الفصل الأول

من يدفع ثمن قهوتك؟

سواء كنت تعيش في نيويورك أو طوكيو أو أنتويرب أو براغ، يعتبر استخدام المواصلات العامة يوميًّا في الرحلات الطويلة للذهاب إلى العمل والعودة منه تجربة حياتية مألوفة في مدن العالم الكبرى. وهذه الرحلات اليومية لها تأثير عام وتأثير خاص، على نحو يفقد المرء حماسه، فالتأثير الخاص يحدث لأن كل راكب بمنزلة الفأر الذي يدور في متاهته الخاصة؛ فهو يقيس الزمن الذي يستغرقه بدءًا من حمام الصباح حتى الوصول إلى ماكينة التذاكر بمحطة المترو. ولكي يسرع من انتقاله بين القطارات المختلفة، تراه يعرف جداول مواعيد القطارات والاتجاه الصحيح للرصيف؛ ويفاضل بين مساوئ الوقوف في أول قطار يمر عليه وبين الجلوس في آخر قطار. ومع ذلك، فإن هذه الرحلات اليومية ينتج عنها تأثيرات عامة، مثل ساعات الذروة والاختناقات المرورية، التي يستغلها أصحاب الأعمال لصالحهم في جميع أنحاء العالم. وتختلف رحلتي اليومية هنا في واشنطن العاصمة عن رحلتك في لندن أو في نيويورك أو في هونج كونج، ومع ذلك فإنها ستبدو مألوفة على نحو مدهش.

تقع محطة مترو «فاراجوت ويست» Farragut West في موقع مثالي لخدمة البنك الدولي وصندوق النقد الدولي وكذلك البيت الأبيض. في كل صباح، يظهر الركاب سريعو الغضب الذين لم ينالوا قسطًا كافيًا من النوم وهم خارجون من محطة فاراجوت ويست قاصدين الطوابق المختلفة في مجمع «إنترناشيونال سكوير» International Square، بحيث يتعذر أن يحيدوا بسهولة عن طريقهم المعتاد. إنهم ينشدون الابتعاد عن الضجيج والصخب، حول السائحين المتجولين، ويريدون الوصول إلى مكاتبهم قبل وقت قليل من وصول رؤسائهم. وهم لا يرحبون باستخدام أي طريق غير طريقهم المعتاد، ومع ذلك فهناك مكان للسلام والإكرام يمكن أن يغريهم بأن يتأخروا لبضع دقائق. في هذه الواحة، تقدم بعض الملذات التي يصاحبها ابتسامات من نساء ورجال غرباء وجذابين. فاليوم رأيت ابتسامة نادلة المقهى الفاتنة، التي تضع شارة تفصح عن أن اسمها «ماريا». المقهى الذي أقصده بالطبع هو مقهى «ستاربكس» Starbucks الذي يقع في مكان يتحتم رؤيته عند المخرج المؤدي إلى إنترناشيونال سكوير. وهذا ليس بشيء غريب تختص به محطة فاراجوت ويست وحدها. فعلى سبيل المثال عندما تخرج من محطة مترو فاراجوت نورث Farragut North المجاورة، ستجد أن أول واجهة تجارية تخص فرعًا آخر من فروع ستاربكس. وفي جميع أنحاء العالم، توجد مثل هذه المقاهي، التي تقع بأماكن يسهل الوصول إليها، لتلبي احتياجات ركاب في أشد الحاجة إلى هذا المكان فتجد مثلًا مقهى كوزي Cosi على بعد عشر ياردات من مخرج محطة مترو واشنطن دوبون سيركل Washington Dupont Circle. وتفخر محطة مترو بن Penn بنيويورك بوجود مقهى سياتل كوفي روسترز Seattle Coffee Roasters بالضبط عند مخرج المحطة المؤدي إلى شارع إيتث أفنيو Eighth Avenue. أما في محطة شنجوكو Shinjuku في طوكيو فيستطيع المرء أن يتمتع بقهوة ستاربكس حتى دون مغادرة ساحة المحطة. وفي محطة ووترلو Waterloo. في لندن تجد كشك قهوة تابع لشركة أيه إم تي AMT يحرس المخرج المؤدي إلى الضفة الجنوبية لنهر التايمز.

لا يعتبر كوب الكابوتشينو الكبير الذي يبيعه مقهى ستاربكس بسعر ٢.٥٥ دولار رخيصًا، ولكني أستطيع دفع هذا السعر، فثمن هذا الكوب لا يمثل لي، وأيضًا للكثيرين من مرتادي المقهى، أكثر من الأجر الذي أحصل عليه عن عملي لبضع دقائق. ومن المؤكد أنه ما من أحد منا سيضيع وقته لتوفير بضعة سنتات ليبحث عن مقهى أرخص في الساعة الثامنة والنصف صباحًا. يوجد طلب هائل على المقهى الذي يحظى بأفضل موقع يسهل الوصول إليه، فمحطة ووترلو على سبيل المثال يمر بها كل عام أربعة وسبعون مليون شخص، الأمر الذي يجعل موقع ذلك المقهى مسألة في غاية الأهمية.

لا يعتبر موقع مقهى ستاربكس في محطة فارجوت ويست موقعًا ذا قيمة لأنه يقع على طريق حتمي نشيط لمرور الناس بين أرصفة المحطة في طريقهم إلى خارجها، وإنما أيضًا لعدم وجود مقاهٍ أخرى على طول الطريق، فلا عجب إذن أن يحقق هذا المقهى أرباحًا طائلة.

وإذا كنت تشتري مثلي قدرًا كبيرًا من القهوة، فربما تستنتج أن شخصًا ما يثرى ثراءً فاحشًا من وراء ذلك. وإذا كانت الشكاوي التي تنشر في الصحف بين حين وآخر حقيقية، فإن البن في فنجان الكابوتشينو لا يتكلف سوى بضعة سنتات. وبالطبع لا تخبرنا الصحف بالقصة كاملة: فهناك اللبن، والكهرباء، وتكاليف الأكواب الورقية، والراتب الذي يُدفع لماريا كي تبتسم طوال اليوم في وجه الزبائن كثيري الشكوى. ولكن لو جمعت كل هذا سيظل الناتج أقل بكثير من سعر كوب الكابوتشينو. يرى أستاذ الاقتصاد براين ماكمانوس Brian McManus أن هامش الربح في القهوة يكون قرابة ١٥٠٪، فتكلفة إعداد كوب من القهوة المقطرة الذي يباع مقابل دولار لا يتكلف في الحقيقة سوى ٤٠ سنتًا، أما كوب القهوة الصغير المضاف إليه اللبن الساخن الذي يباع بسعر ٢.٥٥ دولار فيتكلف أقل من دولار. هناك إذن شخص ما يحقق أرباحًا طائلة، فمن يكون هذا الشخص؟
ربما يكون هاورد شولتز Howard Schultz مالك سلسلة مقاهي ستاربكس هو أول من سيتبادر إلى ذهنك. ولكن الإجابة ليست بهذه البساطة. فالسبب الرئيسي في أن مقهى ستاربكس يستطيع مطالبة مرتاديه بدفع ٢,٥٥ دولار مقابل كوب الكابوتشينو هو أنه لا يوجد مقهى بجواره يبيع هذا الكوب بدولارين. فلماذا إذن لا يوجد مقهى آخر يبيع القهوة بسعر أقل من ستاربكس؟ وبدون أن نبخس السيد شولتز حقه، فالكابوتشينو في حقيقة الأمر ليس منتجًا معقدًا. لا يعاني السوق أي نقص من الكابوتشينو الصالح للشرب (وللأسف لا يعاني أيضًا أي نقص من الكابوتشينو غير الصالح للشرب). والمرء لا يحتاج إلى الكثير كي يشتري بعض ماكينات إعداد القهوة ومنضدة طويلة، وبناء اسم تجاري ببعض الدعاية وببعض العينات المجانية، وتعيين طاقم عمل مهذب، فحتى ماريا يمكن استبدالها بأخرى.

وفي حقيقة الأمر فإن أهم ميزة يتمتع بها ستاربكس هي موقعه على طريق مشاه يسير عليه آلاف القائمين برحلات يومية جيئة وذهابًا. ولا يوجد اليوم كثير من الأماكن الجيدة التي يمكن أن تلائم إقامة المقاهي مثل مخارج المحطات أو نواصي شوارع مزدحمة. والسبب هو أن ستاربكس ومنافسيه قد التهموا هذه الأماكن. فلو كان لشركة ستاربكس تأثير التنويم المغناطيسي على زبائنها كما يزعم منتقدوها، فما كانت ستحتاج أن تبذل مثل هذا الجهد الهائل كي تجعلهم يرتادون المقهى. فهامش الربح الجيد الذي تجنيه ستاربكس من بيع الكابوتشينو لا يرجع إلى جودة البن أو طاقم العمل، ولكن بسبب موقع المقهى، ثم الموقع، ثم الموقع.

ولكن من يتحكم في الموقع؟ انظر إلى المفاوضات التي تعقد قبل إبرام عقد إيجار جديد، فمالكة مجمع إنترناشيونال سكوير لا تتفاوض مع شركة ستاربكس فحسب، ولكنها تتفاوض مع شركات أخرى تضم سلاسل مقاهٍ، مثل: كوزي، وكاريبو كوفي Caribou Coffee، والشركات المحلية الأخرى التي لها مقاهٍ في واشنطن العاصمة، مثل: جافا هاوس Java House، وسوينجس Swing’s، وكابيتول جراوندز Capitol Grounds، وتييزم Teaism. فقد توقع مالكة المجمع عقدًا مع كل هؤلاء، أو قد تبرم عقدًا حصريًّا مع شركة واحدة منهن فقط. ولكن سرعان ما ستكتشف أنه لا توجد شركة تتحمس لدفع قيمة إيجارية كبيرة مقابل مكان بجوار عشرة مقاهٍ أخرى، لذلك ستحاول أن تحقق أفضل ربح ممكن عند إبرامها العقد الحصري مع شركة واحدة منهن.

وفي محاولتك لاستنتاج من سيجني كل الأرباح، تذكر ببساطة أن طاولة المفاوضات يوجد على جانب منها نحو عشر شركات متنافسة على الأقل، وعلى الطرف الآخر يجلس مالك الموقع المتميز الذي تنشده هذه الشركات. وبعد أن يجعل صاحب الأرض هذه الشركات متواجهة لتحقيق مصلحته الشخصية، يصبح قادرًا على إملاء شروطه، وإجبار واحدة منهن على دفع قيمة إيجارية تستنزف تقريبًا كل ربحها المتوقع. والشركة الفائزة بالمكان سوف تفترض أنها ستحصل على بعض الأرباح وليس أرباحًا كثيرة: فلو بدت القيمة الإيجارية قليلة على نحو يساعد على تحقيق ربح وفير، فسترحب شركة مقاهٍ أخرى بدفع قيمة إيجارية أعلى قليلًا نظير حصولها على الموقع. وفي حقيقة الأمر يوجد عدد هائل من شركات المقاهي التي قد تؤجر المكان، وفي الوقت نفسه عدد قليل من المواقع الجذابة لهذه الشركات، وهذا يعني أن ملاك المواقع لهم اليد العليا.

وهذا بالطبع منطق نظري محض. لذا يغدو من المنطقي أن نسأل أنفسنا عما إذا كان هذا هو ما يحدث بالفعل في عالم الواقع أم لا. عندما شرحت لصديقة لي — التي طالما عانت من القهوة — كل المبادئ المرتبطة بالمسألة، سألتني عما لو كان بإمكاني إثبات ذلك. عندها قلت لها إن هذه مجرد نظرية أو كما يقول شيرلوك هولمز: قدر من «الملاحظة والاستنتاج»، مبني على الشواهد المتوفرة لنا جميعًا. وبعدها ببضعة أسابيع أرسلت لي مقالاً من صحيفة فاينانشيال تايمز Financial Times اعتمد على دلائل قدمها خبراء في الصناعة، ممن يطلعون على حسابات شركات سلاسل المقاهي. بدأ المقال بجملة: «عدد قليل من الشركات يحقق أرباحًا طائلة» واستنتج أن إحدى المشكلات الرئيسية هي «التكاليف المرتفعة لتشغيل منفذ بيع للمستهلكين في مواقع متميزة تتمتع بحجم هائل من التجارة العابرة.» وفي الواقع فإن قراءة الحسابات أمر يبعث على الكآبة في حين أن العمل الاقتصادي الاستقصائي هو الطريقة الأسهل للوصول إلى نفس النتيجة.

(١) القوة من الندرة

فوجئت عندما كنت أتصفح كتب الاقتصاد القديمة التي أحتفظ بها في مكتبة منزلي بأول تحليل اقتصادي عن مقاهي القرن الحادي والعشرين. ومع أنه نشر في عام ١٨١٧ فإنه لا يتناول بالشرح المقاهي الحديثة فقط وإنما يتحدث أيضًا عن كثير من أحوال عالمنا الحديث.

كتب هذا التحليل ديفيد ريكاردو David Ricardo الذي صنع من نفسه مليونيرًا (بمعايير اليوم) من عمله كسمسار في سوق الأوراق المالية، ثم أصبح بعد ذلك عضوًا في البرلمان. كان ريكاردو أيضًا رجل اقتصاد متحمس يتوق لفهم ما حدث لاقتصاد بريطانيا خلال الحروب النابليونية، التي كانت قد انتهت قبل وقت قصير آنذاك، عندما ارتفعت بحدة أسعار القمح وأسعار إيجارات الأراضي الزراعية، وأراد ريكاردو معرفة السبب.
وأسهل طريقة لفهم تحليل ريكاردو هي تناول أحد الأمثلة التي استخدمها. تخيل إحدى المناطق غير المزروعة بها عدد قليل من السكان ولكنها تتمتع بوفرة من الأراضي الخصبة الصالحة للزراعة، وفي يوم ما يأتي مزارع شاب طموح، يدعي أكسيل Axel، ويعرض على سكانها أن يدفع إيجارًا مقابل حصوله على حق زراعة المحاصيل على فدان واحد من الأرض الخصبة. بالطبع يتفق الجميع بشأن كمية الغلة التي ينتجها الفدان، ولكنهم في الوقت نفسه يعجزون عن تحديد قدر الإيجار الذي ينبغي أن يدفعه أكسيل. ونظرًا لوفرة الأراضي المحروثة المتروكة دون زراعة، لن يمكن لملاك الأراضي المتنافسين المبالغة في سعر الإيجار أو المطالبة بإيجار مرتفع على الإطلاق. ولهذا يفضل كل مالك أرض الحصول على إيجار زهيد بدلًا من عدم الحصول على أي إيجار من الأساس. من هنا، يخفض كل مالك أرض سعر الإيجار الذي يطلبه عن ذلك الذي يطلبه منافسه، إلى أن يتمكن الشاب من البدء في الزراعة مقابل دفع إيجار ضئيل للغاية، يكون في الوقت نفسه كافيًا لتعويض مالك الأرض عن متاعبه.
إن أول درس نتعلمه من هذه القصة هو أن الشخص الذي يمتلك أحد الموارد المرغوبة — وهو مالك الأرض في تلك الحالة — لا يملك كثيرًا من القوة التفاوضية كما قد يفترض المرء. كما لا تخبرنا القصة عمّا إذا كان أكسيل فقيرًا للغاية، أم أنه يضع حزمة نقود في كعب حذائه، وذلك لأن هذا الأمر لا يشكل أي فارق في مسألة الإيجار. فالقدرة التفاوضية تأتي من الندرة: فالمستوطنون نادرون بينما الأراضي الزراعية ليست نادرة، ولهذا فإن ملاك الأراضي ليس لديهم قوة تفاوضية. ويعني هذا أن الندرة النسبية لو انتقلت من شخص إلى آخر، تنتقل معها القدرة التفاوضية أيضًا. فإن حذا العديد من المهاجرين بمرور السنوات حذو أكسيل، فإن مساحة الأراضي الزراعية الفائضة تتقلص إلى أن تنتهي تمامًا. وما دامت توجد أي من هذه الأراضي، فإن المنافسة بين الملاك الذين لم يجذبوا أي مستأجرين لأراضيهم ستبقي الإيجار منخفضًا. ومع ذلك، يأتي في يوم من الأيام مزارع آخر إلى نفس البلدة، ولنسمه بوب Bob، ليكتشف عدم وجود أي أراض خصبة فائضة ليزرعها، ويجد أن البديل الذي أمامه هو زراعة أرض مغطاة بالشجيرات القصيرة وإن كانت أقل خصوبة إلا إنها متوافرة بكثرة، وهو ليس خيارًا جذابًا. فيعرض المزارع بوب مبلغًا كبيرًا لأي مالك أرض حتى يطرد أكسيل، أو أيًّا من المزارعين الآخرين الذين يزرعون الأرض في الوقت الحالي دون دفع إيجار تقريبًا؛ ليحل المستأجر الجديد محل أي منهم. ولكن مثلما كان بوب مستعدا لدفع المال نظير تأجير الأرض الخصبة بدلًا من الأرض المغطاة بالشجيرات القصيرة، فإن كل المزارعين الآخرين سيكونون على استعداد أيضًا لأن يدفعوا حتى لا يطردوا من الأرض. وهكذا تغير كل شيء، وهكذا أيضًا حصل ملاك الأراضي بسرعة مفاجئة على قوة تفاوضية حقيقية؛ لأن المزارعين صاروا فجأة موردًا متوفرًا نسبيًّا في حين أن الأراضي أضحت موردًا نادرًا نسبيًّا.

ويعني هذا أن ملاك الأراضي باتت لديهم القدرة على رفع قيمة الإيجار، ولكن بأي قدر؟ يجب أن يظل الإيجار كافيًا بحيث يحصل المزارعون على مقدار من الغلة من زراعة الأرض الخصبة بعد أن يدفعوا الإيجار للمالك؛ يساوي مقدار الغلة التي يحصلون عليها من زراعة الأراضي المغطاة بالشجيرات القصيرة دون دفع أي إيجار، فلو كان الفرق في الغلة التي تنتجها كلتا الأرضين هو خمسة بوشل من الحبوب سنويًّا، فإن الإيجار يجب أن يكون أيضًا خمسة بوشل سنويًّا. أما لو حاول مالك الأرض المطالبة بأكثر من هذا فسيذهب المستأجر إلى الزراعة في الأرض المغطاة بالشجيرات القصيرة. وإن قل الإيجار عن هذا، فسيرغب مزارع الأرض المغطاة بالشجيرات القصيرة أن يدفع إيجارًا أكبر نظير زراعته للأرض الخصبة.

قد يبدو من الغريب أن يحدث التغيير في قيمة الإيجار بهذه السرعة فقط لقدوم رجل واحد آخر ليزرع في المنطقة. تبدو هذه القصة عاجزة عن تفسير ما يجرى حقيقة في أرض الواقع، ولكنها تحمل بين ثناياها قدرًا كبيرًا من الحقيقة يفوق ظنك حتى لو كانت قصة مفرطة في التبسيط. توجد بالطبع أمور أخرى على أرض الواقع ينبغي أن تؤخذ في الحسبان مثل قوانين طرد المستأجر، والعقود طويلة الأجل، وحتى العادات الثقافية مثل حقيقة أن طرد شخص في يوم ليحل محله مستأجر جديد في اليوم التالي أمر «غير لائق اجتماعيًّا». وفي حقيقة الأمر يوجد أكثر من نوعين من الأراضي في دنيا الواقع، وسيكون أمام بوب خيارات مختلفة ليعمل في مجال عمل آخر غير الزراعة. فقد يتجه إلى العمل كمحاسب أو كسائق تاكسي. كل تلك الحقائق تزيد من تعقيد ما يحدث في عالمنا الواقعي، فهي تبطئ من عملية انتقال القدرة التفاوضية وتغير الأرقام المطلقة المرتبطة بهذا الشأن وتحد من التغييرات المفاجئة في قيمة إيجار الأرض.

ومع ذلك فإن تعقيدات الحياة اليومية غالبًا ما تخفي الاتجاهات الكبيرة الكامنة وراء الأحداث، مثلما يحدث عند انتقال قوة الندرة من مجموعة إلى أخرى. ووظيفة الخبير الاقتصادي هي تسليط الضوء على العمليات غير الظاهرة، فلا ينبغي أن نندهش لو تحول سوق الأراضي فجأة ضد مصلحة المزارعين، أو لو ارتفعت أسعار المنازل ارتفاعًا حادًّا، أو لو امتلأ العالم بالمقاهي في غضون أشهر قليلة. ولذلك تؤكد لنا بساطة تلك القصة جزءًا من الحقيقة غير الظاهرة، ولكن هذا بالتأكيد يفيد في الكشف عن أمر مهم ألا وهو أن الندرة النسبية والقدرة التفاوضية، تتغيران حقًّا في بعض الأحيان تغيرًا سريعًا وتحدثان تأثيرات عميقة في حياة الناس. ونحن غالبًا نشكو من أعراض المشكلة — مثل التكلفة العالية لشراء كوب قهوة أو حتى لشراء منزل — ولكننا في حقيقة الأمر لن نتمكن من علاج الأعراض بنجاح دون فهم نماذج الندرة التي تعتبر أساس تلك الأعراض.

(٢) الأرض «الحدية» وأهميتها المحورية

لا يجب أن تتوقف التغيرات في القدرة التفاوضية عند ذلك الحد. فبينما يمكن أن تتعقد قصتنا عن الزراعة إلى ما لا نهاية فإن القواعد الأساسية تظل كما هي دون تغيير. فمثلًا، لو استمر المزارعون في الاستيطان بالمنطقة، فسينتهي بهم الأمر بأنهم لن يزرعوا الأرض الخصبة فحسب بل والأرض المغطاة بالشجيرات القصيرة أيضًا. فحينما يصل مستوطن جديد يدعى كورنيليوس Cornelius فسيجد أن الأرض الوحيدة المتاحة أمامه هي الأرض العشبية الأقل إنتاجية حتى من الأرض المغطاة بالشجيرات القصيرة. وهنا نتوقع أن تحدث نفس عملية المفاوضات التي تحدثنا عنها آنفًا، سيعرض كورنيليوس المال على ملاك الأراضي في محاولة منه ليحصل على قطعة أرض مغطاة بالشجيرات القصيرة ليزرعها، وسرعان ما سيرتفع إيجار الأراضي المغطاة بالحشائش القصيرة، وينبغي آنذاك أن يبقى الفرق بين إيجار الأرض الخصبة والأرض المغطاة بالشجيرات القصيرة كما هو دون تغيير (وإلا فإن المزارعين المستأجرين للأراضي المغطاة بالشجيرات القصيرة سيرغبون في الانتقال إلى الأراضي الخصبة.) ومن ثم، يرتفع إيجار الأرض الخصبة أيضًا.

ولهذا سيكون إيجار الأرض الخصبة مساويًا دائمًا للفرق في محصول الغلة الذي تنتجه الأرض الخصبة والذي تنتجه أي أرض أخرى يمكن للمزارعين الجدد زراعتها دون دفع أي إيجار. ويسمي علماء الاقتصاد هذه الأرض الأخرى بالأرض «الحدية» لأنها تقع على الحد بين كونها مزروعة وبين كونها غير مزروعة. (وسرعان ما سترى أن علماء الاقتصاد يفكرون كثيرًا بشأن القرارات التي تُتخذ عن الحد). ففي البداية، عندما كانت الأراضي الخصبة متوفرة على نحو يفوق عدد المستوطنين اللازمين لزراعتها، لم تكن هذه الأرض أفضل أنواع الأراضي فحسب، بل كانت هي الأرض «الحدية» أيضًا لأن المزارعين الجدد كان بإمكانهم استغلالها. ونظرًا لأن أفضل أنواع الأراضي كانت تؤدي نفس دور الأرض الحدية فلم يكن هناك إيجار بخلاف المبلغ البسيط الذي كان يعوض مالك الأرض عن متاعبه. وفيما بعد، عندما زاد عدد المزارعين حتى لم يعد يكفيهم عدد الأراضي الخصبة الموجودة، صارت الأراضي المغطاة بالشجيرات القصيرة هي الأرض الحدية، وارتفع إيجار الأرض الخصبة إلى خمسة بوشل سنويًّا — وهو الفرق في إنتاجية الأرض الخصبة والأرض الحدية (أي الأرض المغطاة بالشجيرات القصيرة في تلك الحالة). وعندما وصل كورنيليوس، صارت الأرض العشبية هي الأرض الحدية، وباتت الأراضي الخصبة أكثر جاذبية مقارنة بالأرض الحدية، ولذلك تمكن ملاك الأراضي من رفع قيمة إيجار الأراضي الخصبة مرة أخرى. من المهم أن نشير هنا إلى عدم وجود قيمة مطلقة: فكل شيء يصبح نسبيًّا لهذه الأرض الحدية.

(٣) من الزراعة إلى أكشاك القهوة مرة أخرى

إنها قصة لطيفة، ولكن قد يفضل أمثالنا ممن يحبون أفلام الغرب الأمريكي تلك الأفلام التي تتناول الشجاعة مثل فيلم Unforgiven، أو شيئًا من العزلة النفسية التي نراها في فيلم مثل High Noon. لذلك لم أحصل أنا أو ديفيد ريكاردو على جوائز في الكتابة السينمائية، ولكن ربما لدينا بعض العذر حيث إن القصص التي نسردها تخبرنا بالفعل بشيء مفيد عن عالمنا الحديث.

يمكن أن تكون أكشاك القهوة هي نقطة البدء. لماذا ترتفع أسعار القهوة في لندن ونيويورك وواشنطن وطوكيو؟ قد تخبرنا فطرتنا أن القهوة غالية الثمن لأن أكشاك القهوة تضطر لدفع قيمة إيجارية عالية. أما نموذج ديفيد ريكاردو الاقتصادي، فيستطيع أن يبين لنا أن هذه الطريقة خاطئة للتفكير في تلك القضية لأن «القيمة الإيجارية العالية» ليست حقيقة عشوائية من حقائق الحياة، وإنما لها سبب يبررها.

يوضح المثال الذي استخدمه ريكاردو أن ثمة أمرين يحددان القيمة الإيجارية للمواقع المتميزة، تمامًا مثلما يتحدد إيجار الأراضي الخصبة وفقًا للفرق في الإنتاجية الزراعية بين الأراضي الخصبة والأرض الحدية، وأهمية الإنتاجية الزراعية نفسها. فإذا كان سعر البوشل (مقياس لكيل الحبوب يساوي ثمانية جالونات) دولارًا فإن خمسة بوشل من الحبوب تستحق إيجارًا قدره خمس دولارات. وإن كان سعر البوشل مائتي ألف دولار، فإن خمسة بوشل من الحبوب تستحق إيجارًا قدره مليون دولار. وتستحق الأرض الخصبة قيمة إيجارية مرتفعة مُقَيَّمة بالدولار إذا كانت الحبوب التي تساعد هذه الأرض على إنتاجها مرتفعة القيمة.

والآن دعنا نطبق نظرية ريكاردو على المقاهي التي تحدثنا عنها. فمثلما تستحق الأرض الخصبة إيجارًا مرتفعًا إذا كانت الحبوب التي تنتجها هذه الأرض مرتفعة القيمة، فإن المواقع المتميزة للمقاهي تستحق هي الأخرى إيجارًا مرتفعًا إذا كان الزبائن سيدفعون أسعارًا مرتفعة للقهوة. وبالطبع يكون زبائن ساعة الذروة في حاجة ماسة للكافيين، وفي عجالة من أمرهم بحيث إنهم لا يدققون إذا كانت الأسعار التي يدفعونها مرتفعة أم لا. لذلك فإن استعدادهم لدفع أعلى سعر مقابل مقهى يتمتع بسهولة الوصول إليه هو السبب في ارتفاع القيمة الإيجارية، وليس العكس.

تتشابه الأماكن المناسبة لأكشاك القهوة مع الأرض الخصبة في أنها أفضل نوعية من الممتلكات العقارية تناسب الغرض المنشود منها ولذلك تنفد جميعها بسرعة. لهذا تجد المتاجر التي تقع على نواصي شوارع منطقة «ميد تاون مانهاتن» تحتجزها شركتا ستاربكس، وكوزي إلى جانب الشركات المنافسة لهما. أما بالقرب من محطة مترو دوبون سيركل Dupont Circle في واشنطن العاصمة، فتجد مقهى كوزي يحتل البقعة المتميزة عند المخرج الجنوبي للمحطة في حين يوجد مقهى ستاربكس عند المخرج الشمالي لها، ناهيك عن ادعاء السيادة على الأرض في الأماكن المواجهة للمحطات القريبة أعلى وأسفل خط المترو. وفي لندن تجد مقاهي شركة أيه إن تي في محطة ووترلو ومحطات كينجز كروس King’s Cross، وماريلبون Marylebone، وتشيرنج كروس Charing Cross، وفي حقيقة الأمر فإن كل محطة مترو في لندن بها فرع من فروع شركات المقاهي الكبرى. إن تلك المواقع كان من الممكن أن تستخدم في بيع السيارات المستعملة أو الطعام الصيني، إلا أن هذا لم يحدث ليس لأن محطة المترو غير مناسبة لبيع الطعام الصيني أو السيارات المستعملة، ولكن لأن هناك وفرة في الأماكن الأخرى منخفضة القيمة الإيجارية والملائمة لبيع السيارات المستعملة أو الطعام الصيني، ولن يكون فيها الزبائن في عجالة من أمرهم بل أكثر استعدادًا للتنزه أو لطلب الطعام. أما بالنسبة للمقاهي وغيرها من المنشآت التي تبيع الوجبات الخفيفة أو الجرائد، فإن القيمة الإيجارية المنخفضة لا تعوض خسارة وابل الزبائن الذين لا يدققون إذا كانت الأسعار التي يدفعونها مرتفعة أم لا.

(٤) نماذج قابلة للتكيف مع مجالات أخرى

استطاع ديفيد ريكاردو أن يكتب تحليلًا عن مقاهي الكابوتشينو في محطات المترو قبل أن تخرج إلى الوجود مقاهي الكابوتشينو أو محطات المترو. وهذا هو نوع الحيل الذي يجعل الناس إما يعشقون علم الاقتصاد، أو ينفرون منه. فالذين ينفرون منه يزعمون أننا لو أردنا فهم كيفية عمل تجارة القهوة في العالم الحديث لا يجب علينا أن نقرأ تحليلًا عن الزراعة نُشر عام ١٨١٧.

ومع ذلك فالكثيرين منا يُغرمون بحقيقة أن ريكاردو، منذ حوالي مائتي عام، استطاع أن يخرج برؤية واضحة تُنير طريقنا اليوم نحو الفهم. فمن السهل أن ترى الفرق بين الزراعة في القرن التاسع عشر، وبين بيع القهوة ذات الرغوة في القرن الحادي والعشرين، ولكن ليس من السهل أن ترى وجه الشبه بينهما قبل أن يقوم أحدهم بتسليط الضوء عليه. يدور علم الاقتصاد بقدر ما حول وضع النماذج الاقتصادية، وحول التعبير بوضوح عن المبادئ والأنماط الأساسية المسئولة عن الموضوعات التي تبدو معقدة مثل إيجار الأراضي الزراعية أو إيجارات المقاهي.

وثمة نماذج أخرى نجدها في صناعة القهوة، والتي تعتبر نافعة للعديد من الأمور المختلفة، فمثلًا قد يكون نموذج التصميم المعماري للمقهى مفيدًا كدراسة حالة ليدرسها المهندسون العاملون بمجال التصميم الداخلي. وقد يساعد أحد النماذج الفيزيائية في تحديد الملامح البارزة للآلة التي تولد مقدار ١٠ ضغط جوي وهو المقدار اللازم لتخمير القهوة الإسبرسو، ونفس النموذج قد يصبح نافعًا عند الحديث عن مضخات الشفط، أو محركات الاحتراق الداخلي. واليوم لدينا نماذج من التأثيرات البيئية التي تحدثها الطرق المختلفة للتخلص من بقايا البن المتخثرة في قاع الفنجان. وكل نموذج منها مفيد لأمور مختلفة، أما «النموذج» الذي حاول أن يصف في آن واحد كلًّا من التصميم والهندسة وعلم البيئة وعلم الاقتصاد فإنه لن يكون أبسط من الواقع نفسه وبالتالي لن يضيف شيئًا لفهمنا.

ويصلح نموذج ريكاردو الاقتصادي لمناقشة العلاقة بين الندرة والقدرة التفاوضية حيث يذهب النموذج إلى ما هو أبعد من القهوة أو الزراعة ثم يفسر لنا في النهاية كثيرًا من أمور العالم التي تحدث من حولنا. فعندما ينظر علماء الاقتصاد إلى العالم يرون أنماطًا اجتماعية مستترة، تصبح جلية فقط عندما يركز المرء على العمليات الجوهرية غير الظاهرة. ويدفع هذا التركيز النقاد إلى القول بأن علم الاقتصاد لا يأخذ في اعتباره الأمر برمته أو «النظام» بأكمله. ومع ذلك كيف لتحليل عن الزراعة يعود إلى القرن التاسع عشر أن يكشف حقيقة مقاهي القرن الحادي والعشرين، بغض النظر عن إخفاقه في ملاحظة كل أنواع الفروق المهمة؟ والجواب هو أنه يتعذر في الواقع فهم أي مسألة معقدة دون التركيز على عناصر محددة تقلل من تعقيدها. يفضل علماء الاقتصاد التركيز على أمور محددة، والندرة هي أحد تلك الأمور، وهذا التركيز يعني أننا لا نلاحظ الميكانيكا التي تعمل بها ماكينة إعداد القهوة الإسبرسو، واختيار الألوان المستخدمة في تصميم المقاهي، وغير ذلك من الحقائق المثيرة الأخرى. ومع ذلك فهذا التركيز يفيدنا أيضًا، وأحد الأشياء التي نستفيدها هو فهم «النظام»، أقصد النظام الاقتصادي، الذي يعد أشمل كثيرًا مما قد يظن الكثيرون.

ومع ذلك فيلزم هنا قرع جرس تحذير. فتبسيط النماذج الاقتصادية قد اشتهر بأنه يضلل علماء الاقتصاد. حتى إن ريكاردو نفسه كان من أوائل ضحايا هذا التبسيط، فقد كان يحاول أن يمد نموذجه الاقتصادي الناجح والرائع عن المزارعين وملاك الأراضي ليفسر توزيع الدخل في النظام الاقتصادي بأسره، مثل: كم الدخل الذي يحصل عليه العمال، والدخل الذي يحصل عليه ملاك الأراضي، والدخل الذي يحصل عليه الرأسماليون. ولكن لم يحقق هذا النموذج نجاحًا تامًّا في مهمته؛ لأن ريكاردو تعامل مع القطاع الزراعي بأكمله وكأنه مزرعة واحدة شاسعة يملكها فرد واحد. فالقطاع الزراعي الموحد لن يستفيد شيئًا من تحسين إنتاجية الأرض عن طريق تعبيد الطرق، أو تحسين الري؛ لأن تلك الأمور من شأنها أن تقلل من ندرة الأرض الخصبة. ومع ذلك فالمالك الفرد حينما يكون في منافسة مع ملاك آخرين فسيكون لديه الكثير من الدوافع لعمل تلك التحسينات. وبسبب انشغاله بالتفاصيل الفنية دون غيرها، أخفق ريكاردو في إدراك حقيقة أن الآلاف من ملاك الأراضي ينافس بعضهم بعضًا مما يجعلهم يتخذون قرارات مختلفة وليس قرارًا واحدًا.

وهكذا فليس بمقدور نموذج ريكاردو تفسير كل شيء، إلا أننا نوشك على معرفة أن النموذج بمقدوره تفسير أمور لم يتصورها ريكاردو نفسه. لا يفسر هذا النموذج المبادئ الكامنة خلف مقاهي القهوة والزراعة فحسب، وإنما — إذا جرى تطبيقه على النحو الصحيح — يظهر أن التشريعات البيئية يمكن أن تؤثر تأثيرًا كبيرًا على توزيع الدخل، ويفسر السبب وراء تحقيق بعض الصناعات بطبيعتها للأرباح العالية في حين تعتبر الأرباح العالية في بعض الصناعات الأخرى دليلًا دامغًا على الاحتيال، وكذلك فهو ينجح في تفسير السبب وراء معارضة المتعلمين لهجرة أمثالهم من المتعلمين في حين تشكو الطبقات العاملة من هجرة العمالة التي تعمل في وظائف لا تحتاج إلى مهارات خاصة.

(٥) أسباب مختلفة للإيجارات المرتفعة

هل ستبالي إذا بيعت لك سلعة بثمن أكبر بكثير من ثمنها الحقيقي؟

أنا شخصيًّا سأبالي، فالحياة مليئة بالسلع باهظة الثمن وبالتأكيد هذا الغلاء ما هو إلا نتيجة طبيعية في بعض الأحيان لما للندرة من قوة. فمثلًا، هناك عدد محدود من الشقق السكنية التي تطل على حديقة سنترال بارك Central Park في نيويورك، أو على حديقة هايد بارك Hyde Park في لندن. ونظرًا لرغبة الكثيرين في امتلاكها، تصبح أسعار تلك الشقق باهظة الثمن، لذلك ينتهي الأمر بخيبة أمل الكثيرين الذين لا يستطيعون دفع ثمنها. صحيح أن هذه مسألة ليس فيها شر أو أذى، ومع ذلك فليس من السهل فهم السبب في أن الفشار غالي الثمن للغاية في دور السينما حيث لم أجد نقصًا في المعروض من الفشار خارج دور السينما في آخر مرة تحريت فيها عن هذا الأمر. لهذا فربما يكون أول شيء نرغب في عمله هو التفرقة بين الأسباب المختلفة التي تتسبب في غلاء سعر السلع.

وفيما يخص نموذج ريكاردو، ينبغي أن نعرف الأسباب المختلفة التي تتسبب في ارتفاع أسعار الإيجارات؛ فمعرفة هذه الأسباب قد تكون شيقة بعض الشيء حين نتحدث عن الأراضي الخصبة، (وإذا كنت مزارعًا فحينها ستكون شيقة للغاية)، ولكن معرفة الأسباب تصبح مسألة في غاية الأهمية عندما يتعلق الأمر بمعرفة لماذا تبدو أسعار إيجارات الشقق السكنية باهظة للغاية، أو معرفة ما إذا كانت البنوك تحتال علينا أم لا. ومع ذلك يمكن أن نبدأ بمسألة الأراضي الخصبة ثم نطبق ما سنصل إليه على نطاق أوسع.

نحن نعرف أن تحديد سعر إيجار أفضل أنواع الأراضي يتحدد بواسطة الفرق في الخصوبة بين الأرض الخصبة والأرض الحدية. لذلك فإن السبب الواضح في ارتفاع قيمة الإيجار هو أن الأرض الخصبة تنتج محاصيل عالية القيمة مقارنة بالأرض الحدية. وكما ذكرت آنفًا أنه عندما يكون سعر البوشل من الحبوب دولارًا والفارق في الإنتاج خمسة بوشل فإن هذا الفارق يستحق إيجارًا قدره خمسة دولارات، ولكن عندما يكون ثمن البوشل مائتي ألف دولار والفارق في الإنتاج خمسة بوشل فإن هذا الفارق يستحق إيجارًا قدره مليون دولار. وإذا كانت الحبوب غالية الثمن، يصبح من الطبيعي أن تكون الأراضي الخصبة النادرة التي تنتجها غالية الثمن أيضًا.

وثمة سبب آخر يرفع سعر إيجار الأراضي الخصبة، وهو سبب لا علاقة له بالتطور الطبيعي للأسواق، فلنفترض أن ملاك الأراضي قد اجتمعوا معًا ونجحوا في إقناع عُمدة البلدة بضرورة وجود ما تسميه انجلترا «الحزام الأخضر» وهو عبارة عن مساحة شاسعة من الأرض حول المدينة تطوق المدينة بحيث تعرقل بشدة قوانين التخطيط الصارمة استغلالها في أي مجال من مجالات التنمية العقارية. سيزعم ملاك الأراضي حينها أن من العار إقامة المزارع على تلك الأرض البرية الرائعة، ويطالبون بأن يمنع القانون زراعتها.

وفي الواقع يستفيد ملاك الأراضي كل الاستفادة من مثل ذلك الحظر، لأنه يرفع سعر إيجار كل الأراضي التي لا يمنع القانون زراعتها. وتذكر أن إيجار الأرض الخصبة يحدده الفرق بين إنتاجية تلك الأرض وإنتاجية الأرض الحدية. وبالتالي لو منعنا زراعة الأرض الحدية بأمر القانون فسيرتفع سعر إيجار الأرض الخصبة؛ فذات يوم كانت زراعة الأراضي العشبية دون دفع أي إيجار هي البديل لزراعة الأراضي الخصبة ودفع إيجار مقابل الزراعة، أما الآن فلا يوجد بديل حيث يتوق المزارعون الآن كثيرًا لزراعة الأرض الخصبة لأن زراعة الأراضي العشبية أصبح أمرًا مخالفًا للقانون، وهكذا يرتفع أيضًا سعر الإيجار الذي يكون هؤلاء المزارعون على استعداد لدفعه.

ها نحن قد كشفنا عن سببين وراء ارتفاع سعر إيجار الأراضي: أولهما، هو أن الأمر يستحق أن تدفع مبلغًا كبيرًا من المال مقابل إيجار الأرض الخصبة لأن الحبوب التي تنتجها تلك الأرض مرتفعة القيمة. وثانيهما، أنها تستحق الإيجار المرتفع؛ لأنه ليس أمامك بدائل أخرى.

وهذه النقطة قد تصيب بالدهشة أولئك القراء الذين يؤجرون في الوقت الحالي أي ممتلكات عقارية في لندن، وهي المدينة التي يطوقها «الحزام الأخضر» الأصلي الذي أنشئ في الثلاثينيات من القرن العشرين. فهل السبب في غلاء تأجير أو شراء الممتلكات العقارية في لندن لا يرجع إلى أنها أفضل بكثير من البدائل الأخرى وإنما يرجع إلى أن تلك البدائل أصبحت ممنوعة بأمر القانون؟

في حقيقة الأمر فإن السبب هو خليط بين هذا وذلك: فمسألة أن لندن مدينة فريدة هي مسألة صحيحة لا جدال فيها، وأنها مكان أفضل لأن توجد به الشقق السكنية أو حتى المباني الإدارية على نحو يفوق أماكن أخرى مثل سيبريا أو كانساس سيتي Kansas City، أو حتى باريس. وترجع أسعار الإيجارات المرتفعة إلى ذلك السبب بقدر ما، ولكن السبب الآخر في أن العقارات في لندن باهظة الثمن هو الحزام الأخضر. صحيح أنه من إحدى تأثيراته المحافظة على لندن من التمدد العمراني إلى المنطقة المجاورة وهو أمر يرى الكثيرون أنه جيد. ولكن تأثيره الآخر هو أنه ينقل كمية ضخمة من الأموال من جيوب المستأجرين في لندن إلى جيوب الملاك: فالحزام الأخضر يتسبب في إبقاء أسعار المنازل والإيجارات في لندن مرتفعة بكثير عن المستوى الذي ينبغي أن تكون عليه، وذلك بنفس الطريقة تمامًا التي يبقي فيها حظر الزراعة على الأرض العشبية قيمة الإيجار للأرض الخصبة والأرض المغطاة بالشجيرات القصيرة مرتفعة بكثير عن المستوى الذي ينبغي أن تكون عليه إذا لم يكن هذا الحظر موجودًا.
وليس هذا نقدًا لفكرة الحزام الأخضر. فهناك فوائد جمة من تحديد عدد سكان لندن عند ما يقرب من ستة ملايين نسمة بدلًا من أن يصبح ستة عشر أو ستة وعشرين مليون نسمة. ولكن عندما نقوم بتقييم مزايا ومساوئ إصدار تشريع مثل تشريع الحزام الأخضر فمن المهم أن ندرك أن تأثيراته أكثر من مجرد الحفاظ على البيئة. فأسعار إيجارات المكاتب في منطقة ويست إند West End في لندن أغلى منها في مانهاتن، أو في وسط طوكيو، وفي حقيقة الأمر فإن أسعار إيجارات المكاتب في منطقة وست إند هي الأغلى في العالم، وبجانب المكاتب، تتصدر المنطقة أيضًا التصنيف العالمي في غلاء أسعار المنازل حيث يوجد بها أغلى منزل في العالم الذي بلغ ثمنه ٧٠ مليون جنيه إسترليني (أي حوالي ١٣٠ مليون دولار). ويرجع هذا إلى أن الحزام الأخضر تسبب في جعل الممتلكات العقارية في لندن نادرة مقارنة بمن يرغبون في استخدامها، وبالطبع فإن القوة تأتي من الندرة.

والآن آن الأوان كي تؤدي أول اختبار في علم الاقتصاد: لماذا يعد التحسين في جودة الخدمات والأسعار في القطار الذي ينقل راكبيه إلى محطة «بن» في نيويورك من الضواحي المجاورة؛ أمرًا يسر كل المستأجرين لممتلكات عقارية في مانهاتن؟ ولماذا ربما يكون ملاك العقارات في نيويورك أقل حماسًا فيما يتعلق بهذا التحسين؟

الإجابة هي أن النقل العام المطور يزيد من البدائل فيما يتعلق بمسألة تأجير عقار في المدينة. فعندما يقل زمن رحلة القطار ليصبح ساعة واحدة بدلًا من ساعتين، ويكون بوسع الركاب أن يجلسوا على مقاعد في القطار بدلًا من الوقوف، سيري البعض منهم عندئذ أنه من الأفضل توفير المال والانتقال للحياة خارج حي مانهاتن. وعندئذ ستظهر بالسوق الشقق الخالية، وتقل الندرة، وتنخفض أسعار الإيجارات. وهكذا فتطوير الخدمات المقدمة إلى الركاب القائمين برحلات يومية هو أمر لا يقتصر أثره على هؤلاء الركاب فحسب، بل إنه يؤثر على كل المتعاملين في سوق العقارات في نيويورك.

(٦) هل نقع ضحايا جشع الشركات؟

من إحدى مشكلات أن تصبح مخبرًا اقتصاديًّا، أنك ستبدأ في رؤية «أحزمة خضراء» من أنواع مختلفة في كل مكان. فكيف نفرق بين السلع باهظة الثمن بسبب ندرتها الطبيعية وبين السلع باهظة الثمن بسبب أسباب مصطنعة مثل التشريعات أو اللوائح أو الخداع؟

يمكن أن يفيدنا نموذج ريكاردو في هذه المسألة أيضًا، فنحن بحاجة لأن ندرك التماثل المستتر بين الموارد الطبيعية مثل: الحقول والمواقع التجارية المزدحمة والشركات. فالحقول تقوم بتحويل بعض الأغراض إلى أغراض أخرى، فبها يتحول السماد والبذور إلى حبوب. وهذا ما تفعله الشركات أيضًا. فمصنعو السيارات يحولون الصلب والكهرباء والمكونات الأخرى إلى سيارات. ومحطات الوقود تحول المضخات وخزانات الوقود الكبيرة وأرض المحطة إلى بنزين. والبنك يحول أجهزة الحاسب الآلي وأنظمة المحاسبة المتقدمة والنقود إلى خدمات مصرفية. وبدون أن نعتدي كثيرًا على حقوق الملكية الفكرية، يمكن أن نستبدل بكلمة «إيجار الأرض» في نموذج ريكاردو كلمة «ربح». فالإيجار هو العائد الذي يحصل عليه ملاك الأراضي من أملاكهم، والربح هو العائد الذي يحصل عليه ملاك الشركات من أملاكهم أيضًا.

دعنا نتناول النظام المصرفي كمثال. هب أن أحد البنوك يتقن تقديم الخدمات المصرفية إتقانًا كبيرًا، ويتمتع بثقافة تنظيمية رائعة، وباسم تجاري ذي ثقل، ونجح في تطوير أفضل برمجيات مصرفية متخصصة. ويعمل به الموظفون الماهرون حتى إن الآخرين ينضمون إلى العمل بالبنك ليستمدوا منهم الخبرة. كل هذا يقود إلى ما أسماه خبير الاقتصاد جون كاي John Kay (الذي يشير بوضوح إلى نموذج ريكاردو) ﺑ «الميزة التنافسية المستدامة» والتي تعني ذلك النوع من التميز التنافسي على المنافسين الذي ينتج عنه تحقيق أرباحٍ العام تلو الآخر.

دعنا نطلق على هذا البنك اسم «مؤسسة أكسيل المصرفية»، ولنفرض أن هناك بنكًا آخر، ولنُسَمِّه «بنك بوب للديون والائتمان» وهو بنك لا يتمتع بكفاءة كبيرة، واسمه التجاري أقل ثقلًا، وبه ثقافة تنظيمية مقبولة. وهذا البنك ليس سيئًا، ولكنه ليس ممتازًا أيضًا. ولنفرض أن هناك بنكًا ثالثًا ولنُسَمِّه «مؤسسة كورنيليوس للإيداع» الذي لا يتمتع بأي درجة من درجات الكفاءة، وسمعته غاية في السوء، ويعامِل موظفوه العملاء بفظاظة، ولا يوجد به أي نظام تحكم في النفقات. فكفاءة «مؤسسة كورنيليوس للإيداع» أقل من كفاءة «بنك بوب للديون والائتمان»، وتنعدم على الإطلاق مقارنته «بمؤسسة أكسيل المصرفية». كل هذا يذكرنا بأنواع الأراضي الثلاثة التي تحدثنا عنها: من أراض خصبة تتمتع بكفاءة في إنتاج الحبوب، وأراض مغطاة بالشجيرات القصيرة أقل كفاءة، وأراض عشبية وهي أدناها كفاءة.

وتتنافس بنوك أكسيل وبوب وكورنيليوس على بيع الخدمات المصرفية بإقناع الناس بفتح حسابات لديهم أو الحصول على قروض منهم. وبالطبع فإن بنك أكسيل غاية في الكفاءة حتى إنه قادر على المنافسة إما ببيع الخدمات المصرفية بتكلفة أقل، أو بتجويد الخدمات وبيعها بنفس السعر. وفي نهاية كل عام يجني بنك أكسيل الأرباح الوفيرة، ويجني بنك بوب، الذي لا يقدم لعملائه نفس جودة الخدمات، ربحًا أقل من أرباح بنك أكسيل، أما بنك كورنيليوس، فبالكاد يغطي تكاليفه. وإذا كانت السوق المصرفية أكثر صرامة، فسيتوقف بنك كورنيليوس عن مزاولة أعماله. أما إذا غدت السوق المصرفية أكثر جاذبية، فسيبدأ بنك كورنيليوس في جني الأرباح وسيدخل إلى المجال بنك جديد ربما أقل كفاءة من بنك كورنيليوس. وهذا البنك الجديد سيكون هو البنك الحدي وسيغطي تكاليفه بالكاد.

وبدون تكرار كل خطوة من خطوات التحليل، يمكن أن نذكر أنفسنا بأن إيجار الأرض الخصبة جرى تحديده عن طريق المقارنة بين إنتاجيتها وإنتاجية الأرض العشبية الحدية. وبنفس الطريقة فإن أرباح بنك أكسيل سيجري تحديدها عن طريق المقارنة بين بينه وبين بنك كورنيليوس، البنك الحدي، الذي نعرف أننا ينبغي أن نتوقع منه أن يجني الأرباح القليلة، أو حتى ألا يجني أرباحًا على الإطلاق. فأرباح الشركات مثلها كمثل إيجارات الأراضي تحددها البدائل. فالشركة التي تواجه منافسة قوية تجني أرباحًا أقل من الشركة التي تواجه منافسين غير أكفاء. قد تظن أن هناك عيبًا في هذه المقارنة، فقد تقول إن أفدنة الأراضي الخصبة عددها محدد، ولكن الشركات يمكنها أن تنمو. ولكن هذا ليس صحيحًا تمامًا، فالشركات لا يمكنها أن تنمو بين عشية وضحاها دون أن تتشوه سمعتها وسمعة المقومات الأخرى التي دفعتها نحو النجاح. من ناحية أخرى، بينما يستحيل أن يتغير عدد الأفدنة، فإن التمييز بين الأنواع المختلفة من الأراضي سوف يتغير بمرور الزمن مع تطور نظم الري ومكافحة الآفات وتقنيات الأسمدة. إن نموذج ريكاردو، الذي يتجاهل تلك التغييرات التي تحدث بمرور الزمن، سوف يفسر الاتجاهات في أسعار المنتجات الزراعية على مدار العقود وليس على مدار القرون، ولكنه سوف يفسر ربحية المؤسسات على مدار السنين وليس على مدار العقود. وهذا التحليل شأنه شأن الكثير من النماذج الاقتصادية سيؤدي وظيفته جيدًا عندما يُطبق خلال فترة زمنية محددة، وفي حالتنا هذه، تكون الفترة الزمنية على المدى القصير أو المتوسط. أما بالنسبة إلى الفترات الزمنية الأخرى، فهناك نماذج اقتصادية أخرى تفلح في هذا الصدد.

كل هذا رائع … ولكن ما علاقة هذا بجشع الشركات؟

كثيرًا ما نجد الصحف تتحدث عن الأرباح التي تجنيها الشركات وكأنها تعتبر هذه الأرباح علامة على أنها تغش المستهلك. فهل هذه الصحف محقة؟ ليس دائمًا. يقول تحليل ريكاردو إن هناك سببين ربما يدفعان متوسط الأرباح التي تجنيها صناعة مثل صناعة البنوك إلى الارتفاع، فلو كان العملاء يقدرون حقًّا قيمة الخدمة الممتازة والسمعة الطيبة، فسيجني بنكَا أكسيل وبوب الكثير من النقود. (أما بنك كورنيليوس الذي يعد بمنزلة البنك الحدي فسيجني ربحًا ضئيلًا.) وسيكون عندئذ بوسع الكتاب في الصحف أن يشتكوا من الكسب المفرط لهذه الشركات. أما لو كان العملاء يهتمون بالخدمة الممتازة بقدر ضئيل، فسيجني أكسيل وبوب أرباحًا تزيد قليلًا عن تلك التي يجنيها كورنيليوس (الذي ما يزال يعتبر البنك الحدي وما يزال يجني الربح الضئيل)، وسيصبح متوسط الأرباح منخفضًا. وعندئذ سيصمت الصحفيون رغم عدم تغير دوافع واستراتيجيات الصناعة حيث إن الأمر الوحيد الذي تغير هو أن العملاء أصبحوا يهتمون بالخدمة الممتازة بقدر كبير. وهكذا فليس لدينا سارق أو مسروق وإنما يُكافئ كل من أكسيل وبوب لأنهما يعرضان شيئًا يتميز بالندرة والتقدير الكبير لأهميته في آن واحد.

ولكن تلك الأرباح العالية لا تتحقق دائمًا على نحو عادل، فأحيانًا يكون غضب الصحف له ما يبرره. هناك تفسير آخر للأرباح العالية للشركات. فماذا لو كان هناك «حزام أخضر» مصرفي يمنع بنك كورنيليوس من دخول السوق منعًا تامًّا؟ يوجد بالفعل على أرض الواقع العديد من الأسباب التي تجعل الشركات الجديدة عاجزة عن الدخول إلى الأسواق والمنافسة. وفي بعض الأحيان يكون العملاء أنفسهم سببًا في هذا، فهم لا يتعاملون إلا مع الشركات ذات المكانة الراسخة في السوق، ولهذا تجد الشركات الجديدة صعوبة في دخوله. يفيد جون كاي أن بعض المنتجات «المحرجة» مثل العازل الطبي والفوط الصحية تجني الكثير من الربح لأن الداخلين الجدد إلى تلك الصناعة يصعب عليهم إحداث ضجة إعلامية عن منتجاتهم. كما يحدث في كثير من الأحيان أن تضغط الشركات نفسها على الحكومة طالبة الحماية من المنافسة، ولذلك نجد العديد من حكومات العالم تمنح تراخيص احتكارية، أو نجدها تضع القيود الصارمة على دخول سوق الصناعات «الحساسة» مثل البنوك أو الزراعة أو الاتصالات. ولكن تعددت الأسباب والتأثير واحد: تحصل الشركات الراسخة في السوق وهي في بعدٍ عن المنافسة على الأرباح العالية. وفي حقيقة الأمر، يطلق علماء الاقتصاد كثيرًا على هذه الأرباح اسم «الإيجارات الاحتكارية» monopoly rents نظرًا لوجه الشبه بين الإيجار الذي يُفرض على الأرض في ظل وجود عدد قليل من البدائل والأرباح التي تحصل عليها الشركات في ظل وجود عدد قليل من المنافسين. قد يكون مصطلحًا محيرًا، ولكن يمكنك أن تلقي باللوم على نموذج ديفيد ريكاردو وعلى نقص القدرة على التخيل عند علماء الاقتصاد منذ ذلك الحين.

إذا أردت معرفة ما إذا كنت قد وقعت ضحية غش متاجر البقالة، أو البنوك، أو شركات الأدوية، يمكنني معرفة كم تجني تلك الشركات من أرباح. فلو كانت تجني أرباحًا عالية، أبدأ أشك في أمرهم. أما إن كان من السهل إنشاء شركة جديدة تنافسهم في مجال عملهم، فسيقل شكي نحوهم. وهذا يعني أن الأرباح العالية ترجع إلى الندرة الطبيعية: يعاني العالم بالفعل قلة عدد المؤسسات المصرفية الجيدة، ونحن نعلم أن المؤسسات المصرفية الجيدة تتفوق في كفاءتها كثيرًا عن نظيرتها السيئة.

(٧) «إيجارات» الموارد

لا تقتصر الرغبة في تجنب المنافسة والحصول على إيجارات احتكارية على ملاك العقارات وأصحاب الشركات. فهذه الرغبة تحدو أيضًا كل من النقابات العمالية وجماعات الضغط ومن يدرسون للحصول على مؤهلات متخصصة بل وحتى الحكومات المحلية. فكل يوم يحاول الناس من حولنا تجنب المنافسة، أو الحصول على نتاج جهد الآخرين الذين نجحوا في فعل هذا. يسمي علماء الاقتصاد هذا النوع من السلوك «خلق الإيجار» و«السعي وراء الإيجار».

ليس من السهل فعل هذا، فالعالم مكان تنافسي بطبيعته، ومن الصعب أن يعمل المرء فيه دون منافسة. وهذا أمر طيب لأنه إذا كانت المنافسة أمرًا يدعو للضيق إذا كنت من المتضررين منها، فهي مفيدة حينما تنتفع منها كأن تكون مستهلكًا تستفيد من منافسة الشركات لبعضها. فكلنا نستفيد عندما نتفاعل مع أناس يتنافسون ليقدموا لنا الوظائف والصحف وإمكانية الاستمتاع بعطلة في مكان ذي طقس بديع تمامًا مثلما استفاد ملاك الأراضي في مثالنا الافتراضي من المنافسة بين أكسيل وبوب.

يعتبر التحكم في أحد الموارد الطبيعية مثل الأراضي الزراعية أحد الطرق لتجنب المنافسة. صحيح أن هناك عددًا محدودًا من الأراضي الخصبة في العالم، ولكن بإمكان التقنيات الزراعية المتطورة أن تزيد من هذا الرقم. ولكن الأرض الزراعية ليست المورد الطبيعي الوحيد المحدود في العالم. فالنفط مورد آخر محدود حيث تنتجه بعض دول العالم بتكلفة منخفضة لاسيما السعودية والكويت والعراق ودول الخليج الأخرى، وعلى النقيض تنتجه بعض الدول الأخرى بتكلفة عالية مثل ألاسكا ونيجيريا وسيبيريا وألبرتا. أما في أنحاء عديدة أخرى من العالم فترتفع تكلفة استخراج النفط ارتفاعًا هائلًا حتى إنه لا يوجد أحد يفكر في استخراجه. وفي الوقت الحالي فإن الأماكن مثل ألبرتا هي المنتج «الحدي» للنفط.

يصلح تاريخ صناعة النفط أن يكون دراسة حالة عند دراسة «نظرية الريع» لريكاردو. فحتى عام ١٩٧٣م كان المعروض العالمي من النفط يُنتج بواسطة «حقول النفط الخصبة» التي توجد في أغلب الأحيان في الشرق الأوسط. وبالرغم من أهمية النفط الهائلة للاقتصاديات الصناعية، كان سعر النفط منخفضًا جدًّا — أقل من عشر دولارات للبرميل حسب قيمة الدولار اليوم — وذلك لأن النفط آنذاك كان متوفرًا بكميات كبيرة وبسعر ضئيل جدًّا. وفي عام ١٩٧٣ قررت منظمة الدول المصدرة للنفط (الأوبك) — التي تجلس على معظم حقول النفط الخصبة — أن تدع بعض من حقولها دون عمل، عن طريق توجيه أوامر إلى كل الدول الأعضاء بها بأن يقللوا من إنتاجهم. وعندئذ قفزت أسعار النفط إلى أربعين دولارًا للبرميل، ثم إلى ثمانين دولارًا بعدها وذلك حسب قيمة الدولار اليوم. وبقي سعر النفط مرتفعًا لسنوات وذلك بسبب قلة وجود موارد بديلة للنفط على المدى القصير آنذاك. (يعادل هذا في مثال ريكاردو الافتراضي التوقف فجأة عن زراعة الأرض الخصبة الأمر الذي يترك فترة زمنية قبل أن يتم تشذيب وحرث الأرض العشبية، مما يتسبب في نقص مؤقت في الحبوب إضافة إلى زيادة قيمة الريع.)

ومع ارتفاع سعر برميل النفط إلى ثمانين دولارًا، بدت العديد من البدائل أرخص ثمنًا حتى لجأ إليها الكثيرون لسنوات: مثل توليد الكهرباء باستخدام الفحم عوضًا عن النفط، وتصميم سيارات جديدة أكثر كفاءة في استهلاك البنزين. والتنقيب عن النفط في أماكن مثل ألبرتا وألاسكا. ومن ثم حُرث المزيد والمزيد من «موارد الطاقة المغطاة بالشجيرات القصيرة» و«موارد الطاقة المغطاة بالأعشاب». ولإبقاء أسعار النفط مرتفعة، اضطرت الأوبك OPEC إلى قبول أن يكون لها حصة أصغر من السوق العالمية للنفط. وفي النهاية أعلنت السعودية تمردها على ذلك النظام عام ١٩٨٥ وزادت من إنتاجها من النفط حتى انهارت الأسعار عام ١٩٨٦. ولبضعة أعوام مضت كان سعر النفط يغطي بالكاد تكلفة إنتاج حقول النفط الحدية في أماكن مثل ألبرتا التي تتراوح بين خمسة عشر وعشرين دولارًا للبرميل. وفي السنوات القليلة الأخيرة أصابتنا الهلاوس بسبب مزيج من الارتفاع المفاجئ في الطلب على النفط من جانب الصين، ومشاكل الإنتاج في السعودية والعراق ونيجيريا وفنزويلا. وقد تسبب كل هذا في ارتفاع أسعار النفط إلى أكثر من خمسين دولارًا للبرميل. ومع ذلك، فحتى مع الأسعار المنخفضة التي سادت في تسعينيات القرن العشرين، كان إنتاج النفط المستخرج من أرخص الحقول في السعودية والكويت بتكلفة إنتاج تبلغ بضعة دولارات للبرميل؛ يعد مكسبًا صافيًا.

(٨) متى تفيد الجريمة؟

لا يرتبط جانب كبير من اقتصاد العالم ارتباطًا وثيقًا بالموارد الطبيعية المحدودة. ويعني هذا أن البشر عليهم إيجاد وسائل أخرى لمنع المنافسة.

ويعد اللجوء إلى العنف أحد الوسائل الشائعة وعلى الأخص في تجارة المخدرات وغير ذلك من ضروب الجريمة المنظمة. يفضل تجار المخدرات عدم وجود منافسين يدفعون أسعار المخدرات للانخفاض. ومن الممكن أن يؤدي قيام عصابة إجرامية بقتل عدد كاف من البشر أو ضربهم ضربًا مبرحًا أن يثني العصابات المنافسة عن الدخول إلى السوق لتتمتع تلك العصابة بالأرباح الطائلة. وهذه التصرفات غير قانونية بالطبع، ولكن هذا الوصف ينطبق أيضًا على تجارة المخدرات؛ فلو كنت ستخاطر بدخول السجن في كل الأحوال، لا يوجد مغزى من استخدام أنصاف الحلول. فلو أراد تجار المخدرات التمتع بقوة تمنحها لهم الندرة، فعليهم فعل كل ما في وسعهم حتى تكون المنافسة نادرة. وبالطبع ليس من المحتمل أن يشكو زبائنهم للشرطة من جشع تجار المخدرات.

ولسوء حظ عصابة المخدرات المبتدئة والعادية أن العنف قد لا يكفي لجني الأرباح. فالصعوبة تكمن في أن كلًّا من الأسلحة والرجال عدوانيي السلوك متوفرون بكثرة. فأي عصابة تكسب جيدًا تكون بمنزلة عنصر إغراء يدفع العصابات الأخرى لمحاولة السيطرة على أرضها، وسيكون هناك كثير من المنافسين. استطاع كل من خبير الاقتصاد ستيفن ليفيت Steven Levitt، وعالم الاجتماع سودير فينكاتيش Sudhir Venkatesh تقصي المكاسب التي تجنيها إحدى عصابات الشوارع الأمريكية واتضح لهما أن «جنود المشاة» هؤلاء يجنون أحيانًا مكسبًا ضئيلًا قد يصل إلى ١,٧٠ دولار في الساعة. وهناك بالطبع احتمالات لزيادة هذا الأجر نظرًا للانخفاض المتزايد في عدد أفراد العصابات، (فمنهم من يترك العصابة، ومنهم من يُقتل، وهذا يحدث طوال الوقت)؛ ولكن حتى مع تلك الاحتمالات يبقى متوسط مكسب الفرد منهم أقل من عشرة دولارات في الساعة. وهذا ليس بالمبلغ الكبير بالنظر إلى أنه في فترة عمل تستمر أربعة سنوات، يكون من المتوقع أن يُطلق عليه النار مرتين، ويُعتقل ست مرات، واحتمال بنسبة ٢٥٪ أن يتعرض للقتل. وتحقق بعض التنظيمات الإجرامية نجاحًا أكثر من هذا. فعصابات المافيا غالبًا ما تمتهن أعمالًا مشروعة مثل تنظيف الملابس على اختلاف أنواعها، وهو مجال يمكن أن يحقق أرباحًا طائلة فقط لو مُنع المنافسون من دخوله. وقد يتم ذلك بترهيب المنافسين، وهو أمر في غاية السهولة حيث إن العثور على الشاحنات التي تحمل الملابس وتدميرها أو حتى تدمير المغاسل نفسها، أسهل بكثير من العثور على كيس من الكوكايين وتدميره. ومن السهل أيضًا ترهيب الزبائن، فالمتابعون لمسلسل ذا سوبرانوز The Sopranos يعلمون أن عصابات المافيا توفر خدمات الغسيل بأسعار مغالى فيها للمطاعم كطريقة لتربح المال. والسبب واضح بالطبع، فالمطاعم على وجه الخصوص معرضة للوقوع ضحية لابتزاز الأموال لأنها لا ترغب في أن تجلب لنفسها جلبة تبعد عنها الزبائن، وفي الوقت نفسه تغالي تلك المطاعم في أسعار خدماتها حتى تستطيع أن تدفع منها الضريبة التي تدفعها للمافيا مقابل الحماية. في العادة تجتذب الأعمال المربحة المنافسة، ولكن في هذه الحالة فإن المنافسة تؤمن بوجوب وجود وسيلة أكثر أمنًا لكسب العيش.

وهذا يعني أن هذا النوع من العنف ليس هو الذي يجني الأرباح المستدامة ويخلق حواجز منع دخول الأسواق، ولكنها فعالية المنظمة التي يملكها بنك أكسيل، ويفتقر إليها بنك كورنيليوس، تمامًا مثلما تفتقر إليها عصابات الشوارع العادية، وتتمتع عصابات المافيا بالكثير منها.

(٩) مؤامرات ضد عوام الناس

لحسن الحظ أنه يمكنك في الأماكن الراقية في العالم المتقدم الاحتماء ممن يستخدمون العنف لمنع المنافسة، ولكن هذا لا يعني أن الناس لم يطوروا وسائلَ أخرى للتخلص من المنافسين.

والنقابات العمالية مثال جلي على هذا، فالغرض من النقابة هو منع العمال من منافسة بعضهم بعضًا على فرص العمل حتى لا تنخفض الأجور وتتدهور ظروف العمل. فلو زاد مثلًا الطلب على الكهربائيين مع قلة من يتقنون تلك المهنة، سيصبح لمن يتقنونها قوة مستمدة من ندرتهم، ومن ثم، يحصلون على أجور وظروف عمل ممتازة، سواء كان ذلك في ظل وجود أو عدم وجود نقابة لهم. أما إن ظهر في السوق المزيد والمزيد من الكهربائيين، فستنهار تلك القوة، وسيؤدي الكهربائيون الجدد نفس دور المزارع بوب الذي تحدثنا عنه من قبل. صحيح أن وظيفة النقابات العمالية هي التفاوض باسم العمال جميعًا، ولكن من وظائفها أيضًا سد الطريق أمام دخول العمال الزائدين عن الحاجة إلى المهنة.

ومع دخول الآلات في الصناعة بشكل كبير في القرن التاسع عشر كان دافع الناس لتشكيل النقابات له مبرراته. فقد كان العمال آنذاك كالسلعة المتوفرة بغزارة، وكانوا يتمركزن جميعًا في المدن، ويمكن إحلال بعضهم مكان بعض بمنتهى السهولة. وبدون النقابات، كانت ستظل الأجور منخفضة للغاية. أما في وجود النقابات، فصار من الممكن تجنب دخول المنافسين إلى السوق، وارتفعت أجور العمال الذين مكنهم حظهم من الالتحاق بالنقابة. أذكر أنه في الولايات المتحدة كان هناك قانون يتصدى للنقابات العمالية، فقوانين مكافحة الاحتكار Antitrust laws التي سُنت لتحول دون تواطؤ الشركات الكبيرة بعضها مع بعض في عمليات احتكار؛ استُخدِمت أيضًا ضد النقابات. ولكن مع تغير المناخ السياسي، أثبتت تلك القوانين عدم قابليتها للتطبيق، وزادت قوة النقابات العمالية.

ولكن إن كانت النقابات العمالية تحقق هذا النوع من النجاح المبهر، فقد نتوقع أن يتمتع الموظفون التابعون للنقابات بالأجور الضخمة — مثلما كان الحال في صناعة السيارات بالولايات المتحدة خلال الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين — عندما يكون للنقابات تأثير ملموس. ولكن الواقع أن النقابات العمالية تواجه العديد من العوائق التي تحول دون تحقيقها لهذا النوع من النجاح. فلما نُظر إلى النقابات العمالية على أنها تطالب بمطالب مبالغ فيها متسببة في زيادة الأسعار إلى درجة لم يقبلها قطاع عريض من الناس الذين، بدورهم، مارسوا ضغطًا على رجال السياسة لإعادة تنظيم النقابات العمالية. وأحيانًا أخرى تهدد المنافسة الدولية الندرة التي تتمتع بها تلك النقابات، مثلما حدث مع مصنعي السيارات بالولايات المتحدة الذي كانوا يتمتعون بالرواتب الممتازة والاستقرار الوظيفي إلى أن استخدم مصنعو السيارات اليابانيون طرقًا أكثر فعالية وبدءوا في وضع مصنعي السيارات الأمريكيين تحت الضغط.

وفي حالة الصناعات الآخذة في الانكماش مثل صناعة بناء السفن في بريطانيا أو صناعة السيارات في الولايات المتحدة، تختفي فرص العمل بمعدل يجعل النقابات العمالية عاجزة عن الحفاظ على قيمة ندرتها، حيث لا يمكن أن تهدد النقابات بتقليص المعروض من العمال بنفس السرعة التي تتمكن بها من مواجهة تناقص الطلب.

أما في الصناعات الأخرى فليس تناقص الطلب هو الذي يحد من قوة النقابات ولكنه العمال الماهرون. ففي الولايات المتحدة مثلًا تتمتع شركة وول مارت Wal-Mart بقدرة تفاوضية هائلة، فقد كان هناك فرعان للشركة فقط يتبعان للنقابة في أمريكا الشمالية في صيف ٢٠٠٤م عندما أعلن المسئولون بالشركة أن أحد هذين الفرعين في مقاطعة كوبيك Quebec الكندية سيغلق؛ لأن النقابة كانت تدمر نموذج عملها. وفي المملكة المتحدة يحصل المعلمون على رواتب منخفضة بالرغم من حقيقة أن هناك نقص في المعلمين الأكفاء. ويرجع هذا إلى أن الحكومة، وهي رب العمل الوحيد بالدولة، لديها قدرة تفاوضية هائلة. ففي العادة عندما يوجد نقص في الأيدي العاملة الخاصة بمهنة ما تتسبب المنافسة بين أرباب العمل في رفع أجور العمال. فقط رب العمل الذي يحتكر مجالًا ما هو الذي يمكنه المحافظة على وضع ينقص فيه بشكل حاد عدد المعلمين في حين لا ترتفع الرواتب استجابة لذلك النقص. فالمدرسون يتمتعون ببعض القوة التي يستمدونها من ندرتهم، ولكن في تلك الحالة تتمتع الحكومة بقوة أكبر.
ولقد تمكن أصحاب المهن الأخرى كالأطباء وخبراء التأمين والمحاسبين والمحامين من المحافظة على أجورهم العالية، بطرق أخرى غير النقابات العمالية حيث صنعوا «أحزمة خضراء» افتراضية ليصبح من الصعب على المنافسين المحتملين الدخول إلى السوق ومزاولة المهنة. وتتضمن هذه الأحزمة الخضراء الافتراضية فترات تأهيل طويلة للغاية وضرورة موافقة الهيئات المهنية على قبول أعداد محددة من المتقدمين كل عام. فالعديد من المنظمات التي نتوقع منها حمايتنا من أصحاب المهن «غير المؤهلين» هي في الواقع تسعى للحفاظ على الرواتب العالية التي يحصل عليها «المؤهلون» الذين يزاولون المهنة بالفعل. وبالفعل كثير منا لا يمانع أن يحصل على استشارة قانونية من المحامين ذوي الخبرة حتى وإن كانوا يفتقرون إلى المؤهلات الرسمية، بل إننا نحصل أحيانًا على الاستشارة الطبية من طلبة كلية الطب، أو الأطباء الأجانب أو المعالجين بالطب البديل. ولذلك يبذل أرباب المهن القانونية والطبية أقصى ما في وسعهم للتحكم في عدد من يزاولون تلك المهن من المؤهلين تمامًا، وحظر أي بدائل منخفضة التكلفة بأمر القانون. فمثلًا إن لم يكن بإمكانك تحمل دفع إيجار الأرض الخصبة، سيحرمك القانون من استئجار الأرض البور أو الأرض العشبية. لا عجب إذن في وصف جورج برنارد شو George Bernard Shaw للمهن بأنها «كلها مؤامرات ضد عامة الناس».

(١٠) والآن ننتقل إلى شيء مثير للجدل

دائمًا ما كانت الهجرة قضية مثيرة للعاطفة في أمريكا، ومع أن الأمن القومي أصبح مدعاة للقلق مؤخرًا، فما زال الجدل مستمرًّا في التمحور حول نفس السؤال القديم: هل يسرق المهاجرون وظائفنا؟ ربما يكون أحدهم قد سرق وظيفتك، أما وظيفتي فلم يسرقها أحد.

يرحب بالهجرة كل من العمال المتعلمين ذوي الوظائف التي تتطلب المهارة والتدريب، ورجال الأعمال ممن في حاجة إلى العمالة الرخيصة وذلك كجزء من عملية إثرائية تضيف إلى الحياة الاقتصادية والثقافية لكل دولة. في حين يرفض غير المتعلمين جيدًا أي هجرة جديدة لمهاجرين يعملون في أعمال لا تحتاج إلى مهارات خاصة، متذرعين بالقول «إنهم يسرقون وظائفنا». ربما يتصف هذا القول بكثير من المبالغة ولكنه يبدو منطقيًّا من وجهة نظر أصحاب المصالح.

وباعتباري أحد العاملين في أعمال تحتاج إلى المهارة فإنني أستاء من معارضة قدوم المهاجرين، بل أرغب في رؤية المزيد منهم. ولكن لو كنت من الجانب الآخر، هل كان هذا سيصبح رأيي أيضًا؟ إن احتاجت الدولة إلى عمالة تنجز الأعمال النافعة في وظائف تتطلب أو لا تتطلب المهارة، فمن مصلحتي المباشرة أن أرى هجرة مزيد من العمالة غير الماهرة إلى دولتي، الأمر الذي يضر بطريقة مباشرة أيضًا بالعمالة غير الماهرة الموجودة بالفعل.

تخيل أنني أنا وغيري من المواطنين الحاصلين على تعليم عالٍ كمُلَّاك للأراضي، ولكن استبدل بكلمة «الأرض الخصبة» كلمة «الشهادة الجامعية». فمهاراتي ومؤهلاتي تعد موردًا شأنها شأن الأرض الخصبة. ولكن هل مهاراتي مورد نادر؟ افرض أنني أعمل ضمن الفريق الإداري لمتاجر وول مارت، فعندما تمتزج مهاراتي (دعنا لا نحدد بالضبط المهارات التي يفترض أن أتمتع بها) بالعمل الجاد للبائعين المساعدين بالمتجر ومنظمي البضاعة على الأرفف نكون قد أصبحنا فريقًا منتجًا. أما مَن منا يحصل على العوائد، فهذا أمر يعتمد على مَن تتمتع مهاراته بالندرة. فإن نقصت بالدولة العمالة غير الماهرة ممن يعملون في تنظيم البضاعة على الأرفف، يجب عندئذ أن ترتفع أجورهم حتى تجتذب مزيدًا من الناس للعمل في هذه الوظيفة. أما إذا نقص عدد المديرين المهرة وامتلأت الدولة بمنظمي البضاعة على الأرفف غير المهرة، فسأحصل على أجر مُرضٍ بسبب قيمة ندرتي مثلما يحصل مالك الأرض على إيجار مُرضٍ بسبب ندرة الأرض التي يملكها بمجرد أن يظهر العدد الكافي من المزارعين.

يعزو البعض سبب معارضة الطبقة العاملة لهجرة الأجانب إلى العنصرية. وهناك نظرية بديلة أكثر إقناعًا تقول بأن كل إنسان يتصرف وفقًا لمصلحته الشخصية. فظهور العمال الجدد يصب في مصلحة من يملكون الموارد التي ستصبح نادرة نسبيًّا سواء أكانت تلك الموارد أراضٍ خصبة أم شهادات جامعية، ولكن من المفهوم أن ظهورهم أمر يمقته نظراؤهم العاملون بالفعل. وفي حقيقة الأمر فإن المهاجرين القدامى هم أكثر من يتأذون من الهجرة الجديدة ويجدون أجورهم قد انخفضت انخفاضًا هائلًا.

وتدعم الحقائق تطبيق نظرية ريكاردو على الهجرة. فالمهاجرون العاملون في وظائف تحتاج إلى مهارات خاصة يقللون من أجور العاملين من أبناء البلد في مثل هذه الوظائف، وكذلك المهاجرون العاملون في وظائف لا تحتاج إلى مهارات خاصة يقللون أجور العاملين من أبناء البلد في مثل هذه الوظائف. وقد ظلت أجور الممرضات في الخدمات الصحية الوطنية NHS بالمملكة المتحدة منخفضة بسبب تدفق ثلاثين ألف ممرضة أجنبية؛ فاحتمال حمل شهادة جامعية يزيد عند المهاجرين عن مواطني المملكة المتحدة بنسبة ٥٠٪. وعلى العكس، ففي الولايات المتحدة التي تستوعب نسبة من المهاجرين العاملين في وظائف تحتاج إلى مهارات خاصة؛ أعلى بكثير من مثيلتها في المملكة المتحدة؛ نجد أن أجور العمالة في وظائف لا تحتاج إلى مهارات خاصة هي التي ظلت منخفضة، إذ لم يتحسن دخل العاملين بتلك الوظائف منذ ثلاثين عامًا.

(١١) ما الذي يجدر بعلماء الاقتصاد فعله؟

لقد كنا نفكر تمامًا مثل علماء الاقتصاد طوال هذا الفصل. ولكن ماذا يعني هذا؟ لقد استخدمنا أحد النماذج الاقتصادية الرئيسية لتعميق فهمنا لعدد من المواقف المختلفة. انتقل الفصل من التحليل الذي يبدو عليه بعض الموضوعية فيما يخص مَن يجنون المال من تجارة الكابوتشينو؛ إلى مسألة سياسية خطيرة عن تنظيم القيود والهجرة.

قد يزعم بعض علماء الاقتصاد أنه لا يوجد اختلاف بين تحليلهم الاقتصادي لإيجار المقاهي وبين تحليلهم الاقتصادي للهجرة. وهذا حقيقي، فعلم الاقتصاد يشبه الهندسة إلى حد بعيد، أي أنه يخبرك بكيفية عمل الأشياء، وما قد يحدث لو غيرت هذه الأشياء. وبإمكان رجل الاقتصاد أن يشرح لك كيف يساعد السماح لعدد كبير من المهاجرين من العمالة الماهرة في تضييق الهوة بين أجور العمالة المدربة وغير المدربة، في حين أن هجرة العمالة غير المدربة تفعل عكس ذلك. أما ما تفعله المجتمعات وولاة أمورها بتلك المعلومات فهذه قضية أخرى.

ومع ذلك فإن حقيقة أن علم الاقتصاد في حد ذاته أداة للتحليل الموضوعي لا تعني أن علماء الاقتصاد يتناولون القضايا من وجهة نظر موضوعية دائمًا. فهم يدرسون السلطة والفقر والنمو والتنمية. ومن الصعب السيطرة على النماذج الاقتصادية التي تكمن وراء هذه الأمور دون التأثر بالعالم الحقيقي الذي يحويها. لهذا تجد علماء الاقتصاد غالبًا ما يتنحون عن دورهم كمهندسين للسياسة الاقتصادية ليصبحوا أصحاب قضايا. فمثلًا كان ديفيد ريكاردو من أوائل المؤيدين للتجارة الحرة. كما شجعه رفيقه جيمس ميل James Mill على ترشيح نفسه في البرلمان حتى إنه صار عضوًا عام ١٨١٩ عندما أيد إلغاء التعريفات الجمركية الباهظة في بريطانيا على الحبوب المستوردة من الخارج والتي كانت تعرف بقوانين الحبوب Corn Laws، التي حجمت بشدة من استيراد الحبوب. وأوضحت نظريات ريكاردو أن قوانين الحبوب كانت تحشو جيوب ملاك الأراضي الزراعية بالنقود على حساب باقي المواطنين. لم يرض ريكاردو بمجرد ملاحظة تأثيرات قوانين الحبوب بل إنه رغب في إلغائها.

واليوم يصل علماء الاقتصاد إلى نتائج مشابهة عن قوانين الحماية، التي تحمي — كما سنرى في الفصل التاسع — الجماعات الضاغطة التي تتمتع ببعض الميزات على حساب باقي الناس، في العالم المتقدم والنامي على حد سواء. فقد ينتفع مليارات البشر من السياسات الاقتصادية الجيدة في حين يموت الملايين من السياسات السيئة. في بعض الأحيان يكون منطق علم الاقتصاد مقنعًا للغاية بحيث يكون من المستحيل على علماء الاقتصاد عدم اتخاذ موقف.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤