الفصل الثامن

سر فقر الدول الفقيرة

يطلق البعض على مدينة دوالا Douala الكاميرونية لقب «إبط أفريقيا» الذي أجده مناسبًا تمامًا لها إذ إنها تقع مباشرة تحت الكتف المنتفخ لغرب أفريقيا؛ وتتصف هذه المدينة الموبوءة بمرض الملاريا بأنها رطبة وغير جذابة ورائحتها كريهة. أما إذا كنت تعيش في الكاميرون، فستعرف أن مدينة «دوالا» أنشط مدنها. فالكاميرون دولة في غاية الفقر؛ إذ إن مواطنها العادي أفقر ثماني مرات من المواطن العادي في أي مكان في العالم، وأفقر خمسين مرة تقريبًا من المواطن الأمريكي العادي. لهذا سافرت إلى «دوالا» في أواخر عام ٢٠٠١ لأتحرى عن السبب.

ولست متأكدًا من أول مَن أطلق على المدينة لقب «الإبط»، ولكن لن أندهش إذا كانت وزارة السياحة الكاميرونية نفسها هي التي أطلقته. فكما نعرف أن معظم وزارات الدفاع بالعالم مسئولة عن شن الهجوم على الدول الأخرى، وأن وزارات العمل مهمتها الإشراف على طوابير العاطلين من الشعب، أما وزارة السياحة الكاميرونية، فهي لا تخالف هذا العرف النبيل فوظيفتها هي إثناء السائحين عن زيارة بلدها.

وحذرني زميل لي أن سفارة الكاميرون في لندن ستحاول أن تضع أمامي كل عائق ممكن، كأن تطلب مني مثلًا الذهاب إلى باريس للحصول على التأشيرة السياحية. بيد أنني لم أتكبد كثيرًا من العناء؛ لأنني كان لي صديق يعيش في الكاميرون، دفع رشوة تعادل أجر موظف كاميروني في نصف يوم ليبعث لي دعوة. دفعت متسلحا بهذه الدعوة ما يعادل أجر موظف كاميروني في خمسة أيام لأحصل على تأشيرة الدخول في عملية تطلبت ثلاث زيارات فقط للسفارة، وبعض التذلل من جانبي. وهذا يكشف سر عدم التقائي أنا ورفقائي في هذه الرحلة بسائحين كثيرين طوال الأسابيع الثلاثة التي قضيناها في الكاميرون.

ولا أريد أن أرجع كل الفضل في تنفير السائحين من المجيء إلى الكاميرون إلى وزارة السياحة؛ إذ إنها مهمة تحتاج تعاون فريق عمل بأكمله. فوفقًا لمنظمة الشفافية الدولية، تعد الكاميرون أحد أكثر الدول فسادًا في العالم. وكشفت استطلاعات الرأي عام ١٩٩٩ أنها نفسها أكثر الدول فسادًا. أما عندما زرتها عام ٢٠٠١، فكانت قد تراجعت لتغدو خامس أكثر الدول فسادًا، الأمر الذي تعتبره حكومتها تحسنًا احتفلت به كثيرًا. وإذا تمعنت في التفكير للحظات، علمت أن الفوز بلقب «أكثر الدول فسادًا في العالم» أمر يتطلب الكثير من بذل بعض الجهد. ولمّا كانت منظمة الشفافية الدولية ترتب الدول حسب النظرة الدولية للفساد، كانت الاستراتيجية الرابحة للكاميرون هي التركيز على إجبار رجال الأعمال الأجانب على دفع الرشا مثلما يحدث في المطار. ولكن جهود السلطات الكاميرونية قد تشتت لأن الدولة فاسدة بشدة على كافة المستويات، ولا يقتصر الأمر على التعامل مع الأجانب فحسب. إذن فربما عدم التركيز هو ما جعلها تسقط من فوق عرش الفساد.

لا يعني هذا أن مطار دوالا الدولي يعمل بكفاءة عالية، بل إنه بعيد كل البعد عن هذا الوصف. فهو رطب، وعلى الرغم من أن المطار لا يتعامل إلا مع ثلاث أو أربع رحلات يوميًّا فإنك تجد حركة السير متثاقلة مضطربة بحيث تعاني صعوبة في المرور من الحشود الكثيرة. وكان من دواعي امتناني أن صديقي أندرو وسائقه سام قد ساعدانا في الخروج من المطار في ذلك المساء الحار جدًّا. وكان سائقه سام يود أن ينطلق بنا على الفور بالسيارة إلى مدينة بويا Buea التي تتمتع بطقس أكثر برودة، ذلك لو أن هناك طرق في «دوالا» يمكنك الانطلاق عبرها بسيارتك بسرعة. ولكن لم توجد هذه الطرق. فدوالا مدينة المليوني نسمة ليس بها أي طرق حقيقية.
صحيح أن الشارع العادي في مدينة «دوالا» عرضه من الكوخ إلى الكوخ المقابل ستة وأربعون مترًا تقريبًا، لكن الشارع لم يصمم بهذا الشكل لأن هذه المساحة مطلوبة من أجل طريق تكتنفه الأشجار، فهو مكان يعج بالباعة المتجولين، فتجد أحدهم يقف بجانب صينية يضع عليها الفول السوداني، وتجد غيره يتجول ويبيع نبات لسان الحمل plantain مشويًّا؛ وترى تجمعات بها قليل من الناس، يقفون حول دراجة بخارية أو يحتسون الجعة أو نبيذ النخيل أو يطهون في الخلاء على النار. كما ترى أكوامًا من الأنقاض، والحفر الواسعة على جانبي الطريق التي تشف عن أعمال بناء أو هدم لم تكتمل. ثم تجد الطريق — أو بالأحرى الذي كان يمكن أن يقال إنه طريق منذ عشرين عامًا — في المنتصف مليئًا بالحفر. وفي هذا الطريق تجد أربع حارات مرورية تحتل سيارات الأجرة معظمها. ففي الحارات التي بجانب الطريق تجد سيارات الأجرة متوقفة حيث يقوم السائقون بجمع الأجرة من الركاب. وفي وسط الطريق تجد هذه السيارات تتمايل بين الحفر وبين السيارات الأخرى متبعة في ذلك كل الاحتمالات التي لا يمكن أن يتوقعها أحد. وليس هناك أية قواعد سواء للمرور أو للسرعة. فأحيانًا تجد سيارة أجرة ممتلئة بالركاب على حافة الطريق تتمايل لتتخطى — على نحو مفاجئ — السيارات التي تسير ببطء في وسط الطريق؛ وغالبًا ما يكون الطريق من الداخل مليء بالحفر أكثر من الحواف. أما الضوضاء فهي لا تُصدق؛ ليس فقط لأن كل رجل، وكل امرأة، وكل طفل في المدينة يبدو وكأنه يحمل في يده جهاز استريو وقد ضبط مؤشر الصوت به على أعلى درجة، ولكن لأن بوق السيارة أصبح أيضًا شكلًا من أشكال الاتصال المشترك. وقد استطعت أن أترجم بعض الجمل الشائعة:

بيب: «أنت لا تراني، ولكن لدي مقاعد خاوية في السيارة.»

بيب: «أراك، ولكن ليس لدي مقاعد خاوية في السيارة.»

بيب: «لا تركب معي، فأنا ذاهب في اتجاه مختلف.»

بيب: «سأقبل ما تدفعه، هيا اركب.»

بيب: «بعد دقيقة سأنحرف لأتفادى مطب، وقد أصدمك بالسيارة، ابتعد!»

صحيح اعتادت شوارع دوالا على أن تسير بها الحافلات التي لم تعد تستطيع السير في هذه الشوارع المتهالكة. لذا، تعد سيارات الأجرة كل ما تبقى من وسائل المواصلات، التي جميعها سيارات قديمة متهالكة من ماركة تويوتا، تحمل أربعة ركاب في المقعد الخلفي، وثلاثة في المقعد الأمامي، ولونها أصفر تمامًا مثل تاكسيات نيويورك، وملصق على كل منها شعارات مميزة مثل «الله أكبر»، أو «توكلنا على الله»، أو «الله يُسيرها».

لا يمكن لأحد يرى مشهد الشارع في دوالا أن يستنتج أن الكاميرون دولة فقيرة بسبب نقص الحس التجاري بها، ولكن الواقع أنها مع الفقر الذي تعانيه، تزداد فقرًا يومًا بعد يوم. فهل يوجد ما يمكن فعله لعكس هذا الوضع، ومساعدة الكاميرون على شق طريقها نحو الثراء في المقابل؟ ليس هذا بالسؤال السهل. يقول روبرت لوكاس Robert Lucas الحائز على جائزة نوبل:

إن نتائج الرفاهية البشرية المرتبطة بمسائل مثل هذه هي نتائج مذهلة. فبمجرد أن يبدأ المرء في التفكير في أحدها، يصبح من الصعب عليه التفكير في أية مسألة أخرى.

(١) قطعة البازل المفقودة

اعتاد علماء الاقتصاد على الاعتقاد أن الثروة الاقتصادية جاءت من مزيج من «الموارد التي صنعها الإنسان» (كالطرق، والمصانع، والآلات، وأنظمة الاتصالات)، و«الموارد البشرية» (كالعمل الجاد، والتعليم) و«الموارد التقنية» (كالمعرفة التقنية، أو الآلات فائقة التكنولوجيا). ويبدو جليًّا أن الدول الفقيرة أضحت دولًا غنية بعدما استثمرت المال في مواردها الطبيعية، وطورت مواردها البشرية والتقنية عن طريق التعليم وبرامج نقل التكنولوجيا.

ما الخطأ إذن في هذه الصورة؟ لا خطأ حتى الآن. فالتعليم، والمصانع، والبنية التحتية، والمعرفة التقنية هي موارد بالفعل متوفرة بكثرة في الدول الغنية وتفتقر إليها بشدة الدول الفقيرة. ولكن الصورة هكذا ليست كاملة: فالبازل ينقصه أهم قطعه فيه.

وأول دليل على أن ثمة نقص في هذه الصورة التقليدية هو المعنى المتضمن بها، هو أن الدول الفقيرة كان عليها مواكبة الدول الغنية منذ نصف قرن أو يزيد. فكلما كانت متخلفة عنها بعدد سنوات أكبر، تحتم عليها مواكبتها أسرع؛ لأن الدول ذات البنية التعليمية أو التحتية الضعيفة، تحصل فيها الاستثمارات الجديدة على مميزات كبيرة. أما الدول الغنية، فلا يجني الاستثمار الجديد فيها إلا الربح الضئيل: ويسمي الاقتصاديون هذا الأمر بقانون «تناقص الغلة». فمثلًا، إذا رُصفت وعُبدت بعض الطرق في الدول الفقيرة، فسوف تفتح الباب نحو التجارة أمام مناطق جديدة تمامًا؛ في حين أن رصف بعض الطرق في الدول الغنية لن يساهم فقط سوى في تخفيف بعض الزحام. فتجد مثلًا أن خطوط الهاتف عند مدها للدول الفقيرة تكون لها أهمية عظيمة، أما في الدول الغنية، فيستخدم الأطفال الهواتف الجوالة في المدارس ليتبادلوا إرسال الرسائل النصية في الفصل. بالمثل، يتسبب بعض الاهتمام بالتعليم في الدول الفقيرة في إحداث طفرة؛ بينما في الغالب لا يجد معظم الحاصلين على شهادات أكاديمية في الدول الغنية الوظائف. وبالتأكيد فاختراع الدول الغنية للتكنولوجيا يكون مسألة أشق من مجرد قيام الدول الفقيرة بنقلها؛ فمواطنو دوالا مثلًا يمكنهم التمتع بسيارات الأجرة دون انتظار ظهور شركة كاميرونية مثل جوتليب دايملر تعيد اختراع محرك الاحتراق الداخلي من جديد.

وعندما تنظر إلى بلاد مثل تايوان، أو كوريا الجنوبية، أو الصين، التي تتضاعفت دخولها كل عشر سنوات أو أقل، تجد نظرية المواكبة نافذة المفعول. ولكن ما زال العديد من الدول الفقيرة لا ينمو بوتيرة أسرع من الدول الغنية؛ وفي حقيقة الأمر فإنها تنمو نموًّا بطيئًا، أو — كما في حالة الكاميرون — تزداد فقرًا. وفي محاولة علماء الاقتصاد العثور على قطعة البازل المفقودة، مزجوا بين نموذج «تناقص الغلة» وبين نموذج آخر يأخذ في اعتباره «تزايد الغلة»، وكان مفاد النظرية الجديدة أنه أحيانًا عندما تزيد الموارد، تزيد سرعه النمو: فالهواتف مفيدة إذا كان الجميع يملكونها، والطرق مفيدة إذا كان الجميع يملك السيارات؛ ويغدو من الأسهل اختراع التكنولوجيا إذا كان سبق لك اختراع الكثير من قبل.

تكشف لنا هذه المسألة عن السبب في ثراء الدول الغنية، وتخلف الدول الفقيرة عنها بكثير، إلا أنها لا تفسر كيف تقوم دول مثل الصين، وتايوان، وكوريا الجنوبية — ناهيك عن بتسوانا، وشيلي، والهند، وموريشيوس، وسنغافورة — بملاحقة ركب الدول الغنية. فهذه الدول الواثبة — بخلاف اليابان، أو الولايات المتحدة، أو سويسرا — حققت أسرع معدلات نمو اقتصادي على ظهر هذا الكوكب، والتي كانت نفسها تعاني من فقر مدقع منذ خمسين عامًا. وكانت تنقصها الموارد التي صنعها الإنسان، والموارد البشرية، والتقنية، وحتى الموارد الطبيعية أحيانًا. ثم شقت رحلتها نحو الثراء منذ ذلك الحين، فقامت خلالها بتطوير التعليم، والتكنولوجيا، والبنية التحتية.

ولم لا؟ فقد باتت التكنولوجيا أكثر توفرًا، وتزداد تكاليفها انخفاضًا، فهذا هو ما يجب أن يتوقعه خبراء الاقتصاد من كل دولة نامية. ففي عالم تتناقص فيه الغلة، تحصل أكثر الدول فقرًا على أقصى استفادة من التكنولوجيا الحديثة، والبنية التحتية، والتعليم. ولتنظر إلى كوريا الجنوبية على سبيل المثال التي نجحت في الحصول على التقنيات الحديثة بعدما حثت الشركات الأجنبية على الاستثمار فيها، أو بيع حقوق استخدامها. لم يكن الأمر مجانيًّا: فبجانب دفع رسوم استخدام التقنيات، كانت الشركات المستثمرة ترسل الأرباح التي حققتها إلى أوطانها. أما المكاسب التي تعود على كل من العمال الكوريين، والمستثمرين، في صورة نمو اقتصادي، فكانت أكبر خمسين مرة من الرسوم والأرباح التي خرجت من الدولة.

وبالنسبة إلى التعليم والبنية التحتية، فلما كانت الغلة تبدو مرتفعة للغاية، كان لزامًا توافر المستثمرين المستعدين لتمويل مشروعات البنية التحتية، أو إقراض الأموال للطلاب أو حتى للحكومة التي توفر التعليم المجاني. وكان لزامًا على البنوك المحلية والأجنبية أن تتسابق على منح القروض للمواطنين لمساعدتهم على الالتحاق بالمدارس، أو إنشاء طرق، أو محطات طاقة جديدة. كما كان لزامًا على الفقراء، أو على الدول الفقيرة، أن يكونوا سعداء للغاية للحصول على تلك القروض، وهم على ثقة أن عوائد الاستثمار ستكون مرتفعة، وأن سدادهم لتلك القروض لن يكون بالأمر الصعب. وحتى إن لم يحدث أي من هذا لأي سبب كان، فإن البنك الدولي، الذي أُسس بعدما وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها تحت هدف واضح هو إقراض الدول من أجل التنمية وإعادة الإعمار؛ يقدم قروضًا للدول النامية تقدر بمليارات الدولارات سنويًّا. ومن الواضح أن عدم توافر المال اللازم للاستثمار ليس هو القضية وإنما القضية هي إما لا توجد استثمارات، أو أنها لا تحقق العائد الذي تتوقعه منها النماذج التقليدية.

وحتى إذا أوحى نموذج «تزايد الغلة» أنه من الممكن بالنسبة للدول الفقيرة أن تصبح أكثر ثراءً طالما أنها قادرة على القيام بالعديد من الاستثمارات التكميلية في وقت واحد من أجل تصنيع السلع وتصديرها، كبناء المصانع، ورصف الطرق، وتوليد الكهرباء، وإنشاء الموانئ. وتسمى نظرية الاستثمار هذه بنظرية «الدفعة القوية» التي وضعها عالم الاقتصاد بول روزنشتين رودن Paul Rosenstein-Roden، الذي عمل لبعض الوقت في البنك الدولي في السنوات الأولى للبنك. وسواء كانت الدفعة القوية هي السبب أم لا، فقد استطاع العديد من الدول الفقيرة أن يحقق نموًّا سريعًا خلال العقود القليلة الماضية. فلماذا إذن لا يزال العديد من الدول متخلفًا عن ركب الازدهار الاقتصادي؟

(٢) نظرية «الحكومة قاطعة الطريق»

بينما كانت سيارتنا ترتطم بالسيارات الأخرى، وتترنح في بطء لتشق طريقها من بين جموع الناس من المشاة، كنت أحاول أن أعرف مِن السائق «سام» المزيد عن هذه الدولة.

وسألته: «متى كانت آخر مرة أُصلحت فيها هذه الطرق يا سام؟»

رد سام: «منذ حوالي تسعة عشر عامًا.»

(تولى الرئيس بول بيا Paul Biya السلطة في نوفمبر عام ١٩٨٢، وكان قد مر عليه في الحكم تسعة عشر عامًا أثناء زيارتي للكاميرون، وظل في منصبه حتى بعد زيارتي بأربع سنوات، أي حتى عام ٢٠٠٥. وأذكر أنه نعت خصومه مؤخرًا باسم «السياسيون الهواة» — ومن المؤكد أن يفتقرون للخبرة العملية المستمرة.)

وسألته: «ألا يشكو الناس من الطرق؟»

رد: «يشكون، ولكن لا شيء يتغير. فالحكومة تقول إنه ليس لديها المال لإصلاحها. ولكن هناك المال الوفير الذي يأتي من البنك الدولي، ومن فرنسا، وبريطانيا، وأمريكا، ولكن مسئولي الحكومة يضعونه في جيوبهم. ولا ينفقونه على الطرق.»

«هل توجد انتخابات في الكاميرون؟»

«نعم، توجد انتخابات. فالرئيس بيا يُعاد انتخابه دائمًا بأغلبية أصوات ٩٠٪.»

«هل يصوت له ٩٠٪ من الشعب؟»

«لا، فهو لا يتمتع بأي شعبية. ومع ذلك، ما زال يفوز بأغلبية أصوات ٩٠٪.»

ولا يحتاج المرء لقضاء وقت طويل في الكاميرون ليدرك كم يمقت الشعب الحكومة. فمعظم نشاط الحكومة يبدو أنه قد أعد على نحو واضح خصيصًا لسرقة المال من شعب الكاميرون. أذكر أنني قد حُذرت بشدة من فساد الحكومة، ومن أن المسئولين في المطار سيحاولون أن يريحوني من النقود التي أحملها معي، حتى إنني كنت متوترًا من ذلك الشأن أكثر من توتري خشية إصابتي بالملاريا، أو من التعرض لهجوم بغرض السرقة تحت تهديد السلاح في أحد الشوارع الخلفية بمدينة دوالا.

ومع ذلك، ينظر العديد من الكاميرونيين لرجال السياسة والموظفين الحكوميين بنظرة متفائلة، لأنهم يقدمون الخدمات للشعب ويفعلون كل ما في وسعهم لمراعاة مصالح الدولة. وهناك آخرون متشائمون يرون أن العديد من رجال السياسة غير مؤهلين، ودائمًا ما يفضلون فرص إعادة انتخابهم على مصلحة الشعب نفسه.

اقترح عالم الاقتصاد مانكور أولسون Mancur Olson افتراضًا ناجحًا، وهو أن دوافع الحكومة ما زالت سوداوية. ووضع نظرية بسيطة ورائعة تكشف السبب وراء كون أنظمة الحكم الدكتاتورية المستقرة تؤثر على النمو الاقتصادي على نحو أسوأ من الأنظمة الديمقراطية، في حين أنها أفضل من الأنظمة الفوضوية. وافترض أولسون أن الحكومات مجرد قطاع طرق معهم أسلحة فتاكة وأن أفرادها مجرد أناس يحتالون على الشعب ويسرقون كل شيء. كانت هذه هي نقطة البداية في تحليله، وهي نقطة البداية التي يتعين عليك قبولها إذا ذهبت إلى الكاميرون، ونظرت حولك لمدة خمس دقائق. أي كما قال سام: «هناك المال الوفير … ولكن مسئولي الحكومة يضعونه في جيوبهم.»

تخيل إذن أن دكتاتورًا لصًّا تولى زمام السلطة لمدة أسبوع، أي بالفعل سيكون هناك قاطع طريق وجيشه المتنقل الذي يزحف على البلاد، وينهب منها كل ما يريده، ثم يغادر. وإذا افترضنا أنه ليس بحاقد، ولا بصافي القلب، ولكنه شديد النفعية. فما الدوافع التي تردعه عن نهب كل خيرات البلاد؟ الإجابة لا توجد أي دوافع تردعه … إلا إذا كان يخطط أن يعود أدراجه العام المقبل.

ولكن تخيل أن هذا اللص المتجول أعجبه المناخ في بقعة معينة وقرر الاستقرار فيها، وبنى قصرًا، وحث جنوده على استغلال الشعب الذي استوطن أراضيه. وعلى الرغم من هذا السوء والظلم، فإن الوضع الاقتصادي للسكان المحليين ربما سيتحسن بعدما قرر الدكتاتور البقاء؛ إذ إن الدكتاتور الذي يتسم بالأنانية المحضة سيدرك على الفور أنه لا يمكنه تدمير الاقتصاد، وترك الناس يتضورون جوعًا، إذا كان يخطط للمكوث في البلاد، لأنه إذا استنزف كل مواردها لن يتبقى له ما يسرقه في العام المقبل. من هنا جرى النظر إلى الدكتاتور الذي يستولى على أرض ما على أنه قائد مرغوب فيه أكثر من ذاك الذي يتنقل باستمرار بحثًا عن ضحايا جدد ينهبهم.

ربما يبدو الأمر غير ذي صلة بالموضوع تمامًا، إلا أننا يمكننا أن نأخذ من علم الأحياء نموذجًا عن رجل الاقتصاد السياسي: تميل سُمية الفيروسات والبكتيريا إلى الانخفاض كثيرًا بمرور الوقت، لأن سلالاتها الأشد سمية تهلك بسرعة. أذكر أن مرض الزُهري، مثلًا، اكتُشف في أوروبا أول مرة في أواخر القرن الخامس عشر، ووُصِف على أنه مرض فتاك للغاية يقتل ضحاياه بسرعة. ولكن استراتيجية هذا المرض ليست بالاستراتيجية الناجحة إذ إن من مصلحة الفيروس ألا يترك ضحاياه يموتون، أو على الأقل لبعض الوقت، حتى يتسنى له الانتشار، وإيجاد مزيد من الضحايا. أما سلالات فيروس مرض الزهري المتحولة التي باتت تقتل المصابين بسرعة أقل، فكانت أكثر نجاحًا، وأطول حياة من السلالات الأشد فتكًا.

لازمت ذهني تلك الفكرة عن هذا التحول الذي يشهده الفيروس عندما كنت أفكر في الرئيس بيا، إذ لا يمكنني تأكيد أن وصف أولسون للدكتاتور النفعي ينطبق عليه. فإذا كان مثلما وصف أولسون، لن يصب في مصلحته أخذ الكثير من الشعب الكاميروني، فإن فعل ذلك، لن يتبقى له ما يأخذه العام المقبل. وكلما زاد شعوره بالأمان على كرسيه، لن يرغب أبدًا في قتل الدجاجة التي تبيض له بيضة ذهب. بل يستوجب عليه ترك الاقتصاد الكاميروني يعمل كي يظل يسرق منه دومًا، تمامًا مثل المرض الذي يعتمد وجوده على الأجسام التي يبليها. يكشف هذا عن أن القائد الذي يثق في بقائه في السلطة لمدة عشرين عامًا سوف يعمل على إصلاح الاقتصاد أكثر من ذاك الذي يود الهروب بعد عشرين أسبوعًا. ربما تكون العشرون عامًا التي يتولى فيها زمام الحكم «الدكتاتور المنتخب» خير من عشرين عامًا تتوالى فيها الانقلابات الواحد تلو الآخر. فهل نهتف: «يعيش الرئيس بيا؟!»

ليس معنى هذا أن مانكور أولسون في نظريته كان يتوقع عدم ممارسة الأنظمة الدكتاتورية المستقرة إلا الأفعال الرامية لمصلحة بلادهم. بل قصد أنهم حقًّا سيلحقون الخراب بالاقتصاد، ولكن بصورة أقل من الأنظمة غير المستقرة. أما قادة الدول أمثال بيا الواثقون من فوزهم الدائم في الانتخابات، فلا ينفكون عن إلحاق الأذى دائمًا بشعوبهم، واقتصاد بلادهم. فإذا سايرنا هذا الافتراض المبسط وقلنا إن بيا لديه السلطة المطلقة لتوزيع دخل الكاميرون، ربما سيقرر أن ينهب نصفه تقريبًا كل عام في صورة «ضرائب» تذهب في حسابه الشخصي في البنك. وبالتأكيد سيكون هذا حدثًا مشئومًا لضحاياه بالطبع، كما سيكون حدثًا مشئومًا أيضًا للنمو الكاميروني طويل المدى. هب أن تاجرًا صغيرًا يحاول استثمار مبلغ ١٠٠٠ دولار يشتري بها مولد طاقة جديد لورشته، ويتوقع أن يدر له استثمار مثل هذا مبلغ ١٠٠ دولار سنويًّا، أي عائد ١٠٪، الذي يعد عائدًا جيدًا. ولمّا كان الرئيس بيا سيستولي على نصفه، فسينخفض الرقم إلى رقم آخر غير جذاب ألا وهو ٥٪. من هنا يقرر رجل الأعمال عدم خوض هذا الاستثمار لتضيع بذلك عليه فرصة المكسب، كما تضيع على الرئيس بيا. وينطبق نفس هذا المثال المتطرف على الظاهرة التي ناقشناها في الفصل الثالث ألا وهي أن الضرائب تحقق اللافعالية. صحيح أن الضرائب التي يفرضها الرئيس بيا تعسفية وباهظة، إلا أن تأثيرها الأساسي على الاقتصاد سيكون مشابهًا في طبيعته.

بالتأكيد قد يكون للرئيس بيا استثماراته الخاصة لتشجيع التجارة كأن يشق الطرق، أو يبني الجسور، تلك الاستثمارات التي تكلف الكثير على المدى القصير، إلا أنها تساعد الاقتصاد على النمو مانحًا الفرصة إلى بيا كي يسرق فيما بعد، ولكن الجانب الآخر من المشكلة سوف يحدث أيضا: فقد يسرق بيا نصف الغلة فقط التي قد لا تكفي لحثه على توفير البنية التحتية التي تحتاجها الكاميرون. فعندما تولى بيا الحكم عام ١٩٨٢، ورث معه الطرق المتهالكة تمامًا التي تعود إلى العصر الاستعماري. فإذا كان قد ورث دولة بدون أي بنية تحتية، لكان من مصلحته أن يشيد بنية تحتية جيدة نوعًا ما. ولكن بما أن البنية موجودة بالفعل، احتاج بيا لوضع تقدير عمّا إذا كانت هذه البنية تستحق الإصلاح، أو أنه يستطيع ببساطة أن يعيش على تراث الماضي. وفي عام ١٩٨٢، ربما يكون ظن أن الطرق قد تتحمل حتى فترة التسعينيات، وهي الفترة التي كان يتوقع أن يظل في السلطة لحين بلوغها. وبناءً على هذا المبدأ، قرر العيش على رأس مال الماضي، ولم يشغل باله بإنشاء أي بنية تحتية لشعبه. فطالما كان يوجد منها ما يكفي ليظل في الحكم، لماذا يعبأ وينفق المال الذي يمكن أن يذهب مباشرة إلى حسابه الشخصي الذي يعده لما بعد تقاعده؟

هل ظلمت الرئيس بيا؟ ربما القليل. يقال إنه في انتخابات عام ٢٠٠٤، التي أجريت بعد زيارتي للكاميرون، حصل بيا على ٧٥٪ من الأصوات، وهي النسبة التي اعتبرها كثير من المراقبين أنها أخيرًا نسبة عادلة نوعًا ما. وفقًا لنظرية أولسون، فإن القائد الذي يبتغي أن يحفظ لنفسه أعلى تأييد ممكن لسياساته يجب أن ينفق قدرًا أكبر من عائدات الحكومة على السلع والخدمات التي تخلق الثروة كالطرق والمحاكم، وأن يقلل ما ينفقه على نفسه وأصدقائه. أما حقيقة أن بيا أخفق في القيام بهذا، واستطاع البقاء في السلطة فهي تثير سؤالين:
  • الأول: هل من الجائز أن الانتخابات لم تكن ديمقراطية كما استنتج بعض المراقبين؟
  • والآخر: هل بيا قادر على تقديم السلع والخدمات التي تخلق الثروة إذا أراد؟

(٣) قطاع طرق، قطاع طرق في كل مكان

ربما لا يكون الرئيس بيا مسيطرًا مثلما يبدو لأول وهلة. فإذا كنت تود أن تسافر من مدينة بويا حتى مدينة باميندا Bamenda في الشمال، فستجد أن ركوب الحافلة أكثر الطرق شعبية للقيام بالرحلة ولاسيما «الميني باص» الذي يعد وسيلة السفر بين الأماكن البعيدة في الكاميرون. وعلى الرغم من أنها صُممت لتتسع لعشرة أشخاص جالسين مستريحين، فإنها لا تنطلق إلا بعد ركوب ثلاثة عشر راكبًا. ولا عجب إذن أن المقعد الواسع نسبيًّا بجوار مقعد السائق يستحق التعارك عليه. صحيح أن المركبات متهالكة وقديمة، ولكن النظام يعمل جيدًا.

ومع ذلك فالنظام كان سيحقق نتائج أفضل كثيرًا لولا السيطرة الخبيثة للحكومة. وأحيانًا يكمن حل المشكلة في تجاهلها ببساطة. فمثلًا، يمر الطريق الأسرع من مدينة بويا إلى مدينة باميندا، الذي ليس بالضرورة خط السير المستقيم، خلال المنطقة التي تتحدث الفرنسية في الكاميرون ذات الطرق الأفضل. فإذا أردت الوصول أسرع عليك أن تسلك الطريق شرقًا لمدة ساعتين، ثم شمالا لمدة ساعتين، ثم غربًا لمدة ساعتين. وهذه الطريقة أسرع بكثير من القيادة في خط مستقيم شمالًا على الطرق المروعة التي تمر خلال المنطقة التي تتحدث الإنجليزية في الكاميرون؛ إذ إن حكومة بيا تتجاهل مراعاة مصالح مناطق الأقلية التي تتحدث الإنجليزية والتي ليس لها نفوذ سياسي. يشكو سكان مناطق الأقلية التي تتحدث الإنجليزية من أنه عندما قام المتبرعون بتمويل بناء طريق الكاميرون السريع، لم تفعل الحكومة سوى إرسال إيصالات استلام المبالغ لهم ولم تقم ببناء الجزء الذي يمر بالقسم المتحدث بالإنجليزية.

أما العائق الثاني في هذا الطريق المستقيم، فهو الأعداد الكبيرة من الحواجز التي يقيمها رجال الشرطة المستأسدون، الثملون في معظم الأحيان، لإيقاف كل سيارة «ميني باص»، ومحاولة انتزاع الرشا من ركابها بأقصى ما في وسعهم من جهد. صحيح تخيب معهم هذه الطريقة عادةً، ولكنهم من حين إلى آخر يصممون على نجاحها. يذكر صديقي أندرو أنهم أنزلوه مرة من الحافلة، وتعرض لمضايقاتهم لعدة ساعات. وأخيرًا كانت حجتهم للحصول على رشوة منه أنه لم يكن معه شهادة تطعيم ضد الحمى الصفراء، التي يحتاجها المرء عند دخول البلاد، ولكن ليس عند ركوب الحافلة. وشرح له الشرطي باستفاضة أن الكاميرون لا بد من حمايتها من هذا المرض ولكن ثمنُ زجاجتين من الجعة أقنعه أن الوباء قد قُضي عليه بالفعل، ثم لحق أندرو بالحافلة التالية بعد ثلاث ساعات.

وهذا أقل فعالية بكثير من النموذج الذي طرحه مانكور أولسون، إذ إن أولسون نفسه اعترف أن نظريته — في أكثر صورها تطرفًا — لم تدرك الحجم الهائل للضرر الذي تُبتلى به الشعوب من الحكومات الفاسدة. فالرئيس بيا يريد أن يظل مئات الآلاف من قوات الشرطة والجيش سعداء، وكذلك العديد من موظفي الحكومة، ومعاونيه الآخرين. وإذا كان بيا يحكم في ظل نظام حكم ديكتاتوري «مثالي» لكان قد فرض أقل الضرائب ضررًا بأي مقدار يراه ضروريًّا، ثم يوزع العوائد على الأتباع والمؤيدين. ولكن اتضح أن هذا الأسلوب غير ملائم لأنه يتطلب توافر مزيد من المعلومات، ومزيد من الهيمنة على الاقتصاد أكثر مما يمكن أن تفعله حكومة فقيرة ليبقى خيارها الوحيد فساد واسع النطاق تجيزه الحكومة.

والفساد لا يحقق الظلم فحسب، بل إنه مصدر إهدار فادح أيضًا. فرجال الشرطة يقضون أوقاتهم في مضايقة الركاب حتى يحصلوا منهم على عوائد متواضعة. والتكاليف هائلة. فتجد قوة شرطة بأكملها منهمكة في انتزاع الرشا غافلة عن القبض على المجرمين. ورحلة السيارة التي تستغرق أربع ساعات أضحت تستغرق خمس ساعات. أما الركاب، فيضطرون لاستخدام وسائل مكلفة لحماية أنفسهم: فلا يحملون معهم إلا النقود القليلة، ويقللون من أسفارهم، أو يسافرون في أوقات الذروة من النهار أو يحضرون معهم نسخًا إضافية من كل المستندات التي يحتاجونها في محاولة منهم لتجنب التعرض لعمليات ابتزاز الرشا.

صحيح أن حواجز الطرق، وضباط الشرطة المجرمين يعتبران أحد أشكال الفساد الجلية. ولكن ثمة ما يشبه حواجز الطرق في كل أركان الاقتصاد الكاميروني، ألقي البنك الدولي الضوء عليها عندما بدأ مؤخرًا في جمع البيانات عن قوانين العمل البسيطة، واكتشف البنك أن بدء مشروع صغير لا يتم إلا عندما يدفع صاحب المشروع رسومًا تقترب من دخل المواطن الكاميروني العادي في سنتين. (حتى إن ما أنفقته للحصول على الفيزا كسائح يعد مبلغًا تافهًا إذا قورن بهذا الرقم). ويتكلف شراء وبيع العقارات ما يقترب من خُمس قيمتها. ولكي تجعل المحاكم تنفذ القانون فيما يخص فاتورة لم يتم دفع قيمتها، فقد يستغرق الأمر حوالي عامين كما قد يتكلف ما يزيد عن ثلث قيمة الفاتورة، ويتطلب اتخاذ ثمانية وخمسين إجراءً منفصلًا. تعتبر هذه القوانين السخيفة من الأنباء الطيبة للبيروقراطيين الذين يضعونها موضع التنفيذ؛ إذ إن كل إجراء لا يخرج عن كونه فرصة لانتزاع رشوة. وكلما كانت عملية القيام بالإجراءات أكثر بطئًا، زادت فرص دفع الأموال لتحريكها أسرع، الأمر الذي يسفر عن تأييد عدد غفير من مسئولي الحكومة للرئيس بيا بشكل أكبر ليدعم به بقاءه في السلطة.

ومع ذلك فهذه ليست النتيجة الوحيدة. يساعد تعنت قوانين العمل على التأكد من أن الرجال المحترفين ذوي الخبرة فقط هم من يحصلون على العقود الرسمية؛ أما النساء والشباب فعليهم تحمل مسئولية أنفسهم في السوق الرمادية Gray market. وتظل الإجراءات الرسمية البيروقراطية معوقًا أمام المشروعات الجديدة. تعني المحاكم البطيئة في إجراءاتها أن أصحاب الأعمال سيجبرون على ترك العديد من الفرص الجذابة لكسب الزبائن الجدد؛ لأنهم يعلمون أنهم لن يتمكنوا من حماية أنفسهم متى تعرضوا لعمليات غش. وأسوأ الأمثلة على هذه القوانين تجدها في الدول الفقيرة، وهذا أحد الأسباب الرئيسية وراء فقر هذه الدول؛ إذ إن حكومات الدول الغنية تقوم عادة بتنفيذ تلك المهمات البيروقراطية الأساسية على نحو أسرع، وأرخص ثمنًا، في حين أن حكومات الدول الفقيرة لا تنفك عن إطالة هذه العملية على أمل سرقة بعض النقود الإضافية من المواطنين.

(٤) الأعراف مهمة

إن كل ما تقوم به الحكومة من قطع للطريق، والفساد المنتشر، والقوانين القمعية التي وضعت لتسهيل ابتزاز الرشا كلها عناصر من القطعة المفقودة من لغز النمو والتنمية. وأذكر أن رجال الاقتصاد ممن يعملون في قضايا التنمية كانوا يلتفون حول شعار «الأعراف مهمة» طوال السنوات العشر الماضية تقريبًا. ومن الصعب بالطبع أن تصف ما هو «العرف»، حتى إنه من الأصعب تحويل العرف السيئ إلى آخر جيد.

ولكن ثمة تقدم في ذلك الشأن آخذ في الحدوث، فنظرية مانكور أولسون عن الحكومة قاطعة الطريق تساعدنا على الفهم على نحو مبسط، كيف يمكن أن تؤثر أنواع الحكومات المختلفة على دوافع كل أفراد الشعب، بالرغم من أنها تعطينا فكرة ضئيلة فقط عن كيفية تحسين وضعنا الراهن.

ويعطينا قياس البنك الدولي للإجراءات الرسمية البيروقراطية فهمًا ممتازًا لأحد أنواع الأعراف ألا وهو قوانين العمل البسيطة. ويوضح لنا كيف يمكن لبعض الدعاية البسيطة أن تعمل على تطوير بعض هذه الأعراف. فمثلًا، بعدما أعلن البنك الدولي حقيقة أن أصحاب المشروعات في إثيوبيا لا يمكنهم البدء قانونيًّا في تنفيذ مشروعاتهم دون دفع ما يعادل راتب أربع سنوات لنشر إعلان رسمي عن بدء نشاط شركاتهم في الصحف الحكومية، استجابت الحكومة الإثيوبية أخيرًا وقررت إلغاء تلك القوانين. وبعدها على الفور قفز معدل تسجيل الشركات الجديدة بحوالي ٥٠٪.

وللأسف، ليس من السهل دائمًا دفع الحكومات الفاسدة لتُغير أساليبها. فمع أنه يزداد وضوحًا يومًا بعد يوم أن الأعراف الفاسدة هي مفتاح لغز فقر الدول النامية، فمعظم الأعراف يصعب وصفها في ظل نموذج جذاب مثل نموذج مانكور أولسون أو حتى في ظل بيانات جُمعت بدقة من جانب البنك الدولي، فمعظم الأعراف البائسة تجدها بائسة بطبيعتها.

(٥) أسوأ مكتبة في العالم

تسببت إحدى الأعراف ذات النتائج العكسية في وجود أسوأ مكتبة في العالم. فبعد مرور بضعة أيام أثناء زيارتي للكاميرون، توجهت لزيارة إحدى مدارسها الخاصة ذائعة الصيت، وأكثرها هيبة، التي تعادل تقريبًا مدرسة إيتون Eton في بريطانيا. لم تكن المدرسة بعيدة عن مدينة باميندا، وكانت أرضها والحدائق المحيطة بها خليطًا من الغريب والمألوف: تذكرت كثيرًا مدرستي القديمة في بريطانيا عندما رأيت الفصول الواقعة على ارتفاع منخفض من سطح الأرض، والتي لم تتكلف الكثير في بنائها وهي محيطة بفناء اللعب. ولكن لم يذكرني بها الطريق الذي تحفه الأشجار والمرصوف ببلاط مختلف الأشكال والأحجام، والذي كان يقطن فيه كل المعلمين.
أخذتنا أمينة مكتبة المدرسة في جولة بها، وقد كانت متطوعة في منظمة «ڨي إس أو» VSO التطوعية التي تتخذ من بريطانيا مقرًا لها والتي تهدف إلى توظيف المتطوعين المهرة في أكثر الأماكن احتياجًا لوجودهم في الدول الفقيرة. وكانت المدرسة تتباهى بأن بها مبنيين منفصلين للمكتبة، ومع ذلك لم تكن أمينة المكتبة سعيدة؛ الأمر الذي عرفت سببه على الفور.
كانت المكتبة تبدو غاية في الروعة للوهلة الأولى؛ إذ إنها المبنى الوحيد المكون من طابقين في المدرسة باستثناء منزل مديرة المدرسة الفخم. كما كان تصميمها فريدًا حيث جاء مشابهًا لتصميم دار أوبرا سيدني، ولكنه جاء بمنزلة الصورة الفقيرة للأوبرا. وبدلًا من أن يتدلى السقف المنحدر لأسفل من نقطة مرتفعه نجد أنه قد ارتفع من وادي رئيسي لأعلى على شكل V على نحو جعله يشبه الكتاب المفتوح الموضوع على حامل.

وبالرغم من تصميمه المبتكر، إلا أني كنت متأكدًا أن ما سأشاهده في المكتبة الجديدة المبهرة سوف يدوم في ذاكرتي أكثر من المبنى نفسه. وفي موقعه الذي يجعله عرضة لحرارة الشمس الحارقة في فصل الجفاف في الكاميرون، من الصعب على الرائي من أول وهلة ملاحظة المشكلة التي يخلفها سقف يبدو ككتاب مفتوح عملاق. ولكنك يمكن أن تتناسى مثلما تناسى المهندس المعماري للسقف أن الكاميرون بها موسم لسقوط الأمطار. فحينما تمطر السماء في الكاميرون فهي تمطر لخمسة أشهر متواصلة، وتنهمر بقوة حتى إن المصارف والقنوات الهائلة الحجم المخصصة لتصريف مياه الأمطار سرعان ما تفيض. وعندما يلتقي هذا النوع من المطر مع سقف غير مزود ببالوعات صرف يتحول السقف نفسه إلى بالوعة صرف تصب الماء على القاعة ذات المدخل المسطح، فحينئذ تعرف أنه قد آن الأوان لوضع الكتب في أغلفة من البلاستيك.

والسبب الوحيد في أن كتب المدرسة ما زالت موجودة حتى الآن هو أنها لم توضع يومًا في المبنى الجديد؛ فقد كانت أمينة المكتبة تأبى باستمرار طلب مديرة المدرسة بنقلها من المكتبة القديمة إلى المكتبة الجديدة. من هنا فهمت أن مديرة المدرسة كانت رافضة بشدة وجودي عندما خطوت إلى داخل مبنى المكتبة الجديد لأرى الخراب، كانت معظم أجزاء المكتبة قد تدمرت. احتوت الأرضية على بقع ناتجة عن أعداد لا تحصى من البرك الموحلة التي تسببت بها مياه الأمطار. وكان الهواء يحمل رائحة عفنة، تجعلني أنظر إليها وكأنها كهف رطب من كهوف أوروبا وليس مبنى حديثًا عند خط الاستواء. كما كان الجص يخرج من الجدران بحيث أصبح المنظر أشبه بلوحة جدارية بيزنطية يعود تاريخها إلى ألف عام مضى، مع أن المبنى لا يتجاوز عمره الأربع سنوات فقط.

يا له من إهدار فادح للموارد. فبدلًا من بناء تلك البناية الجديدة، كان يمكن للمدرسة شراء أربعين ألف كتاب جيد، أو شراء أجهزة الحواسب الآلية التي يمكن وصلها بالإنترنت، أو تمويل منح دراسية للأطفال الفقراء. فأي من هذه البدائل كان سيعد أفضل على نحو لا يضاهى من هذا المبنى الجديد غير الصالح للاستخدام. هذا بخلاف حقيقة أن المدرسة لم تحتج يومًا إلى مبنى جديد للمكتبة من الأساس، فالمبنى القديم يؤدي مهمته على أكمل وجه، ويمكنه استيعاب كتب تزيد ثلاث مرات عن الكتب التي تقتنيها المدرسة، كما أن به عازلًا ضد الماء.

السبب وراء تصميم المكتبة غير المناسب هو أن وجود المكتبة لم يكن ضروريًّا، ففي النهاية لم يكن أحد يهتم بما إذا كان المبنى مناسبًا من الناحية المعمارية أم لا، فلم يكن هناك داع له. ولكن إذا لم يكن هناك مغزى من وجود المكتبة، فلماذا بُنيت في المقام الأول؟

دائمًا يُنسب إلى نابليون قوله: «إياك أن تنسب إلى التآمر أمورًا يمكن أن يُعزى حدوثها إلى عدم الكفاءة.» وهذه هي النتيجة الطبيعية: فعدم الكفاءة هي كبش فداء سهل لما يحدث في الكاميرون. فكل ما يراه السائح في هذه البلد يدفعه إلى أن يهز كتفيه وينسب فقر الكاميرون إلى حمق شعبها. وتبدو المكتبة دليلًا دامغًا على هذا ولكن الحقيقة أن الشعب الكاميروني ليس أكثر ذكاء أو أكثر غباء من باقي الشعوب. إذ تجد الأخطاء التي تعود للغباء واسعة الانتشار في الدولة إلى درجة أن عدم الكفاءة لا يمكن أن يكون السبب المناسب الذي نبحث عنه، فثمة شيء يؤدي هذه المهمة على نحو يخضع لخطة منظمة. وأكرر من جديد إننا في حاجة لمراجعة حوافز صناع القرار.

أولًا: تعد بلدة بافوت Bafut الصغيرة مسقط رأس معظم المسئولين الكبار عن التعليم في شمال غرب الكاميرون. ولمّا كان هؤلاء المسئولون يسيطرون على أموال نظام التعليم التي يوزعونها على أساس العلاقات الشخصية وليس الحاجة؛ فقد بات يُطلق عليهم اسم «مافيا بافوت». ولم يكن من الغريب أن مديرة هذه المدرسة الخاصة المرموقة عضوة كبيرة في مافيا بافوت. ولأنها رغبت في تحويل مدرستها إلى جامعة، كان السبيل الوحيد أمامها بناء مكتبة بنفس حجم ونوعية مكتبات الجامعات. ولم تر المديرة أية أهمية لحقيقة أن المكتبة الموجودة بالفعل كانت تكفي وتزيد، وأن أموال دافعي الضرائب يمكن أن يتم إنفاقها بسُبل أخرى أفضل، أو بواسطة مدارس أخرى.

ثانيًا: لم يكن هناك من يراقب نفقات مديرة المدرسة؛ إذ لم يكن أعضاء هيئة التدريس يحصلون على العلاوات، أو الترقيات التي تعتمد على الكفاءة، وإنما تلك التي تعتمد تمامًا على قرارات المديرة. ولمّا كانت المدرسة مرموقة ذات ظروف عمل جيدة بالنسبة للمعلمين، لم يفكروا في التخلي عن وظائفهم فيها، مما يعني أن علاقتهم بالمديرة يجب أن تظل جيدة. وفي الواقع، كان الشخص الوحيد الذي لديه القدرة على عصيان المديرة هو أمينة المكتبة التي لا تخضع للمُساءلة إلا من قِبَل المقر الرئيسي للمنظمة التطوعية البريطانية في لندن. صحيح أنها انتقلت إلى العمل في المدرسة بعد بناء المكتبة، ولكنها على الأقل جاءت في الوقت المناسب لتحول دون نقل مجموعة الكتب إليها وتدميرها. أما مديرة المدرسة، فإما أنها كانت شديدة الغباء بحيث لم تدرك أن الماء يفسد الكتب، أو أنها لم تكن تكترث كثيرًا بشأن الكتب، وأرادت ببساطة أن توضح أن المكتبة بها بعض الكتب. ويبدو أن الاحتمال الثاني أرجح.

ولمّا كانت الأموال تحت إمرتها، ولا يستطيع أحد الاعتراض على تبذير الأموال بإنفاقها على بناء مبنى ثانيًا للمكتبة، كانت مديرة المدرسة تسيطر على المشروع سيطرة تامة. حتى إنها طلبت إلى أحد طلاب المدرسة السابقين أن يصمم لها المبنى، ربما لتوضح نوعية التعليم الذي تقدمه هذه المدرسة، وبالفعل نجحت في إثبات شيء ما وإن لم يكن الشيء الذي قصدته. ولكن مهما كان المهندس المعماري يفتقر إلى الخبرة أو الكفاءة، فإن عيوب التصميم كان يمكن اكتشافها إذا كان لدى أي شخص يعنيه الأمر اهتمام حقيقي بمسألة التيقن من أن المكتبة تؤدي الغرض منها كمكتبة. ولكن لم يكن هذا محور اهتمام أي من أصحاب المناصب، بل كان اهتمامهم كله مُنصبًّا على وضع «شيء ما» يؤهل المدرسة لأن تصبح جامعة.

لنتأمل هذا الموقف: مال يُمنح بسبب شبكة العلاقات الاجتماعية وليس الحاجة؛ ومشروع نُفذ لغرض الوجاهة وليس للاستخدام، عدم وجود مراقبة أو مساءلة، وتعيين مهندس معماري لغرض التظاهر بواسطة شخص غير مهتم بجودة العمل. النتيجة المتوقعة: مبنى كان من الأفضل ألا يتم بناؤه في المقام الأول، ولكن بُني أيضًا بطريقة سيئة.

والمغزى من هذه القصة هي أن المسئولين الطموحين الذين يسعون وراء مصالحهم الخاصة هم في الغالب السبب وراء التبذير في الدول النامية، حتى إن الواقع أكثر قتامة من هذا. فالمسئولون الطموحون الذين يسعون وراء مصالحهم الخاصة والذين يشغلون مناصب حكومية، سواء كانت مناصب كبيرة أو صغيرة، موجودون في كل مكان في العالم. صحيح أنه في كثير من البلدان تنجح القوانين والصحافة، والمعارضة الديمقراطية في وضع هؤلاء تحت السيطرة ولكن المأساة في الكاميرون هي أنه لا يوجد شيء يمكن أن يضع المصلحة الشخصية تحت السيطرة.

(٦) وتعقدت الأمور — الدوافع والتنمية في نيبال

يعطي نظام التعليم الكاميروني المسئولين عنه نوعًا من الدوافع غير الصحيحة مفادها أن تعليم الأطفال آخر ما يمكن أن يتربحوا من ورائه، وعليه، فهو آخر ما يركزون عليه.

أما مشروعات التنمية الأخرى فتتضمن شبكة، أكثر تعقيدًا، من الدوافع غير المألوفة. كشف الخبير الاقتصادي إلينور أوستروم Elinor Ostrom مثالًا منها بعد أن درس بالتفصيل أنظمة الري المعقدة في نيبال. فإلى جانب السدود والقنوات القديمة التقليدية في نيبال، كان هناك بعض السدود الخرسانية، والقنوات الحديثة التي صممها المهندسون الخبراء، ومولتها تبرعات منظمات دولية كبيرة. فأيهما كان يعمل بشكل أفضل، ولماذا؟

عندما سمعت عن هذه الدراسة ظننت أن بإمكاني تخمين مفادها. كان يبدو جليًّا أن التصميمات الحديثة، ومواد البناء، والهندسة، والتمويل الضخم؛ يجب أن تخلق نظام ري أفضل من جموع المزارعين الذين يستخدمون الطمي والعصي، أليس هذا صحيحًا؟ نعم غير صحيح.

نمتلك الآن معرفة جيدة ونعرف أن مشروعات السدود الكبيرة نادرًا ما تتناسب مع الظروف الداخلية في هذه البلدان، والحقيقة أن «السد الصغير كان أفضل»؛ إذ إن السُبل التي كان يتبعها أبناء البلد، والمعرفة التقليدية التي تتوارثها الأجيال على مدار السنين كانت أفضل كثيرًا، أليس هذا صحيحًا؟ لا، هذا غير صحيح أيضًا.

ما يحدث في نيبال أكثر إثارة بكثير من تلك الفروض المفرطة في التبسيط. نجح أوستروم في الكشف عن مفارقة واضحة، يذهب أول جزء منها إلى أن السدود الحديثة التي صُممت وبُنيت بحرفية تتسبب في خفض كفاءة وفعالية أنظمة الري. أما الجزء الثاني من المفارقة، فيذهب إلى أنه عندما يدفع المتبرعون لبناء قنوات الري، أو لتعزيزها بالمواد الحديثة، فإنها تبنى بطريقة تحسن من نظام الري، وتوصل مزيدًا من الماء لمزيد من البشر.

فلماذا يمكن للمتبرعين شق قنوات ري ذات كفاءة، ولا يمكنهم بناء سدود ذات كفاءة؟ بالتأكيد هناك شيء يحدث أكثر تعقيدًا من المناقشة البالية بين الخبرة الفنية الحديثة والمعرفة التقليدية. تتراءى الحقيقة أكثر لمن يحاول تحليل دوافع جميع المعنيين بالأمر.

لنبدأ بالفكرة الواضحة من أن أي مشروع يكون لديه فرصة كبيرة للنجاح إذا كان منفذوه هم من سيستفيدون من نجاحه. وعلى الفور يكشف هذا لنا النقاب عن السبب وراء الميزة التي تتمتع بها الطرق التقليدية الموجودة بالفعل، ألا وهو ليس لأن هذه الطرق التقليدية تكشف عن حكمة الأصالة (التي قد تكون سببًا بالفعل)، ولكن لأن من صممها، وبناها، وقام بإصلاحها، هم المزارعون أنفسهم الذين يستخدمونها. فبعكس السدود، والقنوات الحديثة التي صممها المهندسون الذين لن يتضوروا جوعًا إذا فشلت هذه السدود، والذين أسند إليهم هذه المهمة موظفون حكوميون لا تتأثر وظائفهم بالنجاح أو الفشل في عملهم، والذين منحوا التمويل من مسئولين في مؤسسات مانحة تميل إلى تقييم أدائهم بالإجراءات وليس بالنتائج. من هنا، يبرز لنا على الفور السبب في أن المواد الأفضل، والتمويل الضخم لا يؤديان بالضرورة إلى النجاح.

ومتى نظرنا إلى الأمر من زاوية أعمق، نجد أن أنظمة الري يجب أن تتم صيانتها لتكون صالحة للاستخدام. ولكن من سيقوم بأعمال الصيانة لها؟ فكل من المؤسسات المانحة وموظفي الحكومة ليسوا مهتمين بعملية الصيانة مثلما هو مفترض؛ فمعظم ترقيات موظفي الحكومة النيباليين تعتمد على الأقدمية، وقد ينالونها أحيانًا بسبب اشتراكهم في إنشاء مبانٍ «مرموقة». أما الصيانة، فهي بمنزلة الوظيفة التي لا تمنح أي فرصة للتقدم فيها، بغض النظر عمّا إذا كانت تعود على المزارعين بالفائدة أم لا. فما الذي سيجعل موظف الحكومة يسافر إلى مكان بعيد عن مدينة كاتاماندو Kathmandu التي تتسوق فيها زوجته ويذهب فيها أبناؤه إلى المدرسة؛ لكي يشرف على مهمة حقيرة لا تنتهي؟ وبالإضافة إلى ذلك، فإن الرشوة دائمًا ما تكون مصدر دخل محتمل لموظفي الحكومة، وتقدم عقود الإنشاءات الكبيرة فرصًا أكبر للتربح من الرشاوى عن تلك التي توفرها أعمال الصيانة.
ومثل موظفي الحكومة، تعمل المؤسسات المانحة في ظل قيود تفضل مشروعات البناء الكبيرة. وتحتاج كل المؤسسات المانحة إلى المشروعات باهظة التكاليف؛ لأنها إذا فشلت في إنفاق المال فمن المحتمل ألا تستطيع جمع المزيد منه. بالإضافة إلى هذا، تجد العديد من منظمات المساعدة الثنائية، مثل الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية USAID، تتقيد بتقديم أنواع محددة من المساعدة، فمثلًا: على المنظمة أن تستخدم معدات تشتريها من الولايات المتحدة التي عادة ما تكون ثقيلة وذات تكنولوجيا عالية الجودة. ولمّا كانت الجرافات تستخدم في بناء السدود أكثر من استخدامها في أعمال صيانتها، فإن النتيجة تكون بدورها هي تفضيل مشروعات البناء الكبيرة. وحتى إذا لم تكن المؤسسة المانحة منحازة إلى المشروعات الكبيرة، فستظل مضطرة للاعتماد على المعلومات التي تصلها من موظفيها ومستشاريها المحليين، الذين يكون لديهم — في معظم الأحيان — نفس دوافع موظفي الحكومة.

صحيح أن كل هذا يبدأ في تفسير السبب في أن من يأمرون بتنفيذ المشروعات الكبيرة لا يهتمون بنفس القدر الذي يهتم به الفلاحون بمسألة إنشاء مشروعات فعالة وغير مكلفة، ولكنه لا يفسر اكتشاف أوستروم أن السدود الممولة بالتبرعات لا تزيد الأمور إلا سوءًا، كما أنه لا يفسر أيضًا السبب في أن قنوات الري الممولة بالتبرعات تؤدي وظيفتها على أكمل وجه بغض النظر عمّا إذا كان من يأمرون بتنفيذها مهتمين بأن تؤدي الغرض منها أم لا. ولفهم السبب، يجب علينا التفكير في المزارعين أنفسهم.

فلا أحد إلا المزارعين يهتم بصدق بصيانة نظام الري بمجرد بنائه، وهذه ليست بمعضلة، فقبل بناء أي نظام ضخم للري الحديث، كان لزامًا على المزارعين القيام بأعمال الصيانة للأنظمة التقليدية. فإذا كان بوسعهم صيانة الأنظمة القديمة، ألا يسعهم صيانة الأنظمة الجديدة أيضًا؟ تتطلب الصيانة القيام بمهمتين أخريين كبيرتين هما الحفاظ على سلامة السد وتنظيف القنوات من أي عوالق. ويتطلب هذا الكثير من العمل الشاق الذي لن يكترث المزارعون بالقيام به ما لم يشعروا بالمنافع، وهذا الأمر من المحتمل أن يؤدي إلى مشكلة؛ فبينما يرغب كل المزارعين في سلامة السد، فإن المزارعين المجاورين للسد لا يهتمون كثيرًا بما يحدث لقنوات الصرف التي تقع بعيدًا عنهم. فلماذا عليهم أن يهتموا؟ ومن حسن الحظ، توصلت معظم المناطق الزراعية في نيبال إلى اتفاقية تعاون؛ ففي الوقت الذي تختلف فيه التفاصيل فإن المبدأ العام هو أن يظل المزارعون الذين تقع أراضيهم في اتجاه مجرى النهر يساعدون في صيانة السد مقابل تلقيهم المساعدة في صيانة القنوات. وهذا جيد حتى الآن.

فإذا دفعت إحدى المنظمات المانحة المال من أجل إنشاء قناة خرسانية جديدة، فستتحول الأمور نحو الأفضل؛ فالقنوات الجديدة خير من القديمة، وتنقل ماء أوفر، وتتطلب أعمال صيانة أقل. ولكن إذا دفعت هذه المنظمة المانحة مبلغًا كبيرًا من أجل بناء سد جديد، فسينهار كل شيء. ليس لأن السد نفسه سينهار، ولكن العكس. فلأن السد الخراساني يحتاج لأعمال صيانة أقل بكثير من السد العادي، لن تفلح حينئذٍ اتفاقية التعاون التي كانت تحافظ على صيانة نظام الري بأكمله. وستنهار الصفقة المتوارثة. فالمزارعون القاطنون أعلى النهر لن يستمروا في تنظيف القنوات مقابل حصولهم على مساعدة المزارعين أسفل النهر في صيانة السد؛ فالمزارعون القاطنون أعلى النهر لم يعودوا في حاجة إلى المساعدة، ولهذا فإن المزارعين أسفل النهر لم يعد لديهم ما يقدمونه من جانبهم في هذه الصفقة.

من هنا باءت العديد من أنظمة الري الحديثة في نيبال بالفشل لأنه على الرغم من أن الخصائص الفنية للنظام ربما تكون قد شهدت تحسنًا فإن الخصائص البشرية للنظام لم يجرِ التفكير فيها والتعامل معها على الإطلاق.

يعتبر هذا المثال من نيبال دليلًا آخر على أنه إذا عجز المجتمع عن توفير الدوافع المناسبة للتصرف على نحو منتج، فلن ينقذه من الفقر أي قدر من البنية التحتية الفنية. فمشروعات التنمية غالبًا ما يأمر بتنفيذها أناس لديهم اهتمام كبير بنجاحها وليس اهتمام كبير بالرشا والتقدم الوظيفي. فإذا كانت كفاءة المشروع تحظى بأقل قدر من الاهتمام، فلا عجب إذا لم يحقق أهدافه المفصح عنها. وحتى وإن حقق المشروع أهدافه «الحقيقية» ألا وهي إثراء البيروقراطيين، وحتى إذا كان المشروع من تلك المشروعات التي سيجري تنفيذها إن كان هدفها الحقيقي هو التنمية، فسوف تفسد الرشا وغيرها من الوسائل الملتوية الأخرى كل شيء.

(٧) هل ثمة فرصة للتنمية؟

دائمًا ما ينصب اهتمام المعنيين بالتنمية على مساعدة الدول الفقيرة لتصبح أكثر ثراء بتحسين نظام التعليم الأساسي، والبنية التحتية مثل الطرق والتليفونات، وهذا بالتأكيد تفكير رشيد. ولكن لسوء الحظ أن كل هذا ما هو إلا جزء ضئيل فقط من المشكلة. اكتشف علماء الاقتصاد — الذين تدارسوا الإحصاءات، وعنوا بدراسة البيانات غير المألوفة مثل الدخل المالي الذي يحققه الكاميرونيون في الكاميرون والذي يحققه الكاميرونيون المهاجرون إلى الولايات المتحدة — أن التعليم والبنية التحتية والمصانع لا تفسر السبب في الفجوة بين الأغنياء والفقراء. ربما تكون حالة الفقر في الكاميرون تضاعفت بسبب نظام التعليم السيئ للغاية، وبسبب بنيتها التحتية المذرية. ولذلك فإذا كان من الجائز توقع أن تكون الكاميرون أفقر أربع مرات فقط من الولايات المتحدة، فسنجد أنها أفقر منها بخمسين مرة. والأهم من ذلك، لماذا لا نرى الشعب الكاميروني يحاول أن يفعل شيئًا حيال ذلك؟ ألا تستطيع المناطق الكاميرونية تحسين مدارسها؟ ألا تزيد المنافع عن التكاليف؟ ألا يقدر رجال الأعمال الكاميرونيون على بناء المصانع، واستيراد التكنولوجيا، والبحث عن الشركاء الأجانب … وجني الثروة من كل هذا؟

من الواضح أن الإجابة لا. أوضح مانكور أولسون أن حُكم اللصوص يعوق النمو في الدول الفقيرة. فإذا كان الرئيس لصًّا، فقد لا يسبب الهلاك بالضرورة لشعبه، بل إنه قد يفضل دفع عجلة الاقتصاد حتى يحصل على نصيب كبير من كعكة أكبر. ولكن بوجه عام فإن أعمال السلب والنهب سوف تنتشر، إما لأن الدكتاتور غير متأكد من طول الفترة التي سيظل فيها في الحكم، أو لأنه يبغي السماح لأتباعه بالسرقة لكي ينعم بتأييدهم المستمر.

وتحت سفح هرم الثروة، تفشل التنمية لأن قواعد المجتمع وقوانينه لا تشجع المشروعات أو الأعمال التجارية التي ستكون للصالح العام. فأرباب العمل لن يمارسوا أعمالهم التجارية بشكل رسمي (لصعوبة ذلك) وبالتالي لا يدفعون الضرائب؛ ومسئولو الحكومة يطلبون تنفيذ مشروعات لا معنى لها، إما بهدف الوجاهة أو بهدف إثراء أنفسهم، وتلاميذ المدارس لا يمانعون من الحصول على مؤهلات غير مفيدة.

وليس من الجديد أن نسمع عن الدور المهم لكل من الفساد والدوافع غير المناسبة، ولكن ربما من الجديد أن نكتشف أن مشكلة الأنظمة والقوانين الملتوية لا تشرح فقط بعضًا من السبب وراء الهوة بين الكاميرون والدول الغنية، وإنما تشرح السبب بأكمله. فالدول أمثال الكاميرون تجد حالها أقل بكثير من إمكانياتها وطاقاتها حتى لو أخذنا في الاعتبار بنيتها التحتية الضعيفة، أو استثماراتها ضئيلة، أو حدها الأدنى من التعليم. ولكن الأسوأ من هذا أن شبكة الفساد تحيط بكل جهد لتطوير تلك البنية، وجذب الاستثمار، والارتقاء بمستوى التعليم.

سيغدو نظام التعليم في الكاميرون أفضل متى توفر للأفراد الدافع لتلقي التعليم الجيد، وإذا كان من يمسك بزمام السلطة حكومة مختارة من قبل الشعب لكفاءتها، وأن يجري الحصول على الوظائف وفقًا لمعايير المستوى الجيد والمهارات الحقيقية، وليس وفقًا للعلاقات الشخصية. كما ستظفر الكاميرون بتقنيات أفضل، ومزيد من المصانع العاملة متى كان مناخ الاستثمار سليمًا سواء بالنسبة للمستثمرين المحلين أو الأجانب، ومتى كانت الأرباح لا تنهبها الرشا والروتين.

ويمكن أن يجري استغلال القدر الضئيل الذي تملكه الكاميرون من التعليم، والتكنولوجيا، والبنية التحتية على نحو أفضل إذا كان المجتمع قائمًا على إثابة الأفكار الجيدة الخلاقة. ولكن ليست هذه طبيعة هذا النظام.

لم نصل بعد إلى رأي مناسب يمكنه تحديد ما ينقص الكاميرون أو ما ينقص في الحقيقة الدول الفقيرة في العالم. ولكن بدأت تلوح لنا فكرة عنه، إذ يسميه البعض «رأس المال الاجتماعي»، وأحيانًا «الثقة». ويسميه آخرون «حكم القانون»، أو «الأعراف». ولكن كلها ليست إلا مجرد مسميات. فما يزيد مشكلة الكاميرون تعقيدًا هو أن حالها مقلوب رأسًا على عقب — مثلها في ذلك مثل العديد من الدول الفقيرة — بحيث إن معظم مواطنيها يحبون القيام بالأعمال التي تسبب الضرر للآخرين سواء بشكل مباشر أو غير مباشر. أما دوافع كسب الثروة بأي طريقة، فهي أمور تعتمد على عقولهم مثلما اعتمدت على السقف في مكتبة المدرسة.

لقد أصيبت الحكومة أولًا بانهيار المعايير، ثم ابتلي به المجتمع بأسره. فلا مغزى من الاستثمار في أي من الأعمال التجارية لأن الحكومة لن تحميك من اللصوص. (فقد تتحول أنت أيضًا وتصبح لصًّا). ولا مغزى لدفع فاتورة هاتفك لأنك إذا لم تدفع، لن ينجح في مقاضاتك أحد. (فلا مغزى إذن من افتتاح شركة تليفونات). ولا مغزى من تلقي التعليم لأن الوظائف لا توزع بناءً على الكفاءة. (كما لن يمكنك الحصول على قرض لتكمل تعليمك لأن البنوك لا يمكنها تحصيل القروض، والحكومة لا توفر المدارس الجيدة). ولا مغزى كذلك من إنشاء شركة استيراد لأن موظفي الجمارك سيكونون هم المستفيدين (لهذا لا تجد إلا قدرًا ضئيلًا من التجارة، وتحصل إدارة الجمارك على قدر غير كاف من المال، مما يجعلها تلهث بحثًا عن الرشا).

والآن ها قد بدأنا نفهم قدر أهمية المشكلة، ويمكننا البدء في دفع الأمور نحو الأفضل. ولكن مقاومة الحلول متأصلة في طبيعة المشكلة؛ ولهذا فإن معالجتها عملية شاقة بطيئة. لا يستسيغ عقلنا فكرة فرض الديمقراطية بالقوة، وحتى إذا فعلنا ذلك، فستتولد أنظمة لن تُكتب لها الاستمرارية. صحيح أننا لا نحب أن تضيع معونات التنمية وسط الروتين، ولكن التيقن من أن الأموال تذهب إلى أماكنها الصحيحة أمر يلتهم الوقت التهامًا.

بالتأكيد لا يمكن حل هذه المشاكل بين عشية وضحاها، ولكن بعض الإصلاحات البسيطة — التي يصاحبها قدر يسير من الإرادة من جانب رجال السياسة — يمكنها تحويل الدول الفقيرة مثل الكاميرون للسير في الاتجاه الصحيح. وأحد الإصلاحات البسيطة هي تقليل الروتين بما يفسح الطريق أمام المشروعات الصغيرة لتعمل في إطار قانوني وهو الأمر الذي يسهل على أصحابها التوسع والحصول على قروض. أما الإصلاحات القانونية الضرورية فهي مألوفة؛ فمع أنها تعتمد دائمًا على حكومة نزيهة وواعية، فإنها لا تحتاج إلا وزيرًا يضع عقله وقلبه في المكان الصحيح بدلًا من أمل حدوث إصلاح دائم بجهاز الحكومة بأكمله.

وثمة خيار آخر، وهو خيار لا غنى عنه، ألا وهو تجنيد اقتصاد العالم كله للمساعدة. فمعظم الدول الفقيرة ذات أنظمة اقتصادية ضئيلة الحجم؛ فمثلًا يساوي اقتصاد أفريقيا ما وراء الصحراء بأكمله حجم اقتصاد دولة بلجيكا تقريبًا. كما تملك دولة أفريقية صغيرة مثل تشاد اقتصادًا أصغر من اقتصاد إحدى ضواحي واشنطن مثل بيثيسدا Bethesda، ويعد قطاعها المصرفي أصغر من اتحاد الائتمان الفيدرالي الخاص بموظفي البنك الدولي. لا يمكن للدول الصغيرة أمثال تشاد والكاميرون تحقيق الاكتفاء الذاتي؛ إذ إنها في حاجة دائمة للحصول على الوقود، والمواد الخام، ومعدات التصنيع بأسعار زهيدة، وكذلك القروض منخفضة الفائدة من البنوك الدولية. ولكن تقف الحواجز العالية حائلًا بين شعب الكاميرون وبين التجارة مع الدول الأخرى — إذ إن بها أعلى تعريفات جمركية في العالم التي تزيد عن ٦٠٪. وبالتأكيد تدر هذه الحواجز عائدًا للحكومة، وتمهد لها الطريق أمام حماية مشروعات حاشيتها، أو توزع عليهم تراخيص الاستيراد المربحة. فالدولة الصغيرة لا تستطيع الحياة في عزلة عن الاقتصاد العالمي والذي به يمكنها النمو بقوة. سنزور إحدى هذه الدول في الفصل المقبل، ونعرف معًا كيف يحدث ذلك.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤