الفكر الفلسفي في مصر المعاصرة١

١

كان «تهافُت الفلاسفة» الذي ألَّفه الإمام الغزالي في ختام القرن الحادي عشر الميلادي، بمثابة الرِّتاج الذي أغلق باب الفكر الفلسفي في بلادنا، فظلَّ مُغلقًا ما يزيد على سبعة قرون، ولم ينفتح إلَّا في منتصف القرن الماضي، نتيجة لحركة شاملة استهدفت نهوض الحياة الفكرية العربية من كلِّ أرجائها، فنشأ علم، ونشأ فن، وتجدَّد أدَب وتجدَّدت فلسفة.

وكان قوام الفكر الفلسفي — في هذه الحركة الشاملة — هو الدعوة إلى الحُريَّة وإلى التعقيل؛ أما الحرية فلا تكون إلا من قيد، والقيد الذي كان قائمًا عندئذٍ، بل القيد الذي أخذ يزداد صلابةً على مرِّ القرون التي سادها الحكم التركي بصفةٍ خاصة، هو قيد الجهل والخُرافة في فهْم الناس للظواهر والأحداث، وهو أيضًا قيد النص المنقول، الذي يفرِض نفسه على الدارِسين فرضًا، بحيث لا يكون أمام هؤلاء الدارسين من منافذ التفكير المُستقل، إلا أن يُعلِّقوا على النص بشروح، ثم على الشروح بشروح، وهلمَّ جرًّا. وهي نفسها الحالة التي جاءت النهضة الأوروبية في القرن السادس عشر لتجِدها جاثمةً على عقول الدارسين فكان التخلُّص منها والخروج عليها، هو نفسه معنى النهضة في لُبِّها وصميمها.

وأما «التعقيل» فهو أن نجعل احتكامَنا إلى العقل دون النَّزوة والهوى. وإذا قلنا «العقل» فقد قُلنا أحدَ أمرَين، أو الأمرَين معًا، فإما أن يستنِد الإنسان في أحكامه إلى شواهد الحسِّ والتجربة — وذلك إذا كان موضوع البحث ظاهرة خارجية من ظواهر الطبيعة أو المجتمع — أو أن يستنِد الإنسان في أحكامه إلى سلامة الاستدلال في استخراج تلك الأحكام من مُقدِّماتها — وذلك حين يكون موضوع البحث فكرة نظرية — وقد يجتمع الطريقان معًا في بحثٍ واحد بعَينه، فنجمَع شواهدنا من تجاربنا أوَّلًا، ثم نُكوِّن فكرةً نظرية نستدلُّ منها ما يسَعُنا استدلاله من نتائج؛ ذلك هو سبيل العقل. وإذن فليس من العقل أن نستنِد في أحكامنا إلى ما هو شائع بين الناس بحُكم التقليد المَوروث، لا سيما إذا كان هؤلاء الناس قد صادفتْهم من تطوُّرات التاريخ أطوار أغلقَتْ دُونَهم مسالك النظر.

على أنَّ الفكرتَين — فكرة الحرية وفكرة التعقيل — مُكمِّلتان إحداهما للأخرى؛ لأنك إذا تحرَّرتَ من قيود الجهل والوَهْم والخُرافة، كنتَ بمثابة من قطَعَ من الطريق نصفَه السلبي، وبقِيَ عليه أن يقطع النصف الآخر بعملٍ إيجابي يؤدِّيه، كالسَّجين تُخرجه من مَحبسِه، فلا يكون هذا وحدَه كافيًا لرسم الطريق الذي يسلكه بعد ذلك، وكذلك المُتحرِّر من خُرافة قد يقع في خُرافة أخرى. ولهذا كان لا بدَّ لتكملة الطريق على الوجه الصحيح، أن تكون أمام المُتحرِّر بعد تحرُّرِه خطة مرسومة يهتدي بها، وما تلك الخطة الهادية إلا خطة «العقل» في طريقة سيره. فإذا قُلنا: إن الفكر الفلسفي الحديث عندنا جاء مُتميزًا بالدعوة إلى الحُريَّة وإلى التعقيل، فقد قُلنا بذلك إنه كفَل أمامنا سواء السبيل بنِصفَيها: السَّلبي والإيجابي معًا.

ولئن كانت العلوم المُختلفة من طبيعة وكيمياء وطب وهندسة وغيرها، من شأنها كذلك أن تكفُل التَّحرُّر من الخُرافة كما تكفُل «تعقيل» السير إلى هدف، وكانت تلك العلوم قد بدأت تفعل فِعلها في حياتنا الفكرية منذ القرن الماضي أيضًا؛ إلا أنَّ الفلسفة أفعلُ إيقاظًا للعقل، لسبب بسيط واضح، وهو أنَّ العلوم تُقرِّر ما قدْ ثبتَتْ عند العلماء صحته، فلا يكون أمام الدارس إلا أن «يتعلَّم»، وأما الفلسفة فتضع دارسها دائمًا بإزاء المسائل التي تُثيرها مَوضِعَ من يسأل قائلًا: هل هذا صحيح؟ وفي سؤال كهذا بداية التفكير النقدي الحُر. ولا بأس في أن يتعارَض مُفكِّران، ما دام كلٌّ منهما يُحاول إقناع زميله بطريقة الحُجَّة العقلية بأحدِ مَعنيَيْها السابقَين أو بهما معًا: بالشواهد الحسية، أو بالاستنباط السليم، أو بكليهما جميعًا. فلا أحسبُني مُخطئًا إذا زعمتُ أنَّ قيام الفكر الفلسفي على صُورته الصحيحة التي تُثير عند الدارس قوَّة التفكير النقدي الحُرِّ المعقول (الحرُّ من قيود الآراء المُسبَقة، والمعقول في خُطَّة سَيره نحوَ الهدَف المقصود)، هو من أوضح العلامات التي تُشير إلى قيام نهضةٍ فكرية، حتى لأُوشِك أن أقول في هذا الصدد: دُلَّني على نوع الفلسفة القائمة في بلدٍ أو في عصر، أقُل لك أيُّ بلدٍ هو وأيُّ عصر. وإنه ليبدو لي في وضوحٍ أنَّ الفكر الفلسفي عندنا قد استقام على عُودِه منذ أواخر القرن الماضي، على أيدي «هواة» يتناولون الأمور تناولًا فلسفيًّا دون أن يتَّخِذوا من الفلسفة ذاتها موضوع دراسةٍ مُتخصِّصة، ثم أخَذَ يزدادُ نماء، فيزداد جُنوحًا نحوَ الدراسة المُتخصِّصة، في الجامعات، بل وفي بعض صفوف المدارس الثانوية. وإن نظرةً تحليلية إلى ما نشرَتْه وما تنشُره المطابع من مؤلَّفات فلسفية وإلى سَعةِ انتشار تلك المؤلَّفات بالنسبة إلى سواها، لتدلُّ دلالةً قاطعة على مدى الفكر الفلسفي عندنا طولًا وعرضًا وعُمقًا؛ فهو فكر قد شمل الماضي بنشْرِ تُراثِه، والحاضر بعرْضِ مذاهبه، والمُستقبل بالتخطيط له، وهو فكر قد ترجَم وألَّف في كلِّ ميدان من ميادين البحث الفلسفي، فصدرت كُتب ونُشرَت فصول يتعذَّر حصرُها، تناولت الفلسفة الشرقية القديمة، والإسلامية، والغربية من يونانية ووسيطة وحديثة ومُعاصرة؛ تناولتْها من حيث تواريخها وشخصياتها ومشكلاتها ومذاهبها.

ولم نكن في هذه الحركة الفلسفية الشاملة إلا مُقتَفِين خُطى أسلافنا ومُنتهجين نهجَهم في فتح الأبواب والنوافذ جميعًا ليَجيء الهواء من شرْق أو من غرْب، من قديمٍ أو جديد، من مُؤمنٍ أو من مُتشكك، حتى التقتْ وجهات النظر المُختلفة، وانصهرَتْ وكان منها ما جاز لنا أن نُسمِّيه بمذهبنا الفلسفي الخاص. لكن إذا كان هذا المذهب الفلسفي الخاص عند المسلمين الأقدمين تُلخِّصه عبارة واحدة هي «التوفيق بين النقل والعقل» فأحسب أن المذهب الفلسفي الخاص عندنا اليوم تُلخِّصُه عبارة واحدة كذلك هي: «الجمع بين الحرية والعقل».

٢

ولقد حمل هذه الرسالة الفكرية في تاريخنا الحديث رجال من طرازين: هواة ومُحترفون. على أنَّ «الهواة» كانوا أسبقَ من «المحترفين» ظهورًا في الترتيب الزمني، حتى ليَجُوز لنا القول بأنهم هم الذين مهَّدوا الطريق أمام مُحترفي الفلسفة ووجَّهوا انتباههم وأثاروا اهتمامهم. ومع ذلك فالفريقان يختلفان جوهرًا، اختلافًا هو نفسه الاختلاف القائم بين معنيَين تُفهَم بهما الفلسفة، ساد أوَّلُهما في «حكمة» الشرق، وساد ثانيهما في «تحليلات» الغرب. فالفلسفة بالمعنى الأول هي «فلسفة حياة»، والفلسفة بالمعنى الثاني هي «فلسفة تجريد نظري». وبالمعنى الأول تكون الفلسفة في صياغتها أقربَ إلى الصياغة الأدبية، وبالمعنى الثاني تكون الفلسفة أقربَ في أسلوبها إلى الصياغة العلمية.

ومن هؤلاء «الهواة» الذين مهَّدوا الطريق قبل ظهور الدراسة الفلسفية المُتخصِّصة: جمال الدين الأفغاني في ردِّه على الدَّهريِّين، ومحمد عبده في شرحه لمفاهيم العقيدة الإسلامية على أساس المنطق العقلي، وأحمد لطفي السيد في قيادته لحركة التنوير،٢ وطه حسين في إدخاله للمنهج العقلي في الدراسات الأدبية، وعباس محمود العقاد في دعوته إلى مسئولية الفرد أمام عقله في فكره وعقيدته. على أن هؤلاء «الهواة» أنفسهم ينقسمون فيما بينهم نوعَين: أحدهما يجعل الدفاع عن الإسلام مِحوَرَ تفكيره، والآخر يجعل هدفَه الرئيسي الدعوة إلى قِيَم ثقافية جديدة.
كانت نظرية النشوء والارتقاء من أهم ما أنتجه العلم الأوروبي في القرن التاسع عشر. وهي نظرية لا تُصادِف قبولًا — للوهلة الأولى — عند من تغلُب عليهم الثقافة الدينية،٣ فطفِق هؤلاء يتساءلون: أين يكون الإسلام من هذه الدعوة؟ وكان أن أرسل كاتِب من فارس خطابًا إلى جمال الدين الأفغاني (١٨٣٨–١٨٩٨م) يطلُب منه أن يوضِّح له هذا المذهب «الطبيعي» الذي أخذ يتردَّد صداه بين رجال العلم والفكر، فأجابه الأفغاني بأن ألَّفَ رسالته في «الرد على الدَّهريِّين»، (والدهريُّون هم الماديُّون) لأن الأفغاني قد رأى في هذا المذهب خطرًا على العقيدة الدينية، وعلى الحضارة الإنسانية، مما يُوجِب على المُفكر المسلم أن يتصدَّى له.

ألف الأفغاني هذه الرسالة باللغة الفارسية، ونقلَها إلى العربية الشيخ محمد عبده مُستعينًا بأديب أفغاني (هو عارف أبو تراب)، وهي تنقسِم قِسمَين: اختُصَّ أولهما ببيان حقيقة المذهب الطبيعي ونشأته التاريخية، واختُصَّ ثانيهما ببيان أنَّ الإسلام هو أفضل الأديان. وليس يُهمنا الآن مضمون الرسالة بقدْر ما يُهمنا منهاجها؛ وذلك لأننا وإن كنا نراه قد عالج مسألة علمية — هي نظرية التطوُّر — بغير العلم، إلَّا أنَّه كان يحتكِم في كل خطوة إلى ما ظنَّ أنَّه حجة عقلية. مثال ذلك أن يُحاول البرهنة على أن نظرية التطوُّر تُقيم بناءها على أساس الصُّدفة، على حين أنَّ نظام الكون نظام مدبر، ولا يجوز عند العقل أن تلِد المُصادفات العمياء مثل هذا النظام المُحكم. ومثال ذلك أيضًا أن يحاول البرهنة على أن نظرية التطوُّر حين تجعل في النبات أو الحيوان جرثومة يكمُن فيها نبات أو حيوان كامل التركيب وهذا بدَوره يحتوي جرثومة وهلمَّ جرًّا إلى ما لا نهاية له، فهي بذلك تجعل اللامُتناهي يَنتُج عن المُتناهي، وهو ما لا يجوز عند العقل. ومثال ذلك أيضًا قوله: «إذا سُئل داروين عن الأشجار القائمة في غابات الهند والنباتات المُتولِّدة فيها من أزمانٍ بعيدة لا يُحدِّدها التاريخ إلَّا ظنًّا، وأصولها تضرِب في بُقعة واحدة، وفروعها تذهب في هواءٍ واحد، وعروقُها تُسقى بماء واحد، فما السبب في اختلاف كلٍّ منها عن الآخر في بِنيته وشكله وأوراقه وأصوله وقِصَره وضخامته ورِقَّتِه وزَهرِه وثمره وطعمه ورائحته وعمره، فأي فاعلٍ خارجيٍّ أثَّر فيها حتى خالف بينها مع وِحدة المكان والماء والهواء؟ أظنُّ ألَّا سبيل إلى الجواب سوى العجز عنه.»

على هذا النحو «العقلي» كان الأفغاني يُعالِج الأمور التي يراها مؤدية إلى تقوية الإيمان الديني والقومي عند المسلمين، وإلى دَرْء الخطر كلَّما رأي خطرًا يتهدَّد ذلك الإيمان. على أنَّ الأفغاني كان أقوى تأثيرًا بشخصيته ودروسه وأحاديثه منه بكتابته، فكان في تاريخنا الفكري الحديث أشبهَ بسُقراط في تاريخ الفكر الفلسفي عند اليونان، كما كان تلميذه الشيخ محمد عبده أشبهَ بأفلاطون وقد استقرَّ في «أكاديميته» ليُدوِّن ما أحدثَه أستاذُه في العقول من أثر، فانظر — مثلًا — إلى الإمام في مقالاته التي يُثبت فيها دورسًا سمِعَها من الأفغاني، فيستهلُّ إحداها (وهي عن فلسفة التربية) بقوله: في ليلة الأحد الماضي (يشير إلى أول يونيو سنة ١٨٧٩م) انعقد درس جمال الدين الأفغاني، وانتظم في سلكِه جمعٌ غفير من نُبهاء طلبة العلم وفضلائهم، ثم أخذ يبسُط مضمون ما قاله الأستاذ. وفي مقالة أخرى (عن فلسفة الصناعة) يبدأ الإمام بقوله: قد عاد حضرة الأستاذ الفاضل، والفيلسوف الكامل، السيد جمال الدين الأفغاني إلى التدريس بعد فترةٍ تزيد مُدَّتها عن سنةٍ فابتدأ حفِظَه الله يقرأ شرح إشارات الرئيس ابن سينا في الحِكمة العقلية وهو كتاب جليل يحتوي من هذا العلم أصولًا جليلة، غُرست أصولها في بلاد المشرق من مدة تقرُب من ألف سنة، إلا أنها تنبُت فروعها في المغرب، واجتُنِيت ثمارُها لغَير غارِسيها. إلا أنَّ هذا السيد الفاضل قد جمع في تدريسه بين تدقيق الشرقيِّين وبسط الغربيين، يجمع إلى الأصول فروعها، وإلى المُقدِّمات نتائجها، وإلى المُجمَلات تفاصيلها، بانيًا جميع أقواله على البراهين الثابتة والحجج القديمة. وحسبُنا من كلِّ أقوال الأفغاني قوله بأن الدين الإسلامي يُطالب المؤمنين به بأن يأخذوا بالبرهان في أصول دِينهم، وكلَّما خاطَبَ خاطَبَ العقل، وكلَّما حاكَمَ حاكَمَ إلى العقل. تنطِق نصوصُه بأن السعادة من نتائج العقل والبصيرة، وأن الشقاء والضلالة من لواحِق الغفلة وإهمال العقل وانطفاء نور البصيرة.

•••

وكان هذا نفسه هو الأساس الذي أقام عليه الإمام محمد عبده (١٨٤٩–١٩٠٥م) فكرَه الفلسفي، إذ كان أهمَّ ما اهتمَّ به هو أن يُوضِّح العقائد الأساسية في الإسلام توضيحًا يُبيِّن استنادها إلى منطق العقل، فتراه في كتابه «الإسلام والنَّصرانية» يُفصِّل القول في الأصول التي يقوم عليها الإسلام، يجعل الأصل الأول لهذا الدِّين هو «النظر العقلي». والنظر عنده هو وسيلة الإيمان الصحيح «فقد أقامك منه على سبيل الحُجَّة، وقاضاكَ إلى العقل، ومن قاضاكَ إلى حاكمٍ فقد أذعن إلى سُلطته، فكيف يُمكنه بعد ذلك أن يَجُور أو يَثُور عليه؟» (ط٦، ص٥٨)، ثم يجعل الأصل الثاني للإسلام «تقديم العقل على ظاهر الشرْع عند التعارُض» وفي شرح ذلك يقول: «… إنه إذا تعارَضَ العقل والنقل، أُخِذ بما دلَّ عليه العقل، وبقيَ في النقل طريقان: طريق التسليم بصحَّةِ المنقول مع الاعتراف بالعجز عن فهمه، وتفويض الأمر إلى الله في عمله، والطريق الثانية تأويلُ النقل مع المُحافَظة على قوانين اللغة، حتى يتَّفِق معناه مع ما أثبَتَهُ العقل» (المصدر المذكور، ص٥٩). وعلى هذا النحو راحَ الإمام يُعدِّد بقيةَ أصول الإسلام، لينتصِر دائمًا لحُكم العقل كلَّما أشكل الأمر، ممَّا يجعلُه هو ومدرستُه الفلسفية امتدادًا صريحًا للمُعتزلة. ولم يقتصِر الأمر عندَه على ذِكر مبادئ عامة، بل أخذ في مقالاته يُطبِّق تلك المبادئ على موضوعاتٍ خاصة، كالقضاء والقدَر، وتعدُّد الزوجات، وإصلاح التعليم، والتمدُّن … إلخ الخ. ونكتفي هنا بمَثَلٍ واحد لطريقته في التفكير على هذا المنهج، فنذكُر مقاله عن «القضاء والقدر» — وهو جانب من العقيدة الإسلامية كثيرًا ما اتُّخِذَ حجةً على تأخُّر المسلمين، كما أنَّه كثيرًا ما كان مُقيِّدًا لمن أساء فَهمه من المسلمين — فيُبيِّن محمد عبده كيف أن هذا الاعتقاد هو نفسه الاعتقاد في الرابطة السبَبيَّة بين الحادثات، على أنَّ الإنسان قد يستطيع أن يرى من الأسباب ما هو حاضر لديه، لكن قد يمتنِع عليه إدراك بقيَّة التسلسُل السَّببي في تتابُع الحوادث. وسواء أدرَكه أو لم يُدركه، فليس في القول بقيام الرابطة السببية ما يجوز أن يكون مَوضِع اتِّهام، فقِوام العلم نفسه هو هذه الرابِطة في وقوع الحوادث. ولا ضَير علينا في أن نتصوَّر الإرادة الإنسانية نفسها حلقةً من حلقات السِّلسلة السَّبَبية؛ إذ الإرادة مُتوقِّفة على إدراكنا لما يقَع ممَّا يؤثِّر في حواسِّنا؛ أي أنها تنبني على علم بما هو حادث. وما هو حادث مُرتَّب مُدبَّر.

إننا إذا ما خلَّصْنا الاعتقاد بالقضاء والقدَر من شناعةِ الجبر، وجدْناه اعتقادًا يُحفِّز الإنسان على الجُرأة والإقدام، ويخلُق فيه الشجاعة والبسالة؛ إذ هو اعتقاد يَطبَع الأنفس على الثَّبات، واحتمالِ المكاره ويدعوها إلى الجُود والسَّخاء، بل يحمِلها على بذْل الأرواح في سبيل الحق، فانظر إلى هذا الاعتقاد الواحد لو أقمْناه على منطق العقل، كيف يؤدِّي بنا إلى حُريَّة في مجال العمل، على حين أنه إذا أُسيء فهمُه أدَّى إلى التواكُل والخُنوع.

هكذا تناوَل الإمام طائفة من المفاهيم الدينية بالتوضيح الذي يجعلها حوافز للنشاط والعمل. فمن قَبيل ذلك أيضًا فكرة التعارُض الظاهري بين إرادة الله الكاملة وعلمِه الكامل من جهة، وإرادة الإنسان من جهةٍ أخرى؛ إذ يتساءل المُتسائلون في هذا الصدد: أتجُوز للإنسان حريَّة يفعل بها ما يُريد، حين يكون الله قد علِم علمًا سابقًا بكلِّ ما سيقع على طول الزمان؟ ويتصدَّى الإمام لهذا السؤال في كتابه «رسالة التوحيد» ليُزيل عن موضوعه ما يكتنِفُه من غموض، حتى لا يكون سببًا في تعطيل قُدرات القادرين على العمل المُنتِج، فيقول في فصل عنوانه «أفعال العباد»: إن الله هو الذي قدَّر أن يَجيء الإنسان مُفكرًا مُختارًا في عملِه على مُقتضى فِكره، وكون علم الله مُحيطًا بما يقع من الإنسان بإرادته لا ينفي أن يكون الإنسان حُرًّا فيما يعمل وما يدَع؛ لأنَّ العِلم السابق بما سيقع هو كعِلم صاحِب القضاء في الدولة أنَّ العمل الفلاني إذا وقَع حلَّتْ بفاعِلِه العقوبة الفُلانية، وإنَّ ذلك لَيكون معلومًا عند فردٍ من الناس، ومع ذلك تراه يُقدِم على عمله، فانكِشاف الواقِع للعالِم لا يَصحُّ — في نظَر العقل — مُلزمًا ولا مانعًا.

•••

ومثل هذا الموقِف الذي وقَفَه الإمام محمد عبده تجاه المفاهيم الدينية من حيث تحليلها وتوضيحها لتَظهَر مُسايرتها لأحكام العقل، ولتُصبح عوامل على حريَّة الإنسان لا قيودًا تُكبِّله، وقفَهُ كذلك الأستاذ عباس محمود العقاد تجاه طائفة كبيرة من المفاهيم الأدبية والسياسية والاجتماعية، فضلًا عن تناوُله لأصول العقيدة الإسلامية تناولًا يَسير به في نفس الطريق التي سلَكَها من قبله محمد عبده؛ وأعني إقامة الحُجَّة المنطقية على ما بَين تلك العقيدة وحُريَّة الإنسان وكرامته من توافُقٍ تام. وإنه لَمِمَّا يُميز العقاد في جدَلِه قُدرتُه على دقَّة التحليل وتبيين الفوارِق اللطيفة بين الأفكار المُتقاربة، واستِخلاص النتائج من مُقدِّماتها.

ولقد حاول في مؤلفات كثيرة أن يُبين كيف أن الإسلام يشجِّع بصفةٍ خاصة، بل يفرِض على الناس فرضًا، أن يحتكِموا إلى العقل في أمورهم، وأن يكون الإنسان حرًّا مُختارًا في حياته، مسئولًا عن حُريته تلك وعن اختياره أمام نفسه وأمام ربه. ففي كتابه «التفكير فريضة إسلامية» يقول: إن للقرآن مَزيَّة واضحة هي التنويه بالعقل والتعويل عليه في أمر العقيدة وأمر التَّبِعة والتكليف، ولئن كانت كلمة «العقل» مُختلفة المعاني، فقد ألمَّ القرآن، بهذه المعاني كلها، حتى تكون الدَّعوة إلى العقل شاملةً له بكلِّ معانيه، فهو يُشيد بالعقل حين يكون معناه الوازع الأخلاقي الذي يمنَع عن المَحظور والمُنكر، ويُشيد به حين يكون المقصود به بعض العمليات الإدراكية كعملية إنشاء التصوُّرات الكلية وعملية ربْط هذه التصوُّرات الكلية في أحكام، وعملية استدلال النتائج من تلك الأحكام، وكذلك يُشيد القرآن بالعقل حين يكون معناه حِكمة الحكيم ورُشد الرشيد. وإذ يحضُّ القرآن على العقل بمعانيه تلك جميعًا: العقل الوازع، والعقل المُدرِك، والعقل الحكيم، والعقل الرشيد، تراه «لا يذكُر العقل عرضًا مُقتضبًا، بل يذكُره مقصودًا مُفصلًا على نحوٍ لا نظير له في كتاب من كُتب الأديان».

وأما الدعوة إلى الحرية، فلم يترُك العقاد بابًا من أبواب الحياة والفكر إلَّا دافع عن وجوب الحُرية فيه. ويَكفينا في هذا العرض السريع أن نذكُر له رأيًا تَميَّز به، وهو الرأي الذي جعل به الجمال والحُرية شيئًا واحدًا، فالشيء جميلٌ بمِقدار ما هو حُرٌّ طليق من القيود التي تعُوق حركة الحياة، فالماء الجاري أجمل من الماء الآسِن، والوردة التي تجري فيها الحياة أجمل من شبيهتِها المصنوعة من ورَق، والصوت الجميل هو الصوت «السالك» والعضو الجميل هو الذي يَجيء بالمِقدار الذي يُمكِّنه من أداء وظيفتِهِ الحيوية، وهلمَّ جرًّا. والأمة التي تعشَق الجمال في الطبيعة وفي الفن لا بدَّ مُحقِّقة لنفسها الحرية السياسية؛ لأنَّ الجمال والحُرية وجهان لحقيقةٍ واحدة. ففي مقالٍ للعقَّاد عن «الحُرية والفنون الجميلة» (نشر سنة ١٩٢٣م) يقول إنَّ حُبَّ الأمم للحرية يُقاس بِحُبها للفنون الجميلة ولا يُقاس بما ينشأ بين ظهرانيها من صناعاتٍ وعلوم نفعِيَّة تخدُم مطالب العيش؛ ذلك لأن مطالب العَيش مَحتومة على الإنسان لا قِبَل له بردِّها، وأما حين يكون الإنسان غيرَ مدفوعٍ بقوانين الطبيعة حين يختار ما يختاره أو يدَع ما يدعه، فتلك هي الحريَّة بمعناها الصحيح، وهي حالة تتحقَّق حين يتعلَّق الإنسان بالفنِّ الجميل.

وفي مقالٍ له آخَر عنوانه: «في معرض الصور» (نشر سنة ١٩٢٤م) يُبيِّن العقاد الصِّلة الضرورية بين الحريَّة وبين القيود التي لا بدَّ من قيامها ليتغلَّب عليها الإنسان الحر، وإلَّا فبِغَير قيد فلا حُرية، فانظُر إلى بيت الشِّعر وتصرُّف الشاعر فيه: إنه مَثَلٌ حق لما ينبغي أن تكون عليه الحياة بين قوانين الضرورة وحُريَّة الجمال، فهو قيود شتَّى من وزنٍ وقافية واطِّراد وانسجام، غير أن الشاعر يُعرِب عن طلاقة نفسٍ لا حدَّ لها، حين يخطُر بين كلِّ هذه السدود خطرة اللَّعب، ويطفُر من فوقِها طفرةَ النشاط، ويطير بالخيال في عالم لا قائمة فيه للعقبات والعراقيل. وأهم مؤلَّفات العقاد التي يَشيع فيها فكره الفلسفي: «الله» و«مُطالعات في الكُتب والحياة» و«الفلسفة القرآنية» و«حقائق الإسلام وأباطيل خصومه» و«ابن رشد» و«ابن سينا».

•••

كذلك كان الدكتور طه حسين فيما كتب وما بحث، داعيًا إلى الحرية الفكرية وإلى التزام المنهج العقلي الصِّرف؛ حتى في البحوث التي قد تبدو غير خاضِعة لذلك المنهج، فها هو ذا يقول في كتابه «في الأدب الجاهلي» (ص٦٧): أريد أن أصطنِع في الأدب هذا المنهج الفلسفي الذي استحدَثَه ديكارت للبحث عن حقائق الأشياء في أول هذا العصر الحديث. والناس جميعًا يعلمون أن القاعدة الأساسية لهذا المنهج هي أن يتجرَّد الباحث من كلِّ شيءٍ كان يعلمه من قبل، وأن يستقبِل موضوع بحثِه خاليَ الذهن مما قيل فيه خلوًّا تامًّا، والناس جميعًا يعلمون أن هذا المنهج الذي سخط عليه أنصار القديم في الدِّين والفلسفة يومَ ظَهَر، قد كان من أخصَبِ المناهج وأقوَمِها وأحسَنِها أثرًا، وأنه قد جدَّد العلم والفلسفة تجديدًا، وأنه قد غيَّر مذاهب الأُدباء في أدبهم، والفنانين في فنونهم، وأنه هو الطابع الذي يمتاز به هذا العصر الحديث. فكان الدكتور طه حسين بهذا الذي صدَّر به بحثه في الأدب الجاهلي، كأنما يضع منهاجًا لحياتنا الجامعية كلها، مؤدَّاهُ أن يكون الباحث موضوعيَّ النظر، مُستقلًّا حرًّا غير مُقيَّد بالآراء السابقة التي قِيلت في موضوع بحثه، لا يميل مع الهوى، مُلقيًا بزمام بحثِه إلى المنهج العلمي وحده، ولتكن النتائج بعد ذلك ما تكون، فما كان اختلاف الرأي في العلم سببًا من أسباب البُغض، إنما الأهواء والعواطف هي التي تنتهي بالناس إلى ما يُفسد عليهم الحياة من البُغض والعداء (ص٦٩).

ولكي يُؤيِّد الدكتور طه حسين دَعوته إلى التعقيل، أخذ في كتابه «مُستقبل الثقافة في مصر» يُبيِّن كيف كانت مِصر طوال تاريخها ذات مزاجٍ عقلي خالص، بدليل تأثيرها وتأثُّرها باليونان الذين هُم رمزٌ للفكر المنطقي الهادئ. وحسبُنا في ذلك أن نعلم أنَّ الإسكندرية كانت ذات يومٍ هي المقرَّ الرئيسيَّ للثقافة اليونانية بكلِّ ما فيها من فلسفةٍ وعلم، يقول: «فمن المُحقَّق أن الثقافة اليونانية — على اختلاف فروعها وألوانها — قد لجأت إلى مصر فوجدتْ فيها ملجأً أمينًا وحصنًا حصينًا، وظفرت فيها من النمو والانتشار بما لم تظفر بمِثله، حين كانت مُستقرة في أثينا أو في غيرها من المدن اليونانية الأوروبية أو الآسيوية» (١٩).

ولئن كانت مصر عقليةَ الطابع قبل الإسلام، فهي كذلك عقلية الطابع بعدَ الإسلام؛ لأن الإسلام يُساير العقل ولا يُضادُّه، وإلَّا فكيف يكون قوام الحياة العقلية في أوروبا هو اتِّصالها بالشرق الإسلامي، بحيث ينشأ في أوروبا عقلٌ علمي خلَق أوروبا الحديثة، ثم نتصوَّر مع ذلك أنَّ الأصل الذي أمدَّ أوروبا بثقافتها العقلية محروم من ذلك الطابع العقلي نفسه. فهل يعقل أن تنشأ ثقافة في شرقي البحر الأبيض المتوسط «فلا تؤثر في عقول أصحابها شيئًا، فإذا أرسلوها إلى غرْب هذا البحر خلَقَت أهلَ هذا الغرب خلقًا جديدًا؟» (ص٢٥). ومن المؤلفات الفلسفية للدكتور طه حسين «فلسفة ابن خلدون الاجتماعية» و«قادة الفكر».

٣

نشأت الجامعات فنشأت بأقسام الفلسفة فيها دراسات من نوعٍ آخر غير ما قد عرضْناه عند مُتفلسِفة المُفكرين، فلم يعُد الأمر هنا مقصورًا على أن يَصطبغ الفكر بصبغةٍ فلسفية، بل جاوز ذلك إلى البحوث الأكاديمية التي تناولتْ نشرَ التراث الفلسفي نشرًا مُحقَّقًا، كما تناولت نقلَ المذاهب الفلسفية الغربية قديمها وحديثها، نقلًا اكتفى بالترجمة حينًا وأضاف إلى الترجمة تعليقًا ونقدًا حينًا آخر. وأخيرًا تناوَل التأليف في شتَّى الموضوعات الفلسفية، تأليفًا قد يقتصر على مُجرَّد عرض الفكرة عرضًا علميًّا، وقد يزيد على ذلك بأن يجيء مُعبِّرًا عن مذهبٍ خاص يذهب إليه المؤلِّف.

ونبدأ بنشر التُّراث الفلسفي، لأنه بمثابة وضع الأساس الذي سيقوم عليه البناء الجديد؛ فما من نهضةٍ ثقافية إلا واقترنَتْ بإحياء التراث القديم، كأنما يُريد الأبناء أن يَستوثِقوا من استقامةِ طريقهم؛ إذ هُم سائرون على سبيلٍ موصولة من أسباب الحضارة، يُسلِّم فيها الآباء ذخيرتَهم إلى أبنائهم. وإن هذه العودة إلى الماضي لهي دائمًا دعوة إلى الحُريَّة الفكرية غير مُباشرة، حتى لَيَصفوها في الحركات الأدبية «بالرومانسية»؛ لأنها في صميمها خروج على مُقتضَيات اللحظة الراهنة والضرورة القائمة، ابتغاء الوصول إلى ما هو أبقى على الزمن، وذلك فضلًا عن أنَّه لا مندوحةَ لباحثٍ عن مُطالعة ما قد تركه السابقون في موضوع بحثه. ونذكر فيما يلي طائفةً من أهمِّ ما نُشِر من التراث الفلسفي الإسلامي.

فمن «الكندي» نشر الدكتور محمد عبد الهادي أبو ريدة «رسائل الكندي الفلسفية» في جزأين، (١٩٥٠–١٩٥٣م) وقد صدَّرَهما ببحثٍ مُستفيض عن حياة الكندي وفلسفته، ثم قدَّم لكلِّ رسالة بمُقدِّمة تحليلية لما تحتوي عليه الرسالة من مادة فلسفية، ونشر الدكتور أحمد فؤاد الأهواني (١٩٤٨م) «كتاب الكندي إلى المُعتصم بالله». كما نشر «رسالة العقل» (١٩٥٠م)

ومن «الفارابي» نشر الدكتور عثمان أمين «إحصاء العلوم» (ط٢، ١٩٤٩م) وقدَّم له بمُقدِّمة عن حياة الفارابي وفلسفته، وعلَّق عليه بهوامش كثيرة. ومن «ابن سينا» ما تزال تُنشَر أجزاء من كتاب «الشفاء»، تنشُرها لجنة بإشراف الدكتور إبراهيم بيومي مدكور، وقد نُشر منه حتى الآن «المدخل» (١٩٥٢م) و«المقولات» (١٩٥٨م) وقام بالتحقيق في كليهما الأب قنواتي، والدكتور الأهواني، والمرحوم الأستاذ محمود الخضيري، و«البرهان» وقد حقَّقه وقدَّم له الدكتور أبو العلا عفيفي (١٩٥٦م)، وكذلك نشرَه الدكتور عبد الرحمن بدوي (١٩٥٤م). وحقق الدكتور الأهواني كتاب «السفسطة» (١٩٥٨م)، وحقق الدكتور محمد سليم كتاب «الخطابة» (١٩٥٤م) وحقق الدكتور عبد الرحمن بدوي «فن الشعر» (١٩٥٣م)، ونُشِر جزءان من «الإلهيات» (١٩٦٠م) حقَّق أولهما الأب قنواتي والأستاذ سعيد زايد، وحقَّق ثانيهما الأساتذة محمد يوسف موسى، وسليمان دنيا، وسعيد زايد.

ونشر للدكتور محمد ثابت الفندي من مؤلفات ابن سينا رسالة في «معرفة النفس الناطقة وأحوالها» (١٩٣٤م). وحقَّق الدكتور عبد الرحمن بدوي «عيون الحكمة» (١٩٥٤م). ونشر الأستاذ عبد السلام هارون «الرسالة النيروزية» (١٩٥٤م).

ومن الإمام «الغزالي» نشر الدكتور عبد الحليم محمود «المُنقذ من الضلال» (١٩٥٥م) وقدَّم له، وحقَّق الأستاذ سليمان دُنيا «تهافت الفلاسفة» (ط٢، ١٩٥٥م).

ومن «ابن رشد» نشَر الدكتور عبد الرحمن بدوي «تلخيص كتاب أرسطوطاليس في الشعر» و«تلخيص الخطابة» (١٩٦٠م)، ونشر الدكتور أحمد فؤاد الأهواني «تلخيص كتب النفس» (١٩٥٠م)، وحقَّق الدكتور عثمان أمين «تلخيص ما بعدَ الطبيعة» (١٩٤٧م)، ونشر الدكتور محمود قاسم «مناهج الأدلَّة في عقائد الملَّة».

ومن «ابن عربي» حقَّق الدكتور أبو العلا عفيفي «فصوص الحِكم» (١٩٤٦م).

ومن «أبي حيان التوحيدي» حقَّق الدكتور عبد الرحمن بدوي «الإشارات الإلهية» (١٩٥٠م).

ومن «الكرماني» نشَرَ الدكتور محمد مصطفى حلمي والدكتور (المرحوم) محمد كامل حسين «راحة العقل» (١٩٤٨م).

وكذلك قام الدكتور محمد مصطفى حلمي (١٩٥٤م) بالتحقيق والتعليق والتقديم لكتاب «توفيق التطبيق في إثبات أنَّ الشيخ الرئيس من الإمامية الاثنا عشرية» تأليف علي بن فضل الله الجيلاني.

ومن «مسكويه» حقَّق الدكتور عبد الرحمن بدوي «الحِكمة الخالدة» (١٩٥٢م) وللمُبشر بن فاتك نشر الدكتور عبد الرحمن بدوي «مُختار الحِكم ومَحاسن الكلِم» وقدَّم له بمُقدِّمة طويلة (وقد نال هذا الكتاب جائزة الدولة التشجيعية لسنة ١٩٦٢م).

وحقَّق الدكتور علي عبد الواحد وافي «المقدمة» لابن خلدون.

وبالإضافة إلى النصوص السالف ذكرها، نُشِرَت مُترجمات قديمة؛ من ذلك «منطق أرسطو» وقد نشره الدكتور عبد الرحمن بدوي كما نشر «فن الشعر» و«في النفس» لأرسطوطاليس و«كتاب النبات» المنسوب إلى أرسطوطاليس. ونشر الدكتور أبو العلا عفيفي «مقالة اللام من كتاب ما بعدَ الطبيعة» لأرسطو. وأعاد نشْرها الدكتور عبد الرحمن بدوي. وللدكتور بدوي أيضًا مجموعات نشرَها تحت عنوان «أفلوطين عن العرب»، و«أرسطو عند العرب»، كما نشر «مُعاذلة النفس» لهرمس، و«الآراء الطبيعية» المنسوب إلى فلوطرخس، و«الخير المحض» لأبرقلس، و«مسائل في الأشياء الطبيعية» لأبرقلس، و«حجج في قِدَم العالم» لأبرقلس، وكتاب «الروابيع» لأفلاطون. ونشر الدكتور أحمد فؤاد الأهواني «إيساغوجي» لفرفوريوس.

وما تزال حركة نشْر التُّراث الفلسفي قائمة، حتى ليُرجى ألا يمضي وقتٌ طويل قبل أن نكون قد أَخرجْنا إلى النور كنوز الأسلاف. وعندئذٍ فقط يمكن للدراسة العلمية أن تقوم على أساسٍ صحيح.

٤

وإلى جانب إحياء تُراثِنا القديم، قامت حركة قوية في ميدان الترجمة، فنُقل إلى اللغة العربية من المؤلفات الفلسفية الغربية والشرقية ما يكاد يشمل جوانِبَ الفلسفة جميعًا. ونقول «يكاد» لأن هنالك ما يزال جوانب وأعلام لم تمسَّها حركة الترجمة بعد، أو مَسَّتْها مسًّا خفيفًا، على أهمية تلك الجوانب وهؤلاء الأعلام. وحسبُنا في هذا الصَّدَد أن نقول إن «كانْت» و«سبينوزا» و«ليبنتز» و«هيجل» لم يُترجَم منهم شيء، وإنَّ «أفلاطون» لم يُترجَم منه إلا قدْر ضئيل.

وكان في طليعة المُترجِمين الأستاذ (المرحوم) أحمد لطفي السيد؛ فقد ترجَمَ من أرسطو «علم الأخلاق إلى نيقوماخوس» (١٩٢٤م) و«الكون والفساد» (١٩٣٢م) و«علم الطبيعة» (١٩٣٥م) و«السياسة» (١٩٤٧م).

وترجم كاتب هذا المقال محاورات الدفاع وأوطيفرون، وأقريطون، وفيدون، من محاورات أفلاطون، وترجمت «المأدبة» مرتين، إحداهما للأستاذ محمد لطفي جمعة، والأخرى للأستاذ وليم الميري (١٩٥٤م).

وفي الفلسفة الإسلامية ترجم الدكتور أبو ريدة عن دي بور «تاريخ الفلسفة في الإسلام».

وفي الفلسفة الحديثة ترجَم الدكتور أبو العلا عفيفي عن وولف «فلسفة المُحدثين والمُعاصرين» (١٩٣٦م)، وعن كولبه «المدخل في الفلسفة» (١٩٤٢م)، وترجم الدكتور عثمان أمين عن ديكارت «التأمُّلات في الفلسفة الأولى» (١٩٥٩م)، وترجم الأستاذ محمود الخضيري «مقال في المنهج» لديكارت، وترجم الدكتور الأهواني «البحث عن اليقين» لجون ديوي (١٩٦٠م)، كما ترجم كاتب هذا المقال كتاب «المنطق، نظرية البحث» لجون ديوي (١٩٦٠م)، وترجم له أيضًا الأستاذ أمين مرسي قنديل «تجديد في الفلسفة» (١٩٥٨م) ولِوليم جيمس ترجم الدكتور محمود حب الله «إرادة الاعتقاد» (١٩٤٦م) والدكتور محمد فهمي الشنيطي «بعض مُشكلات فلسفية» (١٩٦٢م).

ولبرتراند رسل تُرجِمت كتبٌ كثيرة من أهمها «تمهيد للفلسفة الرياضية» ترجمة الدكتور محمد مرسي أحمد (١٩٦٣م) و«تاريخ الفلسفة الغربية» (١٩٥٤م) ترجمة كاتب هذا المقال و«مشاكل الفلسفة» ترجمة الدكتورين عطية هنا وعماد إسماعيل (١٩٤٧م) و«فلسفتي كيف تطوَّرت» ترجمة الأستاذ عبد الرشيد الصادق (١٩٥٩). ولخَّص كاتب هذا المقال كتاب رسل (موجز الفلسفة) وجعل عنوانه «الفلسفة بنظرة علمية».

وترجم الدكتور عبد الحميد صبرة «نظرية القياس الأرسطية» تأليف أوكاشيفتش، والدكتور مصطفى بدوي «الإحساس بالجمال» تأليف سانتياتا (١٩٥٩م).

ومن أعمال المُستشرقين ترجم الدكتور أبو العلا عفيفي «دراسات في التصوُّف الإسلامي» تأليف نكلسون، والدكتور عبد الرحمن بدوي «التراث اليوناني في الحضارة الإسلامية» وهو دراسات لطائفة من المُستشرقين.

الحق أن الحصر أو ما يُشبه الحصر مُتعذِّر علينا في ميدان الترجمة الفلسفية وحسْبُنا هذه النماذج القليلة لتدُلَّ على سَعة الحركة وشمولها، وإن كنا ما نزال نتوقَّع لها أن تمتدَّ لتشمل ما لم تشمَلْه بعدُ من أمَّهات النصوص.

٥

على أنَّه إذا كانت حركتا نشر التراث والترجمة تدُلَّان على أنَّ الفكر الفلسفي عندنا يُريد أن يُقيم بناءه على أسُسٍ علمية سليمة، فإنَّ حركة التأليف الفلسفي تُضيف إلى ذلك دلالةً جديدة، لأنها تكشف عن مذاهب الدارسين واتجاهاتهم، كشفًا صريحًا أحيانًا، أو مُتضمَّنًا في طريقة الاختيار والعرض أحيانًا أخرى. ولسنا نُخطئ إذا زعمنا أنَّه ما من مذهبٍ رئيسي من المذاهب المُعاصرة، أو من المذاهب التقليدية إلا وقد وجدَ له من بين فلاسفتنا نصيرًا؛ ممَّا يدلُّ أوضح الدلالة على أننا نتميَّز بما تميَّز به الفلاسفة المُسلمون قديمًا، من الاستماع إلى جملة الأفكار ليتَّخِذ كلٌّ ما يتشيَّع له بعد أن يصوغَه صياغةً يعبِّر بها عن فكره المُستقل. لكننا على اختلافنا في وجهة النظر نلتقي جميعًا عند الطابع العام، وهو — كما أسلفْنا — الجمع بين الدعوة إلى الحُريَّة والاحتكام إلى العقل. وسترى من بيننا من يُبرز فكرة المذهب العقلي أكثر ممَّا يُبرز فكرة الحُريَّة الإنسانية، ومن يُبرز فكرة الحُريَّة الإنسانية أكثر ممَّا يُبرز فكرة المذهب العقلي. سترى منا من يُناصِر المِثالية ومن يُناصِر التجريبية، لكنَّنا جميعًا نُعبِّر عن جوانب مُختلفة من موقفٍ واحد، ومع ذلك فلا بدَّ من الاعتراف هنا بأنَّ هذه العناصر الكثيرة ما زالت تحتاج إلى مزيدٍ من صهْر حتى تكون أفصحَ تعبيرًا عن وجهة نظَرٍ عربيةٍ خالصة.

ولعلَّ يوسف كرم (١٨٨٦–١٩٥٩م) أن يكون في مُقدِّمة أنصار المذهب العقلي من زُمرة المُحترفين، وقد بسط وجهةَ نظره الفلسفية في كتابَين هما «العقل والوجود» و«الطبيعة وما بعد الطبيعة» (١٩٥٩م). غير أنه لم يكن مُتطرفًا في الأخذ بهذا المذهب، ولقد وصف هو نفسه مذهبه الفلسفي بأنه عقلي معتدل؛ وذلك لأنه لم يُرِد من العقل سوى أن يكون أداةً صالحة للوصول إلى النتائج الصحيحة التي لا تتعارَض مع مبادئ المنطق السليم، والتي تؤدِّي في الوقت نفسه إلى الإيمان؛ لأن الإنسان — في رأيه — حيوان عاقل مُتديِّن، فلا هو بالكائن الذي يتميَّز بالعقل وحدَه دون الإيمان، ولا بالإيمان وحدَه دون العقل، ولا تصلُح حياته إلا إذا اجتمع عنده يقين العقل من جهة وطمأنينة القلب من جهة أخرى.

لقد أخطأ المذهب التجريبي — في رأي يوسف كرم — حين جعل الحواسَّ مصدرًا وحيدًا للمعرفة، وذلك لأنَّ «للإنسان قوةٌ داركة مُتمايزة من الحواس، تُدعى العقل، شأنُها أن تُدرِك معاني المحسوسات مُجرَّدةً عن مادَّتها، ومعاني أُخَر مُجرَّدة بذاتها، وأن تؤلِّف هذه المعاني في قضايا وأقيسةٍ واستقراءات، فتنفُذ في إدراك الأشياء إلى ما وراء المحسوس، مُحاوِلةً استكناهَ ماهيته، وتعيينَ علاقاته مع سائر الموجودات. ولمَّا كانت موضوعات العقل مُجرَّدة، كانت أفعاله التي ذكرناها مجرَّدة كذلك، وبذلك يبطُل المذهب الحسي الذي يقصُر المعرفة الإنسانية على الحواس، ويرمي إلى أن يَرُدَّ إليها ويُفسر بها سائر المُدركات» (من تصدير كتاب «الطبيعة وما بعد الطبيعة»).

وقد أخذ فيلسوفنا على نفسه خلال كتابه «العقل والوجود» أن يتقصَّى أنواع المُدرَكات التي كان يستحيل على الإنسان تحصيلها إذا هو اعتمد على تحصيل الحواس وحدَها، فلئن كان في مقدور الحواس أن تُلِمَّ بظواهر الأشياء، فالعقل وحده هو المُدرِك لماهيَّاتها، وإدراك الماهية إنما يكون بتجريد المعاني عن مادَّتها، وذلك فضلًا عن المُجرَّدات الأخرى التي يُدرِكها العقل عن غير طريق المادة، كأفكارنا عن الوجود والجوهر والعرض، والعِلِّيَّة، والخَير والشر، والحقِّ والباطل، كما يُدرِك العقل أيضًا نِسَبًا وعلاقات كثيرة، كالعلاقة الكائنة بين أجزاء الشيء الواحد، والعلاقات الكائنة بين الأشياء بعضها مع بعض، وكالعدد والترتيب، فإدراك علاقات كهذه لا يكون بالحواس، لأن الحواس تُدرِك الأطراف المُتعلقة بتلك العلاقات نفسها، أضِف إلى ذلك كله إدراك العقل — دون الحواس — للمبادئ العامة التي تنبني عليها العلوم، وإدراكه للموجودات غير المادية كالنفس والله.

هذه كلها ضروب من الإدراك العقلي، تثبت وجود العقل مُتميزًا من الحواس وإدراكاتها، لكن إثبات وجوده لا يكفي وحده دليلًا على قيمة ما يُدرِكه، وإذن فلا بدَّ للفيلسوف من خطوةٍ أخرى يدحَض بها مذهب الشك الذي يتشكك في صدق المُدرَكات العقلية، حتى إذا ما فرغ من إثبات الصدق لتلك المُدرَكات، خطا خطوةً أخرى ليُثبت بها أن ذلك الصدق ليس تَصوُّريًّا بحتًا، كما يقول أنصار المذهب التصوُّري الذين إنْ آمنوا بوجود العقل وبمُدرَكاته العقلية، فهم يقصُرون ذلك الوجود وتلك المُدرَكات على داخل العقل، وبذلك يُنكرون على الإنسان حقَّ الخروج من عالم التصوُّرات الداخلية إلى الوجود الخارجي.

هكذا عارض يوسف كرَم المذهب التجريبي الذي يحصُر نفسه في الإدراكات الحسية وحدَها، كما عارض المذهب التصوُّري الذي يحصُر نفسه في الإدراكات العقلية دون حقِّ الخروج منها إلى ما يُقابلها من موجودات خارجية، ومن ثَمَّ فهو «عقلي» يُثبت وجود العقل ووجود مُدرَكاته وصِدق أحكامه، وهو أيضًا «واقعي» يُثبت وجود العالم الخارجي؛ ولذلك جاز له في كتابه «الطبيعة وما بعد الطبيعة» أن يبحث في كائنات الطبيعة من جمادٍ وحيوانٍ وإنسان، حتى إذا ما فرغ من ذلك انتقل إلى ما بعدَ الطبيعة ليقول إنَّ العِلم به يشتمل على ثلاثة موضوعات كبرى؛ أولها: مبادئ المعرفة، وثانيها: المبادئ العامة للوجود، وثالثها: موضوع الألوهية. ثم يُفصِّل القول في هذه الموضوعات تفصيلًا يعرِض فيه لما قيل عند غيره من أقدَمين ومُحدثين، وما يُحبُّ هو أن يطرَحه من رأيٍ جديد.٤

•••

كان يوسف كرم قد اعتزم إصدار مؤلَّفٍ في «الأخلاق» يُكمل به معالِم مذهبه «العقلي المعتدل» الذي يجمع بين المِثالية والواقعية، بل يُقال إنه كان قد فرَغ من كتابة فصولٍ من ذلك المؤلَّف، لكن المَنيَّة عاجلتْه دون إتمام ما قد بدأ فيه، وكأنما أراد الله لحركة التفكير الفلسفي في بلادنا أن تكتمِل بناء، بحيث يُكمل واحد منَّا واحدًا، فأخرج لنا الدكتور توفيق الطويل كتابًا في «الفلسفة الخلقية: نشأتها وتطوُّرها» (١٩٦٠م) استعرض فيه مذاهب الأخلاق على اختلافها منذ اليونان الأقدَمين إلى يومنا الراهن، لينتهي من هذا كله إلى اتجاه يختاره لنفسه، هو أقرَبُ ما يكون إلى الاتجاه «العقلي المعتدِل» الذي اتَّجَهَ إليه يوسف كرم في الجوانب الفلسفية الأخرى. ويُطلق الدكتور الطويل على اتجاهه هذا في الأخلاق اسم «المِثالية المُعدَّلة»، وفي تحديد مُراده منها يقول (ص٣٥٥ وما بعدها): «يشارك الإنسان النبات في النموِّ والحيوان في الحسِّ وينفرِد دون جميع الكائنات بالعقل، ومن أجل هذا كانت مُزاوَلة التأمُّل العقلي أكملَ حالات الوجود الإنساني فيما قال أرسطو قديمًا … والإنسان هو الكائن الوحيد الذي لا يقنَع بالواقع، ويتطلَّع إلى ما ينبغي أن يكون، يَضيق بالسلوك الذي تسُوق إليه الشهوات والعواطف، ويُكبِر السلوك الذي يَجري بمُقتضى الواجب؛ فإننا لا نقول للحجَر الهابط بفعل الجاذبية إلى أسفل: ينبغي أن تتدحرَج صاعدًا إلى أعلى، ولا للوحْش الذي يُمزِّق فريسته: ينبغي أن ترأفَ بها وترحَمَ ضعْفها، من أجل هذا كان صعودنا سُلَّم الإنسانية، أو هبوطنا مدارِج الحيوانية، إنما يكون بمِقدار حظِّنا من المِثالية التي تُعبِّر عندنا عمَّا ينبغي أن نكونه.»

«وتقوم المثالية المُعدَّلة في تحقيق الذات بكلِّ قُواها الحيوانية، وهذا التحقيق يتطلَّب الإلمام بحقيقة الطبيعة البشرية ومعرفة إمكانياتها، ووضع مثلٍ إنساني رفيع يكفُل وَحدَتها ويضمَن تكامُلها، وفي ظِلِّه يُشبع الإنسان قواه جميعها؛ الحسِّي منها والروحي، بهداية العقل وإرشاده، وتتآخى الأنانية والغَيريَّة، فيزول العداء التقليدي بين توكيد الذات ونُكرانها …»

من هذا نرى كيف وقف الدكتور الطويل موقفًا يجمع فيه بين طرفَين لم يكونا ليتلاقَيا لولا قُدرتُه على التوفيق بين الضِّدَّين؛ فقد كان المتطرفون من الحسيين — من جهة — ينشُدون أُسُس الأخلاق فيما يُحقِّق للإنسان سعادته، وكان المُتطرِّفون من العقليِّين — من جهة أخرى — يلتمِسون أداء الواجِب الذي يأمُرنا منطق العقل أو يأمُرنا صوت الضمير بفعله، سواء حقَّق هذا الأداء للواجب سعادةً للفرد القائم به، أم لم يُحقِّق، لكن لماذا لا يكون أداء الواجب مُحقِّقًا للسعادة في آنٍ معًا؟ لماذا نفترِض أن تحقيق القِيَم الروحية العُليا يتعارَض مع الرَّغبات البدَنية؟ ألا إنَّ هذا الفصل بين ما هو رُوح وما هو بدَن لَمِن شأنه أن يُفكِّك الطبيعة البشرية التي هي رُوح وبدَن، وأن يُحدِث من الأمراض النفسية ما هو معروف، ومن ثَمَّ وقَف باحثُنا موقفه الوسط في الأخلاق، والتَمَس السعادة في الفضيلة والمُتعة في الواجب، فكان للحواسِّ عنده دَورُها وللعقل دَوره، فتلك تشتهي وهذا يُنظِّم لها طريقة الإشباع، بحيث لا تطغى سعادة الفرد على سعادة المجموع.٥

•••

لكن هذا الموقف «المعتدل» الذي لا يُريد أن يمضي مع الحِسِّيين إلى آخِر شوطِهم ولا مع العقليِّين إلى آخِر شوطهم، لا يُقنع من كان مِزاجه البتُّ الحاسم في الأمور، فلئن كانت الرءوس — كما قال وليم جيمس — صِنفين: رءوس ليِّنة ورءوس يابِسة، الأُولى تُلاين وتُداور وتأخُذ الأمور على هَوادة وفي شيءٍ من الاستسلام للعاطفة القلبية، على حين أنَّ الثانية تتصلَّب عند الحقائق، ولا يهمها إلَّا أن يَرضى العقل بمثل الرضا الذي يرضاهُ وهو يتناول مسائله العلمية المَعملية، أقول: لئن كانت الرءوس تنقسِم هذَين القِسمين، كان الآخِذون بالمذهب العقلي المُعتدل هُم من الصنف الأول، وكان إلى جانبهم في حياتنا الفكرية نفرٌ من الصِّنف الثاني، وبين من يُمثِّلونه في تاريخنا الفلسفي المُعاصر كاتب هذا المقال. فهو في كتابه «نحو فلسفة علمية» (وقد ظفر بجائزة الدولة التشجيعية لسنة ١٩٦٠م) وفي كتابٍ له آخر «خُرافة الميتافيزيقا» (١٩٥٣م)٦ يدعو دعوةً صريحة إلى أن تتشبَّه الفلسفة بالعلم، لا بالمعنى الذي يجعل الفلاسفة يُشاركون العُلماء في موضوعاتهم، فيبحثون في الفلك مع علماء الفلك، وفي الطبيعة مع علماء الطبيعة، وفي تطوُّر الأحياء مع علماء البيولوجيا وهكذا، بل إنه — على نقيض ذلك — يُحرِّم على الفيلسوف — من حيث هو فيلسوف — أن يتصدَّى للحديث عن العالَم حديثًا إخباريًّا بأيِّ وجهٍ من الوجوه لأنه لا يملك أدوات البحث التي تُمكِّنه من ذلك، فليس هو مَنوطًا بالملاحظة وإجراء التجارب حتى ينتهي بها إلى أحكامٍ إخبارية عن العالم. ولقد كان من مزالق فلاسفة التأمُّل أن ورَّطوا أنفسهم فيما ليس من شأنهم، إذ كانوا يظنُّون أن الفكر الخالِص وحدَه في وُسعه أن يصِفَ الوجود الخارجي، مع أن ذلك محال.

ففيمَ — إذن — يُريد صاحِب هذه الدعوة أن تتشبَّه الفلسفة بالعلم؟ إنه يُريد لها ذلك بِعدَّة معانٍ أُخَر، أولها التزام الدقَّة البالِغة في استخدام الألفاظ والعبارات، فإذا كان العالِم يُحدِّد على وجه الدقَّة مُصطلحاته العلمية، حين يتحدَّث عن «الجاذبية» و«الضوء» و«الصوت» إلخ فكذلك ينبغي للفيلسوف أن يكون بهذه الدقَّة نفسها حين يتحدَّث — مثلًا — عن «النفس» و«العقل» و«الخير» … إلخ. نعم إنَّ الفلاسفة الذين يستخدمون ألفاظًا كهذه، يُحدِّدونها بتعريفاتٍ يشترطونها لها، لتُفهَم على ضوئها، ثُمَّ يستنبطون من تلك التعريفات ما يجوز لهم بحُكم مبادئ الاستنباط أن يستنبطوه، ولا غُبار على ذلك، لو كانوا على وعيٍ كاملٍ بأنَّ نتائجهم التي ينتهون إليها مُستنِدة في صِدقها إلى التعريفات التي اشترطوها بادئ ذي بَدْء؛ أي أنَّ النَّسَق الفلسفي عندئذٍ إن كان صادقًا، فصِدقُه رياضي بحت، معناه أنَّ أوله مُتَّسِق مع آخره، وأنه لا تناقُض بين أجزائه، لكن ليس من حقِّنا أن نخرُج من حدود هذا النَّسَق لنقول إنه يُصوِّر العالم الخارجي كما يقول أصحاب الفلسفة التأمُّلية عن بناءاتهم المِيتافيزيقية، فإما أن يجعل الباحِث خطوتَه الأولى مُحقَّقة على الواقع، وعندئذٍ يكون من حقِّهِ أن يَزعُم لأيِّ نتيجةٍ تلزَم عن تلك الخطوة الأولى بأنها مُطابقة لما هو واقع، وإما أن تكون تلك الخطوة الأولى تعريفًا من عند المُفكر لمفهوماتٍ يُريد استخدامها، أو أن يكون مُسلَّمات أخرى يضعُها المُفكر بادئ ذي بدْء، فلا يُصبح من حقِّه بعد ذلك أن يزعم لأي نتيجة تلزَم عن تلك الخطوة الأولى بأنها تحمِل عن العالَم خبرًا أو أنها تُصوِّره بأيِّ وجهٍ من وجوه التصوير.

ولكن ماذا يكون موضوع البحث الفلسفي الذي يُراد للفيلسوف أن يتناوَله بهذه الدقة العلمية؟

إنه — كما أسفلنا — لا يكون موضوعًا مما تبحث فيه العلوم، بل يكون هو التشكيلات الرمزية — من عبارات لُغويَّة ورموز رياضية وغيرها — التي يَستخدمها العلماء في صياغة علومهم، فيُحلِّلوها تحليلًا يُخرج مُضمَراتها من الكُمون إلى العَلَن الصريح، وهاهنا يظهر في وضوح إن كانت مُنطوية على تناقُضٍ أو على عناصِرَ من شأنها أن تجعل العبارة بِغَير معنى علمي، أم كانت سليمة البِنية المَنطقيَّة فيكون العِلم كله سائرًا على هدى. وبهذا تُصبِح الفلسفة هي التحليل المنطقي، بدَل أن يكون التحليل المنطقي جُزءًا من الفلسفة.

وإذن فهذه «التجريبية العلمية» إنما هي دعوة إلى الأخذ بأحكام العقل الصارِم في فَهْم العبارات التي يُجريها الكاتِبون على أقلامهم، حتى يأخُذهم سِحر الألفاظ فيستعملوها لأسبابٍ أخرى غير قُوِّتها الدلالية. على أنَّ اللفظة في هذه الدعوة الجديدة لا تكوْن لها قوة دلالية إلَّا إذا أشارت في نهاية التحليل إلى مُعطَيات حسية أعطتْها إيانا كائنات فِعلية في العالم الخارجي، اللهم إلَّا أن تكون اللفظة مُستخدَمة بتعريفٍ اشتراطي يُعفيها من الوظيفة الإشارية، لكن التفكير عندئذٍ يكون مفهومًا على أنه مُنحصِر في نسقِهِ الدَّاخلي ولا شأن له بدُنيا الواقع.

•••

وإلى جانب هذه الدعوة إلى تحكيم العقل وحده — دون العاطفة — فيما يكون له صِلة بالوقائع الخارجية، وصِلة بالتقريرات الموضوعية العلمية التي تُقال عن تلك الوقائع، تقوم في مجالنا الفلسفي دعوةٌ إلى حرية الفرد، يُقيمها صاحبُها وهو الدكتور عبد الرحمن بدوي على أساسٍ من الفلسفة الوجودية. فلئن كانت التجريبية العلمية دعوة إلى «الفَهم» العقلي الواضح، فإن دعوة الدكتور بدوي هي إلى الإرادة الحرَّة التي لا تكتفي بمجرَّد الفَهم العقلي، بل تُضيف إليه الفاعِلية المُنتِجة النشيطة.

ففي كتابه «الزمان الوجودي»٧ يُقَسِّم الوجود نوعَين: فزيائي وذاتي، الثاني وجود الذات المُفرَدة، والأول كلُّ ما عدا الذات، سواء أكان ذاتًا واعيةً أم كان أشياء. أما الوجود الذاتي فوجود مُستقلٌّ بنفسه في عُزلةٍ تامَّة من حيث الطبيعة عن كلِّ وجودٍ للغَير ولا سبيل إلى التفاهُم الحق بين ذات وذات، إذ كلٌّ منهما عالَم قائم وحدَه، وأما وجود الغَير فلا نِسبة له إلى الذات إلَّا من حيث الفِعل، والفعل ضرورة للذَّات؛ لأن الفعل تحقيق لإمكانياتها، فلكي تُحقِّق نفسها لا بدَّ لها إذن أن تفعل، والفِعل لا بُدَّ أن يتمَّ في وجود الغَير وبواسطته؛ ولذا كان عليها أن تتَّصل بهذا الوجود المغاير.

يقول المؤلف (ص١٣٦-١٣٧): «إن الشعور بالوجود لا يكون قويًّا عن طريق الفكر المُجرد؛ لأن الفكر المُجرَّد انتزاع للنفس من تيَّار الوجود الحي، وانعِزال في مملكةٍ أُخرى تذهب منها الحياة المُتوتِّرة الحادَّة، ولا يسودها فعل وحركة …» والمؤلف حريص قبل كلِّ شيء على أن ينعَم الإنسان الفرد بوجوده الحي الفعَّال. وما دام هذا الوجود مُتعلقًا بالحالة الوجدانية أكثر من تعلُّقه بالحالة العقلية، فإنه لا يَتردَّد في إيثار الأولى على الثانية. نعم إنَّ لكلِّ حالةٍ عاطفية مُقابلًا فكريًّا، هو إدراكنا لهذه الحالة، لكن ما أبعدَ الفرقَ بين هذا وتلك. ما أبعدَ الفرق بين التألُّم من حيث هو عاطفة وبينَه من حيث هو موضوع للمعرفة.

على أنه إن كانت الذات تُحقِّق وجودها في العاطفة أكثر مما تُحقِّقه في المعرفة، فإنها أكثر تحقيقًا لوجودها في الإرادة منها في العاطفة، «إذ الإرادة قوَّة للوجود الذاتي، وهذه القوة مصدرها الحرية التي للذات في أن تُعِين نفسها بتحقيق إمكانياتها، فتختار من بين المُمكن أحد أوجهه وتتعلَّق به ثُم تُحقِّقه بواسطة القُدرة.» (ص١٥٩). لكن أيَّ الممكنات تختار الذات المُريدة لتُحوِّله إلى فعل؟ إنَّ المُمكن لا نهاية له، وقد يبدو بعض المُمكنات مُساويًا لبعضها الآخر، ولو وقفت الذات حَيرى بين المُتساويات لَمَا همَّتْ بفعل؛ ولذا يتحتَّم عليها أن «تُخاطر» باختيار ما تنفذه، فبِالمُخاطرة وحدَها تُحقِّق الذات وجودها «أما الوقوف أمام التَّساوي والتذبذُب بين حالَي التَّقابُل الذي يتَّصِف به كلُّ وجود، فلن ينتهي بها إلا إلى عدم الفعل، وبالتالي عدم تحقُّق إمكانيات وجودها. وهذه الحال الأخيرة نُشاهدها عند أصحاب المعرفة الذين يختلِط عليهم حال الوجود المُشكِل، فإما أنْ يقول بالسوِيَّة وعدم الاكتراث، وإما أن يتذبذَبَ ويتمرَّد، وفي هذا وذاك لا ينتهي إلى تحقيق شيء. أما المُخاطر، الذي يتعلَّق من أوجه المُمكن تعلُّقًا يَصدُر في الغالب عن فعلٍ لا معقول، فهو وحدَه الذي يستطيع أن يُحقِّق إمكانيات وجوده قدْر المُستطاع، ولا عليه بعدُ إن أخطأ ولم يُصِب نتيجة مرجُوَّة، فالمهم أنَّه حيِيَ الوجود على الأقل في هذه التجربة، بدلًا من التوقُّف العاجِز الذي لا يحيا فيه المرء غير عجْزِه وفراغ إرادته، بل وسلْب حُريَّتِه.» (ص١٦٠).

ولا شكَّ أن الإنسان إذ يُخاطر حرًّا باختيار ما يَختاره من فعل، فإنما يتصدَّى لمسئولية تتناسب مع قدْرِ الخطر وجَسَامة الفعل الذي أقدم عليه. ولمَّا كان الشعور بالمسئولية مشروطًا بحرية الاختيار، فإنَّ الشعور بالحرية لا يتوافَر في شيءٍ قدْرَ ما يتوافر في المُخاطرة. هكذا جاءت فلسفة الدكتور بدوي حافزًا لنا على العمل الجريء، لنكون أحرارًا بقدْر ما يكون في أعمالنا من جرأة.

•••

ولقد كانت حياتنا الفلسفية لَيَنْقُصها شيء كثير لو لم يَقُم فينا من يُوجِّهُ دعوته إلى الاهتمام بالرُّوح إلى جانب تلك الدعوات التي أصرَّتْ على تحكيم العقل بالمعنى المعروف لهذه الكلمة في دُنيا العِلم والمنطق. ولقد حمَل هذه الأمانة الدكتور عثمان أمين، وأطلق على مَذهبه اسم «الجوانية».٨ إشارة منه إلى التفرقة بين ما هو ظاهر وما هو باطن، فعنده أنَّ الظاهر عرَض والباطن جوهر، أو هي تفرقة «بين الكمِّي والكيفي، بين الآتي والأبدي، بين المادي والرُّوحي. وبعبارةٍ أخرى هي التفرقة بين موقف الإنسان حين ينظُر إلى الناس والموضوعات بعيون الجسم، فيُشاهِدها من الخارج، وكأنه «يتفرَّج عليها» وبين موقِفه حين ينظُر إليها بعيون الرُّوح فيشارك فيها ويُعانيها من الداخل» (من مقالته عن «الجوَّانية الأخلاقية عند الغزالي»).

ويُقابل صاحِب مذهب الجوَّانية بين ما هو «جوَّاني» وما هو «برَّاني». والأول طريق الإدراك فيه هو الحدْس، والثاني طريق الإدراك فيه هو الحواس، فيقول مُوجِّهًا الحديث إلى من يقِفون عند الظواهر «البرَّانية» ولا يُعمِّقون في بواطن نفوسهم: يستطيع «الوضعيُّون» أن يتشكَّكوا في يقين الحدْس كما يشاءون، ويستطيع «الواقعيُّون» أن يُنكروا حقيقة الغَيب جازِمين قاطِعين، ولكنَّا نقول لهم ما قاله من قبلَنا أفلاطون والفارابي والغزالي وابن عربي وديكارت وكانْط وهيجل ومحمد إقبال وياسبرز، وهو أنَّنا لا نُريد منكم إلَّا أن تتدبَّروا الأمر بأيسر قدْر من الجُهد: انظروا إلى أنفسكم حين تُطلِقون على الأشخاص والأفعال حُكمًا أخلاقيًّا أو حُكمًا تقويميًّا على العموم، ما بالُكم تصِفون الفعل بصفاتٍ تختلف باختلاف فاعليه، مع أن الفعل في الظاهر واحد؟ ولماذا يكون مسعى زيد إخلاصًا رفيعًا، ومسعى عمرو رِياء وضيعًا؟ أليس مرجِع الأمر في الحُكم على الفعل بالحُسن أو القُبح إلى النِّيَّة والباعِث والقصد؟ أو ليستْ كلُّ هذه أمورًا مَطويَّة غير مرئية؟ ولكن أمام النظرة البرَّانية، أعني النظرة الواقِفة عند ظواهر الأمور، والتي تقيس الأشياء بمقاييس الكمِّ والحاضر والمُباشر، الكلُّ أمامها واحدٌ بلا تفريق، ما دامت حركات الجوارح واحدة، وما دامت ألفاظ اللغةِ أو نغماتُ الصوت واحدة، وما دامت الظروف الخارجية المُصاحبة لتحقيق الفعل واحدةً كذلك. أفليس الفرق بين الأفعال كلُّه في الداخل؟ وأليس الداخل كلُّه غيبيًّا غير مَرئي؟ (من المقالة المذكورة).

ويأخذ صاحب هذا المذهب الرُّوحي على المُسرفين في الإعجاب بالعلم الحديث أنهم قد نَسُوا أن المعارف العلمية لا تكفي للحياة الإنسانية الصحيحة، وفاتَهُم أن تنمية القوى الرُّوحية في الفرد أهم من تنمية قواه الذهنية؛ إذ بغير الأولى لا يصِل الإنسان إلى النُّضج بمعناه الصحيح؟ فما نُضج الإنسان إلا ذلك التطوُّر الرُّوحي الذي تُمارسه النفوس الصافية في حياتها، فتشعُر حينئذٍ بأنها مُتآزِرة، لا مع أهل الوطن الواحد فحسْب، بل مع جميع أفراد الإنسانية بصرْف النطر عن اختلافهم في اللُّغات والأديان والأجناس والأوطان (مُقدِّمة كتابه «محاولات فلسفية» ١٩٥٢م).

•••

على أن الاتجاه الرُّوحي يظهر أقوى ما يظهر في «التصوُّف» حين لا يقتصِر أصحابه على اتِّخاذه موضوعًا للدراسة فحسْب، بل يُصبح عندهم وجهة نظر ينظرون منها إلى الحياة الفكرية كلِّها. ومن هؤلاء الدكتور محمد مصطفى حلمي فهو يقول في كتابه «ابن الفارض والحُبِّ الإلهي» (١٩٤٥م) (ص٦٦ إلى ٦٨): «إن الصوفية بأذواقهم الرُّوحية وأحوالهم النفسية، ربما كانوا أقدَرَ من العلماء والفلاسفة على إدراك الحقيقة الخفية ومعرفة الذات العلية، لا سيما أنَّ العلماء يصطنعون منهجًا تجريبيًّا قوامه المشاهدة الحِسِّية والتجربة الخارجية، والذات الإلهية ليستْ من المادة في شيءٍ ولا سبيل إلى إخضاعها لهذا المنهج التجريبي، وليس أدلَّ على ذلك ممَّا نلمسه في المذاهب المادية من عجزٍ وقصور عن الوصول من أمر الحقيقة الإلهية إلى حلٍّ يُلائم طبيعتها ويُبين خصائصها في غير ما تشبيهٍ، فنيوتن يُفسِّر عالم المادة ودارون يُفسِّر عالم الحياة، ولكن تفسيرهما من شأنه أن يجعل هذا العالم أو ذاك خُلوًا من كلِّ رُوحانية …» ويمضي المؤلِّف في القول بأن منهج العلوم القائم على المشاهدات الحسِّية والتجارب، إن صلُح لدراسة الجانب المادي، فهو لا يصلح للبحث فيما يجاوز مظاهر الكون، أي أنه لا يصلُح للبحث في الذات الإلهية، فإذا أُريدَ البحث في هذه الذات الإلهية، كانت وسيلتُنا هي الذَّوق الرُّوحي، وهاهنا يكون الفرق بين كلٍّ من العِلم والفلسفة من جهةٍ والتصوُّف من جهةٍ أخرى «فالعلم يُؤسِّس القوانين المُستنِدة إلى المُشاهدة الخارجية والتجربة الحسِّية، والتي يُفسِّر بها أحداث الكون وظواهره دون أن يتجاوَز هذه الأحداث والظواهر إلى ما وراءها، والفلسفة تُحاوِل أن تتعرَّف حقائق الوجود وحقيقة مُبدِعِه ومُفِيضِه عن طريق النظر العقلي … أما التصوُّف فإن له غايةً أسمى من غاية العلم والفلسفة. إذ هو يرمي إلى الاتِّصال المُباشر بحقيقة الحقائق ويَرمي إلى شيءٍ آخَرَ أبعدَ من هذا الاتصال، وهو الشُّعور بالاتحاد مع هذه الحقيقة العُليا.»

وعلى هذا الأساس فإنه يتعيَّن على الصُّوفي — وكأنما يعنى المؤلِفُ نفسَه — «أن يكون أسمى ما يكون عن عالم «المَحسوس بما فيه من أحداث مُتغيِّرة، وظواهر مُتبدِّلة، وأعراضٍ زائلة وأن يترفَّع بقلبِهِ وذَوقِه عن النظر إلى الأشياء بعين الكثرة التي لا يعرِف الماديُّون عينًا غيرَها يُبصِرون بها، وأن يتَّخِذ سبيلَه إلى كشْف الحقيقة من الإشراق الذي ينبثِقُ من أعماق الرُّوح وقد صفَتْ وتحرَّرت من سجنِها المادي.» وهكذا بلغ المؤلِّف في كتابه عن «ابن الفارض» غايةَ المدى في امتزاج الكاتِب بموضوعه في ميدان التأليف الفلسفي. وإن هذه الحساسية نفسها بين الكاتب وموضوعه لتبدو في كتابه «الحياة الرُّوحية في الإسلام» (١٩٤٥م).

•••

كان البحث في الفلسفة الإسلامية من أهمِّ ما قام به رجال الفلسفة عندنا، ففي هذا الباب أصدر الأستاذ الشيخ مصطفى عبد الرازق (١٨٨٥–١٩٤٧م) كتابه «تمهيد لتاريخ الفلسفة «الإسلامية»٩ (١٩٤٤م) الذي وقف فيه وقفةَ العالِم المُحايد، فهو يختفي وراء نصوصِه اختفاءَ من لا يُريد أن يكون له مَيل مُرجِّح سوى ما تُوجِبه النصوص، فالكتاب يشتَمِل على بيان لمَنازِع الغربيِّين والإسلاميين ومناهجهم في دراسة الفلسفة، فالباحِثون الغربيُّون في طريقة عرضِهِم للموضوع تراهُم وكأنَّما يقصدون إلى القول بأن في الفلسفة الإسلامية عناصر أجنبية، ثُمَّ يأخذون في ردِّ تلك العناصر إلى مصادرها غير العربية وغير الإسلامية، مُوضِّحين أثرها الذي يَرونه فعالًا في توجيه الفكر الإسلامي. وأما الباحثون الإسلاميون فيغلِب عليهم أن يَزِنوا الفلسفة بميزان الدين، لكنَّ مؤلف «التمهيد» يتَّخِذ لنفسه منهجًا آخَرَ في درسه لتاريخ الفلسفة الإسلامية، إذ «هو يتوخَّى الرجوع إلى النظر العقلي الإسلامي في سذاجَتِهِ الأولى وتَتبُّع مَدارِجه في ثنايا العصور وأسرار تطوُّره.» (من المقدمة) لأنه يري «أن البحث في تاريخ الفلسفة الإسلامية يكون أدنى إلى المسلك الطبيعي، وأهدى إلى الغاية حين نبدأ باستكشاف الجراثيم الأولى للنظر العقلي الإسلامي في سلامتها وخُلوصِها، ثم نُساير خُطاها في أدوارها المُختلفة من قبل أن تدخُل في نطاق البحث العلمي، ومن بعد أن صارت تفكيرًا فلسفيًّا.» (ص١٠١)؛ والنتيجة العامة التي يستخلِصها القارئ من هذا الكتاب هي أنَّ للمسلمين فلسفةً خاصَّة بهم، مطبوعة بطابعهم، لها بداياتها البسيطة وأدوار نموِّها وازدهارِها.

•••

ونتيجة كهذه أيضًا هي التي انتهي إليها الدكتور إبراهيم بيومي مدكور في كتابه «في الفلسفة الإسلامية، منهج وتطبيقه»، فهو منذ مُقدِّمة الكتاب يَعيب على الباحِثين في الفلسفة الإسلامية أنهم يبدءون بفروضٍ سابقة عن العقلية السامية مثلًا، أو عن العرب بصفةٍ خاصَّة وطريقة تفكيرهم، وبذلك ينتهون إلى نتائج قد تكون صادقة بالنسبة إلى تلك الفروض، لكنها هي وفروضها معًا ربما كانت بعيدةً عن الحقِّ والواقع؛ ذلك لأنَّ تلك الفروض في الغالب «لم تُوضَع بعدُ موضِع دراسةٍ كاملة، ولم تُستمَدَّ من التفكير الإسلامي نفسه في أصوله ومصادره، وإنما أملَتْها صورةٌ مشوَّهة لما كان مُتداولًا من المخطوطات اللاتينية.» (ص٤)، ويقرِّر الدكتور مدكور في توكيدٍ صريح بأنَّ «هناك فلسفة إسلامية امتازت بموضوعاتها وبحوثها، بمسائلها ومُعضلاتها، وبما قدَّمت لهذه وتلك من حلول، فهي تُعنى بمشكلة الواحد والمُتعدِّد، وتُعالِج الصِّلة بين الله ومخلوقاته … وتُحاول أن تُوفِّق بين الوحي والعقل، بين العقيدة والحكمة، بين الدين والفلسفة، وأن تُبيِّن للناس أنَّ الوحيَ لا يُناقِضُ العقل، وأن العقيدة إذا استنارت بضوء الحِكمة تمكَّنت من النفس وثبتَتْ أمام الخصُوم، وأنَّ الدِّين إذا تآخى مع الفلسفة أصبح فلسفيًّا كما تُصبِح الفلسفة دينية، فالفلسفة الإسلامية وليدة البيئة التي نشأت فيها والظروف التي أحاطت بها، وهي كما يبدو فلسفة دينية رُوحية» (ص١٥). ويُخصِّص المؤلف كتابه لبحث طائفةٍ من النظريَّات الفلسفية التي يَظنُّها إسلامية خالصة، كنظرية السعادة والاتصال، ونظرية النبوَّة.

•••

وللدكتور أحمد فؤاد الأهواني دراسات إسلامية مُنوَّعة، تجدِها مُفرَّقة في كُتبه، ففي كتابه «في عالم الفلسفة»١٠ (١٩٤٨م) فصل عنوانه «أمواج الفكر الإسلامي» يُوضِّح فيه أولًا كيف اندسَّت عناصر الثقافات «الفارسية والوَثنية والمسيحية واليهودية إلى الفكر الإسلامي واندمجتْ به، وتكوَّن مع الزمن لَون أو ألوان من الثقافة الإسلامية، هي مزيجٌ من هذا الفِكر الأجنبي والآراء الإسلامية، وقد نجِدُ لونًا من الثقافة إسلاميًّا بحتًا، وقد نجد لونًا آخر تغلِب عليه النزعة اليونانية، وقد نجِد لونًا ثالثًا يظهر فيه الطابع الفارسي وهكذا» (ص٥٤).

على أنَّ الجديد في تناول الدكتور الأهواني لموضوع الفلسفة الإسلامية في هذا البحث، هو تصوُّره لتاريخ تلك الفلسفة على أنه فكرات رئيسية تعاقبَتْ واحدةٌ في إثر واحدة، جيلًا بعد جيل، فقد تشغَل الأذهان اليوم فكرة يدُور حولَها البحث والجدَل، ثُم يجيء الغدُ بفكرة أخرى يدور حولها البحث والجدل، وهلمَّ جرًّا. وهكذا جاء الفكر الفلسفي الإسلامي موجاتٍ مُتلاحقة، على رأس كل موجةٍ فكرة أساسية، أي أن الفلسفة الإسلامية — على هذا التصوُّر — لم تتناوَل موضوعات بعَينِها منذ بداية نشاطها إلى فتور ذلك النشاط، مع اختلافٍ على مرِّ الزمن في درجة النموِّ والنُّضج، ويجمُل بنا أن نذكُر أن المؤلِّف حريص على أن يكون موضوع بحثِهِ هو «الفكر الإسلامي» لا «الفلسفة الإسلامية» لأنَّ «تفكير المسلمين انصبَّ على المسائل الفلسفية كما انصرَفَ إلى المسائل العلمية.» ورءوس الأفكار التي شغلت الأذهان على التتابُع، والتي منها تكوَّنَت «أمواج الفكر الإسلامي» هي: الكُفر والإيمان، التشبيه والتجسيم، التشيُّع، القدَرِيَّة، الإرجاء.

ومن الدراسات ذات الشأن في ميدان الفلسفة الإسلامية مؤلَّفات الدكتور محمد عبد الهادي أبو ريدة عن «الكندي وفلسفته» (١٩٥٠م)، «إبراهيم ابن سيار النظام» (١٩٤٧م) وكتابان للدكتور علي سامي النشَّار، هما «نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام» و«مناهج البحث عند مُفكِّري الإسلام» وقد حاول فيهما موفَّقًا أن يُبيِّن أصالة المسلمين في التفكير منهجًا وموضوعًا ومن الدِّراسات المُقارنة التي تستهدِف الهدَف نفسَهُ كتاب الدكتور محمود قاسم «في النفس والعقل لفلاسفة الإغريق والإسلام وصِلتها بالفلسفة اليونانية» وكتاب الدكتور محمد البهي «الجانب الإلهي من التفكير الإسلامي».

على أنَّ المُشتغلين بالدراسات الإسلامية قد انصرفوا بكثيرٍ من جهدهم إلى التصوُّف الإسلامي بصفةٍ خاصة، يدرُسونه دراسةً علمية، وينشُرون نصوصَه مُحقَّقةً ومشروحة. وإنَّنا لنزدادُ تقديرًا لجهود الباحثين في هذا المجال، إذا علِمْنا أن العمل في هذا الميدان — كما يقول الدكتور أبو العلا عفيفي في مُقدِّمة كتابه «في التصوُّف الإسلامي» — «لا يزال في أول شوطٍ من أشواطه، بالرغم من الجهود العظيمة القَيِّمة التي بذلَتْها طائفة من فُضَلاء العلماء الغربيين منذ أوائل القرن التاسع عشر حتى اليوم.» وللدكتور أبو العلا دراسات كثيرة في التصوُّف، لكن مُحيي الدين بن عربي كان أهمَّ موضوعٍ عُنِيَ ببحثه ونشرِه وشرحِه، حتى لقد أصبح فيه حُجَّة بين المُشتغلين بالتصوُّف في الغرب والشرق على السواء.

وكذلك كان من الدارسين الذين خدَموا التصوُّف الإسلامي بمؤلَّفاتهم ونشراتِهم الأستاذ سليمان دُنيا وبخاصة عن الإمام الغزالي، وكذلك قُلْ عن المرحوم الدكتور زكي مبارك، والدكتور أبو الوفا التفتازاني عن ابن عطاء الله وابن سبعين.

ولو جاز لنا أن نُلخِّص النتائج التي وصل إليها الباحثون في ميدان الفلسفة الإسلامية بكلِّ فروعها، في عبارة مُوجَزة، لقُلنا إنهم جميعًا ينتهُون إلى أن الفلسفة الإسلامية مُتميِّزة بطابعٍ مُستقل، وليست هي مُجرَّد أصداء شارحة لفلسفة اليونان أو غيرها.

٦

على أنَّنا لم نذكُر فيما ذكرناه من نشرات للتُّراث، ومن ترجمة للفلسفة الغربية، ومن تأليفٍ مذهبيٍّ وغير مذهبي، لم نذكر في كل ذلك جهودًا ضخمة قام بها رجال الفلسفة في مصر الحديثة، بما نشروه من مؤلَّفات وفصول أكاديمية في موضوعات اختصاصهم، فللدكتور عبد الحميد صبرة جهوده في فلسفة العلوم، وللدكتور زكريا إبراهيم سلسلة مؤلَّفات، كلٌّ منها يختصُّ «مشكلة» بالبحث، كمشكلة الحرية، ومشكلة الفن، ومشكلة الإنسان، ومشكلة الفلسفة نفسها. وهو في تأليفه ينزع مَنزع الفلسفة الوجودية بصفةٍ عامة. وللدكتور يحيى هريدي مؤلَّفاته في الفلسفة الحديثة والمُعاصرة، وهو يُحاول أن يخرُج ممَّا يكتُب بوجهة نظرٍ خاصَّة يُريد لها أن تكون مُصطبغةً بصبغة «عربية» مُتميِّزة. وللدكتور فؤاد زكريا بحوثه عن نيتشه وسبينوزا وعن المعرفة والوجود. وكذلك يكتُب الدكتور محمد فتحي الشنيطي عن مختلف الاتجاهات الحديثة والمُعاصرة من هيوم ووليم جيمس إلى كارل يسبرز.

وإن القصَّة لتطول بنا لو أردْنا إحصاءً كاملًا أو شبهَ كامل. وإنني لَعلى يقينٍ من أنني قد سهوتُ عن ذكر مؤلَّفاتٍ لها أعظم الأهمية في مُحيطنا الفلسفي، وعن ذِكر مؤلِّفين لا يقلُّون قدرًا عمَّن ذكرناهم، لكنه فصل مُوجَز نكتُبه عن نشاطنا الفلسفي الحديث، الذي إن اختلفَتْ فيه الاتجاهات والمذاهب، فهو مُنصرِف كله إلى تحقيق هدفٍ واحد، وهو أن يضمَن للإنسان حُرِّيَّته، وأن يجعل منطق العقل مَدار أحكامِه.

١  لا يدخل في نطاق هذا البحث علوم النفس والاجتماع والسياسة والاقتصاد.
٢  سيرِد ذِكره مرة أخرى مع المُتخصِّصين، وذلك عند الحديث عن حركة الترجمة في الفلسفة، والمقصود هنا هو مقالاته الفلسفية وإمامته في التعليم الجامعي بصفةٍ عامة.
٣  كان الدكتور شبلي شميل (١٨٥٠–١٩١٧م) أول ناقلٍ لهذه النظرية إلى اللغة العربية، وكان ذلك في كتابه «فلسفة النُّشوء والارتقاء» (١٩١٠م)، غير أنه لم يكن في نقلِها مُقتصرًا على نقْل الفكرة العلمية وكفى، بل اتَّخذَ منها أداةً لإصلاحٍ اجتماعي تربوي شامل — من وجهة نظره — فالإصلاح في رأيه مَرهون بالاعتماد على العلم وحدَه، فلا الدين ورجاله ولا الفلسفة وأصحابها ولا الأدب ولا الفن بذواتِ نفعٍ في إقامة مجتمع مُتحضِّر؛ فليس في الطبيعة إلا الطبيعة نفسها، منها ينشأ النبات والحيوان والإنسان، ومن العبَث أن نتوجَّه بأبصارنا إلى ما وراءها فيفلتَ منَّا ما هو ماثل أمامنا.
وجاء بعد ذلك إسماعيل مظهر (١٨٩١–١٩٦٢م) فترجم «أصل الأنواع» لدارون، وألَّف كتاب «ملقى السبيل» ليرُدَّ به على شبلي شميل وعلى جمال الدين الأفغاني معًا، فالأول قد نقل أصول نظرية التطوُّر عن علماء مادِيِّين مثل بختر وهيكل، فأفسد عليه ذلك تفسيرَه للنظرية تفسيرًا صحيحًا، والثاني قد نسب لدارون ما لم يقُله. وخلاصة الرأي عند مظهر أن نظرية النشوء والارتقاء لا تتنافى مع الدين والفلسفة والأدب والفن، ولإسماعيل مظهر أيضًا «تاريخ الفكر العربي» (١٩٢٨م).
٤  ليوسف كرم كُتب ثلاثة في تاريخ الفلسفة، هي: «تاريخ الفلسفة اليونانية» (١٩٣٦م) وتاريخ الفلسفة الأوربية في العصر الوسيط (١٩٤٦م)، و«تاريخ الفلسفة الحديثة» (١٩٤٩م).
٥  لتوفيق الطويل المُؤلَّفات الآتية: «أسس الفلسفة» (ط٣، ١٩٥٨م) و«الشعراني» (١٩٤٥م) و«التصوُّف في مصر إبان العصر العثماني» (١٩٤٦م). و«قصة النزاع بين الدين والفلسفة» (ط٢، ١٩٥٩م) و«ج. س. مل» (١٩٤٦م) و«ذهب المنفعة» (١٩٥٣م).
٦  للمؤلف نفسه أيضًا: «المنطق الوضعي» (ط٣، ١٩٦٢م) و«برتراند رسل» (١٩٥٦م) و«ديفد هيوم» (١٩٥٨م) و«جابر بن حيان» (١٩٦٢م) و«حياة الفكر في العالم الجديد» (١٩٥٦م).
٧  للدكتور بدوي: «شخصيات قلِقة في الإسلام» (١٩٤٦م) و«شطحات الصوفية» (١٩٤٩م) و«شهيدة العِشق الإلهي، رابعة العدوية» و«مؤلَّفات الغزالي» و«مؤلَّفات ابن خلدون» و«خريف الفكر اليوناني» (١٩٤٣م) و«ربيع الفكر اليوناني» (١٩٤٦م) و«نيتشه» (١٩٣٩م) و«شوبنهور» (١٩٤٢م) و«شبنجلر» (١٩٤٣م).
٨  لم يؤلف صاحب هذه الدعوة كتابًا في مذهبه هذا، ومن مؤلفاته: «الفلسفة الرواقية» (١٩٥٨م) و«ديكارت» (١٩٥٢م) و«شيلر» (١٩٥٨م) و«رائد الفكر المصري الإمام محمد عبده» (١٩٥٥م) «وشخصيات ومذاهب فلسفية» (١٩٤٩م).
٩  وله كذلك: «الدين والوحي والإسلام» (١٩٤٥م) و«فيلسوف العرب والمُعلِّم الثاني» (١٩٤٧م).
١٠  وله أيضًا: «فجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط» (١٩٥٤م). و«أفلاطون» (١٩٥٦م). و«معاني الفلسفة» (١٩٤٧م). و«ابن سينا» (١٩٥٨م).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤