دواء، فقضى نحبه بهذا المكان في أول ديسمبر ١٨٢٥.
ووصل الخبر إلى «وارسو» في ٧ ديسمبر، فبادر دبيبيتش Diebitsh رئيس أركان حرب الجيش الجنوبي، بإبلاغ النبأ إلى «قنسطنطين» بوصفه إمبراطورًا على الروس، وكان قنسطنطين يتخذ مقامه بها، ولكن هذا الأخير رفض قبول التاج حتى يتم قبلًا إعلان أن رسالته التي تنازل فيها عن حقوقه في العرش قد صارت ملغاة، ولا قيمة قانونية لها. بل إن «قنسطنطين» كتب إلى «نيقولا» يبدي رغبته في تنفيذ ما تعهد به في رسالته، ولو أنه لم يوضح هذه الرغبة في عبارات صريحة قاطعة، ومع أن قنسطنطين رفض أن يتسلم مقاليد الحكم، فقد امتنع في الوقت نفسه عن أن يتقبل من السلطات الرسمية والجيش في بولندا وليتوانيا تأدية يمين الولاء له باسم القيصر نيقولا.
ووصل خبر وفاة إسكندر إلى بطرسبرج يوم ٩ ديسمبر، ولكن وزير العدل، بوصفه «النائب العام» لمجلس الشيوخ، رفض أن يفض الرسالة التي أودعها القيصر إسكندر بالمجلس، وذكرنا أنها واحدة من عدة صور لوثيقة التنازل الْمُوَقَّعة من «قنسطنطين»، ثم الرسالة أو الوثيقة الأخرى التي كانت بتوقيع إسكندر نفسه في صالح شقيقه نيقولا، وكذلك لم يفض الرسالة المودعة بمجلس الكنيسة (السنيود)، وذلك كله بدعوى «أن الأموات لا إرادة لهم»، وكان حاكم بطرسبرج ميلورادوفيتش Miloradovich يقوم في هذا الوقت العصيب بدور رئيسي في المسألة، وقد أعلن أنه مؤيِّد قطعًا لاعتلاء قنسطنطين للعرش؛ بل إن نيقولا نفسه لم يلبث تحت ضغط «ميلورادوفيتش» أن حلف يمين الولاء لأخيه، كما فعل ذلك رجال الحكومة وموظفوها في بطرسبرج والحامية التي كانت بها.

ومع ذلك فقد طالب «جاليتزن» عند اجتماع مجلس الدولة، بضرورة فض الرسائل السالفة الذكر للوقوف على مضمونها، ولا جدال في أن «جاليتزن» كان مدفوعًا من نيقولا نفسه للمطالبة بذلك، فقُرئت رسالة قنسطنطين كما قُرئ إعلان إسكندر، ولكن شيئًا لم يترتب عن قراءتها في حينه.

ولقد حذت موسكو حذو بطرسبرج، فلم تفض الرسالة السرية المودعة بكتدرائية «إسبنسكي»، وحلف الجنود ورجال الحكومة يمين الولاء للقيصر قنسطنطين الأول، وفعلت ذلك فنلندة، ثم المقاطعات الغربية بما في ذلك «فيلنا»، ولم يشذ عن ذلك سوى «جرودنو» (في بولندة على نهر النيمن)، وذلك بناءً على رغبة قنسطنطين نفسه، فلم يحلف المسئولون أو الجيش بها يمين الولاء له.

وكان قنسطنطين في الوقت نفسه وهو في وارسو، قد بلغه ما حصل في «مجلس الدولة» وقراءة رسالته التي تنازل فيها عن حقوقه في العرش، والأهم من ذلك؛ قراءة وثيقة القيصر إسكندر، الأمر الذي جعل — بعد هذه التعهدات والبيانات — مركزه كقيصر ضعيف من الناحية القانونية، ثم لم يلبث أن وصلته أنباء مزعجة عن اكتشاف مؤامرة جديدة، فقرَّر على الفور التمسك بتنازله. وفي ٢٠ ديسمبر ١٨٢٥ بعث بإعلان تنازله من غير قيد أو شرط إلى «نيقولا»، وبعد أربعة أيام (٢٤ ديسمبر) وبمجرد وصول هذا الإعلان إلى بطرسبرج، نودي بنيقولا الأول قيصرًا على روسيا، وبذلك انتهت «فترة خلو» بقيت البلاد أثناءها بدون عاهل مدة تزيد على ثلاثة أسابيع.

(٦) حركة الديسمبريين٧

على أن وفاة القيصر إسكندر كانت مفاجأة للجمعيات السرية، التي لم يبلغ أعضاءها أية أخبار عن مرض القيصر، كما أن انتقال الوراثة إلى نيقولا الأول، جعلهم يشعرون بالحيرة؛ لأنهم لم تكن لديهم معلومات عن التغييرات التي حصلت في نظام الوراثة، ولكن سرعان ما قرَّرت الجمعيات السرية هذه، انتهاز فرصة التقلقل الذي طرأ على الموقف، للقيام بالثورة، بدعوى تأييد حقوق «قنسطنطين» في الوراثة، وذلك لدرجة كبيرة بزعامة «ريلييف» — زعيم الجمعية الشمالية — أو تحت تأثيره، وأراد مدبرو الحركة إرغام مجلس الشيوخ على استصدار إعلان، يدعو فيه للاجتماع مجلسًا يضم ممثلين عن البلاد، لبحث موضوع وراثة العرش ولتشكيل حكومة تتسلم مهام الأمور حتى يتم الفصل في مسألة الوراثة؛ هل يكون العرش من نصيب قنسطنطين أو نيقولا؟ على أن يكون من أعضائها؛ سبرانسكي عضو مجلس الدولة، والجنرال مورد فينوف Mordvinoff قائد جيش القوقاز، والجنرال يرمولوف Yermoloff، كما طلبوا أن يعمل المجلس لتخفيض مدة الخدمة العسكرية للمجندين إلى خمسة عشر عامًا، وأن يتخذ الخطوات اللازمة لتحرير رقيق الأرض (الأقنان).
ولقد تضمن برنامج الثورة إلى جانب إزالة الحكومة القائمة، وتشكيل الحكومة المؤقتة التي ذكرناها، إعلان حرية الصحافة، وحرية العبادة، والمساواة أمام القانون (مساواة كل الطبقات)، وإلغاء المحاكم العسكرية واللجان أو الهيئات القضائية الاستثنائية بكل أنواعها، وإعلان حق الأفراد في اختيار المهنة أو الحرفة التي يريدونها دون اعتبار للطبقة الاجتماعية التي ينتمون إليها، ثم الامتناع عن تقدير الضرائب على أساس عدد الذكور في الأسرة، وإلغاء المتأخر من الضرائب التي من هذا النوع ثم إلغاء الاحتكارات، وإلغاء «المستعمرات العسكرية»، والطرق المتبعة في التجنيد، وخفض مدة الخدمة العسكرية — كما ذكرنا — إلى خمس عشرة سنة، ثم تأسيس هيئات إدارية في النقاط الريفية (أو القومونات) وفي النواصي والأقسام Uzeza، وفي المراكز (أو الحكومات) Guberniya ثم في المديريات، على أن يُجرى انتخاب أعضاء هذه الهيئات الإدارية بدقة، وأن يحل هؤلاء محل الموظفين الرسميين الموجودين حاليًّا والذين عيَّنتهم السلطات المدنية في وظائفهم. وتضمن البرنامج كذلك أن تكون كل الإجراءات القضائية علنية، وأن يتبع نظام المحلفين في القضايا المدنية والجنائية، وأن تُستأنف الأحكام لدى مجلس أعلى لكل مديرية، وأخيرًا تشكيل حكومة دائمة، يتقرَّر فيما بعد نظام الانتخاب الذي يجب أن تُجرى بمقتضاه الانتخابات اللازمة لتشكيل هذه الحكومة.
ولقد كان المتآمرون يريدون أن يشمل الإعلان أو المنشور الذي اعتزموا إرغام مجلس الشيوخ على إصداره، كل النقاط التي ذكرناها. ثم إنهم اختاروا لدور «الديكتاتور» المؤقت؛ أي على رأس الحكومة التي تتسلم مهام الأمور عند حصول الانقلاب البرنس سرجيوس تروبتسكوي Trubetskoy، وينتمي لأسرة عريقة، بل وأعرق في القدم من أسرة رومانوف نفسها، وكان المتآمرون من أعضاء «الجمعية الجنوبية» يريدون اغتيال القيصر أثناء استعراضه الجيش، ثم الزحف بعد ذلك على كييف Kiev وموسكو، بعد أن يكونوا قد استحالوا هذا الجيش إليهم، وعندئذ يعلن مجلس الشيوخ قيام الثورة، من عاصمة البلاد القديمة «موسكو». على أن هذه الخطط لم تلبث أن تعطلت بسبب وفاة القيصر إسكندر المفاجئ بعيدًا عن بطرسبرج؛ ولذلك فقد وجب على المتآمرين أن ينتهزوا فرصة «الارتباك» الذي صحب حادث تنازل قنسطنطين عن العرش نهائيًّا في الظروف التي عرفناها؛ ليقوموا بثورتهم دون إبطاء.

وفي ليل (الأحد-الاثنين) ٢٥-٢٦ ديسمبر ١٨٢٥، انعقد اجتماع في محل إقامة «ريلييف»، تقرَّر فيه؛ أن تبدأ الثورة في اليوم التالي، وهو اليوم الذي كان محددًا ليحلف فيه الجيش (جنود الحرس) يمين الولاء للقيصر نيقولا الأول في بطرسبرج، وعلى ذلك فقد أعلن «آلاي موسكو» العصيان في ثكناته، في صبيحة يوم ٢٦ ديسمبر، ورفض حلف يمين الولاء، ثم خرج الجنود بسلاحهم إلى مكان (ميدان) مجلس الشيوخ، وصاروا يهتفون بحياة قنسطنطين، وهتف بعضهم بحياة الدستور؛ ويؤكد المؤرخون أن عددًا من الجنود لم يكن صغيرًا، كان يعتقد أن «الدستور» هو اسم زوجة قنسطنطين، وأن الهتاف لهذا الدستور إنما هو هتاف لهذه السيدة! ولم يمضِ وقت طويل، حتى كان قد انضم إلى الثوار، أحد الآلايات الأخرى، ثم طاقم السفن الحربية الرابضة في مياه بطرسبرج.

غير أن نفوذ المتآمرين على الجند لم يكن كبيرًا بالدرجة الكافية، فلم تشترك الآلايات التي اعتمد عليها هؤلاء في إشعال الثورة، وخصوصًا جنود المدفعية. أضف إلى هذا أن زعماء الثورة لم يُظهروا قدرة على تصريف الأمور، فتركوا العسكر المحتشدين في ميدان مجلس الشيوخ ساعات طويلة (سبع ساعات) في البرد القارس دون طعام، ولم تصدر عن «ديكتاتور» الثورة «تروبتسكوي» أية أوامر، ووقف الأهلون موقفًا سلبيًّا من هذه الحركة.

واستطاع القيصر نيقولا، أن يُطَوِّق الثوار في الميدان بقواته، وكان أحد المتآمرين قد حَذَّر في اليوم السابق القيصر، ولم يكن عدد الجنود الثوار يزيد على ثلاثة آلاف، في حين جمع القيصر قوات كبيرة من المشاة والفرسان والمدفعية الذين بقوا على ولائهم له، ورفض الثوار التسليم بل أجابوا بإطلاق النار، على النداءات التي تكرر توجيهها لهم، وقُتل في أثناء ذلك «فيلورادوفيتش» الذي عرفنا أنه من أكبر أنصار قنسطنطين، وأخيرًا أمر نيقولا بإطلاق المدافع على الثوار، فتفرقوا بعد أن أُصيب عديدون من الجنود والأهلين الذين شهدوا الموقعة، ثم قُتل كثيرون أثناء هربهم، كما غرق عديدون في نهر نيفا Neva الذي تقع عليه العاصمة «بطرسبرج»، وفي مساء اليوم نفسه أُلقي القبض على معظم زعماء الثورة وأُلقي بهم في غياهب السجون، وبذلك قُضي على حركة أو ثورة «الديسمبريين».
وكما أظهر المتآمرون من أعضاء «الجمعية الشمالية» — وهي التي قامت بهذه الثورة — الافتقار التام للتنظيم، وحسن الاستعداد، والقدرة على تصريف الأمور، فإن أعضاء «الجمعية الجنوبية» كانوا كذلك من هذا الطراز نفسه. فإن هؤلاء الأخيرين عندما وصلتهم أنباء ثورة «الديسمبريين» في بطرسبرج، لم يلبث أن تزعم أخوة ثلاثة من بين أعضاء «الجمعية الجنوبية» حركة إشعال الثورة في الجنوب (الأوكرين)، فاستطاع الضابط سرجيوس مورافييف أبوستول Apostol تحريض أحد الآلايات المشاة فيفاسيلكوف Vasylkoff على الثورة في ١١ يناير ١٨٢٦، وجعله يزحف من معسكره بهذه الأخيرة إلى بيالوتسركوف Bialotserkoff، جنوبها، ولكن لم يمضِ أيام قلائل حتى كانت قد حلَّت الهزيمة بقواته، وجُرح «أبوستول» مع شقيق له، بينما انتحر شقيق آخر، وقُضي على هذه الحركة كما قُضي على سابقتها.

ولقد كان بعد هذه الانتصارات «السريعة» أو «السهلة» إذن ما أن توطد سلطان «نيقولا»، وتم حُلف يمين الولاء له دون أية معارضة أو مقاومة، وفي ٢٩ ديسمبر صار تأدية اليمين له في موسكو، بعد أن أُخرجت وثائق ١٨٢٢-١٨٢٣ المحفوظة بكتدرائية «أوسبنسكي» وقُرئت على الملأ.

وبدأ القيصر نيقولا، في التو والساعة، سياسة قمع صارمة، فشكَّل (في ٢٩ ديسمبر ١٨٢٥) لجنة لاستقصاء أسباب المؤامرة، وثورة الديسمبريين وأسماء جميع المشتركين فيها، وقام القيصر نفسه بسؤال المتهمين والشهود، وأشرف على «الفحص» الذي استُخدمت في إجرائه أقسى وسائل التعذيب الروحية والبدنية. وفي ١١ يونيو من العام التالي، وضعت اللجنة تقريرها وقد توخت في هذا التقرير؛ إظهار المتآمرين في صورة القتلة والسفاكين لتشويه سمعتهم، والحط من قيمتهم في اعتبار الناس، ولم يذكر التقرير شيئًا عن «برنامج» الديسمبريين، الذين أرادوا — كما عرفنا — تقرير المساواة أمام القانون بين المواطنين وتحرير رقيق الأرض، وإصلاح الجيش والكنيسة، وإلغاء المستعمرات العسكرية والاحتكارات، وضمان العدالة … إلخ، ولقد شرعت المحكمة العليا تنظر «قضية» هؤلاء الديسمبريين في ١٥ يونيو، واستمرت مداولاتها حتى ٢٣ يونيو في سرية تامة، ودون إخطار المتهمين بهذه المحاكمة، ودون أن يُعطى هؤلاء حق الدفاع عن أنفسهم، وكان عددهم: (١٢١) متهمًا، منهم؛ (٦١) أعضاء بالجمعية الشمالية، (٣٧) بالجمعية الجنوبية، (٢٣) أعضاء بجمعية «السلاف المتحدين»، ومن بين هؤلاء جميعًا كان سبعة من الأمراء، واثنان من الذين يحملون لقب كونت، وثلاثة بارونات، واثنان من الجنرالات، (٢٣) من الضباط، وقد صدر الحكم بإعدام (٣٦) وبنفي الباقين إلى سيبريا، وتنفذ حكم الإعدام في صبيحة يوم ٢٥ يوليو سنة ١٨٢٦ في خمسة فقط، هم زعماء الحركة؛ بستيل، ريلييف، سرجيوس مورافييف أبوستول، ميشيل بزتوزيف، وكاشفوفسكي Kachovski، وخفَّف القيصر عقوبة الإعدام على زملائهم، فصدر الأمر بنفيهم إلى سيبريا.

ويبدو أن القيصر، بالرغم من هذه القسوة البالغة التي عامت بها «الديسمبريين» التي كان الغرض منها إدخال الرعب والفزع إلى قلوب الناس، وإرهاب المجتمع، كان يريد تنفيذ بعض الإصلاحات على الأقل التي نادى بها الديسمبريون، ذلك بأنه طلب إعداد «موجز» لهذه الإصلاحات لقراءته، ولم يلبث أن كلَّف في السنة نفسها (١٨٢٦) سبرانسكا بعمل مجموعة للقوانين الروسية، وهو العمل الذي تم الفراغ منه في سنة ١٨٣٩. ثم إن «لجنة سرية» تشكَّلت في سنة ١٨٢٦ كذلك؛ لتفحص مسألة الفلاحين ولو أن جهود هذه اللجنة لم تسفر عن شيء، فكان في عهد خلفه القيصر إسكندر الثاني (١٨٥٥–١٨٨١) أن أُلغي رقيق الأرض.

على أنه مما لا شك فيه أن نيقولا قد أظهر حماسًا أعظم في اتخاذ تدابير القمع السياسي، فهو قد عيَّن في سنة ١٨٢٦ رئيسًا لقوات البوليس، ومديرًا للمنظمة البوليسية الجديدة (القسم الثالث) الخاصة بالجاسوسية والقمع السياسي، الرجل الذي كان أول مَنْ كشف نشاط الجمعيات السرية الجنرال بنكندورف.

وفي السنوات التالية، تزايد اهتمام نيقولا بشئون السياسة الخارجية، ولقد مرَّ بنا كيف أنه اشتبك في حرب مع فارس (١٨٢٧-١٨٢٨)، وهي الحرب التي انتهت بصلح تركومانكي Turkmanchy في ١٠ فبراير ١٨٢٨، ونالت بفضلها روسيا مقاطعات ناخيشيفان Nakhichevan Erivan (في جهات قفقاسيا)، كما اشتبك في العام التالي (١٨٢٨-١٨٢٩) في حرب مع تركيا، انتهت بمعاهدة أدريانوبل (أدرنة) في ١٤ سبتمبر ١٨٢٩، والتي أفضى إبرامها إلى استقلال اليونان، ونالت روسيا بموجبها أملاكًا آسيوية بوتي Poti وأنابا Anapa إلخ)، ثم حق الملاحة الحرَّة في المضايق؛ البسفور والدردنيل، واحتلاله الأفلاق والبغدان، ثم تعويضًا ماليًّا كبيرًا، وأخيرًا الحرب البولندية (١٨٣١) التي أفقدت بولندة استقلالها الذاتي «كمملكة دستورية».

ولكن الروس أنفسهم لم يفيدوا شيئًا من هذه الحروب، بل على العكس من ذلك، كانت خسارتهم بسببها كبيرة عندما خيم عليهم الركود من حياتهم الداخلية، وأخذت عوامل الانحلال البطيء تنخر في جسمان الأمة في المستقبل؛ فتعطل نمو البلاد الطبيعي، وصارت مهددة بحدوث الانقلابات الخطيرة ونزول الكوارث بها.

(٧) مملكة بولندة

تمهيد

لقد شاهدنا عند الكلام عن إمبراطورية نابليون الأول كيف أن البولنديين كانوا يعقدون الآمال العظيمة على نوايا هذا العاهل الفرنسي في استعادة استقلالهم، وحرياتهم المفقودة، بعد أن كانت التقسيمات الثلاث المعروفة في ١٧٧٢، ١٧٩٣، ١٧٩٥، قد محت الدولة البولندية القديمة من الوجود، فأنشأ نابليون غراندوقية وارسو من الأراضي التي كانت أصلًا في حوزة بروسيا والنمسا، ولكن نابليون لم يلبث أن لحقت به الهزيمة، واستولت روسيا على غراندوقية وارسو أثناء «حرب التحرير» بين عامي ١٨١٣، ١٨١٥، وصار في أيدي روسيا وحدها الآن إيجاد حل للمسألة البولندية، وهي المسألة التي ظلت قائمة بالرغم من الأحداث الماضية جميعها؛ بسبب الحيوية التي تميزت بها «الأمة» البولندية، والتي حفظت لهذه الأمة كيانها بالرغم من تمزيق «الأرض» التي عاشت عليها هذه الأمة شر ممزق.

وكانت روسيا تستولي على ثلاثة أرباع أراضي بولندة بمقتضى التقسيمات الثلاثة السابقة، وعلى أكثر من نصف سكانها، ولما كانت إلى جانب ذلك قد استولت على غراندوقية وارسو، فقد صار في حوزتها الآن (١٨١٥) حوالي تسعة أعشار الأراضي البولندية؛ ولذلك فقد أراد القيصر إسكندر الأول إنشاء مملكة بولندية تحت سيطرة روسيا ويضم إليها أكبر جزء من الأراضي البولندية التي كانت في حوزته، وانتعشت آمال البولنديين عندما كان القيصر — في الشطر الأول من حكمه — ظاهر الرغبة — كما شاهدنا — في تأييد المبادئ والأفكار الحرَّة، ويجمع حول شخصه مستشارين أصحاب الخبرة والدراية بشئون أوروبا الغربية، والذين كانوا من المعجبين بنظام الحكم الدستوري في إنجلترة، في حين كان تزارتوريسكي «البرنس آدام جورج»، من أقرب المقربين هو وزوجته إلى القيصر إسكندر، وقد استطاع هذا الزعيم الوطني البولندي مع زوجته أن يبثا في نفس القيصر شعور الاحترام للأمة البولندية، وعوَّل إسكندر على إعادة مملكة بولندة القديمة إلى الوجود ثانية، منفصلة عن الإمبراطورية الروسية، ويجمع بينها وبين روسيا رباط شخصي فحسب، هو الخضوع لشخص القيصر إسكندر بوصفه ملكًا لهذه المملكة الجديدة «بولندة».

على أن إعادة مملكة بولندة القديمة كان يتطلب من بروسيا والنمسا أن تتنازلا كلاهما عن الأقاليم التي في حوزتهما من أيام التقسيمات الثلاثة المعروفة؛ ولذلك سرعان ما صارت المسألة البولندية من أخطر المشاكل التي صادفها مؤتمر فيينا، ولم يكن السياسيون في هذا المؤتمر، و«كاسلريه» على وجه الخصوص، يدركون حقيقةً أهمية هذه المسألة البولندية من الناحيتين التاريخية والسياسية، كما أنهم عجزوا عن إدراك حقيقة الصالح الأوروبي، فوضعوا التسوية الأوروبية على الأسس القائمة قبل الفتوحات النابليونية، ثم إنهم عارضوا في إحياء بولندة وإنشاء المملكة الكبيرة التي أرادها القيصر، وذلك لخوفهم من روسيا، وعلى ذلك فقد اضطرت هذه الأخيرة إلى الموافقة على أن تأخذ بروسيا حوالي ربع مساحة غراندوقية وارسو، فاسترجعت إقليم بوزن Pozen وبروسيا الغربية بما في ذلك دانزج وتورن (أي بولندة البروسية)، بينما استرجعت النمسا الجزء الذي كانت فقدته في سنة ١٨٠٩ من غاليسيا الشرقية واستولت عليه روسيا وقتئذ، وهو مقاطعة «تارنبول»، في حين أُعلنت «كركاو» مدينة حرَّة حماية روسيا والنمسا وبروسيا المشتركة، ومن الأراضي المتبقية إذن تألَّفت مملكة بولندة الجديدة، التي ارتبطت بموجب «الدستور» الذي منحه لها القيصر، وبفضل نظام الحكم الوراثي الذي صار لها، ارتباطًا لا انفصام له بالإمبراطورية الروسية.

وكان القيصر إسكندر قد عرض قبل ذلك بخمس سنوات (١٨١٠) على نابليون الأول إبرام اتفاق يحول دون توسع غراندوقية وارسو؛ أي ضم أقاليم جديدة إليها، ولكنه جعل من حقه الآن في معاهدات الصلح، وفي «قرار فيينا النهائي»، إضافة أقاليم جديدة إلى مملكة بولندة الناشئة، حسبما يتراءى له، وكان الغرض من التمسك بهذا الحق أن تتاح له الفرصة لضم قسم على الأقل من إقليم «ليتوانيا» إلا محكمة بولندة، كما كان من المنتظر أن يكون لهذا الإجراء أثر في استمالة أهل المملكة الجديدة، على نحو ما جعل ضم فنلندة القديمة إلى غراندوقية فنلندة من قبل (١٨١١)، ولقد ساعد عدم تحقق هذا الأمل فيما بعد على زيادة التذمر، الذي أدى إلى إشعال ثورة نوفمبر ١٨٣٠، ولقد حصل كذلك الاتفاق في مؤتمر فيينا على أن تنشأ أنظمة نيابية، وحكومات وطنية في الأراضي البولندية التي أُعطيت إلى كل من النمسا وروسيا، وإلى جانب ذلك أُعطيت الضمانات لحرية الملاحة والتجارة والمواصلات على الحدود، في كل أراضي الجمهورية السابقة ضمن الحدود القائمة في سنة ١٧٧٢.

وواضح من هذه الترتيبات التي ذكرناها أنه كان هناك نية صحيحة لإيجاد حل جديد للمسألة البولندية، ولكن الخطأ الأساسي؛ خطأ تقسيم الأراضي البولندية والأمة البولندية، ظل باقيًا، فأضعف مملكة بولندة الجديدة نقص مساحتها؛ بحيث صارت لا تقوى على الاحتفاظ باستقلالها «الدستوري» في نظام يضمها بصورة من الصور إلى الإمبراطورية الروسية الأوتقراطية الكبيرة.

(٧-١) دستور ١٨١٥

أما إسكندر فقد زار وارسو في نوفمبر ١٨١٥، وكانت هذه أول زيارة رسمية قام بها عاهل روسي للعاصمة البولندية، وكانت مهمة القيصر استصدار دستور لبولندة. واختار القيصر من بين مشروعات الدستور التي قُدمت إليه واحدًا أعدَّه الأمير البولندي «آدام تزار توريسكي»، وأدخل القيصر بنفسه عدة تعديلات كبيرة على مُسَوَّدة هذا الدستور لتضييق استقلال المملكة، واقترح عددًا من هذه التعديلات كذلك والتي أخذ بها القيصر؛ النبيل الروسي المعروف الكونت «نيقولا نوفوسيلتزوف» — وقد ذكرنا أنه كان من المقربين إلى القيصر — وكان هذا النبيل كذلك من أصدقاء البرنس «آدام تزار توريسكي» ثم لم يلبث أن صار من ألد أعداء بولندة والبولنديين قاطبة. وقد اعتمد القيصر إسكندر الأول وثيقة «الدستور» البولندي في ٢٧ نوفمبر ١٨١٥.

ويتألَّف هذا الدستور من سبعة فصول، ومائة وخمس وستين مادة. نصَّت على أن يكون تاج المملكة من حق الأسرة القيصرية الروسية، وراثة وعلى الدوام، وبدلًا من الاعتراف بالكاثوليكية الدين «القومي» في بولندة وحسبما نصَّ عليه دستور غراندوقية وارسو القديم، وُضعت الكاثوليكية على قدم المساواة مع سائر العقائد والمذاهب، بفارق واحد هو أن تلقى الكاثوليكية حماية الحكومة الخاصة، وأما الملك فقد أُعلن أن شخصه لا يمس، وأنه المسيطر على شئون الحكم، وأنه صاحب الحق في اعتماد أو إلغاء ما يشاء من القرارات التي تصدر عن «الدياط» أو «البرلمان»، كما أن له الحق في دعوة الدياط إلى الاجتماع أو إعلان فضه وحله أو تأجيله، على أن يقوم بتمثيل الملك أو صاحب السيادة في المملكة في هذه الحكومة نائب ملك Viceroy يعمل بالاتفاق مع «مجلس الدولة».
أما «الدياط» فيتألَّف من مجلسين، يُدعى للانعقاد كل سنتين مرة في دورة تستمر ثلاثين يومًا، ويمثل السلطة التشريعية أحد المجلسين؛ مجلس للشيوخ Senate لا يزيد عدده على نصف عدد أعضاء المجلس الآخر وهو مجلس النواب، ويعيِّن الملك أعضاء مجلس الشيوخ لمدى الحياة، ويتألَّف مجلس النواب من (٧٧) من النبلاء، (٥١) من النواب، يجرى انتخابهم لمدة ست سنوات، بطريق الانتخاب المباشر، وكان حق الانتخاب مقيدًا بقيود من شأنها تخويل هذا الحق فئات معينة، هم أوَّلًا؛ ملاك الأرض النبلاء المقيدون بهذا الوصف في المراكز الإقليمية، ولهؤلاء حق التصويت لانتخاب الأعضاء النبلاء الذين سبقت الإشارة إليهم (وعددهم سبعة وسبعون)، وأما النواب الآخرون (وعددهم ٥١) فكان ناخبوهم — أي الذين لهم حق انتخابهم — هم أوَّلًا؛ ملاك الأراضي الذين يدفعون ضرائب، وثانيًا؛ الصناع والتجار مِمَّنْ يملكون عقارًا يدفعون عنه ضريبة معينة، وثالثًا؛ القساوسة في الإبرشيات، والمدرسون، والفنانون، وأهل المهن الحرَّة ومن إليهم. ونصَّ الدستور على أن تكون جلسات «الدياط» علنية في كلا مجلسيه، وأن يكون التصويت علنيًّا كذلك، وأن يكفي لإجازة قرارات الدياط موافقة أكثرية عادية، وأن تقوم بمراجعة أعمال الحكومة لجان ثلاث بالدياط للمراجعة، واحدة مختصة بالقانون المدني والجنائي، وأخرى بالقانون الإداري والدستوري، والثالثة للمالية.

وكانت السلطة التنفيذية من اختصاص «مجلس إداري» يتألَّف من وزراء المالية والحرب والتعليم والعبادة العامة، والعدل، والشئون الداخلية والبوليس، ويرأس هذا المجلس، كما يرأس مجلس الدولة؛ نائب الملك، وأما توجيه السياسة الخارجية فقد جُعل من نصيب وزير الخارجية الروسية في بطرسبرج، وأُنشئت في الوقت نفسه إدارة دبلوماسية دائمة في وارسو للاتصال رأسًا وبطريق المراسلة بالسفارات الروسية في الخارج، وتعيَّن لمملكة بولندة وزير يقيم إلى جانب «الملك» في بطرسبرج، يكون حلقة الاتصال بين حكومة بولندة والتاج، وصار شعار المملكة نسر أبيض على صدر النسر الروسي الأسود ذي الرأسين (وكان شعار غراندوقية وارسو مجرد النسر الأبيض)، واحتفظ الجيش البولندي (والذي صار عدده حوالي ثلاثين ألف مقاتل) بشعاره الوطني وبملابسه الوطنية. وكان للمواطنين أهل المملكة الجديدة وحدهم حق الالتحاق بالوظائف المدنية والعسكرية، كما جُعلت اللغة البولندية اللغة المستخدمة وحدها في شئون الإدارة، والقضاء، والجيش، وضمن الدستور حريات الفرد، والعقائد، والصحافة، ولقد امتنع على اليهود ممارسة أية وظائف مدنية، وحُرموا من الالتحاق بالوظائف العامة، ومن الانتخاب.

وهكذا جاء الدستور البولندي لسنة ١٨١٥، في بعض نواحيه، أكثر دساتير أوروبا تقدمًا، وأعظمها اتسامًا بالطابع الحر، ويرى كثيرون أن المبادئ التي قام عليها نظام الانتخاب وقوانين هذا النظام كانت تفوق كثيرًا تلك التي قام عليها نظام الانتخاب في إنجلترة ذاتها، قبل الإصلاح النيابي المشهور، بل إن نظام الانتخاب البولندي، بمقتضى هذا الدستور، كان يفوق في صيغته «الحرَّة» العهد أو الميثاق Charte المعروف الذي نالته فرنسا في سنة ١٨١٤، وهو «العهد» الذي اشترط لممارسة حق الانتخاب دفع فئات أعلى من الضرائب (أو امتلاك عقار ذي قيمة أعلى)، وتطلب سنًّا أعلى لِمَنْ يمارسون حق الانتخاب والنيابة. فقد بلغ عدد الناخبين في فرنسا في عهد الملكية الراجعة أقل من عدد الناخبين في بولندة حوالي سنة ١٨٢٠، في حين أن عدد سكان بولندة — باستثناء اليهود — كان لا يزيد كثيرًا عن عُشر سكان فرنسا، ولما كان دستور ١٨١٥ قد جعل البولندية لغة التخاطب، ومن حق المواطنين البولنديين وحدهم ممارسة الحقوق المدنية العامة؛ فقد ترتب على ذلك إتاحة الفرصة لبقاء «القومية» البولندية.

على أنه من ناحية أخرى، كانت قد أُدخلت عمدًا على وثيقة الدستور في صيغتها الأخيرة، نصوص وعبارات مبهمة وغامضة، جعلت ممكنًا الافتئات على الحقوق التي جاءت في هذا الدستور والاعتداء عليها. من ذلك أنه بدلًا من النص صراحة على عدم السجن أو الحبس مدة طويلة دون محاكمة، صيغ هذا المبدأ العام بصورة جعلت السجن أو الحبس الطويل غير القانوني دون محاكمة، من حق الملك ونائبه. من ذلك أيضًا أن إعداد «الميزانية الأولى» جُعل من حق الملك، دون توضيح ما إذا كان المقصود بذلك ميزانية السنة الأولى فقط — أي التالية لإنشاء المملكة واستصدار الدستور — أم ميزانية السنوات التالية، ولقد ترتب على ذلك أنه لم يقدم لتصديق «الدياط» طوال السنوات الخمس عشرة التي عاشتها «مملكة بولندة» أية ميزانية إطلاقًا، ومع أن الدستور نصَّ على انعقاد الدياط كل سنتين مرة، فقد أعطى الدستور للملك حق تأجيل انعقاد هذه المجالس، وعلى ذلك لم يجتمع خلال هذه الخمسة عشر عامًا سوى أربع «دياطات» فقط، في حين كان المنتظر اجتماع سبعة.

(٧-٢) الحكومة الجديدة

أضف إلى هذا كله أن «الملك» — إسكندر الأول — لم يكن موفقًا في اختيار عدد كبير من الذين شغلوا المناصب الهامة؛ من ذلك اختيار الفراندوق قنسطنطين، قائدًا أعلى للجيش البولندي، وهو الذي أثار وجوده الحزازات، وأساء إلى العلاقات بين بولندة وروسيا؛ بسبب صرامة طباعه وميله للطغيان بالرغم من إقامته الطويلة في بولندة، وزواجه من أميرة بولندية، وكان نائب الملك، وهو الجنرال زايونيش Zayonch رجلًا ضعيف الخلق، خضع خضوعًا مهينًا للفراندوق قنسطنطين، مع أنه كان معروفًا بالشجاعة، كما كان محاربًا قديمًا، وأحد الضباط الذين خدموا تحت قيادة نابليون، وذلك كله في حين استُبعد «تزار تورسكي» من الحكومة كلية، وهو الذي كان يرشحه الرأي العام لمنصب نائب الملك، وكان سبب استبعاده غضب القيصر إسكندر عليه. كما أُغدقت العطايا على «نيقولا نوفوسيلتزوف»، ونال مقعدًا في «المجلس الإداري»، وأُعطي سلطات واسعة، وهو الرجل كان بمثابة «الروح الشريرة» في المملكة الجديدة. ولقد تدخل «نوفوسيلتزوف» في كل شئون «الدولة» وصار يبعث بالتقارير السرية أسبوعيًّا من بطرسبرج إلى القيصر إسكندر الأول، ثم من بعده إلى القيصر نيقولا الأول، وكانت هذه تقارير عليها شعور الحقد والكراهية لكل ما هو بولندي، والعداء لكل شعور بالقومية البولندية، ولكل رغبة في التقدم والحرية، وكان تدخل «نوفوسيلتزوف» ونشاطه مبعث كل المصائب التي حلَّت بالبلاد في هذه الفترة، ووقعت على رءوس آخر رجالها وأبنائها، حتى أصبح اسم «نوفوسيلتزوف» في نظر البولنديين علمًا على طغيان البيروقراطية الروسية، وظلمها.
وفي المملكة الجديدة، صار رئيس أساقفة وارسو رئيسًا لكنيسة Primate مملكة بولندة، حيث نال هذا اللقب بفضل الاتفاقية «كونكردات»، التي وقَّعها إسكندر الأول مع البابا بيوس السابع (في روما في ٢٨ يناير ١٨١٨)، والأوامر البابوية (بتاريخ مارس ويونيو من السنة نفسها). على أن الحكومة الروسية بعد وفاة الرئيس فورونيتش Voronicz في سنة ١٨٢٩، رفضت الاعتراف بلقب رياسة الكنيسة لرؤساء الأساقفة بعد ذلك.
وعنى البولنديون بشئون التعليم عناية فائقة، فتأسَّست في وارسو جامعة في سنة ١٨١٦ لم تلبث أن صارت تضم إليها كليات لعلم اللاهوت، والقانون والطب والفلسفة، والعلوم والآداب، ولما كانت مكتبة «زالوسكي» قد نُقلت إلى سان بطرسبرج، (منذ ١٧٩٥) فقد أُنشئت مكتبة جديدة. ثم تأسَّست مدارس عالية لدراسة الفنون العسكرية، وشئون الغابات والفنون التطبيقية في وارسو، ومدرسة للتعدين في كليلسي Kielce ومدرسة للحربية في كاليشي Kalisz، ومدرسة للمعلمين في لوفيتشي Lovicz. كما أُنشئت مدرسة إكليريكية، وأخرى لرجال الدين اليهود، وأما التعليم الثانوي فقد بلغ عدد مدارسه (٢٦)، وبلغ عدد المدارس الابتدائية والأولية (٩٠٠) تقريبًا، وعنيت الحكومة كذلك بشئون الصناعة، خصوصًا صناعة الغزل والنسج والتعدين، وبذلت الجهود لتحسين مدينة وارسو، وتوسيعها، وأُقيمت بها المباني الجديدة، وأصلحت الطرق وَعُبِّدت أخرى جديدة، ونشطت الملاحة النهرية في أنهار الفيستولا وبيليشيا Pilica، ونيدا Nida، وغيرها، ونُظمت خدمة البريد، وأعانت الحكومة المسرح القومي، وأنشئت أكاديمية للموسيقى، ولقد صدر في سنة ١٨١٧ قرار يجعل سهلًا الحصول على ألقاب النبل والشرف، وكان غرض الحكومة من التقريب بين الطبقات في المجتمع، وإزالة الشعور تدريجيًّا بأن النبلاء يؤلِّفون طبقة قائمة بذاتها ومنفصلة عن سائر الطبقات في المجتمع البولندي، وعنيت الحكومة بتنظيم مالية البلاد، وكانت بولندة تشكو عجزًا في ميزانيتها بسبب الإنفاق على الجيش، وقامت روسيا في العامين الأولين (١٨١٥–١٨١٧) بسداد هذه النفقات من خزانتها، ولكن لم تلبث أن صارت «مالية» البلاد — أي بولندة — هي التي تتحمل هذه النفقات بعد ذلك، فبلغ العجز في ميزانيتها في سنة ١٨١٩ حوالي تسعة عشر مليونًا من الفلورينات (والفلورين Florin البولندي أو الجلدين Gulden كان يساوي وقتذاك حوالي سبعة قروش)، وخشي البولنديون أن يتخذ «نوفوسيلتزوف» من هذا العجز ذريعة لإقناع القيصر إسكندر بضرورة إلغاء دستور الحكم الذاتي بدعوى أن «المملكة» قد عجزت عن سداد نفقات حكومتها الداخلية، وذلك على أمل أن يشمل الدستور الذي كان يعد وقتئذ للإمبراطورية بأسرها، بولندة.

وفي ٢٧ مارس ١٨١٨؛ افتتح القيصر إسكندر الأول، في حفل رسمي كبير، مجلس «الدياط» وألقى خطابًا بالفرنسية ضمَّنه وعودًا كثيرة. فقال إسكندر: إن البولنديين قد هيَّأوا له الفرصة ليكشف لبلاده «روسيا» عن الفرص الذي دأب يعمل في سبيله من مدة طويلة، والذي سوف يتحقق بالنسبة لبلاده، بمجرد أن يتم الاستعداد له. ثم امتدح البولنديين الذين أقاموا الدليل على أنهم جديرون بما نالوه من حقوق، وقال: إن جهودهم وحدها هي التي سوف تجعله يقرَّر ما إذا كان — وحسبما تعهد به — في مقدوره أن يزيد الحقوق والحريات التي منحها لهم، ولقد كان لهذه الأموال صدًى كبيرًا ليس في بولندة وحدها، أو روسيا فحسب؛ بل وفي كل أوروبا، وفهم الناس من هذه الأقوال أن القيصر يريد منح روسيا نفسها دستورًا، وأنه يريد أن يضم ليتوانيا إلى المملكة، وفي رأي كثيرين تعتبر هذه الخطبة — خطبة العرش — التي أُلقيت في مارس ١٨١٨ نهاية ما وصلت إليه آراء القيصر الحرَّة وبداية المرحلة التي انحدرت فيها آراؤه في طريق الرجعية.

ولقد كان إذن تحت تأثير هذه الأقوال المشجعة أن اتخذ «الدياط» عدة قرارات، على جانب كبير من الأهمية بشأن تعيين حدود (أو مساحة) الأراضي المملوكة للأفراد وتثبيت هذه الحدود، واستصدار قانون خاص برهن العقارات، وإعداد قانون للجنايات، وأبدى «الدياط» إلى جانب ذلك، حكمة واعتدالًا في علاقاته مع «الحكومة» ومع الفراندوق قنسطنطين الذي أرغم وزير الحربية (في سنة ١٨١٦) على الاستقالة، واضطره بسبب صراحته العسكرية، كثيرون من الضباط البولنديين إلى الانتحار، وأراد «الدياط» أن يقيم الدليل بفضل نشاطه التشريعي ومسلكه المتسم بالرزانة والاعتدال، على أنه يثق في الحكومة، وقبل كل شيء يثق في وعود القيصر التي تضمنها خطاب العرش، ولقد زاد من «ثقة» البولنديين في وعود القيصر، أن إسكندر عندما أعلن فض الدياط في ٢٧ أبريل ١٨١٨، ألقى خطابًا شكر فيه أعضاء المجلس على نشاطهم ومسلكهم، ووعد بعودته السريعة إلى وارسو، وتعهد بتمسكه بنواياه التي أعلن عنها سابقًا والتي يعرفها أعضاء المجلس، وقال: إنه مصمم على تنفيذها، وبالفعل كانت قد اتُّخذت في سنة ١٨١٧، ثم لم تلبث أن اتُّخذت في سنة ١٨١٩ كذلك إجراءات تدل على الرغبة في تحقيق هذه النوايا، وذلك عندما صدرت الأوامر في هاتين السنتين (١٨١٧–١٨١٩) تجعل السلطات العسكرية التي يتمتع بها الفراندوق قنسطنطين، بوصفه قائد الجيش البولندي الأعلى، تشمل كذلك خمس مقاطعات من ليتوانيا.

(٧-٣) عودة الرجعية

ومع ذلك فقد أخذت تظهر، بالرغم من كل هذه الوعود، دلائل معينة تشير إلى أن عهدًا من الرجعية قد بدأ في الوقت نفسه في بولندة. من ذلك أن نائب الملك أصدر قرارًا في مايو ١٨١٩ فرض الرقابة على الصحف والمجلات، فلم تلبث هذه أن شملت الكتب في كل أنحاء المملكة (يوليو من العام نفسه)، وكان في ذلك افتئات جسيم على الدستور. وفي ديسمبر ١٨١٩؛ وُضعت القيود على الحرية الشخصية، بصورة يسَّرت السبيل لتطبيق الأوتقراطية المتطرفة في كل فروع الحكم والإدارة وإلغاء حريات الأفراد، حسبما عليه إرادة «قنسطنطين» من جهة، ونزوات «نوفوسيلتزوف» من جهة أخرى، ودون حساب لكل الضمانات التي اشتمل عليها الدستور لتأمين حقوق الأفراد وحرياتهم.

وعندما اجتمع مجلس «الدياط» الثاني في خريف ١٨٢٠، كان القيصر قد تخلى عن «مبادئه الحرَّة الديمقراطية»؛ بسبب الأحداث التي وقعت في أوروبا آنئذ، بل وفي روسيا كذلك. فجاء خطاب العرش الذي ألقاه (بالدياط) في ١٣ سبتمبر مليئًا بالتحذير من تلك «الروح الخبيثة» التي قال القيصر:

إنها صارت تجتاح أوروبا، ومع ذلك فقد حرص إسكندر على إظهار تمسكه بوعوده السابقة، كما أنه بالرغم من تغلب الرجعية على تفكيره ونشاطه، كان لا يزال يحاول سرًّا وهو في وارسو إعداد المشروعات الخاصة باتحاد ليتوانيا مع بولندة، وإنشاء دستور لروسيا، ولو أنه لم يكن يعتقد كثيرًا أن في الإمكان تنفيذ هذه المشروعات.

ولم يكن مسلك «الدياط» هذه المرَّة، مِمَّا يجلب رضاء القيصر عليه، فرفض الدياط بعض مشروعات القوانين الهامة التي تقدمت بها الحكومة، وكثرت العرائض التي شكا فيها أصحابها من إجراءات الحكومة غير الدستورية، وشن فينسنت نيمويفسكي Vincent Niemojevski زعيم المعارضة في المجلس هجومًا عنيفًا على أعمالها، ولكن الدياط استطاع بالرغم من ذلك أن يسلك على وجه العموم طريقة الاعتدال عند نقده للحكومة، ولم يتعرض لشخص الملك بشيء. وتجاهل القيصر هذا «الاعتدال»، فعمد في خطابه الذي أنهى به أعمال الدياط في هذه الدورة (١٣ أكتوبر ١٨٢٠) إلى توجيه اللوم الشديد للمجلس، والإشارة إلى أنه قد يجد نفسه مضطرًّا إلى إلغاء وعوده السابقة، وحَمَّلَ القيصر أعضاء الدياط مسئولية «تعطيل تقدم بلادهم».

وخلال السنوات الخمس التالية، لم يُدع الدياط للانعقاد مرة واحدة، وعانى البولنديون متاعب كثيرة، عندما شدَّد «نوفوسيلتزوف» الرقابة على الصحف، وخضع التعليم لتيار الرجعية السياسية بتأثيره وتحت نفوذه، ولقد ساعد على ذلك وجود وزير للتربية والتعليم ولشئون الدين والعبادة هو «ستانسيلاوس بوتوكي»، معروف بآرائه الحرَّة ووطنيته الكبيرة، لم يلبث أن نفَّر من الحكومة طائفة القساوسة الكاثوليك عندما أغلق عددًا من الأديرة للرهبان (٤٥)، والراهبات (٣)، وإحدى عشرة مدرسة إكليريكية. (ولقد تبقى بعد ذلك حوالي مائتي دير وألفي راهب)، وعلى ذلك؛ فقد تقدم الأساقفة وعلى رأسهم «فورونيتش» بعرائضهم إلى القيصر يشكون «بوتوكي» الذي كان موضع بغضهم لأسباب عدة منها؛ أنه كان كذلك رئيس الحفل الأعظم الشرقي للبنائيين الأحرار (للماسونية) في مارسو. ومما تجدر ملاحظته أن كنيسة روما في هذا الحين كانت تقف ضد الجمعيات السرية، وعلى الخصوص جمعيات «الكاربوناري» التي أصدر البابا ضدها قرار الحرمان (في سبتمبر ١٨٢١)، واستجاب إسكندر لرغبات الأساقفة فاعتمد قانونًا جديدًا للتعليم والعبادة (أغسطس ١٨٢١)، وطرد «بوتوكي» من منصبه، ولكن تولى وزارة التعليم وشئون الدين، رجل سرعان ما صار أداة في يد «نوفوسيلتزوف» فسادت الرجعية هذه الوزارة.

(٧-٤) الجمعيات السرية

وعمدت الحكومة إلى مطاردة الجمعيات السرية وإلغائها، وكانت بعض هذه الجمعيات قد تأسَّست قبل إنشاء مملكة بولندة ذاتها، فكان عدد منها موجودًا في سنة ١٨١٤، وترجع أصول هذه الجمعيات السرية إلى وقت تأسيس الماسونية البولندية معتمدة على الحفل الماسوني الأعظم في برلين، وهي التي أُعيد تنظيمها أثناء قيام «غراندوقية وارسو»، فأُنشئ محفل بولندي أعظم، مرتبط بالمحفل الأعظم الماسوني بباريس. ولقد امتد نشاط الحركة الماسونية في سنة ١٨١٤ إلى المقاطعات الغربية في روسيا بفضل جهود بلاتر «لدويج بلاتر»، ونشأت الصلات بين المحفل البولندي ومحفل بطرسبرج الأعظم.

وشجَّع القيصر إسكندر وأخوه قنسطنطين (والأخير كان من الماسون البنائين الأحرار) تكوين الجمعيات الوطنية السرية، عندما كان متوقعًا في سنة ١٨١٤ أن تقوم بسبب المسألة البولندية الحرب بين روسيا من جانب، والنمسا وإنجلترة وفرنسا من جانب آخر، وذلك على أمل استخدام البولنديين الوطنيين في جانب روسيا. وعقد القيصر آماله على إمكان تأسيس «مملكة بولندة» بهذه الوسيلة، فتألَّفت في هذه الظروف إذن في سنة ١٨١٤ جمعية البولنديين الأصليين Trve Poles. ثم لم تلبث أن تألَّفت بعد ذلك جمعية سرية للماسونيين الوطنيين أو القوميين National، وذلك من بين الماسون البولنديين، وكان مؤسس هذه الجمعية الرئيسي والأستاذ الأعظم: فاليتز لوكاسنسكي Valez Lukasinsri أحد الضباط البولنديين، وأيَّدت هذه الجمعية مبدأ الملكية، وأقامت تمثالًا نصفيًّا للقيصر إسكندر في قاعات محافلها. ثم إنه عندما امتد نشاط الجمعية بعد ذلك إلى غراندوقية «بوزن»، أُزيل تمثال الملك البروسي في فردريك وليم الثالث، ووُضع مكانه تمثال القيصر إسكندر في كل المحافل الماسونية في بوزن. وفي سنة ١٨١٩ وضع «لوكاسنسكي» قانون الجمعية. وفي بداية العام التالي (١٨٢٠) تحولت الجمعية مرة ثانية من جمعية ماسونية إلى منظمة من طراز «الكاربوناري»، وفصم «لوكاسنسكي» في الوقت نفسه كل علاقة مباشرة مع «بوزن» الإقليم الذي احتفظت به بروسيا، وكان قطع هذه العلاقات بناءً على رغبة القيصر إسكندر، ولكن تعذر وقف هذه الحركة، فحدث في أبريل ١٨٢١، أن حضر إلى وارسو أحد البنائين الأحرار في «بوزن»، الجنرال أومنسكي Vminski وبفضل مساعيه وتحت ضغط الرأي في المحافل المحلية، أمكن تأسيس جمعية سرية جديدة ذات تنظيم قوي، وذلك في مكان بالقرب من وارسو في بيلاني Bielany في أول مايو ١٨٢١، وكانت هذه الجمعية ذات كيان مستقل عن سائر الجمعيات، وتعمل من أجل تحقيق استقلال بولندة، معتمدة في بلوغ مآربها على سواعد الشعب البولندي نفسه، وتسمَّت باسم الجمعية الوطنية Patriotic Society، وتمارس السلطة في هذه الجمعية لجنة مركزية برياسة «لوكاسنسكي». ثم وزَّع أعضاؤها أنفسهم في سبع مقاطعات؛ مملكة بولندة، ليتوانيا، فولهينيا Volhynia، بوزن، غاليسيا، كراكاو، ثم المقاطعة السابعة وتتألَّف من الجيش البولندي. وفي سنة ١٨٢٢ بلغ عدد أعضاء «الجمعية الوطنية» حوالي خمسة آلاف ولو أن هناك مَنْ يرون أنه عدد مبالغ فيه كثيرًا.
ولم يمضِ وقت طويل، حتى فطنت الحكومة لحقيقة نشاط هذه الجمعية، وذلك في أبريل ١٨٢٢، عن طريق التحذيرات التي جاءتها من البوليس في برلين، ثم بسبب خيانة أحد أعضائها، الضابط كارسكي Karski، وكان هذا الأخير قد أُوفد إلى باريس للوصول إلى تفاهم مع الجمعيات العسكرية الفرنسية، ومع «لفاييت» خصوصًا. فأبلغ «كارسكي» كل ما لديه من معلومات إلى السفير الروسي في باريس بوزو دي بورجو Pozzo di Borgo، وكان من ألد أعداء البولنديين، فأُلقي القبض على «لوكاسنسكي» ورفاقه، وأُودع هؤلاء السجون، ثم قُدموا للتحقيق بعد أكثر من عامين، في يوليو ١٨٢٢، أمام «لجنة تحقيق» خاصة، ثم سيقوا للمحاكمة أمام محكمة عسكرية في يناير ١٨٢٤، وحكمت هذه عليهم بالأشغال الشاقة (في أغسطس)، وخفَّض إسكندر الحكم بالنسبة لرئيس المنظمة «لوكاسنسكي» لمدة سبع سنوات فقط، ومع ذلك فقد أُودع هذا الأخير، عند قيام ثورة نوفمبر ١٨٣٠، بإحدى زنزانات قلعة شلوسلبرج Schlüsselrerg في روسيا، إلى الشرق من بطرسبرج، حيث بقي بها مدة أربعين عامًا تقريبًا، إلى وقت وفاته سنة ١٨٦٨، ولم يذع «لوكاسنسكي» شيئًا من أسرار الجمعية حتى مماته.
وكان بفضل صمت «لوكاسنسكي» أن استطاعت «الجمعية الوطنية» متابعة نشاطها سرًّا، برياسة أحد قادة الحرس البولندي كرتزيتزانوفسكي Krzyzanovski، وصار لهذه الجمعية فروع عديدة في فيلنا، وكولاند، وفي المقاطعات الجنوبية الغربية، خصوصًا في فولهينيا، ومن هذه الأخيرة وصلت الأخبار عن وجودها إلى «الجمعية الروسية الجنوبية» التي عرفنا من زعمائها؛ «مورفييف أبوستول» و«بزتوزيف»، وقد اقترح هذان في سنة ١٨٢٣ الوصول إلى تفاهم وتعاون مع «الجمعية الوطنية». فانعقدت المؤتمرات السرية لهذه الغاية في غضون سنتي ١٨٢٤، ١٨٢٥ بينهما وبين «كرتزيتزانوفسكي»، وكان الأخير متحذرًا في مفاوضاته، حتى إنه لم يشأ إعطاء أية تفصيلات عن الجمعيات البولندية عندما طُلب منه الإدلاء بمعلوماته عن هذه الجمعيات على أساس اشتراك الفريقين؛ الروس والبولنديين في مؤامرة واحدة؛ فرفض إفشاء سر هذه الجمعيات بدعوى أنه لم يكن مفوضًا بفعل ذلك، ولأنه لا يهتم هو من ناحيته بمعرفة تفاصيل عن الجمعيات الروسية. وعندما سأله «أبوستول» و«بزتوزيف» عن نوع الحكومة التي تريدها «الجمعية الوطنية» البولندية وأشار بوجوب تفضيل الجمهورية، أجاب «كرتزيترانوفسكي»: أن صالح بلاده يقتضي في اعتقاده قيام الحكومة الملكية، وأشعره المندوبان الروسيان أن في عزم المتآمرين الروس إذا دعت الضرورة، القضاء على البيت الروسي المالك، وطلبا من المفاوض البولندي أن يعمل البولنديون من جانبهم كذلك للخلاص من «قنسطنطين»، فكان جواب «كرتزتيزانوفسكي»: «أن البولنديين لم يسبق قط أن تلطخت أيديهم بدماء ملوكهم.» ثم إنه رفض أخيرًا أن يوقِّع على اتفاق مكتوب.

(٧-٥) نهاية عهد

وكان في هذه الظروف الدقيقة، التي بدأت تتجمع فيها النذر، بأن عاصفة هوجاء سوف تهب في سماء المملكة «بولندة»؛ كان في هذه الظروف أن تعين الوزارة المالية؛ البرنس لوبيكي Lubecki (١٨٢١) وكان ذا مقدرة، اتخذ طائفة من الإجراءات التي ترتب عليها زيادة إيرادات الدولة واستطاع التخلص من العجز المزمن في الميزانية، فلم يمضِ عامان حتى كانت قد استقامت الأمور، وانتعشت اقتصاديات المملكة (وماليتها)، ولكن «لوبيكي» حتى يظفر بهذه النتيجة، لم يتردد في استخدام وسائل كانت تتسم بالعنف والصرامة، ولا يمكن أن يوصف أكثرها بالنزاهة، الأمر الذي نفَّر منه القلوب، وجعله موضع حملة عنيفة شنَّتها عليه «المعارضة» في مجلس الدياط، ومع ذلك فالمعترف به أن «لوبيكي» قد أدى خدمات جليلة لوطنه، بفضل نجاح إدارته وسياسته المالية من جهة، ولأنه كان في وسعه بسبب هذا النجاح نفسه أن يقاوم بعناد، طغيان «نوفوسيلتزوف» في «المجلس الإداري»، بل ويقف في وجه القيصر نفسه من أجل الدفاع عن صالح وطنه.

أما آخر زيارات القيصر إسكندر لوارسو، فكانت في ربيع ١٨٢٥ عندما حضر لافتتاح جلسات الدياط الثالث، وكان عند صدور الدعوة لانعقاد هذا الدياط، أن صدر في ١٣ فبراير ١٨٢٥ قانون إضافي، جعل جلسات الدياط سرية باستثناء جلستي الافتتاح والاختتام العامتين، وكان معنى هذا القرار بدرجة كبيرة، إلغاء «الدستور» نفسه، ولقد اتُّخذت إجراءات أخرى «قمعية» لمنع تكرار ما حدث من معارضة في الدياط الأخير ضد الحكومة، فمُنع «نيمويفسكي» زعيم المعارضة السابق من المجيء إلى مارسو، وأُلغيت الانتخابات في «كاليس»، حيث كان قد أُعيد انتخابه نائبًا عنها في «الدياط»، وأُحيط مقر الدياط — ويشغل قسمًا من القصر الملكي في وارسو — بالجنود واكتظ المكان بالموظفين الروس وبالجواسيس.

وافتتح القيصر إسكندر جلسات المجلس (في ١٣ مايو ١٨٢٥)، فألقى خطابًا جافًّا، تجنب فيه الكلام في المسائل الهامة، فلم يشِر إلا عرضًا (للقانون الإضافي)، في حين تحدث عن التقدم المادي الذي بلغته البلاد، والتحسن الذي حصل في اقتصادياتها، وتكلم عن واجب أعضاء المجلس أن يضعوا الثقة الكاملة في الحكومة، وأوصى بقبول كل المشروعات التي تتقدم بها هذه إلى المجلس دون أي تحفظ. وعمل الدياط بهذه «الوصايا»، فلم يشأ الشكاية من «القانون الإضافي» أو من أعمال الحكومة أو الاحتجاج عليها، وكان الدياط قد أعدَّ خطابًا خاصًّا موجهًا للعرش يطلب فيه إلغاء القانون الإضافي. ثم وافق «الدياط» على كل مشروعات الحكومة، دون استثناء ما، وكان من بين هذه المشروعات؛ تنظيم «بنك للأراضي» كان «لوبيكي» صاحب الفضل في تأسيسه، أمدته الحكومة بمعونة مالية ضخمة من أجل تشجيع الزراعة، ومن ذلك أيضًا؛ اعتماد قسم من القانون المدني، وقانون آخر خاص بالملكية العقارية لتنظيم العلاقة بين المُلَّاك والمستأجرين، ثم مواد إضافية مكملة للقانون الجنائي. وهكذا أقام الدياط الدليل على أنه تقديرًا منه للمسئوليات الجسيمة الملقاة على عاتقه — وحسبما جاء في خطاب إسكندر نفسه الذي اختتم به دورة سنة ١٩٢٠ — لم يشأ أن يزود القيصر بأية أعذار أو حجج يستند عليها في إلغاء الوعود التي ارتبط هذا الأخير بها، ولقد كان نجاح الدياط في تحقيق هذا الغرض واضحًا، لدرجة أن إسكندر نفسه لم يسعه سوى الاعتراف بذلك، فجاء في خطابه الذي اختتم به هذه الدورة (في ١٣ يونيو ١٨٢٥)، ما معناه؛ أن أعضاء هذا المجلس قد حققوا رغائب وطنهم، وبرروا في الوقت نفسه الثقة التي وضعها فيهم القيصر، وأن القيصر يريد لذلك برغبة صادقة أن يتمكن من إقناعهم بأنه سوف يكون لعملهم هذا ومسلكهم أعظم الأثر على مستقبل بلادهم.

ولكن هذه «الوعود» الأخيرة لم تتحقق؛ لأن القيصر غادر وارسو في اليوم التالي (١٤ يونيو). فلم يشهد بولندة مرة ثانية، فقد وافته منيته — كما عرفنا — في تاجنروج في أول ديسمبر ١٨٢٥.

(٧-٦) بوادر الثورة

ولقد تقدم كيف اقترن اعتلاء القيصر نيقولا الأول عرش روسيا بالقلاقل والاضطرابات التي أثارتها حركة الديسمبريين، والذي لا شك فيه أنه كان لاعتلاء هذا القيصر العرش، وما صحب اعتلاءه من أحداث؛ أثر عظيم في النهاية على مقدمات بولندة. حقيقة بدأ نيقولا حكمه باستصدار بيان (أو منشور) منفصل إلى مملكة بولندة في ٢٥ ديسمبر ١٨٢٥ يؤكد فيه للبولنديين أن حكومته إنما هي استمرار لحكومة سلفه إسكندر. فتبقى لهؤلاء أنظمتهم الحكومية، وأقسم نيقولا أغلظ الأيمان أنه سيحفظ الدستور ويقوم على تنفيذه بكل ما أوتي من جهد وقدرة، ولكن كان واضحًا بالرغم من هذه الأيمان؛ أن الحكم الجديد سوف يأتي حتمًا بأخطار جديدة.

فقد ساءت العلاقة في التو والساعة بين القيصر نيقولا والفراندوق قنسطنطين، وتزايد شعور الأخير بجسامة المسئوليات الملقاة على عاتقه بعد أن تخلى عن العرش لأخيه الأصغر نيقولا. زِدْ على ذلك أن القيصر الجديد لم يلبث أن نبذ ظهريًّا مشروع إسكندر لضم المقاطعات الليتوانية الخمس إلى مملكة بولندة، وشرع يعمل تدريجيًّا لصبغ الإدارة المدنية في هذه المقاطعات الخمس بالصبغة الروسية، ثم تصبغ الفرق العسكرية الليتوانية خصوصًا بهذه الصبغة نفسها، مما أثار المناقشات العنيفة بين قنسطنطين القائد الأعلى للجيش البولندي والقيصر نيقولا.

أضف إلى هذا أن قنسطنطين رفض أن يبدأ تحقيقًا مع الجمعيات البولندية السرية، بالرغم من أن الديسمبريين كانوا متصلين بها، وذلك لخوفه من أن يسفر هذا التحقيق عن إدانة بعض أقسام الجيش البولندي، وزيادة العلاقات توترًا بين بولندة وروسيا، ومع ذلك فقد أصرَّ القيصر على ضرورة إجراء هذا التحقيق، فأُلقي القبض على عدد عظيم من الناس، كان من بينهم «كرتزيتزانوفسكي»، وَشُكِّلت «لجنة التحقيق» لجمع الأدلة، كشفت النقاب عن نشاط «الجمعية الوطنية» وكل ما يتصل بنظامها، ثم قدمت اللجنة تقريرها في ٣ يناير ١٨٢٧، فأُدين ثمانية منهم؛ «كرتزيتزانوفسكي» نفسه. ثم تشكَّلت محكمة من الدياط، عيَّنت من بين أعضائها «لجنة» أخرى للتحقيق، بدأت جلساتها في ١٠ أبريل ١٨٢٨، وعلى خلاف ما حدث في محاكمة الديسمبريين الذين حوكموا محاكمة سرية، ودون أن يُعطوا حق الدفاع عن أنفسهم، أُجريت المحاكمة الآن بطريقة قانونية، ولقي المتهمون التسهيلات اللازمة لتدبير دفاعهم، وصدر الحكم أخيرًا في ١٠ يونيو من السنة نفسها، وكان يقضي بسجن «كرتزيتزانوفسكي» ثلاث سنوات، بينما وقعت على الآخرين عقوبات خفيفة، في حين بُرئ ثلاثة منهم، وصدرت هذه الأحكام ضد رغبة القيصر نيقولا الذي كان يريد توقيع عقوبة الإعدام عليهم، ويذهب المؤرخون إلى أن هذه الأحكام المخففة إنما تنهض دليلًا على أن أكثرية المجتمع الروسي كانت تعطف على أغراض الجمعيات السرية.

ولقد قدم رئيس المحكمة الكونت بطرس بيلينسكي Bielinski تقريرًا إلى القيصر (في ٣٠ يونيو ١٨٢٨)، أعدَّه «تزارتوريسكي»، يتضمن حيثيات الأحكام التي صدرت، باعتبار أن المتهمين قد بنوا دفاعهم قبل كل شيء على أساس أن نشاطهم إنما يلقى مبررًا له فيما جاء (بقرار فينا النهائي) خاصًّا بإنشاء مملكة بولندة ومنها دستورًا يكفل لها حكومة ذاتية — بالشكل الذي يراه القيصر — على أن يربط هذه المملكة بروسيا دائمًا، وإن لم تندمج بها. كما يستند هذا النشاط فيما يتعلَّق بتوسيع حدود المملكة، على وعود القيصر إسكندر الخاصة بضم مقاطعات من ليتوانيا إليها، وهي الوعود التي تأكَّدت بفضل القوانين التي أدخلت الأنظمة البولندية في الإدارة المدنية والعسكرية في قسم كبير من ليتوانيا، وعندئذٍ أمر القيصر نيقولا (في ٢٩ أغسطس ١٨٢٨) المجلس الإداري ومجلس الدولة أن يعيدا النظر في هذه الأحكام؛ لتقرير ما إذا كان لا يبدو من جانب «محكمة الدياط» التي أصدرتها: «أنها تميل لغض الطرف عن النوايا الإجرامية.» وعندئذٍ تصدى «لوبيكي» للدفاع عن المتهمين، وعن المحكمة، وعن البلاد بأسرها، وكان بفضل نفوذه أن أيَّد المجلس الإداري ومجلس الدولة جوهر القرار الذي أصدرته المحكمة، واضطر نيقولا في آخر الأمر إلى اعتماد هذه الأحكام التي لم تلبث أن نُفِّذت (٢٦ مارس ١٨٢٩).

وكان هذا الحادث بمثابة المقدمة التي مهدت لاشتعال ثورة نوفمبر ١٨٣٠، من حيث إنها قد أظهرت عاريًا، ذلك العداء الذي كان مستحكمًا بين القيصر نيقولا والأمة البولندية.

ولقد كان للحرب التي خاض غمارها القيصر مع الأتراك (١٨٢٨-١٨٢٩)، أكبر الأثر في جعل نيقولا الأول يتخلى عن موقفه. فقد كانت الحرب في مراحلها الأولى لا تسير في صالح روسيا، وكان هناك خوف من تدخل النمسا وإنجلترة ضد روسيا، وأراد القيصر استخدام الجيش البولندي، ولكن قنسطنطين عارض بنجاح في ذلك، وأراد القيصر إزالة الأثر السيئ الذي خلَّفه موقفه في نفوس البولنديين، فأهدى الجيش البولندي بعض قطع المدفعية التي أخذها من الأتراك، بعد سقوط «فارنا»، وذلك لوضعها في ترسانة وارسو، وإحياءً لذكرى «لادسلاوس الثالث» جد ملوك بولندة القدماء (من أسرة جاجللون)، الذي سقط منذ أربعمائة سنة مضت (١٤٤٤) في الحرب ضد الأتراك، في واقعة «فارنا». كما أمر القيصر بإقامة معبد في مارسو على نفقته الخاصة، يحوي رفات «وقلب» البطل البولنديجون سوبيسكي Sobieski الذي انتصر على الأتراك، وأنقذ فينا من خطرهم سنة ١٦٨٣، واعتُبر لذلك منقذًا للمسيحية. ثم إن القيصر بعث بعد صلح أدريانويل مع الأتراك (١٨٢٩) بالأعلام التي غنمها منهم في الحرب؛ لتودع بكتدرائية القديس يوحنا في وارسو، ثم لم يلبث أن قرَّر تنفيذ الدستور، فحضر إلى وارسو للاحتفال بتتويجه بها (١٧ مايو ١٨٢٩)، واصطحب معه ابنه: «القيصر إسكندر الثاني فيما بعد»، الذي كان يتقن اللغة البولندية، والذي كان يرتدي لباسًا بولنديًّا عسكريًّا، وفي ٢٤ مايو تُوِّج القيصر نيقولا ملكًا على بولندة، وبقي بالعاصمة البولندية أكثر من شهر، يبذل الجهد لاستمالة الموظفين البولنديين والضباط العسكريين خصوصًا، ثم وعد قبل مغادرته وارسو بدعوة «الدياط» للاجتماع قريبًا.

وبالفعل افتتح نيقولا مجلس «الدياط» الرابع في ٢٨ مايو ١٨٣٠، وألقى خطابًا وديًّا طويلًا، فأشار إلى تنفيذه المادة الخامسة والأربعين من مواد الدستور، وذلك بالاحتفال بتتويجه في وارسو، واعتذر عن تأخره في دعوة «الدياط» للاجتماع بسبب صعوباته الداخلية، ثم ذكر الحرب الأخيرة مع تركيا، فأشاد بقدرة الجيش البولندي وقيمته كقوة يُعتد بها في مواجهة أعداء الإمبراطورية (وكان القيصر يقصد النمسا)، ولكن نيقولا لم يذكر شيئًا عن «محكمة الدياط»، كما أنه لم يذكر شيئًا عن إضافة أقاليم جديدة وتوسيع رقعة المملكة، فأشعر سامعيه بصمته هذا؛ أنه لم يعد هناك أي أمل في ضم أجزاء من ليتوانيا إلى مملكة بولندة.

ومع أن «الدياط» اعتمد مبالغ كبيرة لإقامة تمثال للقيصر إسكندر الأول بوصفه باعث مملكة بولندة، فقد وجَّهت اللجان المختلفة في الدياط النقد الشديد لأعمال الحكومة، سواء الإدارية منها أم الدستورية، وتقدمت للحكومة عرائض كثيرة لإلغاء القانون الإضافي، وللعفو عن «لوكاسنسكي»، ولغير ذلك من المطالب، وكان واضحًا أن موقف «الدياط» ونشاطه لم يصادف قبولًا لدى القيصر، الذي لم يلبث أن أظهر عدم رضائه وإن كان ذلك بطريقة غير مباشرة، عندما ألقى خطابه الذي اختتم به الدورة (في ٢٨ يونيو ١٨٣٠)، فشكر مجلس الشيوخ (السناتو) على المهمة التي أبداها، ولكنه تعمد عدم الإشارة إلى جهود مجلس النواب.

وغادر القيصر وارسو في اليوم التالي (٢٩ يونيو ١٨٣٠)، وهو لا يزال ملكًا دستوريًّا لبولندة، فلم يعد إليها إلا بعد أن تحطم دستورها على يديه وبوصفه قيصر روسيا الأوتقراطية.

(٧-٧) الثورة (نوفمبر ١٨٣٠)

ولقد كان بعد انكشاف أمر «الجمعية الوطنية» والتحقيقات التي حصلت، والأحكام التي أصدرتها «محكمة الدياط»، أن تشكَّلت في التو والساعة جمعية سرية جديدة في وارسو؛ لتدبير مؤامرة عسكرية، وكان أعضاء هذه الجمعية من الشبان المملوئين نشاطًا وحماسة، والذين لا يحجمون عن اللجوء إلى وسائل العنف والشدة لتنفيذ خططهم. أما هذه الجمعية الجديدة فقد بدأت تتشكَّل أوَّلًا في سنة ١٨٢٨ (بمدرسة الإشارة) بزعامة معلم هذه المدرسة بيتزفيسوكي Vysocki. ثم لم يلبث أن التحق بها بعد ذلك عدد من المدنيين ومن الْكُتَّاب والأدباء، والطلاب بجامعة وارسو، وكان في عزم أعضاء هذه الجمعية القيام بالثورة أثناء الحرب الروسية التركية (١٨٢٨-١٨٢٩)، باعتبار أن مسئولية روسيا بهذه الحرب يهيئ الفرصة لنجاح الثورة، وأراد فريق من المتحمسين إشعال الثورة أثناء تتويج القيصر في وارسو (مايو ١٨٢٩)، ثم وُضعت خطة للمناداة بالثورة أثناء انعقاد الدياط (مايو ١٨٣٠)، ولكن لم تكن هناك استعدادات كافية لإشعال الثورة، وافتقر المتآمرون للزعماء القادرين على قيادتها والتنظيمات اللازمة للتكفل بأعبائها، ولم يكن «فيسوكي» وصحبه من أصحاب الكلمة المسموعة في البلاد، بالرغم من اتصافهم بالشجاعة.

ومع ذلك، فقد كان يسود البلاد التذمر، ويستبد بالأهلين شعور خفي بالخوف، وكان هذا التذمر وهذا الخوف هما القوة الدافعة للحركة التي انتهت بالانفجار والثورة بعد شهور قليلة. أما التذمر فسببه أنه قد صار واضحًا تمامًا أنه لم يعد هناك أي أمل في تنفيذ الوعود التي أعطاها القيصر إسكندر بشأن ضم ليتوانيا إلى بولندة، وأما الخوف فكان مبعثه تلك الاعتداءات المتكررة على الدستور، وبخاصة عندما صار هذا الدستور مهددًا في كيانه ذاته منذ إصدار «القانون الإضافي» وتشكيل «محكمة الدياط».

وكان من العسير على البلاد بالرغم من هذا التذمر والخوف أن تقرِّر دون إمهال؛ الاشتباك في نضال يائس، يتوقف على نتيجة استمرار حياتها أو فناؤها. فكان يتزايد عدد المتآمرين للثورة بخطى بطيئة، حتى إذا وقعت الثورة المشهورة في باريس بفرنسا في يوليو ١٨٣٠، قويت روح المتآمرين البولنديين وساعدت هذه الثورة الفرنسية على شحذ هممهم والتصميم على تنفيذ مؤامراتهم، فبلغ عدد الضباط من حامية وارسو وحدها الذين انضموا للحركة في شهر أكتوبر ١٨٣٠؛ سبعة وسبعين، ولم يمضِ وقت طويل حتى بلغ عددهم المائتين. ثم إنه كان لثورة يوليو (في باريس) أثر آخر لا يقل في خطورته عن هذا الذي ذكرناه؛ هو أن القيصر نيقولا الأول لم يلبث أن صمَّم على غزو فرنسا لإخماد الثورة بها، بمجرد أن بلغته أنباؤها، وكان يعوِّل على اشتراك بروسيا معه في الحرب ضد فرنسا، فنجم من الارتباط الذي حصل بين تشجيع المتآمرين على القيام بثورتهم، وقرار القيصر انتهاج سياسة خارجية عدوانية ضد فرنسا، أن تهيَّأت الأسباب المباشرة لقيام الثورة في بولندة.

فقد أبلغ القيصر (في ٨ أغسطس ١٨٣٠) الفراندوق قنسطنطين عزمه على استخدام الجيش البولندي، والمالية البولندية في الغزو المنتظر، ثم طلب في اليوم نفسه من وزير المالية البرنس «لوبيكي» إعداد الأموال اللازمة لتعبئة الجيش، وللإنفاق على الحملة المزمعة. فأجاب قنسطنطين في ٢٥ أغسطس، يعلن للقيصر معارضته للحرب، ويفصح عن مخاوفه من نتائجها، ولكن «لوبيكي» الذي انزعج كثيرًا لمطلب القيصر، والذي لم يكن بوسعه معارضته، اكتفى بتقديم «تقرير» للقيصر في ٣ سبتمبر يُبَيِّن المبالغ التي لديه لسداد النفقات الأولية.

وفي الوقت نفسه: بعث القيصر بالجنرال «ديبتش» إلى الملك فردريك وليم الثالث، (في برلين، ٣١ أغسطس)، لاستمالته إلى الدخول في الحرب، والموافقة على خطة الحملة التي وضعها قائد الحرب الروسي شرينشيف Chernysheff، وكانت بروسيا تبغي بكل الوسائل تجنب الحرب، لا سيما وأن النمسا وإنجلترة كانتا قد اعترفتا بحكومة لويس فيليب في فرنسا، وكذلك فقد جاء جواب فردريك وليم مبهمًا، واكتفت بروسيا بحشد قسم من جنودها عند نهر الراين.
وبلغت الثوار البولنديين في وارسو أنباء التعليمات السرية التي بعث بها القيصر إلى كل من «قنسطنطين» و«لوبيكي»، وكان معنى قيام الحرب ذهاب الجيش البولندي إلى الميدان بعيدًا عن وارسو، فصمموا على القيام بالثورة، ثم اتصلوا في هذا الشأن بأحد زعماء الفرنسيين الأحرار «لفاييت»، وهو كذلك من المنتمين إلى الجمعيات العسكرية بفرنسا، وأحد الذين ساهموا في ثورة يوليو ١٨٣٠ في باريس، وكان معروفًا بآرائه الجمهورية، وتسلم قيادة «الحرس الوطني»، فشجَّعهم «لفاييت» على المضي في خطتهم، وعلى ذلك، فقد اتجه المتآمرون إلى الجنرال جوزيف شلوبيكي Chlopicki لتولي قيادة الثورة، وكان «شلوبيكي» من القواد القديرين في جيش نابليون، ثم اعتزل الحياة العامة على أثر نزاع بينه وبين «قنسطنطين»، ولكن «شلوبيكي» رفض تزعم الثوار، وعندئذٍ تردد المتآمرون في أمرهم، ثم آثروا تأجيل الثورة التي كان محددًا لها يوم ٣٠ أكتوبر إلى ربيع العام التالي، وكان من أسباب التأجيل أنهم لم يكونوا واثقين من تصميم القيصر على المضي في خطته لتنفيذ نواياه بالوسائل العسكرية.
على أن القيصر لم يلبث أن قرَّر الاستمرار في خطته، عندما جاءت الأخبار معلنة قيام الثورة في بروكسل (في أغسطس ١٨٣٠)، وانتشارها في بلجيكا، فأوفد القيصر مرة ثانية إلى برلين الجنرال «ديبتش» في أكتوبر، على أن يعود بمجرد انتهائه من مهمته إلى وارسو؛ حتى يتسلم قيادة الجيش الْمُعد (لحملة فرنسا)، وهي التي حدَّد القيصر لبدايتها يوم ٢٢ ديسمبر، وتقرَّر أن تتألَّف مقدمة قواته من «الجيش البولندي» والفرق الليتوانية، وبلغت هذه الأنباء جميعها المتآمرين في وارسو، وجعلتهم يقرِّرون التعجيل بالثورة، فأدى قيامها إلى خطط القيصر ومشروعاته، فأُنقذت فرنسا من الغزو الروسي، وأُنقذت بروسيا من ورطة كانت لا تجد لها مخرجًا منها، ذلك أن المتآمرين سرعان ما قرَّروا في اجتماع عقدوه في نوفمبر بمنزل أحد الأساتذة المحبوبين المؤرخ جواكيم ليليفيل Joachim Lelevel بوارسو، أن تبدأ الثورة يوم ٢٩ نوفمبر ١٨٣٠.

وفي مساء ٢٩ نوفمبر بدأت الثورة بهجومين؛ أحدهما على القصر الذي يقيم به قنسطنطين، والثاني على ثكنات الفرسان الروس، وفشل الهجومان؛ لأن قنسطنطين استطاع الهرب، ولأن الذين هاجموا الثكنات الروسية وكانوا بزعامة «فيسوكي» فشلوا أمام جموع الروس الكبيرة، ولم يستطع الثوار تحريك الأهلين على الثورة، وكان في وسع «قنسطنطين» إخماد الثورة بسهولة، في هذه المرحلة؛ بسبب ما ثبت من عدم استعداد الثوار بدرجة كافية، ولأن «الشعب» لم يكن متهيئًا للثورة، وكان لدي «قنسطنطين» حوالي سبعة آلاف من الجنود الروس والليتوانيين، مع (٢٨) مدفعًا، ولكنه عجز عن اتخاذ قرار حاسم.

واجتمع «المجلس الإداري» في ليل ٢٩-٣٠ نوفمبر، واشترك في مداولات هذا المجلس كل من «تزارتوريسكي» و«لوبيكي»، وكان الأول على علم باستعدادات الثوار. وأوفد المجلس كلا الرجلين إلى الفراندوق قنسطنطين الذي كان معسكرًا مع الجنود الروس خارج أبواب المدينة، ولكن قنسطنطين قرَّر أن يتخذ موقفًا سلبيًّا، وأن يترك تهدئة العاصمة للبولنديين أنفسهم.

وحاول «المجلس الإداري» أول الأمر أن يسلك طريقًا دستوريًّا، فأصدر في ٣٠ نوفمبر نداءً (أو خطابًا) موجَّهًا باسم نيقولا الأول إلى الشعب يطلب التزام الهدوء والسكينة، ثم عهد المجلس الإداري إلى الجنرال «شلوبيكي» بمنصب القائد العام للجيش البولندي، ولكن «شلوبيكي» كان قد اختفى عن الأنظار عند قيام الثورة؛ لأنه لم يشأ تولي زعامتها، وهذا بينما استطاع الثوار الذين لم يكن هناك رقيب على نشاطهم إخضاع وارسو بأسرها لسلطانهم، ومن وارسو انتشرت الثورة بسرعة البرق الخاطف إلى كل أنحاء البلاد.

وتحت ضغط الرأي العام، اضطر المجلس الإداري في اليوم التالي (أول ديسمبر) إلى إقصاء بعض أعضائه مِمَّنْ كان لا يريدهم الشعب، ثم عمد المجلس إلى تقوية مركزه، بضم أعضاء جدد إليه من النواب المحبوبين في «الدياط». وفي ٢ ديسمبر أوفد مرَّة ثانية لمقابلة الفراندوق قنسطنطين كل من «تزارتوريسكي» و«لوبيكي» ومعهما نائبان من الدياط؛ ليطلب الأولان من قنسطنطين العودة إلى وارسو، وأما النائبان فقد طلبا منه الانسحاب كلية من المملكة، مع العسكر الذين معه، ووافق قنسطنطين على الانسحاب مع جنده، ووعد أن يرجو القيصر نيقولا إصدار عفو عن الثوار، كما يعهد بعدم القيام بأية عمليات عسكرية إلا بعد أن يسبق ذلك إنذار مدته ثمان وأربعون ساعة، ولكن قنسطنطين رفض في الوقت نفسه أن يتوسط لدى القيصر في شأن ضم ليتوانيا إلى بولندة.

وفي اليوم التالي (٣ ديسمبر) أصدر قنسطنطين بوصفه القائد الأعلى للجيش البولندي منشورًا يجيز لجنده مقابلة مواطنيهم والاتصال بهم، وفي اليوم نفسه غادر «قنسطنطين» معسكره (خارج وارسو)، وفي يوم ١٢ ديسمبر عبر حدود المملكة.

ويرى كثيرون أن الثوار قد ارتكبوا خطأً جسيمًا، بتركهم «قنسطنطين» يغادر المملكة؛ حيث إنهم قد فقدوا بذلك «رهينة» ثمينة، كما أنهم خسروا وجود «الجيش» الذي كان الليتوانيون يؤلِّفون قسمًا كبيرًا منه، وكان ممكنًا إقناع هؤلاء الليتوانيين من جنود وضباط بالانضمام إلى الجيش البولندي. أما وقد تسنى لهؤلاء الآن مغادرة البلاد، فقد احتفظت باسم روسيا وصارت مقدمة الجيش الروسي الذي زحف على بولندة فيما بعد تتألَّف منهم.

وفي ٤ ديسمبر تشكَّلت حكومة مؤقتة لمملكة بولندة، وكانت هذه تتألَّف من «تزارتوريسكي» و«ليليفيل» وغيرهما، وعددهم جميعًا سبعة، وسبق تشكيل هذه الحكومة إخراج «لوبيكي» الذي لم يكن محبوبًا، ووضعت السيطرة بأكملها على الجيش في يد «شلوبيكي»، الذي خرج من مخبئه ثم أعلن نفسه ديكتاتورًا (يوم ٥ ديسمبر)، وذلك إلى أن ينعقد الدياط «غير العادي»، وأوفد الديكتاتور مندوبًا يحمل تقريرًا إلى القيصر نيقولا في سان بطرسبرج، كما أرسلت الحكومة المنحلة «لوبيكي» مع أحد النواب في بعثة مماثلة (١٠ ديسمبر)، وكان الغرض من إرسال هاتين البعثتين إلى سان بطرسبرج محاولة الوصول إلى اتفاق ودي مع حكومة القيصر، وعقد البولنديون آمالًا كبيرة على نجاح هذه المحاولة، فأوقفوا استعداداتهم العسكرية، في حين انتهز الروس الفرصة للفراغ من استعداداتهم.

ولم يكن «شلوبيكي» بالسياسي المحنك، أو الذي يصلح لقيادة الثورة، وذلك بالرغم من أنه كان جنديًّا شجاعًا، خدم في جيش نابليون، بل إن هذه الخدمة العسكرية ذاتها في جيش العاهل الفرنسي، جعلته يتقن أساليب الحرب النظامية وحدها فقط، أضف إلى هذا أنه كان يبلغ الستين من عمره، ثم إنه إلى جانب هذا كله؛ لم يكن يثق في «الثورة» ونجاحها، بل يعتقد أن من الجنون كل الجنون؛ أن يجازف البولنديون في حرب ضد «دولة» عظمى مثل روسيا، عجز نابليون نفسه عن إخضاعها؛ ولذلك فقد وضع «شلوبيكي» كل آماله في نجاح المفاوضات مع روسيا، ولم يمكنه أن يدرك إطلاقًا أن بولندة قد صارت في حالة حرب مع روسيا.

ورفض «شلوبيكي» خطة جريئة، وضعها أحد ضباط أركان الحرب في الجيش البولندي مِمَّنْ تعاونوا مع «ديبتش» في الحملة التركية (١٨٢٩) سابقًا، وعرض على «شلوبيكي» الزحف فورًا على ليتوانيا، بكل قوة الجيش البولندي، لإنزال الهزيمة العاجلة بها، وضم القوات الليتوانية إلى الجيش البولندي، ثم احتلال «فيلنا» وسحق القوات الروسية الزاحفة، جماعة بعد أخرى، ولكن «شلوبيكي» رفض هذه الخطة، كما رفض خطة أخرى كان قوامها الوقوف موقف المقاومة، باتخاذ طريقي الهجوم والدفاع في الوقت نفسه، وفق الأساليب العسكرية النابليونية، وذلك في المثلث الحصين المؤلَّف من قلاع وارسو براجا Praga، مودلين Modlin، وسيروك Sierock، وأخيرًا تقرَّر أن يقف البولنديون موقف الدفاع، وذلك بانتظار العدو خارج أسوار وارسو، والاشتباك معه في معركة فاصلة ليس للانتصار على الروس — لأن ذلك كان يصعب تحقيقه — وإنما لإنقاذ شرف الجيش البولندي العسكري.
وفي ١٨ ديسمبر ١٨٣٠ اجتمع «الدياط غير العادي» الذي لم يلبث أن صَدَّق على ديكتاتورية شلوبيكي (٢٠ ديسمبر)، ولكن هذا الأخير سرعان ما استقال وتخلَّى عن ديكتاتوريته (١٧ يناير ١٨٣١)، وذلك بعد أيام من عودة الوفود من سان بطرسبرج، تعلن فشلها في مهمتها تشتيت عناد القيصر، فاجتمع الدياط في ١٩ يناير وعيَّن قائدًا آخر لرياسة الجيش هو رادزيفيل Radzivil، ثم أعلن خلع القيصر نيقولا عن العرش، وإقصاء آل رومانوف وحرمانهم من أية حقوق في السيادة على بولندة (٢٦ يناير ١٨٣١)، وكان خلع القيصر خطأً عظيمًا؛ لأن هذا الحادث جعل الروس يُعَجِّلون البدء في عملياتهم العسكرية، كما تزايدت به الصعوبات في طريق أي تدخل من جانب الدول بالطرق الدبلوماسية بين بولندة وروسيا، وأخيرًا فإن هذا الإجراء لم يحل مشكلة الدفاع المسلح، التي كان على البولنديين أن يخصصوا كل جهودهم لها؛ بل لقد ترتب على هذا الإجراء أن شُغل البولنديون بتشكيل «حكومة وطنية» قومية، جديدة، عبارة عن «هيئة أو إدارة تنفيذية»، كما شُغلوا بمراجعة مواد الدستور، فأدخلوا تغييرات على الدستور تتلاءم مع الترتيبات الجديدة، فأنشئوا نوعًا من «الملكية الدستورية»، على أن يُجرى اختيار «ملك» للدولة الجديدة، فيما بعد.
أما الروس، فكان جيشهم أثناء ذلك قد اخترق الحدود البولندية بقيادة «ديبتش» في ٥، ٦ فبراير ١٨٣١، وزحف الروس مباشرةً قاصدين إلى وارسو، ومع أن الاشتباكات الكبيرة الأولى في ستوشيك Stoczek، دوبر Dobre، في ١٤ فبراير ١٨٣١، كانت في صالح البولنديين، فإن المعركة الأخيرة سرعان ما بدأت في حقول جروشوف Grochov بالقرب من وارسو (١٩ فبراير)، وأفضت الالتحامات الأولى إلى واقعة حامية الوطيس (في ٢٥ فبراير) حول أولسن يانكا Olszyanka الذي خسره البولنديون، ثم استرجعوه بأسنة الرماح مرات ثلاثًا تحت قيادة «راد زيفيل» الاسمية، وقيادة «شلوبيكي» الذي أشرف فعلًا على توجيه العمليات في هذه المعركة. وأمام الجحافل الروسية اضطر البولنديون إلى التقهقر، ولكن بعد أن تكبد الروس (والبولنديون) خسائر فادحة، فلم يكن نصر الروس، «وقائدهم ديبتش» نصرًا باهرًا، بل على العكس من ذلك، قضت هذه الواقعة على سمعة الجيش الروسي والاعتقاد بتفوقه، وأضعفت أمل «ديبتش» في إمكان الحصول على النصر بسهولة، وقوي لدى البولنديين الشعور بقدرتهم على القتال والمقاومة بسبب البطولة التي أظهروها في المعركة.
ولم يكن في مقدور المسئولين في وارسو أن يدركوا معنى ما حدث في هذه الواقعة في أول الأمر، فغلب عليهم الخوف من تعرض العاصمة نفسها للضياع، وبادر «الدياط» بالموافقة على اقتراح تشكيل «دياط دائم» ينعقد بعدد محدود من الأعضاء في أي مكان خارج وارسو، أو خارج البلاد كلية (١٩–٢٦ فبراير)، وفي اليوم التالي للمعركة تعيَّن سكريزنسكي Skrzynecki قائدًا أعلى للجيش، وكان قد أظهر كفاءة نادرة في معارك «جروشوف»، وهذا القائد إلى جانب ذلك كان قد خدم مع جيش نابليون في حملات ١٨٠٧، ١٨١٢، ١٨١٣، وصاحب شجاعة فائقة، ولكن «سكريزنسكي» لم يكن ذا موهبة عسكرية، بل كان معروفًا بالتردد والكسل والخمول، يؤثر حيل الدبلوماسية على الاشتباك في معارك حربية، ومع ذلك فإنه سرعان ما اتضح أن نتيجة معركة «جروشوف» كانت في صالح البولنديين، عندما وجد «ديبتش» نفسه مضطرًّا إلى الانسحاب صوب الشاطئ الأيمن لنهر الفستيولا؛ ليتخذ معسكره بها أثناء فصل الشتاء، وأُتيحت بذلك الفرصة للمسئولين البولنديين حتى يعيدوا تنظيم جيشهم.
ومع أن البولنديين استطاعوا إحراز بعض الانتصارات بعد ذلك فقد ساء موقفهم، فاضطر أحد قوادهم دفيرنيكي Dvernicki أمام القوات الروسية الضخمة إلى الفرار إلى النمسا (٢٧ أبريل ١٨٣١)، حيث أرغم جنده على تسليم سلاحهم، وفي شهر مايو أخفقت عمليات عسكرية أخرى، فانهزم «سكريزنسكي» في معركة حامية بالقرب من أوسترولينكا Ostrolenka (في ٢٦ مايو) على يد «ديبتش»، وكانت هذه الهزيمة بداية النهاية، حيث اضطرت قوات بولندية بقيادة جيلجود Gielgud كانت قد دخلت الأراضي الليتوانية، إلى الارتداد والتقهقر عبر الحدود البروسية فنُزع منها سلاحها (١٣–١٥ يوليو)، واستطاع القائد الروسي الجديد باسكيفتش Paskevich الذي حلَّ محل «ديبتش» — منذ ١٦ يونيو — أن يكمل استعداداته، بالتعاون الفعَّال مع بروسيا — من أجل الزحف على وارسو، فعبر «باسكفيتش» نهر الفستيولا (١٦–٢١ يوليو)، واستطاع بعد حوالي أسبوعين (أول أغسطس) الوصول إلى لوفيتش Lovicz مع قواته (من ٥١ ألفًا من المشاة وثلاثمائة مدفع).
وحاول «الدياط» مواجهة الموقف، وكان «الدياط» قد حاول بعد هزيمة «أوسترولينكا» أن يعيد تنظيم الجيش، وأن يصلح الحكومة، ولما كان «سكريزنسكي» قد أضاع الوقت سدًى في مؤامرات أو مفاوضات مع فرنسا والنمسا لا جدوى منها، فقد انتهى الأمر بعزله من القيادة وتعيين القائد دمبنسكي Dembinski الذي أظهر براعة أثناء الحملة الليتوانية التي سلفت الإشارة إليها. وشهدت «وارسو» موجة من الاضطرابات (١٥-١٦ أغسطس)، وشنق الأهلون في شوارعها عددًا من الذين اشتبهوا في أمرهم، واتهموهم بالخيانة، وكان غرض «الثوار» القضاء على الحكومة القائمة: حكومة «الأرستقراطية» التي اتهمها الأحرار عن حق، بأنها كانت متخاذلة، خائرة القوى، ثم اتهموها — وفي هذه المرة بدون وجه حق — بأنها قد غدرت بقضية الوطن، وأسفر هذا الهياج والاضطراب عن عزل «تزارتوريسكي» وثلاثة من أعضاء الحكومة (١٧ أغسطس)، وتسلم الجنرال كروكفيسكي Krukoviecki رياسة الحكومة، وكان صاحب أطماع، ومن الذين حَرَّضوا (سرًّا) على الاضطرابات التي حدثت في شوارع وارسو، وسلَّم «كروكفيسكي» القيادة إلى مالاشوفوسكي Malachovski، وكان الأخير رجلًا مسنًّا ولا كفاءة له، قرَّر انتظار العدو عند التحصينات المقامة حول وارسو، وذلك بعد أن أضعف جيشه بانتزاع قوات كبيرة منه لإرسالها في عمليات خطرة، ناحية برست Brest (في ٢٠ أغسطس).
أما الروس، فكان قائدهم «باسكيفتش» قد أتمَّ استعداداته لمهاجمة وارسو بالقوات التي كانت لديه، وقد بلغت هذه (٧٨) ألفًا، في حين وقف على الدفاع عن وارسو، جيش بولندي يتألَّف من (٣٧) ألف مقاتل فقط و(١٣٠) مدفعًا، وبدأ الهجوم في صبيحة ٦ سبتمبر ١٨٣١، فاستولى الروس على ضاحية فولا Vola وتجدد الهجوم في اليوم التالي، وفي المساء وصل الروس إلى بوابات فولا، وموكوتوف Mokotov، فعزل الدياط في هذا المساء نفسه «كروكفيسكي» من الرياسة، وفي صباح ٨ سبتمبر دخل «باسكيفتش» وارسو.
ومع أنه كان لا يزال لدى البولنديين حوالي خمسين ألف مقاتل بقيادة الجنرال ريبنسكي Rybinski القائد العام الجديد، فقد كان واضحًا أن «الثورة» قد انتهت فعلًا. حقيقة حصلت اشتباكات طوال شهر سبتمبر بين البولنديين والروس، كما دارت مفاوضات «باسكيفتش» بدون جدوى، ولكن بقايا الجيش البولندي سرعان ما صارت تتفكك حتى لم يعد لدى «ريبنسكي» سوى عشرين ألفًا فقط اضطر أن يهرب بهم إلى بروسيا، وفي بروسيا نُزع من هؤلاء سلاحهم. ثم إن قلعة مودلين Modlin لم تلبث أن اضطرت إلى التسليم (٨ أكتوبر)، وتبعتها قلعة زاموش Zamosc (٢١ أكتوبر)، وبذلك أضحت البلاد بأسرها في قبضة القيصر نيقولا؛ لقد انتهى أجل مملكة بولندة «الدستورية».

(٧-٨) خاتمة مملكة بولندة

وكان الثوريون البولنديون قد طلبوا من أول الأمر تدخل الدول الأوروبية في النزاع بينهم وبين القيصرية، باعتبار أن هذه الدول كانت قد ضمنت كيان أو بقاء «المملكة البولندية» في مؤتمر فينا (١٨١٥). فأراد الثوريون البولنديون من الدول الآن «التوسط» على الأقل بينهم وبين القيصر، إن لم تستطع هذه الدول التدخل «المسلح»، وأوفد البولنديون بعثات سياسية إلى عواصم الدول في فينا وبرلين ولندن وباريس لهذه الغاية، ولكن دون جدوى. حقيقة قوبلت الوفود البولندية بالعطف ولكنه كان عطفًا ظاهريًّا فحسب، ولم تلقَ الوفود أي تأييد في العواصم الأوروبية.

فمنذ بداية النضال، اتخذت بروسيا إجراءات صارمة لمنع وصول أية نجدات أو مساعدات للبولنديين من غراندوقية «بوزن». ثم إنها لم تكتفِ بذلك، بل تخلَّت عن موقف الحياد تمامًا عندما صارت تبذل قصارى جهدها لتحول بين الثوريين البولنديين والاتصال مع أوروبا الغربية، وذلك في الوقت الذي أمدَّت فيه بروسيا من ناحية أخرى العسكر الروس بالذخائر والمؤن، وأذنت لهؤلاء أن يعبروا الأراضي البروسية. بل يبدو محققًا كذلك أن بروسيا كانت مصممة على اختراق حدود مملكة بولندة واحتلال كل الأقاليم البولندية الشمالية الغربية، إذا نزلت الهزيمة بالروس، ولقد أعدَّت بروسيا لهذه الغاية بالفعل قوة كبيرة على حدودها، بل حدث عندما صارت الأمور أوَّلًا لصالح البولنديين، طوال شهر أبريل ١٨٣١ أن أبدى القيصر نيقولا استعداده «للتنازل» لبروسيا عن القسم الشمالي الغربي من مملكة بولندة.

أما النمسا، فقد لعبت دورًا مزدوجًا أثناء هذه الأزمة — أزمة الثورة، فصار وزيرها (مترنخ) يعقد المؤتمرات السرية مع المبعوث البولندي، واقتنع البولنديون — خطأ — أن من المنتظر أن يقبل الأرشيدوق شارل شقيق الإمبراطور، فرنسيس الثاني، الترشيح لعرش مملكة بولندة، وفي الوقت نفسه أبلغت النمسا أوَّلًا بأول كل نوايا البولنديين وخططهم إلى روسيا. بل أسدى حاكم غاليسيا النمساوي كل معونة للجيش الروسي، وإن لم يكن بالصورة العلنية التي أسدت بها بروسيا معونتها للقوات الروسية من بوزن.

وكان موقف فرنسا كذلك مبهمًا، وبذل «اللفاييت» في مجلس النواب الفرنسي كل ما وسعه من جهد وحيلة، في جلسات ١٥، ٢٨ يناير، ١٨ مارس ١٨٣١، لإقناع مواطنيه بضرورة التدخل لمساعدة البولنديين، ولكن دون جدوى. فقد تلقى المبعوث البولندي من الحكومة الفرنسية وبخاصة بعد أن شكَّل «كازمير برييه» الوزارة (١٠ مارس) إجابات مبهمة، بل إن الحكومة الفرنسية لم تلبث أن صادرت مراسلاته مع حكومته الثورية في بولندة، وأطلعت عليها القيصر نيقولا، على أمل أن تنال بهذه الوسيلة تأييد روسيا للحكم القائم في فرنسا؛ أي لملكية يوليو (وأسرة أورليان).

وفي إنجلترة، كانت حكومة الويجز Whigs الجديدة، برياسة لورد جراي Charles Grey (١٧٦٤–١٨٤٥) مهتمة بالإصلاح النيابي، فلم تشأ الانغماس في مشاكل جديدة بين روسيا وبولندة، فكان كل ما حصل عليه البولنديون من هذه الحكومة تمنيات طيبة، وانتهى الأمر بأن صارح لورد بالمرستون وزير الخارجية الإنجليزي، مبعوث البولنديين، بالرفض التام لمطلب هؤلاء بشأن تدخل إنجلترة أو وساطتها.

ولقد كان بعد فشل الثورة البولندية، أن وجدت كلا الحكومتين؛ الإنجليزية والفرنسية من صالحهما «التدخل» لتهدئة الرأي العام في بلادهما لدى حكومة سان بطرسبرج، وذلك بتقديم نوع من «الاعتراضات» أو الاحتجاجات التي لم تكن جدية، والتي أشارت في صورة مجملة إلى الضمانات التي صدرت في مؤتمر فينا، بشأن المحافظة على استقلال مملكة بولندة، وتلك «اعتراضات» جاءت متأخرة، بعد نجاح الروس في القضاء على الثورة، ولم يكن لها وعلى نحو ما كان متوقعًا، أي تأثير على مجرى الحوادث، بل إن «نلسرود» وزير الخارجية الروسية لم يلبث أن أجاب على رسالة من «بلمرستون» إلى السفير الإنجليزي في سان بطرسبرج، بخصوص المحافظة على استقلال المملكة «البولندية» الداخلي أو الذاتي. أجاب بأن ليس لإنجلترة أي حق في التدخل في شئون روسية — بولندة. ثم إنه أوضح نوايا القيصر؛ أن ينبذ ظهريًّا كل ما جاء في مؤتمر فينا متعلِّقًا ببولندة (٣ يناير ١٨٣٢).

وهكذا تأسَّست في وارسو منذ سبتمبر ١٨٣١ حكومة روسية مؤقتة برياسة يتودور إنجل Engel، وفي فبراير من العام التالي (١٨٣٢) تعيَّن «باسكفيتش» نائبًا للملك بسلطات واسعة، وأُعطي في الوقت نفسه لقب أمير وارسو. ثم أُلغي الدستور، واستُعيض به في ١٤ فبراير ١٨٣٢ بقانون أساسي، دلَّ مظهره على أن النية منعقدة على المحافظة على نوع من الاستقلال أو الكيان الذاتي لبولندة، وإن كان في حدود ضيقة. فأكَّد هذا القانون الأساسي حريات الأفراد وحق التملك واحترام اللغة البولندية وحق التشريع، ولكن تلك كانت «وعودًا طيبة» الغرض منها؛ استمالة الغرب فقط، فلم ينفذ شيء من النصوص المتعلِّقة بالاستقلال الذاتي … إلخ، في حين تَمَّ إدماج الجيش البولندي في الجيش الروسي، وأُلغيت كل الأنظمة الانتخابية، ومُلئت كل مراكز التعليم العليا ووظائف الحكومة بالروس أنفسهم، وجُعلت اللغة الروسية إجبارية في كل فروع الإدارة، ثم أخذ الروس ينتقمون من البولنديين ويضطهدونهم، فأُعلنت القوانين العرفية (١٨٣٣)، ولم يُطبق العفو الذي كان أصدره القيصر عن الثوار، فاستُثني عديدون منه وصودرت أملاك البولنديين، ثم وُزعت هذه الأملاك على الروس وحكمت المحكمة العليا العسكرية بالإعدام شنقًا على (٢٤٩) من المهاجرين، وبالنفي المؤبَّد على (٢٥٩٠) منهم، وصودرت أملاك كل هؤلاء، ووضعت الحكومة أبناء المدانين والهاربين الموتى، من الذين أسهم آباؤهم في الثورة، في المدارس الروسية المخصصة لأبناء الجنود، وأُغلقت الجامعات في «وارسو» و«فلنا» كما أُهملت المدارس والكليات، وفقدت المكتبات العامة ما كان بها من كتب وتراث ثمين، وسُلِّطت المدافع من قلعة وارسو لتهديد المدينة.
وفي أطراف البلاد خارج وارسو ذاتها، سار القمع والإرهاب بالصرامة نفسها، من أجل غرض معين، هو جعل الشعب البولندي يتحول قسرًا إلى الروسية. فتشكَّلت لجان للتحقيق في «كييف» و«فلنا» أمرت بنفي وتشريد آلاف المواطنين إلى سيبريا، وبلغ عدد الأسر التي شُرِّدت إلى شواطئ الفولجا، ونهر كوبان Kuban (والأخير يصب في البحر الأسود عند شاطئه الشمالي الشرقي) — (٤٥) ألفًا.

وهكذا استمر العمل من أجل القضاء على كل شعور وطني وقومي يدعو للاستقلال في بولندة طوال ربع قرن من الزمان، هي المدة التي شغل فيها «باسكفيتش» على وجه الخصوص منصب نائب الملك في بولندة.

(٨) القيصر نيقولا الأول: (روسيا في سنة ١٨٤٨)

ولقد كان القيصر نيقولا الأول (١٨٢٥–١٨٥٥) الذي استطاع القضاء على حركة الديسمبريين، قبل إخماد الثورة البولندية، من الطغاة المعروفين بضيق الأفق، كما أنه معروفًا بالجد والنشاط. أخذ على عاتقه منذ البداية إخماد الآراء الناهضة والمبادئ المثالية التي أوحت إلى المتآمرين الأرستقراطيين القيام بحركتهم (الديسمبرية)، والتي مهدت الطريق بعد جهود شاقة بعد ذلك لتزويد طبقات الفلاحين والعمال (الصناع) المناضلة والتي لم يكن قد صار لها كيان بعد، بالقادة والزعماء الذين سوف يتولون قيادة هذا النضال وتوجيهه. فحطمت مؤامرة الديسمبريين وحركتهم ثقة القيصرية في طبقة النبلاء، وجعلت القيصرية تميل إلى الاعتماد أكثر من أي وقت مضى على «البيروقراطية»؛ أي هيئة الموظفين والإداريين في الدولة، فتشكَّل قسم للبوليس السري برئاسة «بنكندورف»، وكان لنشاط هذا القسم «السري» أكبر الأثر في انتشار الفساد والرشوة في فروع الإدارة (البيروقراطية)؛ بسبب عدم خضوع نشاطه السري لأية رقابة خارجية، وفُرضت رقابة صارمة على الكتب والصحف، حنقت الفكر الحر وساعدت على أن تصبح «المحاكم» أكثر الهيئات أو المنظمات فسادًا في البلاد بأسرها.

واعتمدت هذه (الملكية البيروقراطية) على نوع من «القومية» الروسية، كان أحد الْكُتَّاب الروس من المحافظين خير مَنْ نادى به وقتئذ، هو المؤرخ «نيقولا ميخائيلوفتشي كارامزين» الذي ذكرنا أنه كان عدوًّا لاستقلال بولندة وللبولنديين، وضع رسالة عن «روسيا القديمة والحديثة» عزا فيها التذمر السائد إلى إصلاحات القيصر «إسكندر الأول»، من حيث إن هذه الإصلاحات قد استهدفت إضعاف وتحطيم الحكومية الأوتقراطية. وانعقد الرأي على أن «كارامزين»، إنما يعبر عن الرأي المتحفظ أو الرجعي في الإمبراطورية، وأنه إنما يفصح في كتاباته عن عقيدة أو مبدأ الدولة الرسمي، والآراء الروسية التي نفرت من كل تلك المبادئ والآراء التي جاءت بها الثورة الفرنسية ونادت بها، ولو أن «كارامزين» — والدوائر الرسمية — التي عَبَّرَ عن آرائها وعقيدتها، لم يرفضوا جميعًا «الحضارة» أو المدنية الغربية، ووضع «كارامزين» تاريخًا «للدولة الروسية»، ونشر «رسائل لسائح روسي»، وقصة بعنوان «ليزا المسكينة» خلَّفت جميعها آثارًا عميقة في نفوس معاصريه الروس، الذين رسخ شعورهم بذاتيتهم كأمة روسية عريقة، ولقد وضعت هذه الفكرة أو العقيدة الرسمية التي أفصح عنها ونادى بها «كارامزين»، روسيا في مرتبة تعلو على كل بلدان أوروبا، على أساس أن روسيا بقيت أمينة على تقاليدها القديمة، تحفظ الولاء لفضائل العبادة والدين، وتدين بالطاعة للملكية.

وكان حينئذ أن استعادت الكنيسة الأرثوذكية مكانتها لدى الدوائر الحكومية، باعتبار أنها المحافظة على القومية أو الوطنية الروسية «المحافظة»، وعلى «الفكرة أو المبدأ الروسي»، وهو المبدأ الذي أوجز معانيه القيصر نيقولا الأول نفسه في شعار «الأرثوذكية، والأوتقراطية والقومية.»

واحتل في هذه الظروف النفوذ الألماني مكان النفوذ الفرنسي السابق؛ لأن ألمانيا كانت تمثل لدى القيصر فكرة الحكم المطلق أو الاستبدادية والحياة العسكرية، والأنظمة البيروقراطية، ومع ذلك فقد كانت ألمانيا مرتعًا في الوقت نفسه للآراء الفلسفية. الأمر الذي ترتب عليه، ونتيجة للاحتكاك الذي حدث أن نشأ في روسيا مذهبان متعارضان، يدعو أحدهما إلى السلافية Slavophilism، ويدعو الآخر إلى الغربية Westernism، وتركز نشاط هاتين الحركتين في جامعة موسكو.

واجتمع الفريقان أنصار السلافية، وأنصار الغربية، على ضرورة المطالبة بإلغاء رق الأرض، وبحُرية الصحافة، وإلغاء الرقابة على المطبوعات، وتعديل أو تقييد الأوتقراطية. على أن أنصار السلافية، وكانوا من طبقة النبلاء أصلًا، صاروا يمجدون التراث الروسي الثقافي، وينشدون التحرر من الفردية الأوروبية والتعقلية الأوروبية كذلك، ويدعون إلى العودة إلى الحياة في روسيا قبل عهد القيصر بطرس الأكبر، وهي التي قالوا: إن العدل والصدق والحق كان يسود البلاد وقتئذ.

أما أنصار الغربية، فكانوا على النقيض من ذلك؛ يمجدون القيصر بطرس الأكبر، باعتبار أنه قد انتشل روسيا من بربرية أو همجية العهد المسكوفي الأول إلى الحياة التي صارت ينعم فيها بالحضارة والمدنية، وكان في رأيهم أن الملكية الروسية قد خانت عهد بطرس الأكبر، وقضت على آثاره وأعماله وإصلاحاته، وأن القيصر بطرس كان أول «الحكام المستبدين المتنورين» في أوروبا، وأن روسيا استطاعت أن تتخذ من أوروبا القرن الثامن عشر نموذجًا لتبني كيانها على غراره، في هذا القرن نفسه، بفضل الإصلاحات التي بدأها بطرس الأكبر، واستمرت عليها القيصرة كاترين الثانية، وكان «الغربيون» أنفسهم هم الذين طالبوا كذلك بأن تتخذ روسيا من أوروبا القرن التاسع عشر نموذجًا تبني كيانها على غراره، كذلك في هذا القرن التاسع عشر نفسه أيضًا. مع العلم بأن أوروبا قد خضعت منذ أيام بطرس وكاترين لتأثير حدثين عظيمين؛ الثورة الفرنسية، والانقلاب الصناعي. الأمر الذي جعل متعذرًا على الطبقة الحاكمة في روسيا قبول هذا النموذج (الأوروبي) الجديد؛ لتنسج على منواله في بلادها، ومن المتعذر على كل الأحوال، قبول الأساليب الأوروبية الحديثة في الحكم، وفي الحياة عمومًا، طالما أن قبولها في روسيا معناه أن يسبقه أو أن يمهد له زوال «النظام القديم»، وطالما أن قبول هذه الأساليب الجديدة متعذر في بلاد لا يزال «رق الأرض» يفرض الجهالة على الطبقة العاملة من الفلاحين وغيرهم، ويرغمهم على العيش في تعاسة وشقاء.

١  Vne Armée Dehors, C’est L’état Qui Voyage.
٢  Society of the green lamp.
٣  Society of public salvation.
٤  Union of the public good.
٥  United slavs.
٦  Regency Council.
٧  The Decembrists.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤