كلمة ختام

نختم هذه الصفحات وهتلر ماضٍ في مغامرته الجديدة التي يقامر فيها بأرواح الملايين وهو لا يبالي مصير ضحاياه.

ونعني بمغامرته الجديدة هجومه العنيف على شمال فرنسا من طريق هولندة وبلجيكا وإمارة لكسمبرج؛ وفاقًا لخطة عسكرية عجيبة يعتمد فيها كما يقول جورينج على الوحي والآراء الثورية، ولا يعتمد على أصول الحرب المعهودة ولا على آراء الخبراء من العسكريين.

وكل «وحي» يدَّعيه هتلر فإنما هو في حقيقته تجربة فجائية قوامها المعارف المشتتة، والمقامرة الجامحة، والاعتماد على الخيانة والتقصير في موضع من المواضع.

وربما كانت خيانة الآخرين أقوى الدعائم التي يعتمد عليها في مغامراته؛ لأن هذا المخلوق الموكوس لم يَثِقْ قط بفضيلة من فضائل الإنسان بعض ثقته التي لا حد لها بالسفالة الإنسانية والغفلة الإنسانية. ومن هنا تلك الدعوة التي يستغفل بها الناس وتلك الأموال التي يشتري بها ضمائر الناس، بل تلك الضراوة الوحشية التي يثيرها في نفوس أتباعه بالتحريض والتلقين، ولا تعد من الشجاعة أو نبل الأخلاق لأنها انتكاس إلى غرائز السباع، إلا إذا عُدَّت ضراوة السباع ضربًا من الخلق النبيل.

أما المعارف المشتَّتة هنا فهي خطة الكونت شليفن، وخطة جورينج المعدلة لها بعض التعديل، وتقريرات الضباط الذين شهدوا الفتنة الإسبانية وغارة النرويج.

فخطة الكونت شليفن هي الخطة التي وضعها هذا القائد الكبير يوم أن قام برئاسة أركان الحرب في بروسيا من سنة ١٨٩١ إلى سنة ١٩٠٦ وبناها على طريقة هانيبال في معركة كانيا Cannae حيث هجم هجومه العنيف بكل ما عنده من الفرسان على جناح العدو، ثم أغرى الجناح الآخر منه بالتقدم إلى حيث استهدف للتطويق السريع.

وكان شليفن ينوي توجيه ثلاثة أرباع الجيش الألماني — أي توجيه ثلاث وخمسين فرقة من اثنتين وسبعين — في جناحه الأيمن إلى حدود هولندة وبلجيكا، ثم الأرض الفرنسية على الشاطئ إلى العاصمة الفرنسية، وأن يزوِّد هذا الجناح الأيمن بأكبر ما عند الألمان من المدافع الضخام التي استكثروا منها كل الاستكثار. فلا تنقضي — على تقديره — ستة أسابيع حتى تنقضَّ هذه القوة الجائحة على باريس.

وقد أوشكت خطته أن تنفذ في الحرب الماضية لولا أن القائدين مولتكه الصغير وفون كلوك خالفاها في عدة أمور، فأهملا الهجوم على هولندة وأضعفا الجناح الأيمن بما سحباه من فيالقه القوية لتعزيز الجيش الألماني في الشرق وتعزيز الجناح الأيسر في اللورين. ثم وقع الخطأ في الزحف إلى الجنوب فلم يجرِ على النحو الذي قدَّره صاحب الخطة من الإسراع والإحكام.

ولبث الألمان يتغنَّون بهذه الخطة ويعتقدون أنها صالحة للتنفيذ في تجربة أخرى؛ لأن الفشل الذي أصابها إنما عرض لها من خطأ الآخرين وليس من خطأ فيها أو في القواعد التي قامت عليها.

وقد ذكرها هتلر في كتابه فقال ما فحواه: إن فن الحرب يتلخص في مفاجأة العدو الأكبر بالعدد الأكبر، والاستبسال في الهجوم عليه.

ثم عدَّل جورينج خطة شليفن بتعديل الأسلحة لا بتعديل القواعد والطريقة، فاعتمد على الدبابات والمركبات المصفَّحة والطيارات بدلًا من الاعتماد على الأسلحة القديمة التي كان عليها المعول كله في أوائل القرن العشرين. وسميت خطة جورينج بخطة كانيا Cannae الثالثة؛ لأنه نظر فيها كما نظر شليفن من قبله إلى أساليب هانيبال.١

أما التقريرات الحديثة التي كتبها الضباط والخبراء الذين شهدوا الفتنة الإسبانية والغارة على النرويج، فأكثر ما تدور على أساليب الفصائل المتفرقة في الجبال وأساليب الجنود التي تهبط بالمظلات الواقية وتعيث وراء الخطوط لتعطيل المواصلات وإقلاق السكان وإزعاج المقاتلين من وراء الصفوف.

وهذا كله لم يكن ليغني شيئًا لولا دسائس الجيوش الخامسة أو جيوش الجواسيس والدعاة المستترين الذين يكلفون الخزانة النازية ملايين الجنيهات في كل سنة وينبثُّون في البلاد المعتدى عليها لينتقضوا عليها في أحرج الأوقات. فلولا التقصير في نسف القناطر على نهر الموز مثلًا لانتهت هذه الخطط جميعًا قبل أن توغل في دور الابتداء.

وقد وقع تقصير — ولا شك — في عدة الدفاع لا نعلم الآن ما حقيقته ومن المسئولون عنه، ولعل الحكومة الفرنسية تكشف النقاب عنه قريبًا كما وعد المسيو بول رينو رئيس الوزراء.

إلا أن الأمر فيما عدا هذا التقصير ليس من السهولة والبساطة بحيث تبدو للمتعجلين والمستغربين والناصحين وأيديهم في الماء، للعاملين وأيديهم في النار!

فهم يسألون: لِمَ لَمْ يتخذ الحلفاء كل حيطتهم في الثغرة الضعيفة على حدودهم ما دامت للهجوم خطط معروفة وتقديرات لا تعزب عن البال، ولا سيما بال القواد المحنكين؟

وهو سؤال يبدو وجيهًا عَصِيّ الجواب لولا أن سائليه قد غفلوا عن كثير من الحقائق التي لا تَقِلُّ في ثبوتها وبداهتها عن خطط الهجوم في تقديرات النازيين.

فأول ما هنالك أن وجود خطة حربية في دولة من الدول لا يستلزم وقوع الاختيار عليها في اللحظة الأخيرة، ولا أن تنفذ بجملتها وتفصيلاتها عند وقوع الاختيار عليها.

فقد يلجأ أركان الحرب إلى خطة أخرى يفضِّلونها على جميع الخطط المرسومة، وقد يلجأون إلى الخطة بعينها مع التعديل في بعض أجزائها كما فعل مولتكه وكلوك في الحرب الماضية.

ولا يجب أن ننسى أن النازيين يستبيحون العدوان على حيدة البلدان المستقلة كهولندة وبلجيكا ولكسمبورج والدنمرك والنرويج، ولا يستبيحه الديمقراطيون في حربهم مع النازيين وإلا أسقطوا حجتهم وألحقوا قضيتهم بقضية المعتدين، ومهما يَقُلِ القائلون في الحجج الأدبية فهي شيء يكسب به الديمقراطيون ويخسر به النازيون، وقد يكون له النفع أكبر النفع عند النظر في شروط السلام ومغارم التعويض.

ومتى كان النازيون متروكين أحرارًا في تدبير خطط العدوان وأوقات العدوان وفرائس العدوان؛ ففي وسعهم أن يوجهوا ثلاثة أرباع جيشهم إلى حيث شاءوا حين يشاءون. وليس في وسع الحلفاء أن يضعوا ثلاثة أرباع جيشهم في كل مكان وفي كل حين. ولعلهم إذ يختارون نقطة الدفاع مصيبين أو مخطئين أن ينبهوا أعداءهم إلى تعديل ما اعتزموه في الوقت الأخير.

هذا إلى أن هتلر يستطيع أن يجازف بأرواح الألوف ومئات الألوف من جنوده وهو لا يبالي بالمصير؛ لأنه غير مسئول ولا متحرِّج كما هو دأبُ المغامرين والمقامرين. أما القادة المسئولون فهم أبعد ما يكونون عن المجازفة بالأرواح والنجاة من الحساب، وليس من أساليبهم أن يطرحوا كل ما عندهم على مائدة القمار في سبيل الغنى الكامل أو في سبيل الإفلاس.

ويضاف إلى هذا وذاك مَزِيَّةٌ أخرى لا حيلة للحلفاء فيها، وهي وحدة القيادة عند الألمان وتفرقها عند الهولنديين والبلجيكيين والفرنسيين والإنجليز؛ فطالما تعب الساسة الإنجليز والفرنسيون وهم يقترحون على الأمم الصغيرة أن تُعاونهم ويعاونوها في تحضير خطط الدفاع وهي تعتصم بالحيدة وتحسب أنها عصمة تغنيها عن الحلفاء والأعوان. فلما هجم الألمان على هولندة وبلجيكا كانوا يعرفون مواقعهم وغاياتهم جملة وتفصيلًا، وكان على الحلفاء أن يصلوا أولًا إلى الميادين ثم ينظروا في توجيه الجيوش المختلفة هنا وهنا على حسب الطوارئ من مقتضيات كل ساعة وكل حركة، ومنها أهواء رؤساء البلاد.

وتلك مزية تحسب للنازيين في ميزان الحرب، وإن كانت تحسب للحلفاء في ميزان السياسة والقانون.

ومَزِيَّةٌ أخرى لا تقل عن هذه المزية، هي ارتجال الخطط التي لا يعول عليها أصحاب الأصول والقواعد المرعية في الحروب؛ فهذه البهلوانيات من حركات المظلات الواقية وفصائل الدراجات الموغِلة من وراء الخطوط لعبٌ غير مأمون وإن بدا نجاحه بعد المفاجأة الأولى أو بعد مفاجآت كثيرة. وإذا كان جورينج قد خَشِيَ من عقباه وأسرع إلى التبرُّؤ من تبعاته في صيغة الشهادة لزعيمه، فالأحرى بقواد الحلفاء — وهم لا يستوحون الخطط العسكرية من عالم الغيب — أن يحاروا عند المباغتة كما يحار اللاعب المدرب مع اللاعب الذي يخالف جميع الأصول، وأن يتريثوا هنيهة قبل أن يتعوَّدوا طريقة هذا اللاعب في نقل الورق أو تنسيق الأحجار.

تلك هي بعض المصاعب التي يعانيها المقاتلون الديمقراطيون ولا يعانيها المقاتلون النازيون.

ولا بد للحرية من مصاعب، ولا بد لها من ثمن غالٍ.

فليس لإنسان أن يجمع المزيتين، وأن يكون مستبدًّا وحرًّا في نزعة واحدة، ولا أن يأكل حلاوة الحرية بغير نار.

•••

ونحن نكتب هذه السطور والرحى تدور ولا يعلم أحد أين يرتمي اللباب وأين ترتمي القشور.

غير أن الرجاء فيما نعتقد معلَّق برُجحان الرَّوِيَّة على المجازفات، وغلبة القدرة الصابرة على القدرة اليائسة التي تفرغ رجاءها كله في الهجمة الأولى، ثم يقعد بها الإعياء ويستعصي عليها الثبات.

وهجمة هتلر دليل على هذا الاستيئاس وعلى أنه يضيق ذرعًا بالحصار ولا يقوى على مواجهة الشتاء.

وهذا ما قدَّرناه من بداية الحرب فقلنا إن هتلر لا يصبر عليها ولا يثابر فيها شتاءين متواليتين، إلا وهو منهوك مضطر في نهاية الشوط إلى التسليم.

ولولا ذلك لما جازف بهذه الهجمة ولو كان على رجاء في نجاحها؛ فإن احتمال الفشل فيها بالغًا ما بلغ من الضعف لخليق أن يحسِّن له الانتظار لو كان يطيقه ويقوى عليه.

وتلك علامة خير.

وعلامة الخير الكبرى أن تفشل هذه الهجمة فيتاح للمدافعين عزل الفرق النازية بين الشرق والغرب وتعريض من وصلوا منها إلى الشاطئ لنيران البر والبحر والهواء. مع انقطاعهم عن المدد والتموين واتصال جيوش الحلفاء في الميادين الفرنسية، بعد تفرغهم لها وجلائهم عن الساحة البلجيكية.

وإن حبوط هذه التجربة النازية لهو أصدق نذير بحبوط الدولة النازية وإن تَطُلِ الأيام … ولعلها لا تطول.

أبَى الله لهذا العالم الذي أعيى الفاتحين من جبابرة التاريخ أن تحكمه عصابة من المغامرين والأفَّاقين، وأن يرتد إلى جاهلية جهلاء لا حرمات فيها ولا حقوق.

ذلك ما لا يكون، وهيهات أن يكون.

فلا أحلامهم مفلحة، ولا آمال الإنسانية مخفقة، ولا كلمة الحرية منسية، ولا قضيتها في موازين القدر دون قضية الهمجية.

وكل آتٍ قريب.

١  كتاب هتلر على أوروبا لمؤلفه إرنست هنري Hitler over Europe by Ernest Henre.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤