مع رئيس العصابة وجهًا لوجه

كان انحدار الطريق يُمثِّل ﻟ «عثمان» علامةً بارزة، فهو يعني أنه قد دخل مغارةً مثلًا، بجوار أنَّ ثقلَ تنفُّسه كان يؤكد أنه ليس فوق سطح الأرض. بعد دقائق قال الشاب: الآن، تستطيع أن ترفع القناع.

بسرعة رفع «عثمان» قناعه، فلم يشعر بفارق كبير. كان الضوء خافتًا تمامًا، وكان ما توقَّعه صحيحًا … إنه يمشي في ممر منحوت في الصخر، والممر ينحدر. فكَّر أن ينظر خلفه، لكنَّه لم يفعل … ففي الخلف، يوجد مدخل الممر، وحيث يمكن أن يظهر ضوء النهار. فكَّر أن يسأل الشاب إنْ كانا سيمشيان طويلًا، لكنَّه تردَّد مرةً أخرى ولم يسأل.

فجأة دوى صوت طلقات رصاص، فأسرع يلتصق بالجدار. في نفس الوقت الذي انبطح فيه الشاب على الأرض. غير أنه في لحظةٍ سريعةٍ لمح شبح ابتسامة، اختفت بسرعة على وجه الشاب. ولما لم يكن للطلقات أيُّ أثر، فقد أدرك أنه نوع جيد من الاختبارات، وأنَّ الشابَّ كان يعرف مقدمًا، وأنه انبطح على الأرض كحركةٍ تمثيليةٍ حتى يأخذ الاختبار شكله الصحيح؛ ولذلك أسرع يبتعد عن الجدار ليواصل المشي، حتى قبل أن يقوم الشاب، وحتى يثبت ﻟ «توب» أنه أذكى من أن ينخدع.

أسرع الشابُّ إليه، لكن مرة أخرى دوى صوت طلقات جديدة، وكانت حقيقيةً هذه المرة، فأسرع ينبطح على الأرض، وفعل الشاب نفس الشيء، كانت الطلقات ترتطم بالأرض، أو تصطدم بالجدران.

قال في نفسه: إنَّ هذه الاختبارات تدخل مرحلةً حاسمةً. فجأة بدأ يشعر بالبرودة، وبأنَّ الأرض قد ابتلت بالماء … أخفى ابتسامته، فقد عرف أن الاختبارات مستمرة، وأنه عندما يصل إلى «توب» يكون قد انتهى منها، فإمَّا أن ينجح فيها، وإما ينتهي إلى الأبد … فدخوله إلى هذا المكان ليس سهلًا … فمن يدخل … إما أن يكون من أهل المكان، وإما تكون نهايته.

وقف بسرعة … فتردَّد صوت الطلقات من جديد، واصطدمت بعض القذائف بالجدار القريب منه، واصطدمت الأخرى بالأرض تحت أقدامه. لكنَّه كان شجاعًا بما يكفي، لأنه كان يفهم أنهم لم يصيبوه مهما كانت الأمور. إنها الاختبارات فقط. انبطح من جديد. في نفس الوقت، كانت المياه تزداد في أرضية النفق. خطر على ذهنه ألَّا تكون هذه عملية تعذيب مقصودة، وأنه في الطريق للنهاية.

فكَّر لحظة: قد تكون هذه حقيقة … فماذا يفعل الآن؟ إنه لا يستطيع أن يهرب. صحيح أنه يستطيع أن يقضيَ على الشاب. لكن، وماذا بعد ذلك؟

توقَّف صوت الطلقات، فقفز بسرعة، لكنَّه لم يكد يعتدل حتى كان الشابُّ قد قفز في الهواء، مما جعل «عثمان» ينظر له في دهشة، إلَّا أنَّ قفزة الشاب لم تكن إلَّا لضربه. وكانت هذه مسألة سهلة، فقد تعلَّق بشدَّة في قدم الشاب، وهو يُثبت قدميه في الأرض، فأصبح الشابُّ كالمروحة في يده. دار به دورة، ثم أفلته من يديه، فاندفع الشابُّ بكل جسمه إلى الحائط فاصطدم به، ثم وقع على الأرض بلا حَراك.

في نفس اللحظة، تردَّدت ضحكةٌ قوية في فضاء الممر، ثم جاء صوت يقول: إنك من نبحث عنه يا سيد «لو»!

حاول «عثمان» أن يعرف صوتَ مَن هذا، لكنَّه لم يستطع. فكر بسرعة: هل يكون هذا هو الزعيم، و«توب» ليس سوى أحد الرجال؟!

أخذ الضوء يزداد، ثم فجأة فُتح باب في الجدار، وقال صوت: ادخل هنا!

توقَّف لحظة، ثم دخل، كان «توب» يجلس في مقعد كبير، ويبدو كالنائم. قال «توب»: أعتذر لأنني غيَّرتُ المكان لدعوتك على الغداء.

هزَّ «عثمان» رأسه دون أن يقول شيئًا. وقف «توب» وهو يقول: إنك سعيد الحظ؛ فالزعيم طلب أن يراك، وأن تتناول الغداء معه!

سكت لحظة، ثم أضاف: هل لك في كوب عصير؟

ابتسم «عثمان» وقال: أكون سعيدًا لو حدث!

قال «توب»: إذن، اجلس هنا!

أشار «توب» إلى أحد المقاعد، لكن «عثمان» لم يذهب إليه مباشرةً، فقد فكَّر لحظةً، ثمَّ نظَرَ إلى «توب» الذي ابتسم وقال: هل تشكُّ في شيء؟

قال «عثمان» بهدوء: أعتقد أنَّ الحذر مطلوب.

ضحك «توب» وقال: إنك ذكي بما يكفي.

وقف «توب» وأضاف: هيَّا بنا؛ فقد حان وقت الغداء!

اقترب «توب» من أحد الأبواب فانفتح، دخل، فدخل «عثمان» خلفه، كانت هناك صالة فسيحة، وقف «توب» أمام الجدار، فانفتح وظهر مصعد صغير، فتقدَّم «توب» ثم سار «عثمان»، وعندما توقَّف انفتح الباب، فخرجا … سارا قليلًا، ثم تجاوزا بابًا آخر، وفجأة ظهر البحر من جديد. كان المنظر رائعًا، وعدد من اليخوت الصغيرة يقف بجوار يخت كبير. كانت اليخوت كلها بيضاء، وعند الشاطئ توجد مظلة بيضاء، وتحتها عدد من المقاعد.

قال «توب»: ما رأيك، أليس المكان رائعًا؟

ضحك ضحكة سريعة، ثم أضاف: أعتقد أنه يستحقُّ هذه الاختبارات المتوالية.

ثم أكمل ضحكته بضحكة أعمق … وقال: هيَّا، ولن تنتظر طويلًا!

تقدَّم «عثمان» و«توب» فجلسا. وفي لحظة تقدَّم أحدُ الرجال بصينية صغيرة، فوقها كوبان من العصير، أخذ «توب» كوبًا، وأخذ «عثمان» الآخر، لكنَّه لم يشرب مباشرة. كان قد اقتنع أنه في حالة اختبار دائمة، ومن يدري، فقد يكون هذا العصير اختبارًا جديدًا.

أدرك «توب» ما يُفكِّر فيه «عثمان»، فرفع الكوب إلى فمه حتى النهاية، ثم قال مبتسمًا: إنه ليس ضارًّا إلى هذه الدرجة.

ثم ضحك ضحكةً من أعماقه. أخذ «عثمان» يشرب العصير في هدوء، بينما كان «توب» ينظر إلى البحر متأملًا هذه اليخوت الجميلة. لحظة، ثم تحرَّكت يد «توب» إلى جيبه، ثم وقف مباشرة وقال: هيَّا بنا.

أدرك «عثمان» أن «توب» قد تلقَّى إشارة بالتحرُّك … قال في نفسه: يبدو أنني أمام عصابة من نوعٍ جديدٍ فِعْلًا.

اقتربا من الشاطئ أكثر، بينما كان أحد اليخوت الصغيرة يقترب في سرعة غريبة. ثم دار دورة واسعة أمام الشاطئ، واقترب بسرعة حتى وقف أمامهما تمامًا. قفز السائق الذي كان في اليخت وحده، ثم مدَّ سقالة ليمرَّا عليها. وعندما أصبحا في اليخت، انطلق بنفس السرعة الرهيبة في اتجاه اليخت الكبير. وفي دقيقتين كان يقف بجواره. نزل سُلَّم من الحبال إلى اليخت الصغير، فصعد «توب» وخلفه صعد «عثمان».

ما إنْ وصل إلى سطح اليخت حتى وقف مذهولًا. كان اليخت رائع الجمال. لمح «توب» دهشةَ «عثمان» فقال: سوف تستمتع كثيرًا!

ابتسم «عثمان» وتبع «توب» الذي كان قد تقدَّم إلى مؤخرة اليخت. وهناك كانت مظلة كبيرة تظلل المؤخرة كلها. وفي الوسط منضدة كبيرة مستديرة حولها بعض المقاعد … وكأنها أعدت لاجتماع.

كانت هناك موسيقى هادئة تنساب، فتعطي المنظر كلَّه نوعًا من الحلم. لا يذكر «عثمان» أنه رأى عالمًا جميلًا مثل هذا العالم. وعندما أشار له «توب» ليجلس، كان يفكر: كيف يعيش أناس أشرار في هذا العالم الجميل؟ وكيف لا يؤثر هذا العالم بجماله في نفوسهم؟ …

استغرق في أفكاره، لكن «توب» قطعها وهو يقول: أستأذنك لحظة!

ثم انصرف. تبعه «عثمان» بعينيه حتى نزل درجات سُلَّم تُوصل إلى عمق اليخت … قال «عثمان» لنفسه: إنَّ الحذر هنا ضروري تمامًا، فلا بُدَّ أنهم يرصدون كلَّ شيء.

لحظة، ثم اقترب منه صبيٌّ متوسِّطُ العمر … ابتسم ابتسامة هادئة وهو يقول: هل تأمر بشيء؟

نظر له «عثمان»، ثم ابتسم هو الآخر قائلًا: ماذا يمكن أن تُقدِّم لي؟

كان يريد أن يتعرَّف على الأشخاص هنا، من خلال حوار فيما يقدمونه، ودون أن يدُسَّ أنفَه فيما لا يعنيه. وإنْ كان كلُّ شيء يعنيه هنا، قال الصبي: أي شيء … هل تأخذ قهوة تركية، أو فرنسية، أو تأخذ كوبًا من الشاي؟

رفع «عثمان» حاجبيه، علامة الرضا، ثم قال: أُفضِّل أن أحتسيَ فنجانًا من القهوة التركية!

انحنى الصبي في أدب، ثم انصرف. قال «عثمان» في نفسه: ماذا ينبغي حتى يكون كلُّ شيء هنا طيِّبًا؟

فجأة وقعت عيناه على فتاة جميلة تخرج من قلب اليخت. كانت أنيقة في بساطة، وترسم على وجهها ابتسامة رقيقة. اقتربت من «عثمان»، فوقف … قالت: مرحبًا بك هنا!

ابتسم «عثمان» وشكرها، جلست فجلس. قالت الفتاة: اسمك «لو»؟

رد «عثمان»: نعم.

قالت: اسمي «بلانش».

جاء الصبي بالقهوة، ووضعها أمام «عثمان»، ثم انصرف … سألت «بلانش» في دهشة: هل تشرب القهوة التركية؟

ابتسم «عثمان» قائلًا: ليس دائمًا.

قالت «بلانش»: أتمنى أن أزور أفريقيا؛ فهي بلاد لها سحر خاص!

قال «عثمان»: سوف تستمتعين تمامًا، لو حدث وزرتِ أحد البلاد الأفريقية.

قالت «بلانش»: هل زرت مصر؟

أجاب «عثمان»: نعم، لكنَّها كانت زيارة سريعة.

ابتسمت «بلانش» وهي تقول: إنك سعيد الحظ، فأكثر ما أتمنى أن أزور آثارها. إنَّهم يقولون إنها جميلة تمامًا. ولقد حدَّثني أبي عنها.

سأل «عثمان»: هل زارها؟

أجابت «بلانش»: نعم … كان في رحلة عمل، وقضى هناك عدة أيام.

فكَّر «عثمان»: هل تكون «بلانش» ابنة الرأس الكبير؟ وما هي طبيعة عمل هذا الرجل الذي تبدو ابنته على هذا القدر من الرقة والذوق؟

فجأة، ظهر رجل في حدود الخمسين من العمر. كان يبدو أنيقًا جدًّا، واثقًا، وهو يصعد السُّلَّم، وخلفه ظهر «توب». عرف «عثمان» أنَّ الرجل لا بُدَّ أن يكون هو الرئيس.

ابتسمت «بلانش» وهي تقول: بابا.

وقف «عثمان» بسرعة. كان الرجل يُغطِّي وجهه بابتسامة هادئة، وعندما اقترب من «عثمان» قال: أهلًا يا «لو»!

ردَّ «عثمان»: أهلًا يا سيدي!

أضاف الرجل وهو يتفحَّص «عثمان»: حدَّثَني عنك «توب» كثيرًا، وأرجو أن يكون ما قاله صحيحًا!

ابتسم «عثمان» وقال: أرجو ذلك يا سيدي!

نظر الرجل إلى «توب» ثم قال: دعهم يُجهِّزون لنا الغداء، حتى أقوم أنا و«لو» بجولة.

تقدَّم الرجل من حافة اليخت، حيث كان يوجد يخت صغير، ثم أخذ ينزل سُلَّمًا ممتدًّا إليه … أسرع «عثمان» وتبعه. وعندما استقرَّا في اليخت الصغير انطلق بسرعة، ولم يكن فيه غيرهما. وعندما ابتعدا تمامًا نظر الرجل إلى «عثمان» وقال: ماذا تريد أن تعمل يا «لو»؟

قال «عثمان» بسرعة: أي عمل يا سيدي.

ابتسم الرجل ابتسامةً خفيفةً وهو يقول: إذن، استمع جيدًا لما سوف أقوله لك!

وعندما نظر إلى الماء، كان «عثمان» قد ركَّز تفكيره ليسمع كلام رئيس العصابة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤