فلاسفة معاصِرُون

كان الناشئ الإسباني الصغير قد تأثَّر بأبيه في إسبانيا أعمقَ الأثر قبل أن يَعبُر المُحيط مع أمِّه إلى أمريكا؛ ذلك أنَّ الوالد كان يصطحِب ابنه الصغير في تنزُّهاته، ويُحاول أن يبذُر فيه بذور الأفكار الرئيسية التي كان يعتقِد في صوابها، فبَذَر فيه كراهيةً للتفكير التأمُّلي الشاطح، وحبًّا للتفكير القائم على الوقائع المُباشرة، كما بَثَّ فيه — في نفس الوقت — حبًّا للشِّعر وتَشكُّكًا في العقائد التي يُولِّدها الخَوف من المَجهول ثُمَّ تنزِل من عقول الجاهلين كأنَّها الحقُّ اليقين.

فما أن ذهب ناشئنا إلى أمريكا وبدأ حياته الدراسية، حتى بدَتْ منه بوادر النُّبوغ وأمارات التفرُّد بخصائصَ تُميِّزُه من بَقيَّة الزملاء، فهو — على خِلاف هؤلاء الزُّملاء — يُحبُّ الدراسة الجادَّة في العُزلة الهادئة، ولا يطمئنُّ نفسًا إذا ما وجدَ نفسه في حشدٍ من الناس، حتى تعرَّض بسبب هذا الشذوذ لسُخرية الزملاء الذين لا يُرضيهم إلَّا أن يكون الكلُّ سواء. لكن كان لفيلسوفنا الناشئ من حدَّةِ اللسان وغضبةِ الثائر ما كفَلَ له الوقاية من لذعاتِ الساخرين.

فلمَّا فرغ سانتيانا من دراسته الثانوية ودخل الجامعة — جامعة هارفارد — وجدَ الفرصة سانحة لإشباع رغبتَيه معًا: رغبته في الدراسة الجادَّة، ورغبته في العُزلة. وكان حتى ذلك الحين يُعاني صراعًا في نفسه عن الموقف الذي يقِفه إزاء الإيمان بالدِّين: أيتنكَّر له ويتشكَّك فيه كما أوصاه أبواه؟ أم يَفيء إلى ظلِّهِ الوارِف المُريح؟ ولبِثَ كذلك حتى فرغ من الدراسة الجامعية، وعندئذٍ حدَّد لنفسه موقفًا صريحًا، ولم يعُد — كما كان من قبل على حدِّ تعبيره هو — «واقفًا من الكنيسة عند بابها.» لا يدخُلها ولا يغادِرُها، إنه الآن فقط استقرَّ قراره: نعم إن الإيمان الدِّيني — كما قال له أبواه — من وَهْم الخيال، ولكنَّهُ خالَف أبويه حين قال لنفسه: وماذا يَعيب وهْمَ الخيال؟ إنَّ خلْقَ الخيال البديع أمرٌ لا مندوحة لنا عنه، ما دُمنا لا نخلِطُه بأمور الواقِع فنظنَّه منها. لا بل إنَّ أُمنيتَهُ أصبحتْ واضحةَ المعالِم أمام عينَيه، وهي أن يكُفَّ عن الشطْح فيما هو فوق الطبيعة، وأن يَكفَّ عن الغَوص في جلبة الحياة الواقعة، ليلُوذ بعُزلة يستطيع فيها أن يُبدعَ بخياله صورًا يعيش معها وفيها. وفي تلك الصور التي خلَقَها وأبدَعَها جوانب فلسفته وأركانها.

لم يكَدْ سانتيانا يظفَر بالدكتوراه في الفلسفة من جامعة هارفارد — وكان من بين أساتذته هناك وليم جيمس وجوزيا رويس — حتى عُيِّن بالجامعة نفسها مُحاضرًا لمدَّة تِسع سنوات، فأستاذًا مُساعدًا لمدَّة تِسع سنواتٍ أُخَر، فأستاذًا لكرسي الفلسفة بالجامعة بعد مَوت أستاذِه جوزيا رويس. ولبث يشغَل منصب الأستاذية حتى غادر هارفارد سنة ١٩١٢م، وكان عندئذٍ قد أوشكَ على الخمسين.

لم يكن فيلسوفُنا سعيدًا إبان مُقامِه بهارفارد؛ فلئن أحبَّ الدراسة لذاتها، فقد كرِهَ التدريس، فتراه في القصَّة الوحيدة التي كتَبَها يقول عن بطلِها إنه اضطرَّ إلى مِهنةِ التدريس لأنه لم يجِد صنعةً أخرى يشتغِل بها. ويقول أحد أشخاص القصة: «إنه ينبغي للناس إما أن يتولَّوا تعليم أنفسهم بأنفسهم، أو أن يظلُّوا جاهِلين، والكثرة الغالبة منهم تُفضِّل البديل الثاني.» وهكذا نظَر سانتيانا إلى تدريسه بالجامعة نظرَتَه إلى الواجب الكَريهِ الذي لم يكن له منه بدٌّ ليعيش أولًا، ولِيدَّخِر ما يُعينه فيما بعد على حياة العُزلة. وفي ذلك يقول: «الحق أنِّي كنتُ دائمًا على غَير طبيعتي في التدريس وفي المُجتمع، ففي كِلَيهما كنتُ أفتَعِل ما أقول افتعالًا.» ولمَّا كان فيلسوفُنا وحيدًا لم يتزوَّج قط، وعاش حياة زُهدٍ لا ترَف فيها ولا إسراف، فقد استطاع أن يدَّخِر ما يُمَكِّنه من الفِرار من مِهنته وهو لم يزَلْ في سنٍّ صغيرة نِسبيًّا، ذلك فضلًا عمَّا أخذ يأتيه من أرباحٍ من كُتبه المنشورة.

ويروي أنه ذات يوم، بينما كان في غرفة المحاضرة يُلقي درسه على طلَّابه، حانت منه التفاتةٌ خلال النافذة إلى الخارج، فنظر إلى طُلَّابه وقال: «إنَّني على موعدٍ مع الربيع.» وخرج من قاعة الدرس بخطواتٍ سريعة ولم يعُد بعدها أبدًا. سافر إلى أوروبا حيث أقام حينًا في أكسفورد (وكان ذلك إبان الحرب العالمية الأولى) وحينا آخَر وأخيرًا في رُوما، وبين الحينَين أخذ يتنقَّل هنا وهناك في ربوع أوروبا، وخلال فترات عُزلته الطويلة أخرج مؤلَّفاته الفلسفية الهامَّة التي منها يتكوَّن مذهَبُه. فقبل مُغادرته لأمريكا كان قد أصدَرَ كتاب «الإحساس بالجمال The Sense of Beauty» عام ١٨٩٦م (وهو مُترجَم إلى العربية) وكتاب حياة العقل The Life of Reason في خمسةِ أجزاء عام ١٩٠٥م، وبعد مُغادرته لأمريكا أصدَرَ مؤلَّفه العظيم «عوالم الوجود Realms of Being». ومات جورج سانتيانا في سبتمبر عام ١٩٥٢م، وكان عندئذٍ قد بلغ من العمر تسعةً وثمانين عامًا.

فلسفة سانتيانا فلسفة طبيعية تُفسِّر الطبيعة بنفسها؛ فهو يذهب — كما يذهب الفلاسفة الواقعِيُّون — إلى أنَّ وعيَ الإنسان بشيءٍ ما من أشياء العالم الواقِع دليلٌ على وجود ذلك الشيء كما هو في ذاته خارج الذات الواعِية له، فمعرفة الإنسان للشيء الذي يُدرِكه هي صورة تُمثل ذلك الشيء تمثيلًا صحيحًا، على أنَّ الإنسان إذ يتَّصِل بالأشياء ليُدرِكها، فإنما يتَّصِل بها اتِّصالًا مُباشرًا لا تكون فيه حلقةٌ وُسطى بين الذات العارفة والشيء المعروف، فإذا كنتُ — مثلًا — أُدرِك هذا القلم في يدي وهذه الورقة أمامي، فلا بُدَّ أن يكون القلم والورقة مَوجودَين وجودًا حقيقيًّا لا يَجوز الشكُّ فيه.

فإذا سأل سائل — كما يسأل الفلاسفة: ومن ذا أدْراكَ حين تَعي مجموعة من الصفات مُجتمعة، كلَون القلم وشكله وصلابتِه بين أصابعك، أنَّ هذه الصفات إنما اجتمعَتْ في شيءٍ خارجي له وجود مُفارِق لوجود أفكارك الكائنة في ذِهنك أنت؟ أليس كلُّ ما تعرِفه معرفة مُباشرة هو خِبرتك أنتَ التي هي في دخيلة نفسك؟ فما الذي يُسوِّغ لك أن تُجاوِز هذه الخبرة الداخلية المُباشرة لتزعُم أنَّ شيئًا خارجيًّا يُقابلها؟ أقول إنه إذا سأل سائل سؤالًا كهذا، أجاب سانتيانا بما أسماها «الإيمان الحَيواني» أو إنْ شئتَ فقل: «الإيمان الفِطري»؛ ففي كيان الإنسان الفطري مثل هذا الإيمان الذي يُؤمِن به أنَّ معرفته الداخلية صورة من عالَمٍ خارجي موجود وجودًا حقيقيًّا، على اختلاف ما بَين الجانبَين: فالجانب الداخلي وَعي وعقل والجانب الخارجي مادة.

وقد يعود السائل المُعترض فيسأل: هل كل ما في الذهن من أفكار يُقابله وجود حقيقي في العالم الخارجي؟ ألا يكون في رأس الإنسان أحيانًا أفكار ذِهنية صِرف، لا يُقابلها في الخارج أشياء؟ وهنا يُجيب سانتيانا: نعم إنَّ أمثال هذه الحالات التي تكون فيها الأفكار بغَير مُقابل خارجي لا شكَّ في قيامها، ولكن ليس فينا من لا يُفرِّق بين هاتَين الحالتين: حالة الفكرة التي يُقابلها في الخارج شيء عَيني، وحالة الفكرة التي لا يُقابلها شيء، ولولا الإيمان الفطري الذي ذكرْناه، لما استطاع الإنسان أن يُفرِّق بين هاتَين الحالتَين عندما تكون الفكرتان داخل الرأس على حدٍّ سواء.

أما بِفَضل هذا الإيمان الفطري فترانا نُفرِّق بين وجودَين: وجود عَيني يُقابِل الأفكار ذوات المُسمَّيات الخارجية، ووجود ذِهني لمَدلولات الأفكار الأخرى التي نعرِف أن ليس لها مُسمَّيات خارجية.

والفرْق الجوهري بين الوجودين: الفكري من جهةٍ والفِعلي من جهةٍ أخرى، هو نفسه الفرْق بين ما كان أرسطو قد أسماه بالوجود بالقوة والوجود بالفعل؛ فالأول وجود بالإمكان فقط، مُستعدٌّ لأن يخرُج إلى الفعل إذا ما توافرتِ الظروف المُواتية، والثاني وجود مُتعيِّن مُتجسِّد في أشياء واقِعة. وواضح أن الموجودات المُمكنة أكثر عددًا من الموجودات الفعلية، لأنَّ تَصوُّر العقل للمُمكنات لا نهاية له ولا حدود، وأما الموجودات الفعلية فمُقيَّدة بالواقع الكائن المُتحقِّق، فكلُّ موجود فعلى كان من قبْل موجودًا مُمكنًا، ثم تحقَّق، ولكن ما كلُّ موجود مُمكن سيُلتَمَس سبيله إلى التحقُّق الفعلي، ومعنى ذلك أنَّ العالم في صورته الواقعة ليس هو العالم الوحيد الذي كان يُمكن أن يكون، بل هناك عوالم أخرى لا نهاية لعدَدِها، يُمكن أن نتصوَّر قيامها، وما العالم الفِعلي إلَّا واحدٌ من تلك المُمكنات، امتاز من دُونها بكونه قد خرج من الإمكان إلى الواقع المُتحقِّق.

هناك إذن عالَمان: عالم المُمكنات وعالَم الأشياء المُتحقِّقة، وهذا العالَم الثاني مَسبوق دائمًا بالعالَم الأول؛ إذ مُحال على شيءٍ أن يتحقَّق وجودُه في العالَم المادي إلَّا إذا كان قبل ذلك فِكرةً في عالَم ما هو مُمكن، حتى إذا برزَتْ إلى الوجود الفعلي حِفنة من بحْر المُمكنات الزاخِر، كان لنا بذلك ما نُسميه «بالحق»، فما «الحق» إلَّا المُمكن الذي تحقَّق ظهورُه بالفعل، ولكنَّنا قُلنا إنه كان يُمكن لغَيره من المُمكنات أن يظهَر بدلَ هذا الذي ظهَر فعلًا وأصبَحَ «حقًّا». وإذن «فالحق» أمرٌ عرَضي لا تُحتِّمه الضرورة العقلية المنطقية، وأعني بذلك أنه لم يكُن هناك ما يُحتِّم أن يظهَرَ هذا الذي ظهَرَ دُون سواه، أي أنَّ ما نَصِفُه بأنَّه «الحق» كان يَجوز ألَّا يحدُث حدوثًا فِعليًّا، وعندئذٍ كان غيره هو الذي سيُوصَف بأنه «الحق».

ونترُك طائفةَ المُمكنات التي تحقَّقت في وجودٍ فِعليٍّ لنسأل: وماذا عن بقيَّةِ المُمكنات التي لم تتحقَّق؟ إنها هي التي يُطلِق عليها سانتيانا اسم «عالم الرُّوح»، لأنه هو العالَم الذي يَلوذُ به الإنسان إذا لم يُعجِبه العالَم المُتحقِّق الواقِع، فقد يضيق الإنسان صدرًا بهذا الذي حولَه من أشياء ونُظُم، فأين يكون مأواه إلَّا أن يلوذَ بعالمٍ يُصوِّرُه بخياله ليعيش فيه؟ لكن من أين له العناصر التي يُنشئ بها عالَمَه الخيالي هذا، إذا لم تكن لدَيه ذَخيرة المُمكنات التي لم تتحقَّق في هذا الواقع الكريهِ إلى نفسه؟ إنَّ الإنسان ليبني لنفسه من هذه العناصر مَثَله الأعلى الذي — في رأيه — لو تحقَّق لكان أجملَ وأفضلَ من هذا العالم الفعلي الذي نَعيش فيه، وما ذلك المَثَل الأعلى المُتخيَّل إلَّا «عالم الرُّوح».

وواضِح أنَّ قِيمة هذا العالَم الأمثل — الذي يُصوِّره الخيال — هي في مُجرَّد تخيُّله، لا في تطبيقِه على الواقِع، ولو طُبِّق ونُفِّذَ لانقلب «حقًّا» واقعًا، ولم يعُد «مَثلًا أعلى»، ولأصبحَ نثْرًا بعد أن كان شِعرًا. وما ذاك العالَم المِثالي المُتخيَّل إلَّا العالَم الذي يلُوذُ به الإنسان من وطأةِ الواقِع، وقوامه ما يرسُمُه الإنسان لنفسه من شِعر ودِين، فماذا يصنَعُ الشاعر سوى أن يُصوِّر لنفسه جمالًا أصفى وأنقى من أيِّ جمالٍ تُصادِفُه عيناه على هذه الأرض؟ ولذلك تراه يُضفي على الأشياء أثوابًا من عنده لتبدوَ على غير ما هي عليه في حقيقتِها الواقعة، فالشَّفَق رقائق من ذَهَب، وجدول الماء فضَّةٌ مُذابة، والأرض المزروعة بساطٌ من سُندس. ثُم ماذا يصنع الدين سوى أن يُصوِّر عالمًا خيِّرا فيه من الخَير ما هو أعظَمُ وأسمى من كلِّ خَير في هذه الدُّنيا الواقِعة، فبِالشِّعر يلوذ الإنسان بجمالٍ يخلُقُه خلقًا ليُعوِّض له نقصَ الواقِع، وبالدِّين يلوذُ الإنسان بخيرٍ يتمنَّاه ليُغنِيَه عن شرِّ الواقع المشهود، لكن لا ينبغي لهذا الإنسان الشاعِر المُتديِّن أن ينسى أنَّ شِعره ودِينَه هُما من عالَمِ المُمكِنات لا من عالَم الواقِع، هُما من المُثُل العُليا المنشودة لا من دُنيا الحقيقة القائمة، هُما من «عالَم الرُّوح» لا من «عالَم الحق»؛ ولذلك فستظلُّ هذه المُثُل العُليا من جمالٍ ومن خَير رموزًا نهتدي بهديها، لا أشياء نُداوِلها ونُعالجها في حياتنا اليومية. نعم إن في هذه المُثُل العُليا غذاء لنفوسنا، وخصبًا لحياتنا، لكنَّنا إذا زعمنا أنها «حقائق»، واقِعة فعندئذٍ نحطُّ من شأنها، وننزِلُ بها من عالَم المَثَل الأعلى إلى عالَم الواقع الأرضي، وعندئذٍ أيضًا يُصبح أمرُها خُرافة وتخريفًا بعد أن كان هُدًى ونُورًا.

الجمال والخير قِيمتان مُنتزعتان من «عالم الروح» — عالم المُمكنات. وأما الحقُّ فقِيمة ثالثة تتعلَّق بما هو موجود وجودًا حقيقيًّا، فلماذا نتطلَّب من الخير والجمال أن يُغيِّرا من طبيعتَيهما ليُصبِحا من أموار الواقع؟ كأنما يُراد أن ينقلِبا «حقًّا» بعد أن كانا «خيرًا» و«جمالًا»! على أنَّ الخير والجمال إن تشابها في أنَّ كليهما من عالم المُمكنات لا من عالم الواقع، فإنهما يَعودان فيختلِفان فيما بينهما اختلافًا بعيدًا، فمَدار الحُكم الخُلقي هو ما ينجُم عن الفضيلة من نتائج مرغوب فيها، على حين أنَّ الحُكم الجمالي لا يستهدِف غاية سوى النشوة المباشرة.

ولهذا الاختلاف بين الخير والجمال، كان من غير الجائز أن نخلِط بينهما خلطًا يجعلنا نتطلَّب من الجميل أن يكون كذلك خيِّرًا، أو من الخيِّر أن يكون كذلك جميلًا. وما أكثر ما نرى الفنان — وهو الذي يُصوِّر الجمال — على خلافٍ مع الأخلاقيِّ، فترى هذا ينقُد ذاك قائلًا إنَّ فنه لا يؤدي إلى الفضيلة، فيردُّ الفنان بحقٍّ قائلًا إنَّ فنَّه لا شأن له بمعايير الأخلاق، فللجمال قِيمة وللخير قِيمة، والقِيمتان مُختلفتان فيما بينهما، كما أنهما في جانبٍ معًا يختلفان عن قِيمة الحقِّ في جانب آخر. وكذلك قُل في الخلاف الذي ينشأ من الخلط بين قِيمتَي الحق والخير، فإدراك الحق هو من شأن العِلم والعلماء؛ لأنهم يُصوِّرون الواقع كما يقع، لكن ما أكثر ما نسمع الأخلاقيِّين ينقُدون العلماء، قائلين إن عِلمَهم مُنافٍ للفضيلة أحيانًا، وذلك حين يرَون نتائج العِلم مؤدِّية إلى دمار، وهنا يُجيب العالم — بحقٍّ — قائلًا إنَّ عِلمه لا شأن له بالفضيلة. وهكذا ترى كيف ينبغي لنا أن نُفرِّق تفرقةً واضحة بين القِيم الثلاث، ولعل هذه التفرقة أن تكون من أهمِّ مهامِّ الفيلسوف.

(٢) ألفرد نورث وايتهد

١

كتب ألفرد نورث وايتهد يصِف نشأته فقال ما فحواه:

وُلِدت في الخامس عشر من فبراير سنة ١٨٦١م في رامزجيت من مُقاطعة كِنْت بإنجلترا، من أُسرة يشتغِل مُعظم أفرادها بشئون التعليم والدين؛ وتلقَّيتُ تعليمي في مراحله الأولى على النَّمَط المألوف عندئذ. فاللاتينية تبدأ دراستُها من سنِّ العاشرة، واليونانية من سنِّ الثانية عشرة؛ ولو استثنَيتُ أيام العطلة، لقُلتُ إنني لبثتُ حتى انتصفَ من عمري عامه العشرون لا أُفوِّت يومًا واحدًا دون أن أقرأ بضعَ صفحاتٍ من التُّراث اللاتيني واليوناني، فأستوعِبها مضمونًا ونحوًا. وقد شملت دراستي لذلك التراث — بالطبع — أعلام المُؤرِّخين القُدامى؛ وكانت دراستي للرياضة تتخلَّل الدراسة الكلاسيكية هنا وهناك.

فلمَّا أوشكت أن أكمِل من العمر عشرين عامًا، بدأتْ حياتي الجامعية كيمبردج، ولبِثتُ مُقيمًا بها ثلاثين عامًا. ومهما بلغتُ من القول فلن أُسرِف فيما أنا مَدين به لهذه الجامعة في الناحِيتَين الاجتماعية والعقلية على السواء.

كانت الدراسة في كيمبردج تقوم على أساس التخصُّص الضيِّق، فتخصَّصتُ في الرياضة بجانِبَيها: الرياضة البحتة والرياضة التطبيقية؛ لكنَّ قاعات الدرس لم تكن إلا جانبًا واحدًا من تربيتِنا الجامعية، فكانت جوانب النَّقص الناشئة عن ضِيق التخصُّص، تُسَدُّ بأحاديث السَّمر التي لم تكن تنقطِع بين الأصدقاء من الطُّلَّاب والأساتذة.

ولم يكن الرباط الذي يجمع الأصدقاء في تلك الأحاديث هو تشابُه الدراسة بينهم؛ إذ كانت الجماعة الواحدة تضمُّ أفرادًا من كافَّة الدراسات، وكان حديثُها يتشقَّق ويتفرَّع ويتَّسع مداه، فيشمل السياسة والدين والفلسفة والأدب، مما حفَّزنا على تنوُّع القراءة. وحسبي في ذلك أن أقول: إنني وأنا المُتخصِّص في الرياضة، أوشكتُ أن أحفَظَ عن ظهر قلبٍ أجزاءً كاملة من كتاب كانط «نقد العقل الخالص»، ولقد نَسيتُ اليوم ما كنتُ قد حفِظته، لأن سِحر كانط قد زال عنِّي وشيكًا؛ وأما هيجل فلم أستطِع قطُّ في حياتي أن أمضي في قراءته، وأذكر أني قد بدأته بدراسة مُلاحظاتِه التي أبداها عن الرياضة، فأدهَشَني أن أجدها هُراء في هُراء، كان ذلك حُمقًا منِّي بغير شك، لكنني لا أكتُب هذا الذي أكتُبه الآن لأُبرهِن على رجاحة عقلي.

وظفرتُ بالزمالة في كيمبردج سنة ١٨٨٥م، ثم ازداد الحظ إقبالًا، فعُيِّنتُ مُحاضرًا، ولبثتُ في التدريس بتلك الجامعة خمسة عشر عامًا، وتركتُها سنة ١٩١٠م لأشغل منصِب التدريس في جامعة لندن، حيث لبثتُ أربعة عشر عامًا، منها عشرة أعوام — من ١٩١٤م إلى ١٩٢٤م — كنتُ خلالها أستاذًا في الكلية الإمبراطورية للعلوم والتكنولوجيا.

كان أول كتاب أخرجتُه هو: «رسالة في الجبر» الذي صدَر سنة ١٨٩٨م، فأدَّى صدورُه إلى انتخابي عضوًا في الجمعية الملَكية سنة ١٩٠٣م، ثم جاء انتخابي زميلا في الأكاديمية البريطانية بعد ذلك بنحوَ ثلاثين عامًا (١٩٣١م) نتيجة لما كنتُ قد أنتجتُه في ميدان الفلسفة.

ذلك أن برتراند رسل كان قد أخرج في عام ١٩٠٣م الجزء الأول من كتابه «أصول الرياضة» فرأي كِلانا أنَّ ما كنتُ أُزمع أن يكون مادة الجزء الثاني من كتابي «رسالة في الجبر» وما كان هو يُزمِع أن يكون مادة الجزء الثاني من كتابه «أصول الرياضة» يلتقِيان في موضوعات بعَينِها، فاتَّفقنا أن نشترِك في إخراج مؤلَّفٍ واحد، وظنَنَّا أن سنةً واحدة تكفينا لإنجاز العمل، لكن أخذ الأُفُق يتَّسِع أمام أبصارنا حتى لقد لبِثْنا ثماني سنوات أو تسعًا قبل أن نُخرِج معًا كتابنا «برنكبيا ماثماتكا»، (ولنطلق عليه «أُسس الرياضة» تمييزًا له من أصول الرياضة الذي أخرَجَه رسل وحده). وكان رسل قد التحقَ بكيمبردج طالبًا في أوائل العشرة الأعوام الأخيرة من القرن التاسع عشر، وقد استمتعت — كما استمتع العالم كله — بألمعِيَّتِه، تلميذًا لي بادئ الأمر، فزميلًا وصديقًا. وكان عاملًا قويًّا في مجرى حياتِنا إبَّان مقامنا في كيمبردج، لكننا اختلفْنا بعدئذٍ في وجهة النظر — الفلسفية والاجتماعية معًا — فأدى اختلافنا ذاك إلى امتناع التعاوُن في عملٍ مُشترك.

وفي سنة ١٩٢٤م — وكنتُ قد بلغتُ الثالثةَ بعد الستِّين — شرُفتُ بدعوةٍ جاءتْني من جامعة هارفارد بالولايات المُتحدة، أن أكون أستاذًا بقسم الفلسفة فيها.

وظلَّ وايتهد مُقيمًا بالولايات المتحدة منذ ذلك الحين حتى وافَتْه مَنيَّته سنة ١٩٤٧م، وكان قد بلغ من عمره السابعة بعد الثمانين؛ فكانت تلك الفترة — ومداها ربع قرن — هي فترة الإنتاج الفلسفي الناضج؛ لأنه وإن يكن قد أخرج وهو في أرض الوطن مؤلَّفات هامَّة في التحليلات الرياضية المنطقية، إلا أنَّ مذهبه الفلسفي لم يكتمِل بناؤه إلا وهو في أمريكا إبان المرحلة الأخيرة من حياته، فهناك أخرج كتابه الذي عرض فيه لُباب فلسفته، وهو: «التطوُّر وعالم الواقع» (١٩٢٩م) ومن مؤلَّفاته الأخرى «العِلم والعالم الحديث» (١٩٢٦م) ومُغامرات أفكار» (١٩٣٣م).

ولو شئنا أن نصِف مُهمَّة الفلسفة من وجهة نظره، لما وجدْنا عبارةً أفضل من عبارته التي يقول فيها: «الفلسفة هي مُحاولة التعبير عن الكون اللامُتناهي بأداة اللغة رغم قصورها.»

٢

لم تكن فلسفة وايتهد تلقى من اهتمام الباحثين إلَّا قليلًا، وذلك يرجِع أولًا إلى المَوجة المُعاصرة في الفلسفة، أعني تلك الموجة التي تمقُت الميتافيزيقا مقتًا يجعلها لا تصبِر على فيلسوف مِثل وايتهد، إلَّا يكن شبيهًا بالفلاسفة المِيتافيزيقيِّين القُدامى في مضمون بناءاتهم الفلسفية، فهو على كلِّ حالٍ ينزع منزعهم في طريقة التناوُل، ويرجع ثانيًا إلى العُسر الشديد الذي يُصادِفه القارئ في فَهْم فلسفته، وهو عُسرٌ مَردُّه إلى مُصطلحاته الجديدة التي أراد أن يَسوق بها فكرَه حتى لا يختلِط معناه بمعاني الألفاظ الدارجة في الحياة اليومية؛ فنَفَر الناس من دراسته بادئ ذي بَدْء نفورًا أنساهم أنه هو شريك برتراند رسل في تأليف «أُسس الرياضة»، كما أنساهم أنَّ كتاباته الميتافيزيقية الأخيرة إنْ هي إلَّا امتدادات وتطبيقات للمنطق الرياضي الذي اشتغل به في الشطر الأول من حياته الفكرية، لكن الأعوام الأخيرة قد شهِدت تغيُّرًا في موقف الدارسين إزاء وايتهد، فرأيْنا المؤلِّفين والمُعلقين يتَّجِهون إلى ما كانوا قد أهملوه؛ وذلك لأنهم وجَدُوا في كتاباته مناقشةً دقيقةً عميقة لكثيرٍ من المشكلات التي يهتمُّ بها فلاسفة العِلم في يومنا الراهن، فلعلَّه أن يكون من طليعة الفلاسفة الذين استخدموا المنطق الرمزي في مُعالجتهم للمشكلات المُجسَّدة التي تُصادفنا في مجرى الخبرة.

لقد كان الظنُّ بادئ ذي بدء أن وَايتهد بدأ حياته الفكرية رياضيًّا؛ علميَّ التفكير، لكنه انتهى آخِر الأمر إلى شطحاتٍ ميتافيزيقية لا تمتُّ بسببٍ إلى حياته العلمية الأولى. لكن الأبحاث التي أخذَتْ هذه الأعوام الأخيرة تتْرى عن فلسفته، تُوضِّح كيف يتَّسِق إنتاجه أوَّلًا مع آخِر، فلا فرق بين علميَّته الأولى وميتافيزيقيته الأخيرة في المبدأ والأساس، بل هما تعبيران عن فكرٍ واحدٍ مُتَّسِق مع نفسه.

والحقُّ أن فيلسوفنا قد اجتاز مراحل ثلاثًا يُمكن تمييزها في مؤلَّفاته.

فمرحلة أولى اهتمَّ فيها بالرياضة والمنطق الرياضي. ومرحلة ثانية نظَر خلالها في الفلسفة الطبيعية لينتهي إلى نتيجةٍ عامة، وهي أنَّ المفاهيم الرياضية والفيزيائية جميعًا يُمكن تعقُّبها إلى جذورها الأولى في الأحداث التي تقَع لنا في خِبراتنا.

ومرحلة ثالثة وأخيرة، هي المرحلة الميتافيزيقية التي بدأتْ بانتقالِهِ من لندن إلى جامعة هارفارد بالولايات المتحدة. وهذه المرحلة الأخيرة هي التي أثارتْ عليه النقد وجلبتْ إليه إهمال الفلاسفة أول الأمر، لا سيما أولئك الذين ينزعون بفلسفتهم نزعةً علمية صارِمة.

وسبيلُنا الآنَ أن نعرِض أهمَّ أركان المذهب الفلسفي الذي جاء به وايتهد.

٣

ونبدأ العرْض بشرح فِكرته عن المُهمة الحقيقية التي يُؤدِّيها التفكير الفلسفي؛ ورأيه في ذلك — كما شرحه في مُقدمة كتابه «التطوُّر وعالم الواقع» — هو أنَّنا بالتفكير الفلسفي نُركِّب إطارًا فكريًّا يصلُح أن نُفسِّر به كلَّ ما عساه أن يقَع لنا في مجال الخبرة. فإن كان هذا هكذا، فلا فرق في المنهج بين الفلسفة والعلم؛ أليس المنهج العِلمي يقتَضينا أن نبدأ بمُعطيات المشاهدة، ثم نصُوغ لها أفضل نظرية مُمكنة لتفسيرها، ثم نعود بهذه النظرية المُفترَضة إلى عالم الواقع لنلتمِس لها التطبيق على وقائع جديدة؟ فهكذا أيضًا منهج التفكير الفلسفي عند وايتهد: حصيلة من معلومات أوليَّة، نغترِفها من الخبرة المُباشرة، نَستوحيها في إقامة خَير إطارٍ فكري مُمكن، يُفسِّر لنا ما قد عرفناه من ظواهر الوجود، ثم عودة بهذا الإطار الفكري إلى حقائق أخرى في العالم نلتمِس لها تفسيرًا في حدود ذلك الإطار لعلَّنا نُفلح. وكلُّ الفرق بين النظرية في العلم والإطار الفكري في الفلسفة، هو في درجة التعميم والتجريد، فإطار الفلسفة أعمُّ وأكثر تجريدًا؛ إذ يُراد أن يُطبَّق على رُقعة أوسع من الرُّقعة التي يُراد للنظرية العلمية أن تنطبِق عليها. أما وجه الشَّبَهِ بينهما فهو — كما قُلنا — ذلك المنهج عند كليهما؛ المنهج الذي يفرِض الفرْض، ثم يَستنبِط منه نتائجه التي يتوقَّع لها أن تصدُق على مُشكلات الواقع الفعلي.

ولو تأمَّلتَ هذا المنهج المُقترَح للتفكير الفلسفي، لنهَضَ أمامك سؤال يُريد الجواب:

إذا كان الإطار النظري الذي نُقيمه في رءوسنا لينطبق آخِر الأمر على عالَم الواقع، مصوغًا — كما يُريد له وايتهد — في دقَّة الرياضة وثَباتها وضرورتها، أفيكون معنى ذلك أنَّ العالم الخارجي التجريبي لا بدَّ له أن يسكن على حالة واحدة، فلا سَير ولا تطوُّر ولا إبداع، لكي يلتئِمَ مع القالب الرياضي الذي تفرضه عليه فرضًا؟

الحقُّ أن وايتهد يجعلها صريحة، بأنَّ إطار المنطق الخالِص ينزل على الكون كأنه قالبٌ من حديد يحصُر مجرى العالم بين جوانبه؛ وأنَّ شبكةَ العلاقات الرياضية الخالِصة تفرِضُ نفسها فرضًا لا فكاكَ منه على عالم الأشياء؛ وهو يَعُدُّ أسبقيةَ العلاقات المنطقية الرياضية على عالَمِ الحوادث بمثابةِ المبدأ الأول في بنائه الميتافيزيقي.

ومعنى ذلك أنَّ الطبيعة مُشيَّدة على نسَق مُتَّصل الأطراف كهذه النَّسقات التي نراها في الرياضة، أي أنَّ الحادثات العابِرات إنما يتَّصِل بعضها ببعضٍ على نحوٍ يربطها ويضُمُّها في وحدةٍ منطقية كالتي تُوحِّد بين أجزاء العِلم الرياضي. ولكن لا سبيل إلى إنكار ما يشعُّ في العالم الطبيعي من جديد يُخْلَق بعد أن لم يكن. ولولا هذا الجديد لوقَف العالَم حيث هو إلى أبدِ الآبِدين؛ لكنه يتقدَّم ويتطوَّر بفضل هذا الجديد الذي ما ينفكُّ ينشأ ويظهر، فكيف إذن نُوفِّق بين إطار منطقي رياضيٍّ أزليٍّ أبديٍّ ثابت من جهة، وطبيعة مُتغيِّرة مُتطورة من جهةٍ أخرى؟

وإن وايتهد لعلى وعيٍ كاملٍ بما يبدو كأنه مُفارقة، فيقول صراحة: إنَّ للطبيعة جانبَين يبدُوان وكأنما هما النقيضان المُتعانِدان، ومع ذلك فكلٌّ منهما جوهري لا غِنى عنه؛ أما الجانب الأول فهو التطوُّر والتقدُّم الخلَّاق، الذي هو جانب الصَّيرورة في الطبيعة، وأما الثاني فهو دَوام الأشياء على صُوَرها التي نعرِفها بها؛ فلا سبيل إلى فَهْمنا للطبيعة إلا بهذَين معًا: صيرورة الأشياء من جهة، والثَّبات المنطقي لها من جهةٍ أخرى؛ وإنَّنا لنُخطئ إذا نحن فصَلْناهما بحيث ننظُر إلى كلٍّ منهما على حِدة، كأنما نقول إنَّ الحق أحدُ أمرَين فإما صَيرورة وإما ثَبات.

نعم إنه لا سبيل إلى تفسير الطبيعة وأحداثها إلا بهذَين المبدأين معًا، فلا تفسير — عند وايتهد — إلَّا إذا استطعتَ أن تضَع الحادثة المُراد تفسيرها في نسَقٍ واحدٍ يجمعها مع غيرها، لترى أين تقَع تلك الحادثة بالنسبة إلى ما عداها؛ وإذن فقِيام الإطار النَّسَقي النَّظري أمر لا مندوحةَ عنه، لنَضَع فيه كلَّ حادثة تَرِدُ في مجرى الخبرة ويُراد فهمها؛ وإلَّا فكيف يكون فهمٌ لحادثة مُنتزَعة من مُحيطها؟ وإذا قُلنا إنه مُحال على كيان طبيعي أن يُبْتَر عن كلِّ ما عداه، فقد قُلنا إنه لا بدَّ لنا من إطار فكري عامٍّ نضعُ فيه الأحداث المُتناثِرة فتُفهَم، وهذا الإطار الفكري العام هو من شأن الفلسفة أن تَبنِيَه.

لكن حذار أن نَظن، كما ظنَّ الفلاسفة السابقون، أنَّ مثل هذا الإطار الفكري، الذي تُقيمه الفلسفة لتفهم به العالم، هو شيء مُطلقٌ أزليٌّ أبديٌّ لا يتغيَّر ولا يتبدَّل؛ كلا، فلا أمَلَ لفيلسوف أن يبلُغ هذا المدى؛ وأنَّى له أن يبلُغه وهو مُقيَّد بقيدَين: مُقيَّد باللغة التي يُصوِّر بها إطاره الفكري، واللغة أبعد ما تكون عن المُطلَق اللامحدود، ومُقيَّد بخياله البشري المحدود؛ إذن فلنقنع بمبادئ تكون — على أحسن الفروض — تقريبات نَدنو بها من المَثَل الأعلى، ونظل نَدنو بها مُهتدِين بضوء خبراتنا بالعالم وما يجري فيه، فكلَّما اقتضتْ تلك الخبرة أن نغيِّر من إطارنا الفكري غيَّرناه.

ذلك أنَّ البناء الميتافيزيقي الذي نُقيمه لنفهم به الطبيعة، لا بدَّ له أن يُفسِّر كلَّ حقائق الخِبرة الواقعة، فإن تعذَّر عليه ذلك، بدَّلناه بما هو أصلح منه، تمامًا كما نفعل في مجال العلم: نفرض النظرية لنفسر بها الظواهر، فإما فسَّرتها وإما عدلناها بما هو أصلَحُ منها للتفسير؛ فهاهنا نلمس الفرق واضحًا بين وايتهد وبين أسلافه من الفلاسفة العقليِّين الذين يُشبهونه في تطبيق الرياضة — أو المنطق — على الطبيعة، أعني في تطبيق نسَقٍ من علاقات نظرية نُقيمه بادئ ذي بدْءٍ لنفهَم به العالم. أقول إننا نلمس هاهنا الفرق واضحًا بين وايتهد وأسلافه العقليِّين، مثل ديكارت وإسبينوزا، فبينما هؤلاء يجعلون مبادئهم الأولى حقائق واضحة بذاتها لا سبيل إلى الشكِّ فيها أو إلى تعديلها، نرى وايتهد ينظر إلى مبادئه الأولى وكأنما هي شيء سِيق على سبيل الاختيار، فإما صلحت فأبقَيناها، وإلَّا بحثْنا عن بديل لها أصلح منها.

٤

الفكرة السائدة عن فلسفة وايتهد عند مُعظم شارحيه، هي أنه قد مال آخِر الأمر نحو الفلسفة الأفلاطونية؛ فلئن كانت نظرية المُثُل هي الركيزة الأساسية في فلسفة أفلاطون، وهي نظرية تفصِل بين عالَمَين: عالم النماذج الصُّورية التي هي أقرَبُ إلى الصِّيَغ الرياضية في ناحية، وعالم الطبيعة المُجسَّدة التي تُحاول أن تقترِب من تلك النماذج في ناحيةٍ أخرى، فكذلك فعل وايتهد حين تصوَّر إطارًا رياضيًّا من علاقات منطقية يفرض نفسه على أحداث الطبيعة؛ وإن الشبه بين الفيلسوفين ليشتدُّ عندما يُحدِّثنا وايتهد عمَّا يُسميه «عالم الكائنات الأزلية» فها هنا لا تكاد العين عند النظرة الأولى تُفرِّق بين تلك الكائنات الأزلية عند وايتهد وبين المُثُل عند أفلاطون؛ ففي كِلتا الحالتين نتصوَّر عالمًا كاملًا كمالًا رياضيًّا ومنطقيًّا، نتصوَّرُه قائمًا منذ الأزل، ليجيء هذا العالَم المادي المَحسوس فيُحاول بصيرورتِهِ وتغيُّره وتَطوُّره وتقدُّمه أن يدنُوَ من ذلك المَثل الأعلى الكامل ما استطاع إلى الدُّنُوِّ من سبيل؛ أو إنْ شئتَ فقل إنَّنا في كِلتا الحالَين نفرِض وجود عالمين: عالم المُمكنات من ناحية، وعالم الموجودات الفعلية من ناحية أخرى؛ ففي العالم الأول صُورٌ لِما يُمكن للأشياء أن تكون عليه لو بلغتْ حدَّ كمالها، وفي العالم الثاني موجودات فِعلية بما فيها من نقصٍ يُبعدها عن الصورة المُثلى.

لكنَّنا لو نظرْنا إلى فلسفة وايتهد هذه النظرة الأفلاطونية لسلَبْناه أخصَّ الخصائص التي تُميِّز فلسفته بحيث تجعلها إحدى الفلسفات التجريبية التي تُفسِّر الطبيعة بالطبيعة ولا تلجأ إلى أيِّ شيءٍ خارج الطبيعة أو وراءَها أو فوقَها؛ فالأمر على حقيقتِهِ هو أنَّ وايتهد حين تحدَّث عن عالَمٍ لكائناتٍ أزلية، فإنما أرادَ به بِنْيةً من المنطق المُجرَّد، اشتقَّها الفيلسوف من الحوادث الفِعلية كما تقَع في الوجود الخارجي الفِعلي، وما بين تلك الحوادث من علاقات. ألسْنا نعيش في عالمٍ من أحداثٍ مُتشابكة في مجرًى مُتَّصِل مكانيٍّ زماني؟ جَرِّدْ من هذا العالَم صورةَ العلاقات التي تتشابَكُ بها أحداثُه، يكنْ لك الهيكل الصُّوري المُجرَّد الذي يُمثِّل بنْية العالم، والذي بوساطته يُمكن فهم العالَم وتفسيره.

فليست الكائنات الأزليَّة التي يُحدِّثنا عنها وايتهد بالكائنات ذوات الخصائص الكيفية، كفِكرة الصَّلابة — مثلًا — أو فكرة البَياض وما إلى ذلك؛ بل هي كائناتٌ غَير مُخصَّصة بخصائص، لكنها ترتبِط في بناءٍ ذي علاقاتٍ معلومة، كما هي الحال — مثلًا — حين تبني نَسَقًا رياضيًّا من رموزٍ ليستْ بذات مَدلول، ومع ذلك فارتباطُها مع غيرها في نسَقٍ علاقي واحدٍ يجعل لها نمَطًا مُعيَّنًا. وهكذا وايتهد ينظر إلى الخبرات البشرية، لا من أجل خصائصها الكيفية، بل ليستخلِصَ منها تركيبَها الرياضي وبِنيَتَها المنطقية، وهذه هي التي يُطلِق عليها اسم الكائنات الأزلية؛ فهيكل العلاقات المُجرَّدة لا يتضمَّن ماهيات الأشياء المُرتبِطة بتلك العلاقات؛ فلك أن تتصوَّر ما شئتَ من أشياء ما دامت ترتبط بتلك العلاقات الصورية؛ أي أنك لستَ مُلزمًا بتحديد صفاتٍ مُعيَّنة تُميِّز بها ما نُسمِّيه بالكائنات الأزلية، والشيء الوحيد الذي أنت مُلزَم به هو شَبكةُ العلاقات الرياضية المنطقية التي تصِل تلك الأطراف بعضها ببعض، كائنةً ما كانت طبيعة تلك الأطراف؛ فالأمر هنا شَبيهٌ بالدَّالة الرياضية ذات الرُّموز المجهولة الدلالة، مِثل س، ص؛ فيَجوز لك أن تضَعَ مكان الرموز أيَّ حقيقةٍ شئتَ ما دامت تتَّسِق مع العلاقات التي تُكوِّن بنْية الدَّالة؛ وفي اللحظة التي تضَعُ مكان الأطراف المجهولة حقائق مُعيَّنة، تتحوَّل تلك البِنية المُمكِنة إلى كائنٍ فعليٍّ مكانيٍّ زمانيٍّ مُحدَّد المعالم معلوم الصِّفات.

وكمَّا أن وايتهد — بكائناته الأزلية — لا يُشبِهُ أفلاطون بمُثُله، فهو كذلك لا يُشبِهُ أرسطو بتصنيفه للأجناس والأنواع؛ لأنَّ أرسطو أيضًا يُقسِّم ويُصنِّف على أساس الخصائص الكيفية للأشياء، وفي رأيِ وايتهد أنَّ هذا فيه تفتيت للكون إلى كيفيَّات مُفكَّكة مَعزول بعضها عن بعض، على حِين أنَّ جوهر العالم هو في العلاقات الرابطة، لا في الكيفيَّات المربوطة؛ فأنت تفهم العالَم، لا بأن تعرِف أنه مُشتمل على ألوانٍ وأصوات … إلخ، مُصنَّفة أنواعًا وأجناسًا، بل تفهَمُه بأن تعرِف هيكل العلاقات التي تربِط مُتغيَّراتٍ في بنية منطقية؛ فعندئذٍ تُصبِح الكائناتُ العلاقية الصورية دالَّة على ما يُمكن أن يكون في أيَّةِ لحظةٍ زمنِيَّة، لا على ما هو موجود بالفعل في إحدى لحظات الزَّمان.

٥

قُلنا إنَّ وايتهد يبحث في خِبرته عن عناصر يستعين بها على إقامة بناء ميتافيزيقي يشمل الكَون كلَّه، فما يصدُق على الخبرة المُباشرة، يصدُق أيضًا على الطبيعة بكامِل ما فيها من أحداث، وذلك هو ما انتهى به إلى نظريَّةٍ من أهمِّ جوانب فلسفته، أطلَقَ عليها كلمةً من كلماتِهِ الِاصطلاحية الكثيرة، التي تُغمِض المعنى على من لا يفهمها، وهي كلمة Prehension ومعناها على الدِّقةِ هو انتقال الخصائص من حادثةٍ ماضية إلى حادثةٍ حاضرة، ثم تَوريث هذه الخصائص نفسها إلى حادثة مُستقبلة، وبهذا يتكوَّن الرباط الذي يَصِل حوادث الماضي والحاضر والمُستقبَل في خطٍّ واحد يظلُّ ينمو ويزداد خصوبةً على مرِّ الزمن، لأنَّ خصائص الماضي تظلُّ تتراكَمُ بالانتقال والتوريث من حادثةٍ إلى حادثة. ولستُ أدري بماذا أُسمِّي هذا كله في كلمةٍ عربية واحدة تُقابِل الكلمة الإنجليزية، وأقترح مُؤقَّتًا كلمة «التشرُّب» فالحاضر يتشرَّب الماضي ثُمَّ يَسقِيَه للمُستقبَل فيَشرَبه وهلمَّ جرًّا؛ لهذا ترى الخطَّ السبَبِيَّ مُمتدًّا مُتصلًا في كل كائن، فهذه الشجرة وهذا النهر وأنا وأنت امتداد من حوادث ماضيها يُسبِّب حاضرها، وحاضِرها يَرسُم طريق السَّير لمُستقبَلِها.

انظُر إلى نفسك من داخل، لتنقُل ما تراه في خبرتك إلى الطبيعة بأسرِها؛ أفلا ترى نفسك نابضةً بالشعور نبضًا يصِل أمسَكَ بيومِك، ثم يمدُّ يومك إلى غدك؟ إنَّ من مثل هذه الصِّلة تكوَّنت فردِيَّتُك الواحدة رغم كثرةِ مُقوِّماتها، وهكذا قلْ فيما يُسمِّيه وايتهد «بنبضات الطبيعة» — وهو اصطِلاح آخَر عنده — نبضات الطبيعة التي يراها مُتمثِّلة في سير الحوادث سيرًا يكوِّن مُفردات الكائنات من جهة، ثم تجاوُبها بعضها مع بعضٍ من جهةٍ أخرى، فنرى الكائن العُضويَّ يستجيب لبيئتِهِ كما نراه حسَّاسًا يتلقَّى مُؤثرات بيئته، وهي عمليات تدِقُّ فتصبح عند الإنسان إدراكًا حسيًّا وإدراكًا عقليًّا، والأساس واحدٌ في الجميع.

وفي الطبيعة ما يُملي مثل هذا الرأي؛ «فنبض الطبيعة» بادٍ في انتقال الطاقة من حادثةٍ إلى حادثة، فترى الإلكترون من كلِّ ذرَّةٍ يُشعُّ سيَّالًا يؤثِّر به على ما جاوره، كما هو بادٍ في انتقال الأثر الحِسِّي على أطراف أعصابِنا، خلال الخُيوط العصبية، ثم يدور دَورتَهُ مُنتقلًا من جُزءٍ إلى الجزء الذي يُجاوِزه حتى ينتهي إلى فعلٍ يؤدِّيه الإنسان، ففاعليةُ الطاقة الطبيعة هي نفسها الانفعال الحي الذي يُمارسه الإنسان في خبرة حياته، وفي هذا الانتقال — انتقال الأثَرِ من ذرَّة إلى ذَرَّة ومن حادثةٍ إلى حادثة — مفتاح نظريَّتِه في أنَّ كلَّ شيءٍ كائن عضوي، والطبيعة كلها كائنٌ عضوي، لا بالمعني البيولوجي لهذه الكلمة، لأنَّ وايتهد لا يبني فلسفته الطبيعية على أساس البيولوجيا، بل إنَّ عِلم الطبيعة وعلم البيولوجيا معًا يتساويان في أنهما يُعالِجان أشياء لكلِّ شيء منها تاريخ، أعني أنَّ لكلِّ شيءٍ امتدادًا في الزمن، تتسلَّل فيه الحوادث ماضيةً وحاضرةً ومستقبلة، ناقِلة خصائصها على الوجه الذي أسلفْناه؛ ففي العالم الطبيعي — كما هي الحال في خِبرة الإنسان مع نفسه — ترى الموقِف الحاضر حصيلةَ تاريخٍ ماضٍ ومُوجِّهًا لتاريخٍ مُقبل. وهذا المذهب العضوي عند وايتهد بهذا المعنى الخاص، هو الذي يَصبغ فلسفتَهُ بلونٍ هَيجلي، وهو كذلك الذي يصِل فلسفتَهُ بمذهب الجشتالت في عِلم النفس، الذي يجعل الوحدة الإدراكية موقفًا بأسرِهِ تتفاعَل فيه عناصره على نحو ما يحدُث فيما يُسمَّى بالمجال في علم الفيزياء.

•••

ونختم هذا العرْض المُوجز لفلسفة وايتهد برُكن آخر من أركان فلسفته، هو الذي يُطلق عليه كلمةً اصطلاحية أخرى من مُصطلحاته الكثيرة، ألا وهي كلمة «مُجتمع»، ومعناها الخاص عند وايتهد هو أن الحادثات لا تظلُّ مُفكَّكة فُرادى، بل تتجمَّع معًا في كائنات، كالشجرة أو النهر أو الجبل أو الفرْد من أفراد الإنسان والحيوان؛ تتجمَّع مجموعة الحوادث في تاريخ واحدٍ وفي خطٍّ سبَبيٍّ واحد، فيتكوَّن منها كائن واحد؛ فكلُّ شيءٍ في الطبيعة يحتفِظ بذاتيَّتِه على امتداد فترة من الزمن قصيرة أو طويلة، هو «مجتمع» باصطِلاح وايتهد. فهذه المنضدة «مجتمع» أحداث، وكذلك هذا المقعد وهذا القلم وذلك الطائر، كلٌّ من هذه الأشياء «مُجتمع» لأنه خطٌّ تاريخي واحدٌ من أحداثٍ تتوارَثُ الخصائص المُعيَّنة حاضرًا عن ماضٍ، ومُستقبلًا عن حاضر، أو قُلْ إنَّ كلَّ شيءٍ منها خَيط يحدُث بين أجزائه المُتتابِعة انتقال يَسودُه احتفاظ النَّمَط كله بذاتية واحدة تُميِّزه؛ وهذا «النظام الاجتماعي» بين حوادث الشيء الواحد — وهنا أيضًا استعمل مُصطلحًا لوايتهد — أي هذا النظام الذي يجعل صِلةً من نوعٍ مُعيَّن بين هذه الحادثة وتلك الحادثة من مجموعة الحوادث في الشيء الواحد، هو الذي يخلَع على الشيء واحِدِيَّته ودوام ذاتِيَّته، ممَّا يُجيز لنا أن ننظُر إلى هذه المِنضدة — مثلًا — فنقول إنها هي المنضدة نفسها التي رأيْناها هنا بالأمس.

يقول وايتهد إنَّ مثل هذا «النظام الاجتماعي» بين أحداث الشيء الواحد، إنما يتحقَّق إذا تحقَّق لخطِّ الحوادث هذه الشروط: فأولًا: أن تكون البِنية الصُّورية أو الهيكل العلاقي (أو الفُورم) الذي نبني عليه حلقةً من حلقات السلسلة التاريخية للشيء المُعيَّن، هو نفسه «الفورم» الذي تُبنى عليه سائر الحلقات، أو بعبارةٍ أخرى أن تدوم للشيء بِنيةٌ صورية واحدة. ثانيًا: أن تكون هذه البِنية الصُّورية المُتشابِهة في الحلقات كافَّةً مُستمدَّة في كل حالة من الخصائص التي تستمدُّها من سائر أعضاء الخَيط التاريخي بوساطة عملية التشرُّب التي أسلفْنا ذكرها. وثالثًا: أن تؤدِّي الخصائص المنقولة من حلقةٍ إلى حلقةٍ إلى ثَباتٍ واتِّصال في ذاتِيَّةِ الشيء.

فما الذي يجعلك تنظُر إلى نهر النيل — مثلًا — في أية لحظةٍ من الزَّمن فتقول: هذا هو نهر النيل، مع أنه سيَّال دافِق من حوادث، وما ينفكُّ يتغيَّر ويتبدَّل بين الغَيض والفَيض.

الذي يُتيح لك ذلك هو أنَّ تَيَّار الحوادث الذي منه يتألَّف تاريخ هذا الكائن، فيه تَشابُهٌ في البِنية الصُّورية عند كلِّ حلقةٍ من حلقات ذلك التاريخ، بحيث تستطيع أن تقتطِف أيَّةَ حلقةٍ منها في لحظةٍ مُعيَّنة فتقول عنها: إنها نهر النيل؛ وإذن فالعلاقة وثيقةٌ في التَّشابُه الصُّوري، وفي التفاعُل السَّبَبي بين الحلقات المُتتابِعات، مما يُجيز لنا أن نقول عنها: إنها كأعضاء المُجتمع الواحد، وإنَّ بينها نظامًا اجتماعيًّا شديدَ الشَّبَهِ بالنظام الذي يَجعل من شتيتِ الأفراد مُجتمعًا واحدًا ذا طابعٍ مُميَّز؛ وإنَّ هذا القول ليصدُق على كلِّ شيء؛ يَصدُق على الذرَّة الواحدة صِدْقَه على الفرد من الناس، كلٌّ منهما مُؤلَّف من أحداثٍ تجتمع معًا على ترتيبٍ خاص وفي بِنية صُورية مُعينة.

•••

من كلِّ هذا الذي أسلفْناه عن فلسفة وايتهد يتبيَّن أنها تقوم على رَكيزتَين أساسيَّتَين، أُخِذتْ إحداهما من المنطق والرياضة الحديثَين، وأُخذتِ الأخرى من عِلم الفيزياء الحديث. فمن المنطق والرياضة الحديثَين أُخِذت طريقة البناء الاستنباطي القائم على مُسلَّماتٍ مَفروضة، يُمكن أن تتبدَّل بغَيرها لو أردْنا نتائج مُختلفة؛ فذلك جانبٌ واضح في فلسفة وايتهد حين يجعل مُهمَّة التفكير الفلسفي أن يضعَ إطارًا فكريًّا ذا علاقات رياضية منطقية، ليُفسِّر به حقائق الكون؛ فإذا وجدْنا لكلِّ حقائق الخبرة مواضِعها من ذلك الإطار النَّسَقي، قُلنا عندئذٍ إنَّ تفسيرنا للكون قائم على أساسٍ صحيح، وإلَّا بدَّلنا بالإطار الفكري المفروض إطارًا آخَر أصلَحَ منه للتفسير؛ وهذان الشِّقَّان: الإطار الرياضي الثابت من جهة، وتيَّارات الحوادث الدافِقة في الطبيعة من جهةٍ أخرى، هو الذي يُفسر اجتماع الخاصِّيَّتَين معًا في كل شيء: خاصِّيَّة الثبات على ذاتية واحدة، ثُم خاصِّيَّة التغيُّر اللَّحظي في مجرى الحوادث. ومن عِلم الفيزياء الحديث أخذَتْ فلسفة وايتهد مبدأ التغيُّر في الذرَّة، الذي تُصبِح معه كلُّ ذرَّةٍ خَيطًا من أحداثٍ مُتتابِعة، فكأنما حقيقتها هي تاريخها، وليست هي بالحقيقة ذات السكون والدوام؛ فأوحَتْ هذه الفيزياء الذرِّية بالفلسفة التي تحلُّ كلَّ شيءٍ إلى سلاسل من حوادث، ولا ذاتيَّةَ للشيءِ الواحِد إلَّا ما يكون بين هذه الحوادث من بِنيةٍ صُورية وعلاقاتٍ سببيَّة. هي التي تجعل من أيِّ كائنٍ كائنًا عُضويًّا.

(٣) جورج مور

١

وُلد جورج مور سنة ١٨٧٣م في إحدى ضواحي لندن، لأبٍ طبيبٍ عُنِي أكبر عنايةٍ بتربية أولاده، حتى لقد تولَّي بنفسه تعليمهم في المرحلة الأولى، فإذا ما أتمَّ الولَدُ من أبنائه هذه المرحلة الأولية على يدَيه، أرسلَه إلى مدرسةٍ عُرِفت بمُستواها التربوي الرفيع؛ وفي هذه المدرسة لبِثَ جورج مور أعوامًا عشرة، من سنِّ الثامنة إلى الثامنة عشرة، ظهر فيها استعداده للدراسة الكلاسيكية من يُونانية ولاتينية، حتى لقد أوشك أن ينصرِفَ إلى دراستِها دون غيرها من مواد إلَّا قليلًا من فرنسيَّةٍ وألمانية ورياضية، وقد فرغ من دراسته الثانوية وهو لا يعرِف كثيرًا ولا قليلًا عن العُلوم الطبيعية؛ مما جعله فيما بعدُ يتمنَّى لو لم يكن قد أنفق كلَّ الوقت الذي أنفقَهُ في ترجمة مُختارات من النَّثر الإنجليزي إلى اليونانية واللاتينية، ومُختاراتٍ من هاتَين إلى اللغة الإنجليزية، ليجِدَ فراغًا من وقتِهِ يملؤه بشيءٍ من العلوم الطبيعية التي أُغلِقت من دُونه.

وأيًّا ما كانت دراستُه في المرحلة الثانوية، فقد دخل كيمبردج، وأنفق عامَيه الأوَّلَين في دراسةٍ كلاسيكية كاد لا يجِد فيها جديدًا يُضاف إلى ما كان قد تعلَّمه في مدرسته الثانوية، لكن الجديد حقًّا خلال ذَينك العامَين، هو تلك المجموعة الفذَّة من شباب الجامعة الذين رآهم يلتقُون معًا للمُناقشة والحديث، فدأب على الاتِّصال بهم والاستماع إليهم، مأخوذًا مَشدوهًا لذلك المستوى الرفيع الذي كانوا يرتفِعون إليه في أحاديثهم ومُناقشاتهم، ممَّا لم يكن لصاحِبِنا به عهدٌ من قبلُ، فهو يَسمعهم يتحدَّثون في السياسة والأدب، والفلسفة وغيرها في براعةٍ وفي عُمقٍ وكذلك في جِدٍّ لم يكن يتصوَّر أن يكون في مُناقشات شبابٍ لم يزل في عهْد الطلَب، فامتلأ فتانا نشوةً وإعجابًا. ولم يكن له إزاء ذلك إلَّا أن يُنصِت لهؤلاء الزملاء في صمت، وأحسَّ في دخيلة نفسه كأنما هو الريفيُّ الساذج جِيء به بغتةً إلى حيث الحضارة والثقافة، ولم يجِد عنده ما يُضيفه ممَّا يقبَل المُقارنة بما يقوله هؤلاء الزملاء، لا بل إنه قد أحسَّ بالزَّهو أن قَبِلتْه تلك الجماعة واحدًا منهم، فكانت هذه أول مرة في حياته — كما يقول هو — يجِد فيها نفسه على علاقةٍ وثيقة حميمة مع أفراد ذوي كفاية عقلية ممتازة، فكان لذلك ما كان في تحريك نفسه وتنشيط عقله.

كان برتراند رسل أحد هؤلاء الطلَّاب، كان يكبُرُ مُور بعامَين عمرًا ودراسةً، وله يرجِع الفضل في أنْ دخَلَ مور ميدان الفلسفة؛ ذلك أنه حين سمِعَه يتحدَّث إليه ويُناقِشه، قال إنَّ له استعدادًا فلسفيًّا يلفِت النظر، وحَثَّه على أن يُكمل العامَين الباقِيَين له في الدراسة الجامعية، في طلَب الفلسفة. وهنا يقول مور إنه لم يكن قد سمِع قبل ذلك أنَّ الفلسفة مادة تُدرَّس في الجامعات، إنه حين ذهب إلى كمبردج لم يتوقَّع إلَّا أن يُواصِل دراسته الكلاسيكية، ليُصبِح بعد تخرُّجه مُدرِّسًا لها في المدارس الثانوية. نعم إنه إبَّان مرحلته الثانوية كان قد درَس مُحاورة بروتاجوراس لأفلاطون، لكنَّهُ لم ينفعِل قطُّ لنوع المسائل الفلسفية التي تُثار في تلك المُحاورة، وغير هذه المُحاورة لم يكن جورج مور قد قرأ شيئًا قطُّ من الفلسفة.

٢

أما وقد ذكَرْنا أولَ لقاءٍ بينه وبين برتراند رسل إذ هما طالِبان في كيمبردج، فيجمُل أن نقِفَ هاهنا وقفةً قصيرة لنَقُصَّ عن علاقةٍ بين هذَين الفيلسُوفَين اللَّذين لا يكاد يُذكَر اسم أحدهما حتى يثِبَ إلى الذهن اسم زميله، لأنهما معًا يُعدَّان زعيمَي مدرسةٍ فلسفية مُعاصرة، هي مدرسة التحليل، حتى لَيُطلق أحيانًا على هذه المدرسة اسم مدرسة كيمبردج، لوجود هذَين الصديقَين في كيمبردج.

ترك برتراند رسل الجامعة سنة ١٨٩٤م، وكان مور لم يزَلْ في مُنتصف شَوطه الجامعي، لكنَّ العلاقة كانت قد توثَّقتْ بينهما، فلَبِثَ مور مدى ستَّة أعوامٍ بعد ذلك دائمَ الِاتِّصال بصديقه، يُناقِشان معًا ما يَعرِض لهما من المسائل الفلسفية، إما في كيمبردج عندما كان رسل يُعاوِدها بالزيارة حينًا بعد حين، وإمَّا في منزل رسل الرِّيفي حين كان مور يُعاوده بالزيارة حينًا بعد حين. وكان الصديقان بطبيعة الحال يُؤثِّر أحدُهما في الآخر بأفكاره ولفتاته، ممَّا حدا بِرَسل أن يعترِف في مُقدِّمة كتابه «أصول الرياضة» بما هو مَدين به لِمُور. ولعلَّ هذا الاعتراف من رسل هو الذي أوحى إلى كثيرين بالظنِّ بأنَّ مور كان أستاذًا لرسل، وأنه أكبر منه سنًّا وأسبقُ منه في الدراسة. وها هنا يُحاول مور في تاريخ حياتِهِ المُوجز الذي كتبَهُ عن نفسه، يُحاول أن يؤكِّد أنَّ الأفكار التي قصَدَ إليها رسل عندما اعترَفَ بفَضْل مور عليه، قد تبيَّن لهما معًا — فيما بعد — أنها أفكار خاطئة، أي أنَّ رسل لم يأخُذ عن مور — فيما يقول مور نفسه — إلَّا أخطاءً على حين أنَّ مُؤلَّفات رسل قد كانت من أهمِّ ما أثار التفكير عند مُور. فلئن كان رسل قد أثَّر تأثيرًا بالغًا في صديقه بالاتصال الشخصي المُباشر، إلَّا أن أثَرَه فيه كان أبلغَ وأعمَق بِكُتُبه التي أنفق مور في دراستها وتحليلها وقتًا أطول بكثيرٍ جدًّا — حسب اعترافه هو نفسه — ممَّا أنفقه في دراسة مؤلَّفات أيِّ فيلسوف آخَر على الإطلاق.

هذا ما يقوله فيلسوفُنا مُور عن تأثُّره برسل، فاسمَعْ ما يقوله رسل عن تأثُّره بمور. يقول ما معناه إنه بعدَ أن كان مُعجبًا بكانْت وهيجل وبرادلي في أول دراستِهِ الجامعية، عاد فانفضَّ عنهم جميعًا لمَّا تبيَّن له أنهم على ضلال، «ولولا تأثير جورج مور في تشكيل وجهةِ نظري، لجاء تَحوُّلي عن هؤلاء بخطواتٍ أبطأ، فقد اجتاز جورج مُور في حياته الفلسفية المرحلةَ الهيجليَّة نفسها التي اجتزتُها، لكنها كانت عندَهُ أقصرَ أمَدًا منها عندي، فكان هو الإمام الرائد في الثَّورة على الفلسفة المِثالية، وتَبعْتُه في ثورته، وفي نفسي شعور بالتحرُّر؛ فبعد أن كان برادلي يقول عن كلِّ الإدراكات الفطرية إنها ظواهر وليست من الحقِّ في شيء، جِئنا نحن لنقول إن كلَّ ما يقول الإدراك الفطري إنه حقٌّ فهو حق، ما دام هذا الإدراك الفطري غير مُتأثِّر بفلسفة أو لاهوت.»

قُلنا إنَّ الصديقَين لَبِثا على صِلةٍ دائمة ستَّ سنواتٍ بعد أن تخرَّج رسل من الجامعة، لكن تلتْها عشرةُ أعوام (١٩٠١–١٩١١م) لم يلتَقِيا خلالها إلَّا نادرًا، ثُمَّ تلاقيا بعد ذلك في كيمبردج زميلَين في التَّدريس.

٣

قضى جورج مور ثمانيةً وعشرين عامًا يدرُس الفلسفة في كيمبردج (١٩١١–١٩٣٩م) وكان من أهمِّ الأحداث التي حدَثَتْ خلالها — فيما يروي مور في قصَّة حياته — لقاؤه بفتجنشتَين، الذي كان له فيما بعدُ أبلغُ الأثر في توجيه مدرسةٍ فلسفية مُعاصرة نشأت في فِينَّا، وهي ما أُطلِق عليها اسم «الوضعية المنطقية». كان فتجنشتَين يستمع لمُحاضرات مور، فلَمَح الأستاذ في تلميذه نُبوغًا حمَلَه على أن يقول: «سُرعان ما شعرتُ إزاءه أنه أبرَعُ مِنِّي في الفلسفة بدرجةٍ كبيرة، بل شعرتُ أنه كذلك أعمَقُ بكثير، وأنفذُ منِّي بصيرةً فيما ينبغي أن يكون عليه البحثُ والسير فيه.» ويمضي مور في رواية قصَّته مع فتجنشتَين فيقول: إنَّني لم أعُدْ أراه في كيمبردج بعد سنة ١٩١٤م، حتى عاد إليها سنة ١٩٢٩م، لكنني لما نُشِرَتْ رسالته في فلسفة المنطق، قرأتُها، مرَّةْ بعد مرَّةٍ مُحاولًا أن أتعلَّم منها؛ فهي رسالة أعجبْتُ وما أزال أُعجَب بها إعجابًا شديدًا؛ نعم لقد وجدتُ فيها كثيرًا ممَّا لم أستطِعْ فهمَه، لكنَّني كذلك — فيما أظن — قد فهِمتُ منها أشياء كثيرةً أراها تُنير أمامنا الطريق بضوءٍ ساطع. ولمَّا عاد فتجنشتَين إلى كيمبردج سنة ١٩٢٩م حضرتُ له مُحاضراته عدَّة أعوامٍ مُتلاحِقة، لم أزدَدْ به خلالها إلَّا إعجابًا فوق إعجاب؛ وأحسَبُه بغير شكٍّ قد جعلني بتأثيره أتشكَّك في أشياء كثيرةٍ كنتُ — لولاه — لِأُثْبتها مُطمئنًا لها. ولقد حمَلَني على الاعتقاد بأن حلَّ المسائل الفلسفية التي كانت تُحيرني، إنما هو مَرهون باصطِناع منهجٍ أجاد هو استخدامُه إجادةً رائعة، وإنه لَيَسُرُّني أنه هو الذي قد خلَفَني في أُستاذية الفلسفة بكيمبردج.

ولقاء آخَر بشخصٍ آخَر يستحقُّ الذكر، هو لقاء فيلسوفِنا بأحدِ طُلَّابه وهو رامزي F. P. Ramsey الذي أبدى من المَقدِرة والذكاء ما استوقَفَ نظر الأستاذ، مُعترفًا كذلك في صراحة أنَّ التلميذ هنا أيضًا قد تفوَّق على أستاذِه تفوُّقًا جعل مور على شيءٍ من القلق دائمًا أثناء المُحاضرة التي يكون رامزي أحد مُستمعيها، خَشيةَ أن يَزلَّ في الخطأ أمام ذلك الذهن النافِذِ المُتوقِّد. ولقد كان يحلو للأستاذ أن يجتمِع بالتلميذ على مُناقشاتٍ لمسائل فلسفية، حتى لقد تواعدا أن يَتعاوَنا على عملٍ مُشترَك، لكن الموت عاجَلَ ذلك الشابَّ النابِهَ قبل أن يبلُغ الثلاثين.

ولا نختم الحديث عن حياة جورج مور قبل أن نذكُر عنه جانبًا هامًّا في تاريخ الفكر الفلسفي الحديث، وهو تولِّيه رئاسة تحرير مجلة «عقل» التي تُعَدُّ من غير شكٍّ في طليعة الطليعة من المجلَّات الفلسفية في العالم كله؛ وظلَّ رئيسًا لتحريرها منذ عام ١٩٢٠ حتى ثقُل عليه المرَض الذي انتهي بموته (١٩٥٩م).

٤

لقد وردت عبارة في السيرة الذاتية التي كتَبَها مور عن حياته، تصلُح — في رأيي— أن تكون مفتاحًا لموقِفِه الفلسفي كله، وهي العبارة التي يقول فيها: «إنَّني لا أظنُّ أن العالَمَ أو العلوم كانت لتُوحي إليَّ أيَّةَ مُشكلاتٍ فلسفية؛ أما ما قد أوحى إليَّ بالمُشكلات الفلسفية فهو أشياء قالَها فلاسفة آخَرون عن العالمَ وعن العلوم؛ ففي كثيرٍ من المسائل التي أُوحِيَ إليَّ بها عن هذا الطريق، وجدتُ نفسي — وما أزال أجِدُ نفسي — مشغوفًا بالبحثِ شغَفًا شديدًا. وكانت هذه المسائل من نَوعَين رئيسيَّين: النوع الأول منها مُشكلات «تدور حول ما يكون الفيلسوف المُعيَّن قد قَصَدَ إليه بشيءٍ قالَه، فماذا عساه يعنى — على وجه الدِّقَّة — بهذه العبارة أو بتلك ممَّا ورَدَ في فلسفته؟ والنوع الثاني مُشكلات تدُور حول هذا السؤال: ماذا يُسوِّغ لهذا الفيلسوف أو ذاك أن يصِف هذه العبارة أو تلك من أقواله بأنها حق؟ أحسَبُني قد بذلتُ حياتي كلها مُحاولًا حلَّ مشكلاتٍ من هذَين النوعَين المذكورين».»

أعتقِد أنَّ هذه العبارة الهامَّة التي قالها مور لِيَصِف بها عمله الفلسفي تكفيني — وتكفي كلَّ كاتبٍ يتصدَّى لوضع مور موضِعَه الصحيح من مجال النشاط الفلسفي — مَئونةَ البحث الطويل؛ فهو لم يبحث في العالَم ولا في أيِّ جُزء منه بحثًا مُباشرًا. إنه لم يتورَّط في حُكمٍ يُطلِقه من عنده على الطبيعة أو ما وراء الطبيعة، أو على الإنسان فردًا أو مُجتمعًا مع غيره، إنه لم يتورَّط في رأيٍ خاصٍّ يُدلي به في شئون السياسة أو الفنِّ أو التاريخ مِمَّا ألِفنْا أن يتحدَّث فيه الفلاسفة الآخرون، كلَّا بل إنه لم يتورَّط في تحليل القضايا العلمية تحليلًا مُباشرًا، بحيث يتناوَل ما يقوله العلماء — عُلماء الرياضة وعلماء الفيزياء بصفةٍ خاصَّة — ليَصُبَّ تحليله على ما هو واردٌ في أقوالهم من مفاهيم وأحكام، أعنى أنه لا هو قد واجَهَ العالَم الخارجي بظواهره مُواجهةً مُباشرة وأدلي فيه برأي، ولا هو تراجَعَ خطوةً فوقف وراء العالِم الذي يتصدَّى للعالَم وظواهره بالبحث المُباشر، بحيث جعل أقوال هذا العالِم موضوعًا لبحثِه، بل إنَّه ترك مِثل هذا التحليل — تحليل أقوال رجال العِلم — لغَيره من الفلاسفة، أما هو فقد وقف وراء هؤلاء الفلاسفة لينظُر في معاني أقوالهم عن العلوم وعن العالَم. فلو كان العالِم هو الذي يصِف العالَم بقوانينه وصفًا مُباشرًا، ثُمَّ لو كان فيلسوف العِلم هو الذي يُحلِّل ما يقوله العالِم، فجُورج مُور هو فيلسوف الفلاسفة — كما يُقال عنه أحيانًا — لأنه يَصبُّ تحليلاته، لا على العالَم وظواهره ولا على العُلماء وقضاياهم ومفاهيمهم، بل يَصبُّها على أقوال الفلاسفة باحثًا عن معانيها التي قصدَ إليها أصحابها، حتى إذا ما اطمأنَّ إلى أنه قد فهِم المقصود راح يسأل إنْ كان عند الفيلسوف ما يُبرِّرُ له الاعتقاد في صواب ما يقوله.

يَتبيَّن من هذا في جلاءٍ أنَّ كلَّ ما يعمله «مور» هو «التحليل»، وليس هو أن يُضيف حُكمًا جديدًا عن جانبٍ من جوانب العالَم، أو عن قضية من قضايا العلم. عمله هو التحليل من أجل فَهم المعنى المقصود ممَّا قد ورَدَ على ألسِنَةِ الفلاسفة من قبله وفي عصره. فتراه يقرأ كتابًا من الكُتُب الفلسفية القديمة أو المُعاصرة ليقِفَ عند فقرةٍ أو عبارة أو كلمة، فيسأل عن معناها الذي يظنُّه المؤلِّف أمرًا مفهومًا مُسلَّمًا به، فإذا هو أمام تعقيدٍ وغموض يقتضِيانِهِ أن يمضي في عملية التحليل، حتى يزول التعقيد وينجلي الغموض، أو يُصرِّح آخِر الأمر أنه إزاءَ شيءٍ غير مفهوم. وما أكثر ما يقول الفلاسفة أشياء يَظنُّونها واضحةً وما هي بواضحةٍ حتى تُحَلَّ وتُشرَح، ثم ما أكثر ما ينتهي التحليل والشرح إلى أن هؤلاء الفلاسفة إنما قالوا — في حقيقة الأمر — شيئًا بِغير معنًى.

والأداة التحليلية التي يَستخدمها مور هي مُحاولته دائما أن يجِد بدَل العبارة التي يتصدَّى لتحليلها عبارةً أخرى تُساويها معنًى لكنها تكون أوضحَ منها؛ وذلك لأنَّ العِبارة الثانية من شأنِها أن تبسط ما كان قد تركَّز في العبارة الأولى، ولهذا وَجَب أن تكون كلمات العبارة الثانية أكثرَ عددًا من كلمات العبارة الأولى، رغم تساويهما في المعنى. وأبسط مثَلٍ نَسوقُه لذلك هو أن نُحلِّل العبارة القائلة: «الحَسَن أخو الحُسين» بقولنا: «إن الحَسن والحُسين اسمان أُطلِقا على ذكَرَين اشتركا في الوالِدَين اللَّذَين أنسلاهُما، فوالِد أحدهما هو والد الآخر، ووالدة أحدهما هي والدة الآخر.»

٥

ليست المُشكلة عند مور هي ماذا نعرِف؟ بل المُشكلة هي: ماذا نعني بهذا الذي نقول إننا نعرفه؟ ذلك لأنه يركَن في تحصيل المعرفة إلى الذَّوق الفِطري — وهذه هي إحدى خصائصه المُميِّزة — فالذوق الفِطري، أو الإدراك الفِطري، صادِق فيما يَهدينا إليه من صنوف المعرفة. ولو جاءك إدراكُكَ الفِطريُّ بمعرفة، كأنْ تعرِف مثلًا أنك موجود وأنك ذو بدَن وأنك تنتقِل من مكانٍ إلى مكان وهكذا، أقول إنه لو جاءك إدراكُك الفطري بمعرفةٍ كهذه ثم سألت: أهي معرفة صادِقة؟ كنتَ في رأي مور تسأل سؤالًا غير مشروع. ومع ذلك فما أكثر ما يسأل الفلاسفة أسئلة كهذه! أهذه المِنضدَة التي أمامي وهذه الورَقة وهذا القلم في يدي موجودة حقًّا؟ هل أنا اليوم هو نفس الشخص الذي كُنتُه بالأمس؟ هل أنا حُرُّ الإرادة في تحريك يدي حين أُحرِّكها بكتابةِ هذه الأسطر الآن؟ وإذا كنتُ مُوقنًا بوجودي، فهل أوقِنُ كذلك بوجود الأشخاص الآخرين، وبأنَّ لهم مشاعر كمشاعري وخواطر كخواطري، وهكذا وهكذا. نعم ما أكثر ما سأل الفلاسفة أسئلةً كهذه يُريدون أن يَستوثِقوا بها إن كان إدراكُهم الفِطريُّ قد صَدَقَهُم النَّبأ حين أنبأَهُم بهذه الأمور كلها. أما «مور» فمَوقِفه آخَر، وهو أنَّ السؤال لا يكون عن صِدق ما يجيء به الإدراك الفِطري؛ لأنَّ هذا الصِّدق لا ينبغي أن يكون مَوضع تساؤل، وإنما يكون السؤال عن تحليل المعرفة التي يَجيء بها الإدراك الفطري لِنُلِمَّ بعناصرها فنفهم مقوماتها ومَدلولها فَهْمًا صحيحًا.

ويشرح مور وجهةَ نظرِهِ هذه في بحثٍ عنوانه «دفاع عن الذَّوق الفطري» يقول فيه إنه بالإدراك الفِطري مُوقِن بأنَّ ثَمَّة الآن جسدًا بشريًّا — هو جسدُه — وأن هذا الجسَد قد وُلِدَ في لحظةٍ مُعيَّنة من الزَّمن الماضي، وأنه لم يزلْ منذ تلك اللحظة موجودًا وجودًا مُتَّصِلًا، رغم تعرُّضه للتغيُّر، فمثلًا كان لحظة ولادَتِهِ أصغرَ جدًّا مما هو الآن؛ ولقد ظلَّ هذا الجسَد منذ ولادته حتى الآن إما لصيقًا بالأرض أو مُفارقًا لها على مسافةٍ ليست بعيدةً عنها؛ ولقد كانت هنالك منذ وُلد هذا الجسد، أشياء أخرى كثيرة، ذوات شكلٍ وحجم في أبعادٍ ثلاثة، وأن هذا الجسد قد كان على مسافاتٍ مُتفاوتة من هذه الأشياء، فبعضها أقرب إليه من بعض. ومن بين الأشياء التي كانت تُحيط به منذ ولادته فتكوِّنُ بيئتَه، عددٌ كبير من الكائنات البشرية، كل منها شَبيهٌ به في أنه (أ) قد وُلِدَ في لحظة مُعيَّنة من الزمن الماضي، (ب) وأنه قد لبِثَ موجودًا فترة ما بعد ولادته، وأنه (ﺟ) كان في لحظةٍ زمنية منذ ولادته إما لصيقًا بالأرض أو مفارقًا لها مسافةً ليست بعيدة عنها، وأعلم كذلك بإدراكي الفطري أنَّ كثيرين من هؤلاء الناس قد ماتوا واختفَوا من الوجود، كما أعلم أنَّ الأرض التي نعيش عليها كانت موجودة قبل ولادتي بزمن طويل؛ وأنها شهدتْ ناسًا غيري ولدوا وماتوا قبل أن يُولَد جسدي، وأخيرًا فإني أعلم أنني كائن بشري أخذتْ تمرُّ به الخِبرات منذ ولادته، فيُدرِك بحواسِّه أشياء وما بينها من علاقات.

هذه كلها أشياء عرفْناها بالإدراك الفطري، معرفةً لا يجوز أن تكون مَوضع تساؤل، وإنما الذي يجوز — بل يجِب — إزاءها، هو أن نُوضِّح بالتحليل ما هو مُتضمَّن فيها، ابتغاء الفَهم الكامل لمَدلولاتها. إنَّ عبارة مثل قولنا: «لقد كانت الأرض موجودة لعدَّة أعوامٍ مضت.» حقيقة يشهَد الذَّوق الفطري بصِدقها، وليس وراء شهادته شهادة، لكنَّنا لو سألْنا فلاسفة كثيرين: هل صحيح أنَّ الأرض كانت موجودةً لعدَّة أعوامٍ مضت؛ لما عدُّوه سؤالًا بسيطًا يُجاب عليه بنعم أو بلا، أو يُجاب عليه بقولِنا إنَّنا لا نعرِف الجواب الصحيح، بل تَراهم يقولون: إنَّ الإجابة تتوقَّف على معنى الكلمات التي وردَتْ فيه، مثل كلمة «الأرض» وكلمة «موجودة» وكلمة «سنين» فإذا كانت معاني هذه الكلمات هي كذا وكذا فالجواب هو كذا، وأما إذا كانت معانيها هي كيت وكيت فالجواب هو كيت. لكن مور — على خِلاف أمثال فلاسفة كهؤلاء — يؤكد أنَّ عبارة كهذه هي نموذج الوضوح، لأنها مفهومة عند الإدراك الفطري، وهذا وحده فيه ما يكفي؛ وكلُّ من ساوَرَتْه النفس بأن يتشكَّك في فهمه لِعبارة كهذه، هو في الحقيقة شخص يخلِط بين مَسألتَين مُختلفتَين؛ الأولى هي: هل نفهَم العبارة؟ والثانية هي هل نعرِف تحليل هذا الذي فهِمناه؟ أي أنه هو الفرق بين إدراك المعني من جهةٍ وإدراك عناصره التي ينحلُّ إليها من جهةٍ أخرى، وهي تفرقة بالِغة الأهمية؛ لأنه بينما يجعل فلاسفةٌ كثيرون الأمرَ الأول موضوع اهتمامِهم، ترى مور ينقُل مركز الاهتمام إلى الأمر الثاني؛ فهو — مثلًا — لا يسأل كما سألَ ديكارت: هل حقًّا أنا موجود؟ بل هو يسأل بدلَ ذلك: ما تحليل العبارة التي أقول بها إنني موجود؟

والفرق — كما ترى — بعيد بين الوقفتَين، فالذي يتشكَّك فيه الفلاسفة الآخَرون يجعله مور موضِعَ تصديقٍ لا شكَّ فيه، والذي يؤمن بصِدقه الفلاسفة الآخرون هو الذي يجعله مور موضع شكٍّ وحافزًا على البحث؛ فقد يتشكَّك الآخرون في صِدق عبارة كهذه: «قد ظلَّتْ هذه الأرض موجودةً لأعوام كثيرةٍ مضت.» ويتساءلون ما بُرهانُنا على صَوابها؟ وهم في الوقت نفسه يطمئنُّون إلى الطريقة التي يُحلِّلون بها معناها كأنما هُم على فَهْمٍ دقيق لعناصرها. أما مور فيعكس الوضع: فهو لا يَشكُّ في صِدق العبارة لكنه في الوقت نفسه لا يطمئنُّ أبدًا إلى تحليلها الصحيح كيف يكون وماذا عساه أن يكون.

٦

ويُطبِّق مور مبدأه في قَبول الإدراك الفِطري على فكرة الخير فلا يتردَّد في قَبولها إذ يكفي أنَّ الإنسان بإدراكه الفطري يعلم أنَّ الخير موجود.

فإذا سألت عن «الخير» ما تعريفه، فستنتهي إلى أنه شيءٌ بغَير تعريف، لأنك لكي تُعَرِّف الشيء، فلا بدَّ لك من تحليله إلى عناصره البسيطة، أما إذا كان بسيطًا بطبيعتِهِ لا ينحلُّ إلى ما هو أبسط، تعذَّر التعريف؛ فالبسيط يُدرَك بذاته إدراكًا مُباشرًا ولا يحتاج إلى سواه ليُعين على توضيح معناه؛ لهذا يقول مور: إنني إذا سُئلتُ «ما هو الخير؟» لأجَبتُ بقولي: «الخير هو الخير.»

وفي هذا ختام السؤال وختام الإشكال، أو إذا سُئلتُ «كيف تُعرِّف الخير؟ لأجَبتُ بقولي: «إنَّ الخير لا تعريف له؛ لأنه فكرة بسيطة شأنها في ذلك تمامًا شأن اللون الأصفر، فكيف تُعرِّف اللون الأصفر لمن لم يرَه؟ إنَّ ذلك مُحال، لأنَّ اللون الأصفر بسيط غير مُركَّب، ويُدرَك مباشرة أو لا يُدرَك على الإطلاق؛ فكذلك الخير؛ فالتعريف محال إلا على الأشياء المُركَّبة، وأما الأشياء البسيطة فواضحة بذاتها وليست بحاجةٍ إلى تعريف».»

إنك تستطيع أن تُعرِّف الحصان، لأن الحصان مُؤلَّف من خصائص مُختلفة كثيرة، وتعريفه هو عبارة عن عدِّ هذه الخصائص، أما إذا وصلتَ إلى الخصائص البسيطة وأردتَ تعريف إحداها، فلن تجِد ذلك مُستطاعًا، لأنها هي نهاية طريق التحليل والتعريف، فهي أشياء تنظُر إليها وتُدرِكها، لا أكثر ولا أقل — وعند مور أن «الخير» هو من قبيل تلك الأفكار البسيطة التي تُدرَك مُباشرة وتُدرَك بذاتها، وليس وراءها ما هو أبسط منها تنحلُّ إليه وتُعَرَّف به؛ وهنا يُنبهنا مور إلى غلطةٍ وقَعَ فيها الفلاسفة الأخلاقيُّون، وهي أنهم إذا رأوا هذه الحقيقة البسيطة مقترنة دائمًا بصفةٍ أخرى ظنُّوا أنَّ هذه الصفة الأخرى هي تعريف الخير، مثال ذلك أن يرَوا الخير مصحوبًا دائمًا بنشوة النفس أو سعادتها، فيقولون إنَّ الخير هو السعادة، على حِين أنَّ اقتران الشيئَين لا يجعلهما شيئًا واحدًا.

٧

هكذا كان مور نصيرًا للذَّوق الفطري، أو الإدراك الفطري، في قَبوله لما يراه الإدراك الفطري حقًّا ورفضِه لِما يراه الإدراك الفطري باطلًا. فإن قال الإدراك الفطري إن في يَدي قلمًا، كان هنالك يدٌ وقلمٌ على الرغم من كل ما يقوله الميتافزيقيون عن صِدق أو عدم صِدق هذا القول؛ وكما أسلفْنا، ليستِ الفلسفة عند مور هي أن تسأل إن كان هنالك حقًّا يدٌ وقلمٌ أو لم يكُن، بل مُهمَّتُها هي — بعد قَبولها لصِدق ما يُقرِّره الإدراك الفطري — مُهمَّتها أن تبحث عمَّا عسى أن يَعنيه ذلك بالتفصيل. فإن كانت المُعطيات الحِسِّية هي التي دلَّتْنا على وجود القلم بين أصابع اليد، سألْنا ما طبيعة المُعطَيات الحِسِّية، وما طبيعة الإدراك الحِسِّي وهكذا.

كذلك إن قرَّر لنا الإدراك الفطري أنَّ في العالم خيرًا، كان وجود الخَير أمرًا لا يُنازَع فيه، وتُصبِح مُهمَّة الفلسفة تحليل العبارة التي تقول «هذا خير» لا أن تتشكَّك في صوابها.

وكان من أهمِّ ما كتَبه مور فصل بعنوان «دحض المِثالية» يُحلِّل فيه موقِف الفلاسفة المِثاليِّين تحليلًا يُظهِر بطلانَ مذهبهم؛ فهذا المذهب مِحوره الرئيسي هو المبدأ القائل بأن وجود الشيء هو وقوعُه في خِبرة ذاتٍ ما. ولمَّا كانت خِبرة الذات رُوحانية في طبيعتها وليست مادية، كان الوجود كله رُوحانيًّا في طبيعتِه فيتناول مور مبدأهم هذا بالتحليل ليُبيِّن أنه ينطوي على تناقُض؛ لأنه إذا كان هذا المبدأ صادقًا كما يزعُم له أصحابه، فلا يخرج صِدقه هذا عن أن يكون إما صدقًا تحليليًّا أو صدقًا تركيبيًّا، (والصِّدق التحليلي هو الذي يُقام عليه البُرهان بقانون عدم التناقُض وحده؛ فيكفي أن يكون الشطر الثاني من الجملة مُتضمِّنًا في الشطر الأول منها، وألا يكون بين الشطرَين تناقُض، لنقول عن الجملة إنها صادِقة صدقًا تحليليًّا. وأما الصدق التركيبي فهو ما لا يُكتفَى في البُرهان عليه بقانون عدَم التناقُض وحده، بل لا بُدَّ كذلك من صِدق الجملة على الواقع).

نقول إنَّ صِدق هذا المبدأ إما تحليلي أو تركيبي بالمَعني الذي حدَّدناهُ الآن لهاتَين الكلمتَين؛ فإن كان تحليليًّا، كانت كلمة «خبرة» وكلمة «وجود» مُترادِفَتَين ولم يكن المبدأ دالًّا على شيءٍ سواء أكان صادِقًا أم كاذبًا، فذلك شَبيهٌ بأن تُكرِّر كلمة «الورقة» مثلًا مرَّتَين: فتقول الورقة الورقة، فلا يكون ذلك دليلًا على وجود ورقة أو عدم وجودها. وأما إن كان صِدق مبدئهم تركيبيًّا، احتاج الأمر إلى واقِعٍ موجود خارج الذات نفسها لنُراجِع المبدأ عليه فنعرِف إن كان صادقًا حقًّا أو غير صادق، وما دام هنالك واقِع خارج الذات، بطَلَ أن يكون الوجود مُنحصِرًا في الذات وحدَها.

على أنَّ هذه اللَّمحات القصيرة التي قُلتها عن بعض الجوانب التي تناوَلَها مور بتحليلاته، ليستْ بذاتِ نفعٍ كبير؛ لأنَّ أهمَّ ما في فيلسوفِنا هو طريقته في التحليل، وليس هو هذه النتيجة المُعيَّنة أو تلك في الميتافيزيقا أو في الأخلاق أو في غيرهما من موضوعات البحث الفلسفي.

١

وُلِد برتراند رسل سنة ١٨٧٢م. وقد جاء في الترجمة الذاتية المُوجزة التي كتبَها عن نفسه ما معناه:

ماتت أمِّي وأنا في الثانية من عمري، وكنتُ في الثالثة حين ماتَ أبي، فنشأتُ في دار جدِّي لورد جون رسل، ثم مات جَدِّي، فتولَّتْني بالتعليم جدَّتي، فكانت أقوى أثَرًا في تَوجيهي من أيِّ شخصٍ آخر، وقد أرادتْ جدَّتي هذه لأولادها ولأحفادها أن يَحيَوا حياةً نافعة فاضلة، ولم يكُن بها مَيل أن ينصرِف أولئك الأولاد والأحفاد في حياتهم إلى ما قد تواضَعَ سائر الناس على تسمِيَتِه بالنجاح. وكانت بِحُكم عقيدتها البروتستانتية تؤمِن بضرورة أن يكون للأفراد أنفسهم حقُّ الحُكم على الأشياء، بحيث يكون لضمير الفرد سُلطة عُليا. وكانت مكتبة جَدِّي هي غُرفة دراستي ومُوجِّهة حياتي، فكان فيها من كُتُب التاريخ ما أثار اهتمامي:

وحدَث حادِث عظيم في حياتي عندما كنتُ في عامي الحادي عشر، وهو أني بدأتُ دراستي لإقليدس، الذي لم يزَلْ عندئذٍ هو المتْن المُعترَف به في دراسة الهندسة، وأحسسْتُ بشيءٍ من خَيبة الرجاء، حين وجدتُه يبدأ هندسته ببديهيَّات لا بُدَّ من التسليم بها بغَير بُرهان؛ فلمَّا تناسَيتُ هذا الشعور، وجدتُ في دراسته نشوةً كُبرى، حتى لقد ظلَّتِ الرياضة بقيَّة أعوام الصِّبا تستوعِبُ شطرًا كبيرًا جدًّا من اهتمامي.

وذهبت إلى كيمبردج في سنِّ الثامنة عشرة، وكنتُ قد عشتُ حياةً مُعتزلة إلى حدٍّ بعيد؛ ذلك أني نشأتُ في داري على أيدي مُربِّياتٍ ألمانيَّات، ثُمَّ انتهى أمري بعد ذلك إلى مُربِّين من الإنجليز، فلم أُخالِط الأطفال إلَّا قليلًا، وحتى إنْ خالطتُهم وجدتُهم لا يُثيرون من نفسي اهتمامًا بأمرِهم. ولمَّا كنتُ في عامي الرابع عشر أو الخامس عشر، اهتممتُ بالدِّين اهتمامًا شديدًا، وجعلتُ أقرأ مُفكرًا في البراهين التي تُقام على حُرِّية إرادة الإنسان وعلى خُلودِهِ وعلى وجود الله. وقد كان يُشرِف على تربيَتي لبضعةِ أشهُر أستاذ مُتشكِّك، فكنتُ أجِد الفُرصة سانحة لمُناقشتِه في أمثال هذه المسائل، لكنه طُرِدَ من عمله، ولعلَّهم طردوه لظنِّهم أنه يَهدِم لي أساس إيماني، فإذا استثنَيت هذه الأشهر التي قضيتُها مع هذا الأستاذ وجدتني قد احتفظتُ بفِكري لنفسي، أُدوِّنه في يوميَّاتٍ بأحرُفٍ يونانية حتى لا يقرأها سواي؛ لهذا كنتُ أشقى شقاءً من الطبيعي أن يُعانِيَه مُراهق مُعتزِل عن الناس، وعزوتُ شقائي عندئذٍ إلى فقداني للإيمان الدِّيني.

فلمَّا ذهبتُ إلى كيمبردج انفتح أمامي عالَم جديد من نشوةٍ ليس لها حدود، إذ وجدتُ للمرَّةِ الأولى أنَّني إذا ما صرَّحتُ بما يدور في خلدي من أفكار، صادف عند السامِعين قَبُولًا، أو كان عندهم — على الأقل — جديرًا بالنظر؛ وكان وايتهد هو الذي اختبَرَني في امتحان الدخول، وقد ذكَرَني لكثيرين، فلم يَمضِ أسبوع واحدٌ حتى التقيتُ بمن أصبحوا بعد ذلك أصدقاء العُمر كله، وهم نَفَرٌ يتميَّزون بقُدرتِهم العقلية وتحمُّسِهم وأخذِهم الأمور مأخَذَ الجِدِّ، وكانوا يتناولون باهتمامهم أمورًا كثيرة خارج نِطاق عَمَلِهم الجامعي، فيُولَعون بالشعر والفلسفة، ويُناقِشون السياسة والأخلاق وشتَّى نواحي العالم الفكري، فكُنَّا نجتمِع أماسي أيام السبت لندخُل في مُناقشات تطول حتى ساعة مُتأخِّرة من الليل، ثم نلتقي على إفطار مُتأخِّر صباح الأحد، ثم نخرُج معًا للمشي بقيَّة اليوم.

كان ماكتاجارت بين أصدقائي في كيمبردج وهو الفيلسوف الهيجلي الذي حمَلَنا بفِطنتِهِ على دراسة الفلسفة الهيجلية، وقد علَّمني كيف أنظر إلى الفلسفة التجريبية الإنجليزية نظرةً ترى فيها فجاجةً وسذاجة. وكنتُ أميل إلى الاعتقاد بأن هيجل — وكذلك كانْت بدرجةٍ أقل — يتَّصِفُ بعُمق هيهاتَ أن تجد له مثيلًا في لوك وباركلي وهيوم، بل هيهات أن تجِد له مثيلًا عند الرجل الذي كنتُ قد اتَّخذتُه لنفسي قبل ذلك إمامًا رُوحيًّا، وأعني به جون ستيوارت مل. كنتُ في الثلاثة الأعوام الأولى من حياتي في كيمبردج أكثر شُغلًا بالرياضة من أن أجِد فراغًا أقرأ فيه كانْت أو هيجل، أمَّا في السنة الرابعة فقد انصرفْتُ إلى الفلسفة باهتمامي.

وقد حدثتْ لي خلال عام ١٨٩٨م أحداث جعلتْني أنفَضُّ عن كانْت وعن هيجل في آنٍ معًا. من ذلك أني قرأتُ كتاب هيجل «المنطق الكبير» فكان رأيي فيه عندئذٍ — ولا يزال هو رأيي إلى اليوم — أنَّ كلَّ ما قاله هيجل عن الرياضة كلامٌ فارغ خرَج من رأسٍ مهوش. كذلك حدَث في ذلك العام ما جعلني أرفُض براهين برادلي التي أراد بها أن ينفي التكثُّر في الأشياء، لنفيِهِ وجود ما بينها من علاقات، كما رفضتُ كذلك الأُسس المنطقيةَ للمذهب الواحدي، وكرهتُ النظرة الذاتية التي تنطوي عليها فلسفة كانْت، ولولا جورج مُور في تشكيل وجهة نظري لفعلَتْ هذه العوامل فِعلَها بخطواتٍ أبطأ؛ فقد اجتاز مور في حياته الفلسفية المرحلةَ الهيجليَّة التي اجتزتُها، لكنَّها كانت عنده أقصرَ أمدًا منها عندي، فكان هو الإمام الرائد في الثورة، وتَبعتُه في ثورتِهِ وفي نفسي شعور بالتحرُّر. لقد قال برادلي عن كلِّ شيءٍ يؤمن به الذَّوق الفطري عند الناس إنه ليس سوى ظواهر، فجِئنا نحن وعكسْنا الوضع من طرفٍ إلى طرف؛ إذ قُلنا: إنَّ كلَّ ما يقول عنه ذَوقنا الفطري إنه حقٌّ فهو حق، ما دام ذلك الذَّوق الفطري في إدراكه للشيء لم يتأثَّر بفلسفة أو لاهوت. وهكذا طفِقْنا — وفي أنفُسِنا شعور الهارِب من السجن — نؤمِنُ بصِدق الذَّوق الفطري فيما يُدرِكه، فاستبحْنا لأنفُسنا أن نصِف العُشب بأنه أخضر، وأن نقول عن الشمس وعن النجوم إنها موجودة حتى لو لم يكن هناك العقل الذي يَعي وجودها في خِبرته، ولكن ذلك لم يَمنعْنا عندئذٍ من الاعتراف أيضًا بوجود عالمٍ من المُثُل الأفلاطونية، فيه كثرة وليس يَحدُّه زمَن، وهكذا تغيَّر العالَم أمام أعيُنِنا.

جاء عام ١٩٠٠م فكان أهمَّ عامٍ في حياتي الفكرية، وأهمُّ ما حدَث لي فيه زيارتي للمؤتمر الدولي للفلسفة في باريس، فقد كانت تُقلِقني الأسُس التي تقوم عليها الرياضة منذ اليوم الذي بدأتُ فيه دراسة إقليدس وعمري لم يزِدْ على أحد عشر عامًا. ولمَّا أخذتُ بعد ذلك في قراءة الفلسفة، لم أجِد ما يُرضيني عند (كانْت) أو عند التجريبيِّين، فلم أطمئنَّ لقول «كانْت» عن القضية الرياضية، إنها قَبْليَّة تركيبيَّة معًا (أي أنها من عند العقل ومُنطبِقة على الواقِع الخارجي في آنٍ واحد) ولا رَضيتُ بما قاله التجريبيُّون من أنَّ عِلم الحساب مُؤلَّف من تعميماتٍ جاءتْنا بها التجربة. وذهبتُ إلى ذلك المؤتمر في باريس، فتأثَّرتُ بما لمَسْتُه خلال المناقشات من دقَّة عند «بيانو» وتلاميذه، وهي دقَّةٌ لم أجِدْها في سواهم، فطلبتُ منه أن يُطلِعني على مُؤلَّفاته فاستجاب. ولم أكد أدرُس فكرته دراسةً شاملة حتى رأيتُها تُوسِّع نطاق الدقَّة التي ألِفْناها في علوم الرياضة، بحيث تشمل موضوعات أخرى لبِثَتْ حتى ذلك الحين نهبًا للغموض الفلسفي، وأضفتُ من عندي فِكرة «العلاقات» ولِحُسن حظِّي وجدتُ وايتهد راضيًا عن منهج البحث الجديد مُدْركًا لأهميته، فلمْ نلبَثْ طويلًا حتى بدَأْنا نتعاوَن معًا على تحليل موضوعاتٍ مُعينة كتعريف التسلسُل والأعداد وردِّ الحساب إلى أصولٍ في المنطق. نعم كان «فريجه» قد أدَّى بالفعل كثيرًا ممَّا علمناه، ولكنَّنا في البداية لم يكن لنا بذلك علم … وقد كانت ثمرة هذا التعاون بين رسل ووايتهد كتابهما المُشترَك «أسس الرياضة» الذي يُعدُّ بحقٍّ فاتحةَ عهدٍ جديد في التحليلات المنطقية. وإذا قُلنا ذلك فقد قُلنا إنه فاتحة عهدٍ جديد في تاريخ الفلسفة الحديثة على الإطلاق.

٢

فمن أهمِّ النتائج التي وُفِّق إليها برتراند رسل، تحليله للرياضة تحليلًا يكشِف العلاقة بينها وبين المنطق، كشفًا يُزيل الغموض والألغاز اللَّذين كانا طوال العصور الماضية يُحيطان بطبيعة العلوم الرياضية، فمن أين يَجيء لها اليقين؟ لقد كان الفلاسفة العقليُّون والمِثاليُّون فيما مضى يَرَون في يقين الرياضة أقوى سنَدٍ يستنِدون إليه في دعواهم بأنَّ العقل وحدَه — دون الحواس — هو مصدر المعرفة الصحيحة، وأن العلوم الطبيعية إذا شاءتْ لنفسها نتائج يقينية كنتائج الرياضة، فعلَيها أن تتَّبع المنهج نفسه الذي تتَّبعه الرياضة، ألا وهو المنهج الاستنباطي الذي يستولِد من الحقائق العقلية نتائجها، ولا يلجأ إلى مُشاهدة الحواس.

كان ذلك هو الموقف إزاء الرياضة ويَقينها، حتى جاءت التحليلات الرياضية المنطقية الحديثة — وفي طليعة أعلامِها رسل— فأظهرت أنَّ الرياضة لا تمتُّ إلى العلوم الطبيعية بِشَبَهٍ حتى تجوز المُقارنة بينهما، إنما هي امتداد للمنطق الصُّوري، فكلاهما بناءٌ واحد يقوم على قاعِدةٍ واحدة، وهذا البناء صُوريُّ في طبيعته، أي أنه يَصدُق لما بين أجزائه من اتِّساقٍ وعدَم تناقُض، لا لِمَا بينه وبين الخارج من تَطابُق؛ فقد تبني — إذا شئتَ وإذا أسعفتكَ المقدِرة الرياضية — عِشرين بناءً رياضيًّا كلٌّ منها مُستقلٌّ عن الآخَر، وكلها صادقٌ على حدٍّ سواء، لأنَّ كلًّا منها يخلو في داخله من التناقُض مع أنه مُحال أن ينطبِق من هذه البناءات العشرين على الواقع الخارجي إلا بناءٌ واحد على الأكثر.

وطريق السَّير عند أصحاب هذه التحليلات الرياضية المنطقية الحديثة، هو أولًا: أن يردُّوا فروعَ الرياضة كلها إلى حساب، ثُمَّ يردُّوا الحساب إلى العَدَد، ثُمَّ يُحلِّلوا العدَدَ إلى أصوله وجُذوره، فإذا هذه الأصول والجذور ضاربة في أرض المنطق، فما هو العدد عند برتراند رسل ومن ذهب مذهَبَه مثل «فريجه»؟ العَددُ تحليله هو أنه فئةٌ من فئات، فالعدد ثلاثة — مثلًا — هو رمْز نُشير به إلى مجموعة كبيرة نتصورها وهي تَضُمُّ المجموعات الصغيرة التي قوام كلٍّ منها ثلاثة أعضاء، أعني أنك لو تصوَّرتَ كلَّ ما في العالم من ثالوثات، ثم حزمتَ هذه الثالوثات كلها في حزم واحدة، كان لك بذلك فئة كبيرة تضمُّ فئاتٍ صغيرة مُتشابهة في أنَّ لكلٍّ منها ثلاثة أعضاء؛ وإذا كان هذا هو تحليل العدَد، إذن فالجذور الأولية التي يتألَّف منها هي فكرة «الفئات» والفئات — وهي ما كانت تُسمَّى في المنطق الأرسطي بالأنواع — هي من مُدرَكات المنطق الخالِص، وهكذا نكون قد أزلنا الحاجز الذي يفصِل المنطق عن الرياضة، وجعلناهما امتدادًا لشيءٍ واحد؛ حتى ليُصبح من الأمور الجزاف أن تختار موضعًا مُعيَّنًا ترسُم عنده خطًّا وتقول: إنَّ ما قبل الخطِّ منطقٌ وما بعدَه رياضة، لأنه يجوز لك أن تضع الخط في أي موضع شئت من هذا الطريق الواحد الممتد من نقطة الابتداء في المنطق إلى نقطة الانتهاء في الرياضة.

وما مؤدَّى هذا الاتصال بين المنطق والرياضة؟ مؤدَّاه أنَّ الرياضة تُصبح كالمنطق تحصيلات حاصل، ومن ثَمَّ فهي لا تتعرَّض للخطأ، لأن تحصيل الحاصل هو تكرار شيء واحد مرَّتَين، وليس فيه تورُّط بنبأٍ يُنبئ به عن العالم الخارجي حتى يَجوز لهذا النبأ أن يُصيبَ أو أن يُخطئ؛ فأنت في المنطق إذ تقول: إنَّ الدُّنيا غدًا، إما أن تُمطِر أو لا تُمطِر، فإنما تقول بذلك كلَّ الِاحتمالات المُمكِنة، بحيث يستحيل الخطأ بعد ذلك، والخطأ مُستحيل لأنك لا تُورِّط نفسك في حُكمٍ مُعين كأن تقول مثلًا: إن الدُّنيا ستُمطِر غدًا، فإذا جاء الغدُ ولم تُمطر كنتَ مُخطئًا. وكذلك حين تقول: إنه إذا كانت س مشمولة في ص، وص مشمولة في م، إذن تكون س مشمولة في م، كان قولك هذا صادقًا صِدقًا مُطلقًا؛ لأنك لم تفعل به سوى أن عيَّنتَ معنى الاشتمال، ولم تزعُم زعمًا بعينِهِ عن حقائق الوجود الخارجي، ولا كذلك الأمر إذا ورَّطتَ نفسك في حُكم مُعيَّن على شيءٍ بذاته من أشياء العالم، كأن تقول مثلًا إنَّ النوع الإنساني مشمول في مجموعة الحيوان، فها هُنا قد تجِد من يُؤيِّد ومن يُفنِّد؛ وهكذا الحال في كلِّ مُعادلة رياضيَّة. فقولُنا ٢ + ٢ = ٤ لا يُثبِتُ شيئًا ولا ينفي شيئًا في العالم الخارجي، بل إنَّ هذا العالم الخارجي قد لا يكون مُشتملًا على أربعة أشياء كائنةً ما كانت، ومع ذلك يكون من حقِّكَ أن تقول هذه المُعادَلة لأنها لا تفعل سوى أن تُبيِّن معاني الرُّموز المُستخدَمة فيها.

وإذا كان هذا هكذا فلم يعُد يَجوز للفلاسفة العقليِّين أن يحتجُّوا على الفلاسفة التجريبيِّين بيَقين الرياضة؛ لأنَّ الفرق واسِعٌ بَين طبيعة الرياضة من جهةٍ وطبيعة العلوم التجريبيَّة من جهةٍ أخرى، فبينما الأولى تحصيلات حاصلٍ لا تُقيِّد نفسها بحُكم مُعيَّن عن العالَم، تتصدَّى الثانية لأحكامٍ مُحدَّدة تُطلِقها على العالم، وهي بعدَ ذلك إما أن تُخطئ أو تُصيب.

٣

ولفيلسوفنا رسل نظرية في المعرفة يبني عليها كثيرًا من أركان فلسفته؛ فالمعرفة عندَه نوعان: نوع يُسمِّيه المعرفة بالاتصال المباشر، ونوع آخَر يُسمِّيه المعرفة بالوصف. وأما الأولى فهي تلك المعرفة التي نُحصِّلها بلمْسِنا للأشياء لمسًا مُباشرًا؛ فبَياض الورقة التي أمامي الآن يأتيني بالرؤية المُباشرة، وصلابَةُ القلم في يدي تأتِيني باللمسةِ المُباشرة، وطعْم الحلوى في فمي يأتيني بالذَّوق المُباشر، وصوت العربات في الطريق الآن يطرُق سمْعي بطريقٍ مُباشر وهكذا. هذه كلها شذَرات من معرفة مُباشرة، أو معرفة بالاتِّصال المُباشر بيني وبين الأشياء التي أُحِسُّها بحواسِّي، فإذا تناولتُ هذه المُعطيات الحِسِّية وركَّبتُ منها أشياء في ذهني. كان هذا التركيب الناشئ معرفة بالوصف، فأنا أقول «ورقة» لكنَّني في الحقيقة لا أرى ورقًا ولا ألمس ورقًا، إنما أرى لمعةً بيضاء، وألمس مَلمَسًا لَيِّنًا، فإذا أضفتُ هذه اللَّمعة الضوئية المُعيَّنة إلى هذا الملمس اللَّيِّن إلى غَير ذلك من سائر المُعطَيات الحِسِّية التي تأتيني من مصدرٍ خارجي مُعيَّن، ثم أطلقتُ على التركيبة التي ركَّبتُها اسم «ورقة»، كان هذا الاسم في الحقيقة إنَّما يُسمَّى تصوُّرًا أنا الذي أنشأتُه لنفسي من المادة الخامة التي جاءتْني مُتناثرة في مُعطيات حِسِّية مُباشرة، وإذن فهي معرفة يدخلها استدلال، وليست هي بالمعرفة المُباشرة، فكلُّ معرفة مُباشرة هي من قبيل المعرفة الجُزئية، لأنَّ حواسَّنا — بالبداهة — لا تمسُّ إلا موجودًا مُفردًا فريدًا ماثِلًا أمام الحواس؛ وأما المعرفة الكليَّة بشتَّى درجاتها فمعرفة من الضرب الثاني، وهي المعرفة بالوصْف، فليس في وُسعك أن تكوِّن كلمةً كلية مِثل «ورقة» أو «شجرة» إلَّا إذا كان لدَيك قبل ذلك حصيلة من معرفةٍ جُزئية حِسِّيَّة مُباشرة، ثم بنَيتَ منها تركيباتٍ في ذِهنك، أسمَيتَ تركيبةً منها «ورقة» وتركيبةً أخرى «شجرة» وهلمَّ جرًّا.

ويؤدِّي هذا التحليل بنا إلى نتيجةٍ خطيرة، وهي أنَّ الكلمة الكلية ليست في الحقيقة اسمًا واحدًا يُطلَق على شيءٍ بعَينه كما قد يتبادَرُ إلى الذهن، بل هي رمزٌ تكوَّنَ في الداخل ولا يُقابِلُه شيءٌ قطُّ في الخارج؛ فليس في الخارج شيء مُعيَّن قائم في نُقطة مكانية مُعيَّنة وفي لحظةٍ زمانية مُعيَّنة، اسمُه «شجرة» على سبيل الإطلاق والتعميم، بل الذي في الخارج هو هذه الشجرة المُفرَدة المُعيَّنة وتلك الشجرة المُفرَدة المُعيَّنة، وأمَّا الكليَّات والتعميمات فمقامهما في الذِّهن ولا وجود لها في الخارج؛ ومعنى ذلك أنَّ كلَّ كلمةٍ كلية تظلُّ تركيبةً صُوريَّة مُعلَّقة بغَير مدلولٍ حتى نعثُر لها على الفردِ الجُزئي الذي نُدرِكه بالحسِّ المُباشر، فيُحوِّل الوجود الذهني الصُّوري إلى وجودٍ فِعلي واقِعي.

الكلمة الكلية ليست اسمًا واحدًا يُطلَق على شيءٍ بعَينِه، بل هي عبارة وصفيَّة بأكملِها ضُغِطتْ في كلمةٍ واحدة، فقولك «إنسان» مساوٍ لقولك: «كائن ما يتَّصِف بكذا وكذا من الصفات.» وهذه العبارة الوصفية قد تجِد الفرد الذي يتمثَّلها ويُجسِّدها، فتتحوَّل من مُجرَّد ثَوبٍ خالٍ بغَير لابسٍ إلى أمرٍ واقِعٍ ملموس، أو إلى فردٍ مُعيَّن يلبَسُ ذلك الثَّوب ويُجسِّدُه. وهكذا يُصبِح المدار في مدلول الكلمات ومعنى العبارات كلها هو عالم الحِسِّ وما فيه من أشياء ومن أفراد، فإن وُجدت هذه؛ كان للكلمات والعبارات مدلولٌ ومعنى، وإلَّا فهي تظلُّ صورةً خاليةً مُعلَّقة، وهذا هو معنى قول رسل: إنَّ الكلمات الكُليَّة رموز ناقِصة؛ لأنها في ذاتها لا ترمُز إلى شيء، ولا بدَّ لها أن تَكمُل بفردٍ نُصادفه في عالم الأفراد المحسوسة ليُكمِل معنى الرَّمز الناقِص.

٤

قُلنا إنَّك إذا ما ركنتَ إلى حواسِّك في إدراك العالَم من حولك، ألفيتكَ — في حقيقة الأمر — لا تُدرك «أشياء» مُجسَّدة بل تُدرِك أحداثًا مُتلازِمة أو مُتتابِعة؛ فأنت لا تُدرِك «منضدة» و«مقعدا» و«ورقة» و«قلمًا» بل تُدرِك لمعاتٍ من الضُّوء ونبراتٍ من الصَّوتِ ولمساتٍ من الصَّلابة أو اللُّيونة وهكذا. أما المنضدةُ بكُتلتِها وجسمها، والمقعد بكُتلتِهِ وجسمه وهكذا، فكما أسلفْنا، تركيباتٌ ذهنية نُركِّبها في الداخل من تلك المُعطيات الحسِّية الآتية من الخارج، فما لمعاتُ الضوء ونبراتُ الصوت ولمساتُ الصلابة «بأشياء» بالمعنى المألوف لهذه الكلِمة، بل هي أحداث، ومن هذه الأحداث يتكوَّن العالَم كما نعرِفه.

وحلِّل المادة مُهتديًا بالفيزياء الذرِّيَّة الحديثة، تجِدْها قد فقدتْ ما كان يُعزى إليها من تماسُكٍ وصلابة، لأنها قد ارتدَّتْ إلى ذرَّات، لا بالمعنى القديم الذي كان يجعل الذرَّةَ أشبهَ بكُرةٍ صغيرة مُتصلِّبة مُكتنِزة اللَّحم والعظم، بل بالمعنى الجديد الذي يجعل الذرة كهارب مُوجَبة وكهارب سالبة، أو قُل إنه يجعلها إشعاعًا ضوئيًّا يمتدُّ على فترةٍ من الزمن، فكأنما الذرَّة الواحدة قوامها سلسلة أحداث يَتلو بعضُها بعضًا، فهي بمثابة تاريخ مُتَّصِل الحلقات مُتتابِع الحوادث، وليسَتْ هي بالشيءِ الذي يُوجَد كلُّه دفعةً واحدة في لحظةٍ واحدة.

وهكذا الأمر في كلِّ شيء: كلُّ شيءٍ هو خطٌّ من حوادث، أو هو سيرة وصيرورة، والذي يجعله شيئًا واحدًا هو ما بَين أجزائه المُتتابِعة من علاقاتٍ تتشابَكُ على نحوٍ فريد، فأنت وأنا ونهر النيل والشمس والقمر، كلُّ كائن من هذه الكائنات لا يُوجَد كلُّه دفعةً واحدة؛ فالواحِدُ منَّا هو سِيرتُه وتاريخُ حياتِهِ. إنه لم يكُن كلُّه قائمًا ساعة الولادة، ولا هو كلُّه قائمٌ الآن، بل إنه نموٌّ مُتَّصِل وتطوُّر مُستمر، هو تغيُّر دائبٌ هو تيَّار دافِق من حالاتٍ وحوادث: هذه الدقَّات التي يدُقُّها قلبه، وهذه الأنفاس التي تتنفَّسها رئتاه، هذا الوقوف والجلوس والمشي والجري والكتابة والقراءة، هذا الحُزن والفرَح والخَوف والغضَب والحبُّ والكراهية، هذه الصحَّة وهذا المرَض، هذه الألوف من الحالات والحادثات هي أنت وهي أنا، وقُل شيئًا شبيهًا بهذا في تاريخ النهر وتاريخ الشَّمس وتاريخ القمر. الشيء هو الأحداث التي تُكوِّن تاريخه، ولهذا التاريخ مبدأ ومُنتهى، وبينهما امتداد زَمني يقصُر أو يَطول، كاللَّحن المُوسيقي نصِفُه بالواحِدية مع أنه لا يكتمِل كلُّه دفعةً واحدةً في لحظةٍ واحدة، بل هو نغَماتٌ تتعاقَبُ على فترةٍ من زمن، وأما الذي يجعله لحنًا واحدًا رغم كثرةِ حوادِثه وطول امتداده، فهو العلاقات المُتميِّزة الفريدة التي تَصِل تلك الأحداث من أولها إلى آخِرها. وكذلك المسرحية تشتمِل على ألوف الأحداث، وتمتدُّ في الزمن بِضع ساعات ومع ذلك تكون مسرحيَّةً واحدة لما بين أجزائها من علاقات تُوحِّدها في إدراكنا.

لقد أخطأتِ الفلسفة التقليدية حين توهَّمت في الأشياء دوامًا عُنصريًّا، فظنَّتْ أن الكائن هو هو دائمًا، وله جوهر ثابت، والذي أوهَمَها هذا الوَهْم أنَّنا نُطلق على الشيء اسمًا واحدًا، فانتقلتْ واحِديَّة الاسم في تَصوُّرهم إلى واحديةِ المُسمَّى، لكن المُسمَّى — كما رأينا — مهما يكن، ليكن ذرَّةً صغيرة أو ليكن الأرض بأسرِها، إنْ هو إلَّا مجموعة حوادث، إن كانت لها ذاتية خاصَّة فبِفضل العلاقات الرابطة لهذه الحوادث، لا بفضل جوهر غَيبيٍّ يكمُن داخل الشيء ويُكسِبُه ذاتِيَّتَهُ المفروضة.

٥

وكون الأشياء مُؤلَّفة من حوادث، فلا عناصر دائمة ولا ذوات ثابتةً، قد أدى بفيلسوفنا رسل إلى نظرية مِيتافيزيقيةً فريدة في نوعها؛ فقد كان الفلاسفة فيما مضى لا يعرفون إلا جوهرَين، يَردُّون الكون إليهما معًا أو إلى واحدٍ منهما، وهما الرُّوح والمادة، أما المثاليُّون فيعترِفون بالرُّوح دون المادة، ويُفسرون كل الظواهر المادية على أساسٍ رُوحاني، إذ يجعلونها حالاتٍ من خبرة عقلية لذاتٍ عاقلة، أو يجعلونها كياناتٍ مُجرَّدة مُفارقة لعالم الحس، وأما التجريبيون فيعترفون بالمادة دون الرُّوح، ويُترجِمون كل الحالات العقلية إلى مُعطيات حسِّية، ومُعطيات الحسِّ طبعًا شيءٌ يتعلَّق بالجسد وحواسِّه. وهنالك إلى جانب أولئك وهؤلاء فلاسفة يَجمعون بين الجوهر، فيقولون إنَّ الكون رُوح ومادة معًا، كما أنَّ الإنسان عقل وجسم معًا.

لكن رسل قد ذهب في ذلك مذهبًا جديدًا، أقامه على أساس تحليله للأشياء إلى حوادث؛ وهو مذهب كان قد سبقه إليه وليم جيِمس، ومؤدَّاه أن قوام الكون هيولى مُحايدة، فلا هي عقل فقط ولا هي مادة فقط، ولا هي عقل ومادة معًا، بل هي مصدر مُحايد سابق على العقل والمادة. وإنما تكون الحالة المُعيَّنة عقلية أو مادية بحسب الطريقة التي تُرَتَّبُ بها الحوادث، فإذا رُتِّبَتْ على نحوٍ ما، كانت مادة، وإذا رُتبت على نحوٍ آخر، كانت عقلًا. والأمر هنا شبيه بأن تكون لديك عشر خرزاتٍ مثلًا، ترصُّها على نحو، فتكون مُربعًا وترصُّها على نحوٍ آخر، فتكون دائرة، لكن الخرزات نفسها مُحايدة بالنسبة للتربيع والتدوير، والأمر أمر ترتيب وتنظيم. فافرض مثلًا أنك تتلقَّى شعاعًا ضوئيًّا آتيًا إليك من بُقعة مُلوَّنة أمامك، فما الذي يحدُث؟ يحدُث خطٌّ من حوادث يبدأ من مصدر الضوء ويسير في الطبيعة الخارجية حتى يصِل إلى سطح العين، ثم يستمرُّ خطُّ الحوادث عن طريق الأعصاب إلى المخ فتَتِم الرؤية. فإذا كنَّا قد اصطلحْنا على أن نُسمِّي الشوط الذي تقطعه الحوادث خارج العين مادة، وأن نُسمِّي شوط الحوادث داخل الجِسم الحيِّ عقلًا، فليس الاختلاف في الكيان الأصلي الذي هو حوادث في كِلتا الحالتَين، لكن الاختلاف في سياق الحوادث وترتيبها، ولو انتزعتَ حادثة واحدة على حِدة ونظرتَ إليها مفصولةً عن كلِّ ما عداها، لما عرفتَ أعقْلٌ هي أم مادة، تمامًا كما تنظُر إلى اسم واحد مثل إسماعيل، فلا تدري أهو موضوع في موضعه على أساس الترتيب الأبجدي أم على أساس الرُّتْبة؛ لأنك لكي تحكُم عليه بهذا أو بذاك، لا بدَّ لك أن ترى الاسم في قائمةٍ مع أسماءٍ غيره، لتحكُم عليه في سياقه؛ وهكذا الحكم على الحوادث في نِسبتها إلى المادة أو إلى العقل، يحتاج إلى سياقٍ وترتيبٍ يُقرِّرانه.

فهنالك وسيلتان لتصنيف الحوادث الجُزئية، إحداهما أن تَضمَّ مجموعة الظاهرات التي تُعَدُّ أجزاء من تاريخ شيءٍ مُعين، كالشمس مثلًا، فتكوِّن منها ما تُسمِّيه بالشيء المادي؛ والأخرى أن تَضمَّ ظواهر الأشياء المُختلفة عند التقائها في بؤرةٍ واحدة كالجهاز العصبي لفردٍ من الناس، فَتكوِّن منها ما تُسمِّيه بالحياة العقلية لهذا الفرد؛ والظاهرات هي الظاهرات في كِلتا الحالتَين، ففي الحالة الأولى تفرَّقت حوادث المصدر الواحد في عدَّة نُقَط مكانية، كالشمس تراها في كلِّ نقطةٍ مكانية بينها وبين الشمس خطٌّ لا يحوله حائل، بدليل أنك إذا وضعتَ مرآةً في أيَّةِ نقطةٍ تُواجِه الشمس، التقطتْ صورتها، ممَّا يدلُّ على أنها كانت موجودة في الموضع الذي وضعْتَ فيه المرآة، فإذا أنت جمعتَ هذه الظاهرات الشمسية المُتفرِّقة في مصدرٍ واحد كان لك بذلك الشيء الماديُّ الذي تُسمِّيه شمسًا. وأما في الحالة الثانية فتتجمَّع في نقطةٍ واحدة ظاهراتٌ كثيرة جاءت من مصادر مُختلفة، كأن تتجمَّع — مثلًا — الأشعَّة الآتية من الشمس الأشعة الآتية من نجومٍ أخرى، تتجمَّع هذه وتلك في بؤرةٍ واحدة تتقاطَع عندها خيوط الأحداث المُتعدِّدة المصدر، فإذا تصادَف أن كانت تلك النقطة الواحدة التي يحُدث التقاطُع عندها مُخًّا بشريًّا، كان لنا ما نُسمِّيه عقلًا.

٦

ولبرتراند رسل — غير جوانب فلسفته في التحليلات المنطقية الرياضية، وفي نظرية المعرفة وتحليل العقل والمادة — جهود معروفة في التربية والأخلاق والسياسة، لا بل إنَّ جمهرة القرَّاء لا تعرِف مِن رسل إلَّا ما كتَبَه في هذه الموضوعات، مع أنها لم تشغلْه بصفةٍ جادَّة إلَّا سنواتٍ قلائلَ بعد الحرب العالمية الأولى، أملًا منه في إصلاح الإنسانية إصلاحًا تتغلَّب به على الحروب القادمة، أما قبل ذلك وأما بعد ذلك فهو فيلسوف بإنتاجه الفلسفي بمعني هذه الكلمة عند المُحترفين. ومهما يكن من أمر، فلو جاز لنا أن نُلخِّص كُتُبه التي كتَبها في التربية والأخلاق والسياسة في كلمة، لقُلنا إنها كُتب تدعو إلى الحريَّة بأوسع معانيها وأعمقِها.

إلا إنه لَمِن أشقِّ الأمور وأعسَرِها أن نُوجِز القول هذا الإيجاز الشديد في فيلسوفٍ وكاتبٍ لبِثَ يُخرِج مؤلَّفاته مُتتابعة تتابُعًا سريعًا أكثر من ستِّين عامًا، تطوَّر خلالها فكرُه الفلسفي في كثيرٍ من المسائل، وكان آخِر كتابٍ أخرجه هو كتاب يشرح فيه تطوُّر فلسفته. وقد كان لصاحب هذا المقال بعض الجهد في نقل فلسفة برتراند رسل إلى العربية ترجمةً وتأليفًا، فألَّف عنه كتابًا يُوجز القول في مذهبه الفلسفي، وترجم له تاريخ الفلسفة الغربية، وكتابًا آخَر أسماه رسل بالمُوجز في الفلسفة، وأطلق عليه صاحب الترجمة العربية عنوانًا آخَر ليدلَّ على حقيقة مضمونه وهو «الفلسفة بنظرةٍ علمية». هذا عدا فصولٍ مطوَّلة خصَّصها في كُتبه الأخرى لشرْح هذه الناحية أو تلك من نواحي هذا الفيلسوف الخصب. والحقُّ أنه ما كان لأمَّةٍ ناهضة أن تغفَل عن فيلسوفٍ يملأ الدُّنيا بصوته ويشغل الأذهان بفِكره.

(٥) تشارلس بيرس

من الفلاسفة من تقرأ لهم فتراك تنساب على بسيطٍ هيِّنٍ لا تعترِضه حُزون، فيَشوقُك السير، ولكنك إذا ما أكملتَ الشوط وجدتَ جُعبتك تكاد تخلو من الجديد الذي يَهزُّك هزًّا. ومنهم من تقرأ لهم فتُحسُّ كأنما أنت تصعَد الجبل الصعب، أمامك في كل خطوةٍ عقبة لا بدَّ من محاولة اجتيازها قبل أن تمضي في الصعود، لكنك إذا ما بلغتَ نهاية الطريق، ألفيتَ نفسك على قمَّةٍ نقيَّةِ الهواء، لا يشُوب سماءها هذا الغُبار الذي يكتنِف حياة الناس فوق الأرض.

ومن هذا القبيل الثاني من الفلاسفة «تشارلز ساندرز بيرس» Charles Sanders peirce (١٨٣٩–١٩١٤م) الذي كان بمثابة أول فيلسوف أمريكي يخرُج على العالم بفكرٍ جديد يُبلور فيه الحياة العقلية كما تمثَّلت في القارة الجديدة، فهو الذي خلق الفلسفة البرجماتية خلقًا، ثم هو الذي بلغ بها غايةَ كمالها، فإذا ما جاء بعدَه التابِعان الكبيران اللَّذان سارا على نهجه — وأعني بهما وليم جيمس Wiliam James وجون ديوي John Dewey — لم يسعهُما إلَّا أن يتحرَّكا في الإطار نفسه، برغْم ما جاءا به من تعديلٍ وتحويل.
يقول الفيلسوف في مقالٍ كتَبه عن نفسه:

إنه منذ اللحظة الأولى التي استطعتُ فيها أن أُفكر، وإلى هذه اللحظة التي أكتُب فيها هذه السطور — ولي من العُمر ما يقرُب من أربعين عامًا — قد انصرفتُ إلى التفكير في مناهج البحث التي يصطنعُها الباحِثون فعلًا، والتي يُمكنهم أن يصطنعوها لو أرادوا لأنفسهم الكمال. أقول إنَّني قد انصرفتُ إلى التفكير في مناهج البحث انصرافًا لم يفتُر لحظةً واحدة. وقبل أنْ آخُذ نفسي بهذه الدراسة، كنتُ قد أنفقتُ عشر سنوات تحت التدريب في معمل كيماوي، فكنتُ على إلمامٍ تامٍّ بكلِّ ما كان معروفًا عندئذٍ في الفيزياء والكيمياء، بل كنتُ كذلك على إلمامٍ تامٍّ بالطريقة التي كان يُنتِجها أولئك العُلماء الذين تقدَّمت المعرفة العلمية على أيديهم، فحصرتُ انتباهي حصرًا شديدًا في المناهج التي تسير عليها أضبَطُ العلوم، واتَّصلتُ أوثقَ اتصالٍ بطائفةٍ من جبابرة العقول في عصرِنا بالنسبة إلى عِلم الفيزياء، بل إني قد أضفتُ إلى العِلم إضافاتٍ جديدة — وإن كنتُ لا أظنُّها ذات خطرٍ كبير — في الرياضة وفي نظرية الجاذبية وعلم البصريات والكيمياء والفلك وغيرها؛ ولذا فإنني مُشبَّع من قمَّة الرأس إلى أخمص القدَم برُوح العلوم الفيزيائية، وذلك فضلًا عن الدراسة الواسعة التي تناولتُ بها المنطق، فقرأتُ كلَّ ما قد كُتب في موضوعه ممَّا يُعدُّ ذا أهميةٍ في هذا المجال … وانتهيتُ إلى إقامة مذاهب منطقية في منهج الاستنباط وفي منهج الاستقراء على السواء.

ويمضي بيرس في الرواية عن نفسه فيقول إنه عندما كان يدرُس المدارس الفلسفية كلها، ويتتبَّع طرائق الفكر عند أصحابها، كان إنما ينظُر إليها من وجهة نظر الباحث العِلمي في مَعملِه، يبحث عن الجديد الذي لم يُعرَف بعد، لا من وجهة نظَر الفيلسوف اللاهوتي الذي يتناول مادَّته وكأنما هي معصومة من الخطأ. ويَروي لنا بيرس في هذا الصَّدَد أنه أمضى ساعتَين من كلِّ يومٍ خلال ما يزيد على ثلاثة أعوام، في دراسة كتاب «كانْت» (نقْل العقل الخالِص)، حتى لقد حفِظ مُحتواه عن ظهر قلْب. إلى هذا الحدِّ البعيد قد ذهب بيرس في دراستِه للفلسفة الألمانية على وجه الخصوص، لينتهي إلى نتيجة، وهي أنَّ مُعظم هذه الفلسفة ليس بذي قيمةٍ تُذكر من حيث المنهج الذي يؤدِّي إلى فكرٍ جديد. نعم إنها فلسفة غنيَّة بإيحاءاتها، حتى لتظهر الفلسفة الإنجليزية ذات الطابع التجريبي إلى جانبها فقيرةً ساذجة، إلَّا أنَّ هذه الأخيرة مع ذلك أرسخ من زميلتِها منهجًا، إذا ما نظرنا إلى المنهج على أنه الوسيلة المؤدية إلى جديد. ولأضرب لذلك مثلًا فأقول إنَّ من بين النتائج التي كانت الفلسفة الإنجليزية قد وصلَتْ إليها بمنهجها نظرية «ترابُط الأفكار» التي يعدُّها بيرس أهمَّ نتيجةٍ وصلتْ إليها الفلسفة في عصر ما قبل العِلم.

واختصارًا فإن بيرس يُوجز موقفه الفلسفي فيقول: إن فلسفتي يمكن وصفُها بأنها محاولة فيزيائي أن يُصوِّر بِنْية الكون تصويرًا لا يتعدَّى ما تسمح به مناهج البحث العلمي، مُستعينًا في ذلك بكلِّ ما قد سبقَني إليه الفلاسفة السالِفون. لكنَّني لن أصطنع في هذا طرائق الميتافيزيقيِّين في الاستنباط الذي يُقيمونه على فروضٍ من عندِهم، ويَصِلون به إلى براهين يصِفُونها بالصَّواب القطعي الذي لا يتعرَّض للتعديل على ضوء ما قد تكشِف عنه البحوث العلمية فيما بعد. كلَّا، بل طريقتي هي طريقة العِلم نفسها، وهي أن أُقدِّم صورةً للكون على سبيل الافتراض الذي ينتظِر الإثبات على أساس ما قد يتكشَّف لنا من حقائق، ولذلك فهو يتميَّز أول ما يتميَّز بقابليَّتِه للصواب وللخطأ وفقَ ما تُقدِّمه المشاهدة لنا بعدئذٍ من شواهد.

أحسب أنَّ أهمَّ ما نُميِّز به فلسفة بيرس هو أن نَصِفها بأنها فلسفة علمية، لكن هذه الصفة بدَورها تحتاج إلى تحديد، فما هي الخصائص التي اجتمعتْ في تلك الفلسفة لتجعلها «علمية»، إلَّا أن صاحِبها هو نفسه عالم في الفيزياء والكيمياء؟ أهي فلسفة تُقدِّم لنا النظريات والقوانين عن هذه الظاهرة من ظواهر الطبيعة أو تلك؟ كلا، فهي ما زالتْ كأية فلسفة أخرى تُحاول أن تُجاوز حدود الظواهر الجُزئية إلى حيث بناء الكون كلِّه مأخوذًا جملة واحدة، لكن الذي يجعلها «علمية» لا «تأمُّلية» هو أنها إذا ما نَسبَتْ إلى الكون حقيقة ما، اعتمدت في ذلك على تأييد الوقائع التجريبية. وقد لا يجيء هذا التأييد التجريبي على يدَي الفيلسوف نفسه، بل قد يَجيء به باحثون من بعدِه؛ ولذلك كان الطابع العلمي يُحتِّم أن تكون الفلسفة عملًا مُشتركًا يتعاون على أدائه أكثرُ من شخصٍ واحد. وليست هي بالإنتاج العقلي الذي يُنجزه من أوله إلى آخِره شخصٌ واحد بمُفرده. وها هنا تضع إصبعك على فارقٍ من أهمِّ الفوارق التي تُميِّز بين الفلسفة العلمية المُعاصرة كلها — وما بيرس إلَّا واحد من أركانها — وبين الفلسفة التأمُّلية كما قد عرفناها على أيدي الفلاسفة الأعلام، من أمثال أفلاطون وأرسطو وديكارت وكانْت وغيرهم. فقد كان كلٌّ من هؤلاء يبني نسَقَه الفلسفي من الأساس إلى القمة، كأنما هو عملٌ فردي فني لا يجوز فيه أن يُشارك فيه أحدٌ أحدًا، فإذا جاء أرسطو — مثلًا — ولم يُعجبه البناء الذي أقامه أفلاطون، أقام هو بدَوره بناءً آخر من الأساس إلى القمَّة كذلك، وهكذا دواليك. فالفلاسفة هنا كالأهرامات المُستقلِّ أحدُها عن الآخر، وليسوا هم كالطوابق في البناء الواحد يُكمِل أحدُها الآخر.

وإنه ليترتَّب على هذه التَّفرقة مُميِّز هام مِمَّا يُميز الفلسفة العلمية التي كان بيرس من أعلامها، وهو ألَّا تجيء الفلسفة على نسَقٍ مختوم مُقفل لا يقبَل الزيادة ولا التعديل، بل تكون كالعِلم في كونِها سيرًا مُتَّصِلًا جديده بقديمِه، بحيث لا يكون هناك أمر يُقال عنه إنه هو الكلمة الأخيرة؛ إذ إنَّ البحث الجديد في المُستقبل من شأنه دائمًا احتمال أن يُعدِّل من النتائج السابقة، وإذن فالحقيقة «المُطلقة» مثَل أعلى ننشُدُه ونقترِب منه شيئًا فشيئًا، ولكنه ليس بالشيء الذي يتحقَّق في الواقع المشهود.

كان الفيلسوف الميتافيزيقي التأمُّلي يبدأ بحقيقة يصِفها باليقين الذي لا يَحتمِل الشك، ثم يستنبِط منها كلَّ ما يستطيع استنباطه من النتائج، حتى إذا ما اكتملتْ حلقات الاستنباط كلها، كان له بذلك «نسَقُه الفلسفي» الذي يفسر به الكون جميعًا، فإذا سألناه: ومن أين جاءتك هذه الحقيقة الأولية الأولى التي بنيتَ عليها كلَّ هذه النتائج؟ أجاب بأنها جاءتها عن طريق «الحَدْس» أعني عن طريق العيان العقلي المباشر، أو إن شئتَ فقُل جاءته عن طريق اللَّقَانة أو البصيرة، أما أصحاب الفلسفة العلمية — وفي طليعتهم فيلسوفنا بيرس — فلا يضمَنون لك أيَّ يقينٍ فيما يزعمون، إنهم يعلمون — كما علَّمهم العلم الطبيعي في المعامل — أنَّ كلَّ حقيقةٍ مرهونةٌ بالتجارب التي تؤدِّيها، أما أن يكون للعقل الصِّرف لَقانة تقذِف بالحقائق من لدُنها، فإذا هي اليقين الذي يُسلَّم به وتُبْنى عليه الأحكام، فذلك ما يرفُضه الفلاسفة العِلميُّون رفضًا حاسمًا.

على أنَّ الفلسفة العِلمية المُعاصرة ألوان وشكول، وأحد ألوانِها هو الفَلسفة «البرَجْماتية» Pragmatism التي أنشأها بيرس ثُمَّ جاء من بعدِه من جاء من أبطالِها، وهي فلسفة تُصوِّر العصر العلمي الذي نَعيش فيه اليوم بصفةٍ عامَّة، وتُصوِّر الحياة العملية التي يعيشها الأمريكيون في مدينتِهم الصناعية الحديثة بصفةٍ خاصَّة، وكلمة «برجماتية» مُصطلح أوجدَه بيرس نحتًا جديدًا من أصلٍ إغريقي، ليدلَّ بجدَّةِ اللفظ على جِدَّة المذهب، وإلَّا فقد كان في وُسعه أن يختار كلمة أخرى من اللغة المُستعمَلة ليُشير بها إلى الجانب «العملي» «التطبيقي» الذي أراده. (برجماتوس Pragmatos باليونانية معناها الفعل أو العمل).

ولعلَّ السؤال الرئيسي عند بيرس — وعند فلاسفة غيره كثيرين — هو هذا: ما هي «الفكرة»؟ إنه ما أسهل على الناس أن يقولوا إنَّ لدَيهم «أفكارًا» عن كذا وكيت، أفكارًا سياسية واجتماعية واقتصادية وغيرها؛ فمتى تكون «الفكرة» جديرة بهذا الاسم؟ ما طبيعتها؟

هنا ستجِد الفلاسفة أحزابًا؛ ففلاسفة «مثاليُّون» يقولون إنَّ «الفكرة» هي تَصوُّر عقلي يشترط أن يكون مُتَّسقًا مع بقيَّةِ التصوُّرات العقلية ولا شيء غير ذاك. أي إنه لا يُطلَب من «الفكرة» في هذه الحالة أن تكون مُقابِلةً لشيءٍ في الطبيعة الخارجية، وعندئذٍ تكون مجموعة الأفكار كالبناء الرياضي، البحت، يُقام في العقل خاليًا من التناقُض الداخلي بين أجزائه، لكنه لا يتوقَّف على كونه مُطابقًا لعالَمٍ خارجي.

وفلاسفة «واقعيُّون» لا يرضَون بهذا التفسير، ويقولون إنَّ «الفكرة» — مهما تكن — لا بدَّ أن تكون مُطابقة لشيءٍ ما موجود في عالم الطبيعة الخارجية، سواء كانت تلك المُطابقة تامَّة كصورة الشيء على صفحة المرآة، أو كانت مطابَقَةً يدخل فيها شيء من التبايُن بين الطرَفَين، كأن نقول — مثلًا — إنَّ ذَوبان الثلج مُطابق لحرارةٍ موجودة خارج قطعة الثلج المُذابة.

وأما «البرجماتيُّون» فيلفتون الأنظار إلى هذا الأمر لفتةً جديدة؛ إذ يقولون إنَّ الذي يُحدِّد حقيقة «الفكرة» ليس هو «مقوماتها»، بل يُحدِّدها ما تستطيع أن «تفعله» في دُنيا الأشياء. فالفكرة أداة تُطلَب لِما تؤدِّيه، وليست هي كالصورة الفنية ننظُر إليها في ذاتها. الفكرة كمفتاح الباب، مثلًا، ليس المُهمُّ فيه أن يكون مصنوعًا من حديدٍ أو خشب، بل المُهمُّ فيه هو أنه يفتح الباب المُغلَق، فإذا لم ينفتِح به باب لم يكن مفتاحًا مَهْما اتَّخذ لنفسه من صُورِ المفاتيح.

عند البرجماتية، الذين هم على مذهب بيرس، أنَّ الفكرة خُطة العمل، وقِيمتها في نجاح تلك الخطَّة. هي كالخريطة التي قِيمتها كلها مرهونة، لا بجمال ألوانها وحُسن شكلها وإحكام رسمها، بل بكَونها أداةً صالحة في يدِ المسافر يَعرِف بها أين النهر وأين الجبل. ألا ما أكثر الناس الذين يَحسَبون أنَّ في رءوسهم «أفكارًا»، حتى إذا ما سألتهم: وماذا تستطيع تلك الأفكار أن تؤدِّيه في دُنيا العمل؟ لم يحيروا جوابًا؛ لأنها ليست في الحقيقةِ أفكارًا بالمعنى الذي يُحدِّده البرجماتيُّون. بل ما أكثر الفلاسفة الذين يتحدَّثون عمَّا يُسمُّونه «أفكارًا» وهي في الحقيقة لغْوٌ لا ينفع ولا يشفع. وإذن فمِقياسُنا هو: ماذا عسايَ أن «أصنع» بهذه الفكرة أو بتلك، وبهذا الذي أستطيع أن أصنعه يتحدَّد «معنى» الفكرة.

فمذهب بيرس البرجماتي هو «قاعدة منطقية» لتحديد المعنى. وجدير بنا في هذا الموضوع أن نُفرِّق بين شيئَين لأهمية هذه التفرِقة في فهْم الفلسفة المعاصرة، بل في فهم الفرق بين برجماتية بيرس، وبرجماتية وليم جيمس، برغم كونهما من مدرسةٍ فلسفية واحدة. والشيئان اللذان أحبُّ أن أفرِّق لك بينهما هما: «المعنى» من جهة، و«الصدق» من جهةٍ أخرى، فإذا كنتَ بإزاء جملةٍ قالها قائل، مثل قوله «على سطح القمر جبال ووديان.» فهناك أمران مُتميِّزان: أولهما أن يكون لهذا الكلام «معنًى» مفهوم، وثانيهما أن يكون هذا المعنى «صادقًا» على الواقع. وبالطبع لا يتحقَّق «الصدق» على الواقع ما لم يكن للكلام معنًى. ولكن قد يكون للكلام معنًى مفهوم دون أن يكون صادقًا على الواقع.

وبعد هذه التفرقة الهامَّة نقول إنَّ برجماتية بيرس هي نظرية في «المعنى» ولا شأن لها بعدَ ذلك أصَدَقَ الكلام أم لم يصدُق على الواقع.

فمتى يكون للعبارة «معنًى» عند بيرس؟

تكون العبارة عنده ذات معنًى إذا ما كانت ألفاظها دالَّة على خبرة حسِّية يمكن اللجوء إليها في عالم التجربة، وليس لأيَّةِ لفظةٍ من معنًى سوى مجموعة تلك الخبرات الحسِّية المُتوقَّع حدوثها. فمثلًا إذا قلتَ عن شيءٍ إنه «صلب»، فما معنى الصلابة؟ معناها خبرات نُخبرها حين نستخدِم ذلك الشيء في حياتنا العملية، فنراه يخدش غيره ولا ينخدِش بغيره، ونراه يكسِر غيره ولا ينكسِر بغيره وهلمَّ جرًّا. اجمع هذه «الأفعال» المُمكنة كلها في قائمة، يكُن لك معنى كلمة «صلب» التي نصِف بها الشيء الذي وصفناه بها. وأما إذا لم يكُن لكلمةٍ ما مثل هذه الإجراءات العملية التي تُحدِّد معناها، فهي عندئذٍ بغَير معنًى مهما أكثر الناس من استعمالها في أحاديثهم.

وسأترُك الأمر للقارئ، ليُفكِّر لنفسه كم تتغيَّر حياته الثقافية إذا هو حاسَب نفسه بهذا المِعيار في «المعنى»، فكُلَّما نطقَ بكلمةٍ أو عبارة، سأل: ما هو «العمل» الذي ينبني على مِثل هذا القول — فعلًا أو إمكانًا — وإذا لم يجِد لكلامه خطَّة مُنطوية على عمل، فلْيُوقِن مع بيرس — ومعي — أنه كلام بغَير معنى.

(٦) وليم جيمس

وُلد وليم جيمس William James في يناير من عام ١٨٤٢م بمدينة نيويورك، وكان أكبر إخوةٍ خمسة من بينهم الأديب القصَصي المشهور هنري جيمس. وُلد لأسرةٍ مؤمنة بدِينها مُستمتعة بثرائها، لكنها كانت مُتعة الأسرة المُثقَّفة المُهذَّبة، فراح أفرادها يطوفون بمراكز الحضارة في أوروبا، يُحصِّلون الخبرة الواسعة والعِلم الغزير، وكان من نتيجة هذه الحياة المُتنقِّلة أن تعلَّم وليم جيمس إبان مرحلته المدرسية الأولى في عدد من المدارس المختلفة مَوقعًا وطابَعًا، فدخل مدارس نيويورك ولندن وباريس وجنيف. وأقلُّ ما يُقال عن هذا الترحُّل، من مدرسةٍ هنا تتكلَّم الإنجليزية، إلى مدرسةٍ هناك تتكلم الفرنسية أو الألمانية، أنه ما بلغ سنَّ شبابه إلا وقد ألمَّ بتلك اللغات جميعًا إلمام الخبير بسرِّها، حتى إذا ما حان وقتُ الالتحاق بالجامعة، كانت الأسرة قد عادت من ترحالها الطويل إلى أرض وطنها، فدخل صاحبنا جامعة هارفارد Harvard بادئًا بقسم الكيمياء، ثم مُنتقلًا منه إلى قسم التشريح ووظائف الأعضاء، مُستقرًّا آخِر الأمر على دراسة الطب.

تخرَّج وليم جيمس من الجامعة طبيبًا، وعُيِّن بأحد المُستشفيات حينًا، لكنه لم يلبَثْ أن شدَّ رحاله مرةً أخرى إلى أوروبا حيث أكمل دراسته العُليا في الطب، فلمَّا أن عاد إلى هارفارد كانت قد خلَتْ بالجامعة وظيفة مُدرِّس لعِلم وظائف الأعضاء فعُيِّن بها، وهاهنا أخذ يُلقي سيلًا من محاضرات عن صِلة ذلك العلم بعلم النفس. وهكذا لبث خمسة أعوام خلُصَ منها إلى تأسيسه لأول معملٍ لعلم النفس التجريبي في الولايات المتحدة الأمريكية، وكانت أولى ثمرات هذه الدراسة الطويلة كتابَه العظيم «أصول علم النفس» الذي يقع في جُزأين. وبعدئذٍ رُقِّي أستاذًا مساعدًا للفسيولوجيا، فأستاذًا مساعدًا للفلسفة، فأستاذًا للفلسفة عام ١٨٨٥م، وكان عمره عندئذٍ ثلاثةً وأربعين عامًا.

كان طبيعيًّا أن يتَّجِه وليم جيمس منذ ذلك الحين نحوَ التفكير الفلسفي الصِّرف — أعني أنه لم يعُد يصرِف كل عنايته إلى علم النفس — فأخرج كتابه «إرادة الاعتقاد» (وهو مُترجَم إلى العربية). وفي عام ١٩٠١م دُعِيَ إلى أدنبرة ليلقي سلسلة محاضرات في الدين والفلسفة، فكانت مجموعة المحاضرات التي ألقاها هي ما أصدَرَه بعد ذلك كتابًا بعنوان «صنوف من التجربة الدينية». وفي عام ١٩٠٦م ألقى ثماني محاضرات في مدينة بوسطن، ثم أعادها بعد عام في جامعة كولُمبيا، وهي التي تؤلِّف كتابه «البرجماتية». ولم يلبثْ بعد ذلك أن ألقى سلسلةً أخرى من محاضرات جمعها في كتابه «الكون المُتعدِّد» وسلسلة أخرى جمعها في «معنى الصدق» وأخرى في «التجريبية المُتطرِّفة». وكان آخِر كتاب له هو «بعض مشاكل فلسفية» (مترجم إلى العربية)، مات ولم يُكْمله، فنُشِر ما كتب منه بعد مَوته. وكان موتُه سنة ١٩١٠م عن تسعةٍ وستِّين عامًا.

لقد جاء كتاب «أصول علم النفس» نقطةَ تحوُّلٍ في تاريخ هذا العلم؛ ذلك أنَّ علم النفس قبله كان مِحورُه تفتيتَ عملية الإحساس إلى سلسلةٍ من انطباعاتٍ تنطبع بها الحواس، ثم تترابَط داخل الإنسان ترابُطًا قِيل إنَّ له قوانينه التي تحكمه، فالأفكار يشدُّ بعضها بعضًا في الذِّهن كما يشدُّ الحجَر حجَرًا بقانون الجاذبية. وكان مذهب الترابُط بين الأفكار هذا أساسًا هامًّا قامت عليه الفلسفة الإنجليزية التجريبية في القرنَين السابع عشر والثامن عشر، على أيدي «لوك» و«هيوم». فكأنما العقل بغَير فاعِليَّة خلَّاقة، وكأنما هو «لوحة بيضاء» — كما قال «لوك» — ترتسِم عليه الانطباعات الحِسِّية وتتجاذَب، ولا حيلةَ له فيما يتلقَّاه إلَّا أن يسجله على صفحته تلك. أما العقل عند وليم جيمس فمُختلِف عن هذه الآليَّة الصمَّاء، إذ هو عنده أداة فعَّالة نشيطة، مُهمَّتُه أن يُوائم بين الكائن وبيئته مواءمةً تُعين صاحبه على البقاء؛ فهو أداة بيولوجية — كسائر أعضاء الكائن الحي — لا تنفكُّ تُواجِهُ المواقف الجديدة الطارئة فتردُّ عليها بما عساه أن يكتُب النجاة والبقاء القويَّ لصاحِب تلك الأداة.

لكن هذا الوصف للعقل إنما ينطوي على نتائج خطيرة، لأنَّ كلمة «العقل» بهذا تُصبح اسمًا لا على كائنٍ رُوحاني قائم بذاته — بل على نمَط مُعين من السلوك، وما الذي يؤدِّي السلوك؟ هو الكيان العُضوي نفسه، هو الجسَد الحي. وإذن فقد زال الحاجِز التقليدي بين العقل والجسم؛ لأنه إذا كان العقل مجموعة سلوكية يردُّ بها الكائن الحي على بيئته، فهذا السلوك هو نفسه الجِسم السالك، وليس هناك جانبان: أحدهما غَيبي يُصدِر الأوامر، والآخَر ظاهريٌّ ماديٌّ يصدَع بما يُؤمَر به. كلَّا، بل هنالك كائن عضوي واحدٌ لا يتجزَّأ، هو الذي يسلك في بيئته على نحوٍ مُعيَّن. وهكذا تحطَّمت الثنائية التي شطرَتِ الإنسان — بل شطرت الكون كلَّه — نِصفين: فعقل في جانبٍ وجسم في جانب آخَر.

بل إنَّ هذا القضاء على الثنائية سُرعان ما انتهى به إلى رأيٍ فلسفيٍّ ابتكرَه ابتكارًا ليجيء نتيجةً مُتفقة مع تلك الوجهة من النظر، فأخذه عنه برتراند رسل Bertrand Russell وطوَّره ونمَّاه، وأعني به فكرة «الواحدية المُحايدة» ويَقصِد بها أن العقل والجسم كليهما من عنصر مُشترك، والذي يجعل العقل عقلًا والجسم جسمًا ليس هو اختلافهما في العنصر، فذلك رُوحاني وهذا مادي كما كان يُقال، بل الذي يجعلهما كذلك هو طريقة ترتيب العنصر الواحد، فإذا رُتِّب على صورةٍ كان عقلًا وإذا رُتِّب على صورةٍ أخرى كان جسمًا، كما يكون لدَيك حبَّاتٌ من الحَصى ترصُّها على نحوٍ فإذا هي دائرة، وترصُّها على نحوٍ آخر فإذا هي مُربَّع، والحصى في كِلتا الحالَين لم يتغيَّر.
على أنَّ الفكرة الرئيسية في فلسفة وليم جيمس، هي نفسها الفكرة الرئيسية عند أنصار الفلسفة البرجماتية Pragmatism، ألا وهي الفكرة الخاصة بتحديد مفهوم «المعنى». فماذا الذي يجعل للعبارة «معنًى» على الإطلاق؟ جواب البرجماتيِّين جميعًا هو أنَّ ما يجعل للعبارة «معنًى» كونُها ذات نتائج عملية تترتَّب على تنفيذها، أما إذا كانت أمامك عبارة لا تدري كيف تُحوِّلها إلى تجربةٍ عملية تُحسُّها بحواسِّك، كانت تلك العبارة بغَير معنى، ومن زعم أنه يفْهَم لها معنًى كان مُهوَّشًا مخدوعًا. وإنه لمن حُسن الحظِّ أنَّ الناس في حياتهم العملية وفي حياتهم العِلمية على السواء إنما يَجرُون في التفاهُم على هذا الأساس نفسه، فإذا قلتَ لي مثلًا: «في هذا الطبق شِواء.» فهمتُ لقولك معنًى لأنَّني أعلم بِخبرتي الحِسِّية السابقة طبيعة الإحساسات التي تتأثَّر بها أعضاء الحسِّ من شمٍّ وطعم، بل من بَصَرٍ ولمس، عندما يكون الشيء لحمًا مَشويًّا. وكذلك في الحياة العِلمية حينما يقول عالِم لزميله العالِم: «إنَّ في هذه الأنبوبة غازًا قابلًا للاشتعال.» فيفهم الزميل كلام زميله؛ لأنَّ وراء كلِّ كلمةٍ من هذه الكلمات رصيدًا من خبرة حسِّية سابقة، على ضوئها يفهم المراد.

لكن الإشكال يبدأ حين ندخُل ميدانًا ثالثًا، لا هو حديث الحياة الجارية كلَّ يومٍ ولا هو حديث العُلماء في مَعامِلهم، بل هو مَيدانٌ عجيب يُقال له «الفلسفة» أو ما يَجري مَجراها من كلام يُحدِّثك بكلماتٍ لا تستنِد إلى رصيدٍ من خبرة حسِّية سابقة، ومع ذلك يُطلَب منك أن تقول إنك تفهَم له «معنًى»، كأنْ يُقال لك مثلًا إنَّ لكلِّ شيءٍ «جوهرًا» خافيًا عن الحواسِّ كلها، هو الذي يُكسِب الشيءَ هُويَّته. وهم بطبيعة الحال لا يُريدون بهذا «الجوهر» لونًا ولا صوتًا ولا طعمًا ولا رائحة ولا غَير ذلك ممَّا تُدركه الحواسُّ من بصرٍ وسمع وغيرها. فلو أردتَ إزاء هذا القول أن تكون برجماتيًّا، وجبَ أن تَسأل الزاعِمين: ما هي النتائج العمليَّة التي تقَع في خِبرة الإنسان بسبب كَون الشيء ذا «جوهر» والتي ما كانت لتقَع لو لم يكن له ذلك «الجوهر»؟ كيف تتغيَّر هذه «البرتقالة» مثلًا بين حالة أن يكون لها جوهر وحالة ألَّا يكون؟ فإذا قيل لك إنَّ ليس ثمَّة من فرقٍ ظاهر في النتائج العملية التجريبية، فاعلَمْ أنَّ كلامهم إذن كان بغَير «معنًى» على مذهب البرجماتيِّين.

إنَّ هذه النظرية في «المعنى» من شأنها أن تحسم كثيرًا جدًّا من أوجه الخِلاف التي تنشِبُ بين الناس، فما أكثر ما يختلف اثنان على شيء، فيكون لكلٍّ منهما قول فيه يختلف عن قول زميله، حتى إذا ما احْتَكما إلى التطبيق العملي ألفَيا القولَين ينطبقان على صورةٍ واحدة — وإذن فقد كانا قولَين مُترادِفَين رغم اختلاف اللفظ — أو ألفَيا القولَين معًا لا ينطبقان في التجربة العملية — وإذن فكلاهما باطل — أو ألْفَيا أحد القولَين دون الآخر مُمكن التطبيق العملي، وإذن فهو وحدَه القول الصائب، فافرِض مثلًا أنَّ شخصَين اختلفا فقال أحدهما إن العالم قوامه مادَّة لا رُوح، وقال الآخر بل قوامه رُوح لا مادة، ثُمَّ أرادا أن يحتكِما إلى النتائج العمَلية التجريبية الحِسِّية ليَرَيا أيهما الصواب، فماذا يَجِدان؟ ماذا يتوقَّعان للعَين أن ترى وللأذُن أن تسمَعَ وللأصابع أن تلمس، ليكون القولُ صائبًا أو خاطئًا؟ إنه لا نتائج عملية، فكلٌّ من الشخصَين يأكُل كما يأكُل زميله ويشرَبُ كما يشرَبُ زميله، ويمشي ويقرأ ويصِحُّ ويمرض. وإذا كان ذلك كذلك فقد كانت المُوازنة بين المادة والرُّوح بغير «معنى».

إلى هنا يتَّفِق البراجماتيُّون جميعًا — ومنهم جيمس — في نظرية «المعنى»، لكن جيمس يتفرَّد وحدَه من دونهم جميعًا بنظريةٍ أخرى يُضيفها عن «الحق» أو «الصدق»؛ ذلك أنَّ العبارة ذات «المعنى» لا يتحتَّم أن تكون صادِقة بل حسبُها لتكون ذات «معنًى» أن تكون مفهومةً على أساس ما عساه أن يُصادِف الحواسَّ من خِبراتٍ لو كانت صادقة. ومن البرجماتيِّين — مثل بيرس — مَن يكتفي بنظرية «المعنى» وحدَها، ولا شأنَ له بأن تصدُق العبارة ذات المعنى بعد ذلك أو لا تصدُق. أما وليم جيمس فيهتمُّ أيضًا «بصدق» الكلام متى يكون وكيف يكون، فيقول إنَّ العبارة تكون «صادقة» (لا مُجرَّد كونها ذات معنًى مفهوم) إذا تصرَّفتَ على أساسها فلم تَجِد ما يعترِض طريقك الذي يُوصِّلك إلى غايتك. والأمر في ذلك شأنه شأن الفروض العلمية ذاتها، فكيف يُقرِّر العالِم أنَّ فرضَه الذي يفرِضُه ليُفسِّر به ظاهرةً مُعينة هو فرض صحيح؟ إنه يُقرِّر ذلك على أساس أنه لا يجِد ما يعترِض سبيله في تطبيقه وفي التصرُّف على أساسه، أما إذا وجد من الوقائع ما يندُّ عن ذلك، عرف أنَّ فرضَه باطل. فهكذا الحال في كلِّ جُملةٍ تقولها عن أي شيء في حياتك اليومية، فقولك — مثلًا — عن منزل صديقك إنه يقَع عند مُلتقى شارع كذا بشارع كيت، هو تمامًا كقول العالِم إنَّ بئرًا للبترول تقع عند مُلتقى ذلك الجبل بشاطئ البحر. كِلا القولين يكون صادقًا لو تصرَّفنا على أساسه فنتجَتْ لنا النتائج المُرتَقَبة.

فليس «الحق» كيانًا مُجرَّدًا قائمًا بذاته كذلك «الحق» الذي ظلَّ يبحث عنه الفلاسفة والمُتصوِّفة قُرونا. بل ليس «الحق» صفةً تصِف الجملة الصحيحة في ذاتها، حتى ولو لم يكن لها انطباق على واقع، بل «الحق» هو طريقة عمل، هو طريقة أداء من شأنها أن تُنجِز أمرًا وأن تُحقِّق هدفًا. والجملة التي لا يمكن جعلها سلاحًا في يدك تشقُّ به هذا الطريق أو ذاك، هي جملة باطِلة (هذا على فرْض أنها جملة ذات معنى مفهوم). وهكذا تُصبح كلمة «الحق» وكلمة «النفع» مُترادِفَتَين، فنقول عن فكرةٍ إنها نافعة لأنها حق، أو إنها حقٌّ لأنها نافعة. والقولان في «المعنى» سواء، لأنهما في طريقة التنفيذ التجريبي سواء. وفي هذا الصَّدَد يقول جيمس تشبيهه المشهور وهو أنَّ الجملة المَعينة من حيث كونها حقًّا أو باطلًا، هي كالعملة النقدية من حيث كونِها صحيحةً أو زائفة، فالعُملة النقدية صحيحة ما دامت مقبولة في التبادُل التجاري، فإذا ما اعترض عليها مُعترض ذات يوم بحيث بطلَ استعمالها في البيع والشراء، أصبحَتْ زائفة منذ ذلك التاريخ. وكذلك القول المعيَّن يظلُّ صحيحًا ما دامت له (قِيمة فورية) أي ما دامتْ له نتائج عمليَّة تُحقِّق الأهداف المنشودة حتى إذا ما أخذ يتعثَّر في التطبيق بدأ بُطلانه، وقد يظلُّ إلى الأبد ناجحًا في التنفيذ فيظلُّ إلى الأبد قولًا «حقًّا» أو «صادقًا».

لكن فيلسوفَنا المُتديِّن بحُكم نشأته، الرقيق المُهذَّب بحُكم فِطرته، العاطفي الحسَّاس بحُكم نظرتِه، قد عرَف كيف يستخدِم مِعياره في «الصدق» ليُبرهِن به هو نفسه على حقيقة وجود الله. أليس صِدق العبارة المُعيَّنة مرهونًا بنتائجها العملية في مجرى التجربة ومجرى الحياة؟ إذن فهاك عبارة تقول إنَّ «الله موجود»، وانظُر إليها مُحتكمًا إلى هذا المِعيار نفسه، تجِد الفرق شاسعًا بين سلوك من يُؤمِن بصِدقها ومن لا يؤمن، فالأول يكون عادةً مُستبشرًا مُتفائلًا مليئًا بالأمل والرَّجاء، على حِين يكون الثاني مُتشائمًا يائسًا ينظُر إلى الدُّنيا وما فيها نظرةً سوداء. فماذا تُسمِّي هذا الفرقَ في الحياة عند الرجُلين إلَّا أن يكون «نتائج عملية» ترتَّبتْ على الأخذ بالجُملة المذكورة أو برفضِها؟ وإذن فمن الوجهة البرجماتية الصِّرف، يقوم الدليل على صِدق تلك الجملة، لكن صِدقها في هذه الحالة لا يكون مُستندًا بالضرورة إلى كائنٍ موجود فِعلًا خارج الإنسان، بل يستنِد إلى الطريقة السلوكية ونَوعِها، إذا ما اتُّخِذت تلك الجملة أداةً هادية للعمل. وفي هذا يختلِف وليم جيمس عن بقيَّة زملائه البرجماتيِّين، اختلافًا حدا ﺑ «بيرس» — وهو الذي استعمل كلمة برجماتية لأوَّل مرة — أن يحتجَّ على إساءة استِخدام هذه الكلمة على يدَي جيمس، قائلًا إنه سيتَّخِذ لنفسه كلمةً أخرى يُسمِّي بها مذهبه، وسيتوخَّى فيها أن تكون قبيحةً ثقيلةً على النطق حتى لا يخطفها الخاطفون ثُم يُسيئون استعمالها، ألا وهي كلمة «براجماتيقيَّة». فما كان بيرس يُحبُّ لمذهبه أن يُجاوز حدود العبارات العِلمية ومعانيها إلى حيث العقائد التي مدارُها الإيمان لا المنطق.

لكن وليم جيمس بما وهبَهُ الله من خفَّةِ رُوحٍ وطلاوَةِ حديثٍ وسلاسة، ظلَّ في دُنيا المُثقَّفين غربًا وشرقًا هو اللِّسان المُعبِّر عن المذهب البرجماتي، أو قُل عن الفِكر الأمريكي كلِّه، أمدًا طويلًا.

(٧) جون ديوي

وُلد جون ديوي John Dewey سنة ١٨٥٩م وهي السنة نفسها التي أصدَر فيها «دَارْوِن» كتابه أصل الأنواع Origin of Species الذي تستطيع أن تَعُدَّه فاصلًا بين عصرَين ثقافيَّين، عصر ثقافي قبله يتصوَّر العالم سكونيًّا ثابتًا، وعصر ثقافي بعده — يمتدُّ حتى يومِنا الراهن — يجعل حقيقة العالم تغيُّرًا وتطوُّرًا وحركة. وأحسب أن لو وضحَتْ لنا هذه الحقيقة الكبرى، فقد وضحَتْ بالتالي المبادئ الأساسية التي تقوم عليها كلُّ ثقافتنا القائمة، وهي الثقافة التي تمثَّلت — كما أسلفت — في فلسفة جون ديوي. ولن يضيع وقتُنا سُدى إذا ما وقفْنا وقفةً قصيرة لنُلقي بعض الضُّوء على هذا الذي نقوله.

فالكثرة الغالِبة من الفلاسفة فيما قَبْل القرن التاسِع عشر، كانت تنظُر إلى الكون على أنه شيءٌ أزليٌّ أبدي ثابت على سُنَنٍ بعينها، وما كان على الفيلسوف إلا أن يُحاول استخلاص الإطار الثابت الذي تجري الأحداث على مُقتضاه، فلئن رأيتَ بعينك الأشياء الجزئية مُتحوِّلة مُتغيِّرة، فذلك خِداع ووَهْم، وعمل العقل أن يُزيح هذه الغشاوة الخادِعة، ليغُوص إلى ما وراءها من حقٍّ لا يطرأ عليه تَغيُّر ولا تَحوُّل. ولكم سمِعْنا أولئك الفلاسفة يقولون إنهم ينشُدون (الحق) وراء هذه الظلال العابرة، ثُم هُم بعدَ ذلك يختلفون فيما بينهم عن كُنهِ ذلك (الحق) الثابت ماذا عساه أن يكون. وقد كان من نتائج هذه النظرية السكونية أن تَصوَّر الناسُ أن لا سبيل إلى تغييرٍ وتبديلٍ في أوضاعٍ هي (بطبيعتِها) هكذا، فالحيوان حيوان والشجر شجر والإنسان إنسان، لا بل إنَّ هذا الإنسان بدَوره فيه — بحُكم طبيعته الثابتة — أعلى وأدنى، إلى آخِر النتائج البعيدة المدى التي ترتَّبَتْ على تلك النظرة، وهي نتائج إن يكُن العِلم الحديث قد أزال بعضها، فما زلنا نستمسِك ببعضها الآخر؛ إذ ما زلنا في عالَم القِيَم — الأخلاقية والجمالية — نحسَب أنَّ ثمَّة مُثلًا عُليا مُتَّفقًا عليها، محال أن تتغيَّر إلا عند من طمَسَ الله فيهم البصر والبصيرة. فهكذا نقول حتى اليوم؛ نقول إنَّ الفضائل الفُلانية لا يُنكِر فضلَها إلَّا زنديق أو جاهل أو مخدوع، فكأنما رضِيَ الإنسان لنفسه تحت ضغط العِلم وقوَّتِه أن يُسلِّم له الزمام في مجال الظواهر الطبيعية، بل في كثيرٍ من الظواهر الاجتماعية ذاتها، أما القِيَم الأخلاقية والسياسية والجمالية، فقد تشبَّثَ بالحِرص عليها، لا يدَعُها تخضع للنظرة العلمية الجديدة، ليظلَّ الأخلاقي على معناه القديم وليظلَّ الجميل جميلًا أبدَ الآبِدين.

وجاء جون ديوي ثالثَ ثلاثةٍ ضخامٍ حملوا الفلسفة البرجماتية (العَملية والعِلمية) على كواهِلهم — والآخران هما (بيرس) و(وليم جيمس) — لكن هؤلاء الثلاثة جميعًا، وإن اتَّفقوا في الأصول، فقد كان لكلٍّ منهم لَون يُميزه. واللون الذي يُميز ديوي من دونهم، هو مُحاولته استخدام منهج العلوم عند التفكير في القِيم، فينبغي أن تكون الصُّورة المُثلى التي نُصوِّر بها فضيلة من الفضائل — مثلًا — بمثابة (فرض عِلمي) يخضع للتجربة العَملية، فإن ثبَتَ صِدقه على الواقع كان بها، وإلَّا وجَبَ أن نصُوغَه صياغةً أخرى بحيث يحقق للإنسان حياة يبتغيها. وليست العِبرة هنا بكلِّ فردٍ على حِدة، بل بمجموع الأمة أو الإنسانية كلها، تمامًا كالفروض، لا تتحقَّق لفردٍ بعَينه وكفى، بل لا بُدَّ لها أن تتحقَّق لمجموعة العُلماء المُشتغِلين بالفرع الذي جاءت تلك الفروض لتفسير ظواهر تقَع في مجاله.

ولنبدأ قصة فيلسوفنا من بدايتها؛ فنقول إنه قد وُلد ونشأ في أسرةٍ زراعية ريفية في ولايةٍ بأقصى الشمال الشرقي من الولايات المتحدة، ثُم كُتِب له وهو في الجامعة أن يدرُس فلسفة هيجل Hegel ويتأثَّر بها، شأنه في ذلك شأن كلِّ دارسٍ للفلسفة عندئذٍ بغَير استثناء؛ إذ الموجة الهَيْجلية كانت إذ ذاك قد طغتْ على كلِّ ما عداها من موجات الفكر الفلسفي، سواء في القارة الأوروبية بما فيها إنجلترا، والقارة الأمريكية. لكن الحظ قد شاء لفيلسوفِنا أن ينتقِل إلى شيكاغو في أوائل أعوام نُضْج الرجولة، فما أشدَّ ما لحظه من خلافٍ بين الحياة كما رآها في هذا الإقليم الأوسط وبين الحياة كما عهِدَها في شرقَي الولايات المتحدة الذي كانت قد استتبَّتْ أموره، واستقرَّتْ على حالٍ مُعيَّنة، حتى لكأنه امتدادٌ لأوروبا والعالم القديم. ففي شرقي الولايات المتحدة — حيث وُلد ديوي ونشأ — مُحافظة على القديم، وإيثار للسلامة والأمن، وبُعد عن المخاطرة والمغامرة، أما في هذا الإقليم الأوسط فقد رأى الثراء الطائل يجمعه صاحِبه في مثل اللَّمح بالبَصر، وقد يفقِده كذلك في مِثل اللمح بالبصر! ها هنا مُغامرة ومخاطرة وجُرأة وطموح. ولئن كان هذا كله ينتهي أحيانًا بالإخفاق فهو في مُعظم الأحيان ينتهي بصاحِبه إلى نجاح. إنَّ الحياة هنا «مُقامرة» كُبرى لا «يقين» فيها، لكنها مُقامرة تُبنى على «ترجيح» الكسْب، أوَتحسَب أنَّ مُعلمًا جاء ليُعلِّم أبناء قومٍ كهؤلاء، كان لينظُر إلى هذه الحياة الجارِفة من حوله، التي تملؤها رُوح الابتكار ويَسودها الأمل فيما هو جديد، ثم يُعلِّم النشء أنَّ «الحق» واحدٌ ثابت لا يتغيَّر ولا يتطوَّر؟ أيُّ حقٍّ هذا؟ أهو الحقُّ في عالم التجارة أم الحقُّ في عالم الصناعة؟ فقد وفد جون ديوي على قومٍ لا يؤمنون بالجلوس الهادئ على كراسي ثابتة القوائم يُدرِّسون «نظريات» لا تُسمن ولا تُغني، بل يؤمنون «بالعمل» اليدوي وبالسعي الدءوب الذي لا يفتُرُ لحظةً عن الإنتاج والخلق.

ألا ماذا كان لفيلسوف حسَّاس لما حوله — وهذا هو ما كان قائمًا حوله — سوى أن يُوائم بين الفكر والعمل؟ أكان يَجوز لفيلسوف يعيش وسط هذا النجاح المُزدهر، أن يقول للناس: ليكن مِقياس الصواب عندكم هو ما قاله الأسلاف؟ أم كان لا بُدَّ له أن يتأثَّر بالواقع وقوَّته فيقول: بل إنَّ مِقياس الصواب هو النتائج، فما كانت نتيجتُه نجاحًا في حلِّ المشكلات العملية فهو الصواب. إنَّ كلَّ شيءٍ في حياة الإنسان قابل للتغيُّر، ولا مفرَّ من تغييره إن دعَت الضرورة إلى ذلك التغيير، فلا يَجوز لشيء — كائنًا ما كان — أن يقِف حائلًا في طريق الإصلاح الاجتماعي وتوفير العَيش الرغد للإنسان العامل. نعم إنه لا بدَّ من تغيير قواعد الأخلاق ذاتها إن اقتضى الإصلاح هذا التغيير، وكذلك لا بدَّ من تغيير أُسُس السياسة والاقتصاد والتربية وكلِّ شيءٍ مما قد يُظنُّ به الدوام والثبات، في سبيل تغيير الحياة تغييرًا يجعلها أكثر مُلاءمةً لظروف العصر الجديد.

وإذا تصوَّرنا الإنسان كيف ينبغي أن يكون في ظروف العصر الجديد، كانت الوسيلة لتكوينه على الصورة الجديدة هي التربية، ومن ثَمَّ انصرف ديوي باهتمامه أول الأمر إلى «التربية» يُمعِن النظر في أُسسها وطرائفها، وما أظنُّ أن مُعلِّمًا واحدًا في شرق الدُّنيا أو في غربِها لم يتأثَّر بالمبادئ التربوية الجديدة التي أعلنَها ديوي وأشاعها، والتي قلبتْ وجهة النظر في هذا الميدان رأسًا على عقب، فمَهْما اختلف المُخالف له في تفصيلةٍ هنا وتفصيلة هناك، فما أحسَبُ أحدًا يُماري في الأساس العميق، ألا وهو أن يكون محور العملية التربوية هو «المُتعلِّم» نفسه لا «مادَّة الموضوع» المدروس. وكان أول كتاب تربوي أخرجه ديوي هو كتاب «المدرسة والمُجتمع» (١٨٩٩م) School And Society الذي شرح فيه طرائقه التي كان يتَّبِعها في مدرسته التجريبية المُلحَقة بالجامعة، جامعة شيكاغو، حيث كان مبدؤه الأساسي هو أن يجعل من تلاميذ المدرسة مُجتمعًا صغيرًا يُشبه المجتمع الكبير في حياته ونشاطه. ثُم تلا ذلك كتابٌ آخَر هو «الديمقراطية والتربية» (١٩١٦م) Democracy and Education — وهو مُترجَم إلى العربية — يُبيِّن فيه أن التربية هي أن نُنَشِّئ الناشئ على سُرعة المُواءمة بين نفسه وبين بيئته، لا على أن يُحافظ على التقاليد القديمة مهما تكن آثارها على حياته العملية الجديدة.

على أن أهمَّ موضوع أدار جون ديوي حوله الفكر، هو تحليل عملية الفكر نفسها؛ «فالأفكار» ما طبيعتها وما أصلها؟ وكيف تطوَّرت في عقل الإنسان من أصولها البيولوجية والاجتماعية الأولية البسيطة حتى أصبحَتْ ما أصبحَتْ؟ وبعبارةٍ أخرى كان «المنطق» هو أهم ما خلَّفَه لنا هذا الفيلسوف، فكما أن أرسطو قد خلَّف من بعده «منطقًا» أقامه على أساس المنهج الاستنباطي الرياضي الذي يُصوِّر طريقة اليونان الأقدَمين — وطريقة أهل العصور الوسطى المُتديِّنة — فقد كان ديوي في عصرنا الحاضر من بين من أقاموا «منطقًا» جديدًا يُصوِّر طرائق البحث في العلوم الطبيعية والعلوم الاجتماعية، وهو المنطق الذي أطلَقَ عليه اسمًا فنيًّا هو «نمَط البحث»، قاصِدًا بكلمة «البحث» هنا أن ينخرِط الإنسان في مسلكٍ عمَلي يُعالِج به موقفًا مُشكلًا حتى يَنفضَّ إشكالُه.

فلا بدَّ لكي ينشأ عند الإنسان «فكر» على الإطلاق، من أن يكون هنالك موقف مُعين، رُتِّبت فيه الأشياء على صورةٍ من شأنها أنها لا تُحقِّق غرَضًا من أغراض الإنسان — صغر ذلك الغرض أو كبر — وإذن فلا بدَّ أن يُلِمَّ صاحب المشكلة المُعيَّنة بعناصر الموقف المُشكل من حوله، ثم يُديرها في رأسه مُحاولًا أن يجد لتلك العناصر ترتيبًا آخر، لو رُتِّبت به لانحلَّ الإشكال. وبعدئذٍ يعود صاحب المُشكلة إلى الموقف من جديد يُحاول به مرةً أخرى إعادة ترتيب العناصر، وهلمَّ جرًّا. معنى ذلك أنَّ «الفكر» يَستحيل قيامه بغَير «مشكلة» فِعلية، أما أن تجلِس على كرسيك وتتأمَّل في فراغ ثُمَّ تظنُّ أنك «تفكر»، فأمر لا يقبله البرجماتيون جميعًا، بل إن «العقل» نفسه لم يَعُد عندهم كائنًا غيبيًّا قائمًا بذاته داخل الجسم، سواء نسَبْنا له التفكير حينًا بعد حين، أو نسَبْنا له التفكير في كلِّ حين، كلا، إنَّ «العقل» هو نفسه نمَطٌ من سلوك بدَني نُلاحِظ فيه أنه هو السلوك الذي يُحاول أن يُحقِّق هدفًا بعينه في مواقف الحياة الفِعلية.

لكن جون ديوي يعود فينفرِد وحدَه دون سائر البرجماتيِّين بما يُسمِّيه هو «المذهب الوسلي» (من وسيلة)، وشرحُه باختصار هو أنَّ ليس هنالك حقيقة قائمة بذاتها أبدًا، بل إنَّ كلَّ حقيقة إنما هي خطوة في طريق مُتسلسِل طويل يؤدِّي في النهاية إلى «حلٍّ» لمُشكلة مُعيَّنة. وهذا الحلُّ الأخير نفسه يستحيل أن يكون حقيقة قائمة بذاتها، بل إنه سُرعان ما يُصبِح حلقة في سلسلة فكرية جديدة يُراد بها حلُّ إشكال جديد. فلو قلتَ لي مثلًا: «هذا قادوم.» — مُشيرًا إلى آلة مُعيَّنة — فقولك هذا من الناحية المنطقية عند ديوي ليس بذي بال، ما لم نكن في موقفٍ يكون فيه القادوم وسيلةً تُؤدي إلى نتيجةٍ منشودة. أما أن أعرف أنَّ هذا قادوم وكفى، ليس قبلها شيء ولا بعدها شيء، فما هو من المعرفة في شيء. المعرفة هي معرفة وسائل لحلول، والحلول لا تكون إلَّا لمُشكلات قائمة فعلًا. ومن هنا تستطيع أن تحكم على كلِّ هاتيك الشطحات التي يشطح بها الشاطحون ويقولون إنهم يفكرون! دون أن يكون قد صادَفَهم في حياتهم إشكالٌ يقتضي بحثًا وحلًّا! إنَّ أمثال تلك الشطحات ليستْ فكرًا، بل هي دَوَران عقيم في دائرةٍ من لفظٍ أجوف.

وقد بسط ديوي «منطقَه البرجماتي» تفصيلًا في عدة كُتب، منها كتاب «المنطق» وكتاب «البحث عن اليقين» The quest For Certainty وكلاهما مُترجَم إلى العربية، وكذلك منها كتاب «كيف نفكر» How We Think وصفوةُ ما في هذه الكُتب كلها أنَّ «الفكرة» — أي فكرة — لا تستحقُّ أن تُسمَّى بهذا الاسم ما لم تكن ذات علاقةٍ وثيقةٍ بموقفٍ ماثِل أمام صاحبها، بأن تُقدِّم له حلًّا مُقترحًا لما يكتنِف ذلك الموقف من إشكال. ولكن ما الذي يدلُّ صاحِبَنا على أن «فكرته» صواب؟ يدلُّه على ذلك أنه يُطبقها فتنفع، وإذن «فمعنى» الفكرة و«طريقة تحقيقها» شيء واحد، وما لا تطبيق له لا معنى له، فلسْنا نحكُم بأنَّ الفكرة ذات معنى، أو أنها فكرة صواب لمُجرَّد احتكامِنا إلى «عقل» نظري غَيبي يُقال إنه يسكن رءوسنا، كلَّا، بل الحُكم مرهونٌ بالتطبيق وحدَه، وبعبارة أخرى لعلَّها أوضح، نقول إنَّ الفكر لا يكون فكرًا إلَّا إذا كانت له علاقة وَسَلِيَّة بما ليس فكرًا، كالسكِّين تقطع غيرها، والمِنشار يشقُّ ما ليس بمِنشار، والقلم يكتُب شيئًا ليس هو بالقلم وهكذا، فكذلك كلُّ فكرة هي أداة أو هي وَسيلة تُعالج شيئًا سواها، تُعالج موقفًا خارجيًّا، أما أن تظلَّ الفكرة مُستنِدةً إلى فكرة أخرى، وهذه إلى ثالثة وهلمَّ جرًّا، فطريق لا نُجاوز به حدود جمجمةِ الرأس من داخل، مع أنَّ الفكر لا يكون فكرًا إلَّا إذا جاوزَتِ النظرية حدود الرأس إلى حيث العمل.

•••

مات ديوي في اليوم الأول من شهر يونيو عام ١٩٥٢م، عن اثنين وتِسعين عامًا، بعد أن ملأ الدُّنيا بفِكره، لأنه كان بذلك الفكر أقوى مَن عبَّر عن حضارة العِلم والصناعة، حضارة القرن العشرين.

(٨) إرنست كاسيرر

ميدان الفلسفة المُعاصرة تتقسَّمه مُعسكرات رئيسية أربعة، تختلِف فيما بينها اختلافاتٍ بعيدةَ المدى في الفروع، وتتَّحِد كلها في الأصول العميقة. ومن هذه الأصول العميقة المُشتركة تتكوَّن ثقافة عصرِنا في اللُّباب والصَّميم، وما هذه الأصول المُشتركة التي نجِد فيها مفتاح ثقافة عصرنا، إلا الثورة بأشكالٍ مُختلفة على فلسفةٍ كانت لها السيادة من قبل، وهي فلسفة هيجل.

مذهب هيجل

ومُؤدَّي المذهب الهيجلي هو أنَّ الكون كله. بجميع من فيه وما فيه، إن هو إلا تعبير عن «روح» مُطلَق لا تَحدُّه حدود ولا تُقيِّدُه قيود، فهذا «المُطلق» الرُّوحاني في جوهره، إنما يتبدَّى ويكشف عن نفسه في مظاهر العالم التي نُدرِكها بحواسِّنا. فلئن كان العالَم المحسوس مُتطوِّرًا من مراحل أدنى إلى مراحل أعلى، فما ذلك إلا تطوُّرٌ في كشْف «الرُّوح المُطلَق» عن نفسه كشْفًا مُتدرِّجًا، كأنما هو الشريط المنطوي يبسط نفسه بسطًا ليبدوَ منه ما قد كان خافيًا. وليس الكون على هذا المذهب بمُختلِفٍ عن كائنٍ عضوي حي واحد ذي رغَباتٍ وأهداف؛ ومعنى ذلك بعبارةٍ واضحة هو أنَّ هذه الأفراد والمُفردات التي تُصادِفها من حولك لا تزيد على وسائل تخدُم الكلَّ في تحقيقه لأغراضه.

ثورةٌ على مذهب هيجل، اتَّخَذتْ صُورًا أربعًا

وجاءت ثقافة القرن العشرين لتثُور على فلسفةٍ كهذه تطمس الأفراد طمسًا لا يجعل لها وجودًا مُستقلًّا بذاته، لكن الثورة اتَّخذَت صورًا عدَّة أهمها الأربع التي أشرتُ إليها، والتي ازدهر كلٌّ منها في رُقعة مُعينة من رِقاع الأرض:

ففي إنجلترا سادَتْ فلسفة «تحليلية» تفكُّ المُدمَج إلى عناصره والكلَّ إلى أفراده، وعلى رأس تلك الفلسفة كان «مور» و«رسل».

وفي أمريكا قامت فلسفة «برجماتية» تجعل «الحق» في النتائج الناجِحة في التطبيق، أي أنَّ «الحق» ليس كائنًا أعلى من هؤلاء الناس في مشاكلهم التي تنشأ في مجالات البحث العِلمي والحياة اليومية.

وفي القارة الأوروبية — فرنسا بصِفةٍ خاصَّة — نشأتْ فلسفة تغُوص في ذات الإنسان الفرد غوصًا تستكشِف به كُنهها. ومن ثَمَّ كانت الفلسفة الوجودية في فرنسا التي تُعلي وجود الأفراد وجودًا خارجيًّا حقيقيًّا على الماهِيَّات المُجرَّدة التي كان يُظنُّ أنها تسبِقُ هؤلاء الأفراد في وجودهم العيني، وتُحدِّد لهم صورة ذلك الوجود تحديدًا مُسبقًا لا مناصَ لهم من الخضوع له.

وفي الروسيا سادت فلسفة ماركسية تثُور على الفلسفة الهيجلية بصورةٍ أخرى، وهي أن تُسلِّم بمذهبِهِ الجدَلي في تطوُّر الكون المُتماسِك، لكنها تجعل ذلك الكلَّ هو مجموعة البشر في سَيرِها خلال مراحل التاريخ، بدلَ أن كان عند هيجل هو «الرُّوح الكُلي المُطلق». فالفلسفة الماركسية «جدلية» (أي أن سَيرَ التطوُّر يَجري من «الموضوع» إلى «نقيض الموضوع» ثُمَّ إلى التآلُفِ بين النقيضَين، وهكذا دواليك). أقول إنَّ الفلسفة الماركسية «جدلية» كفلسفة هيجل، لكنها جدليَّة «ماديَّة» تجعل التطوُّر مُنصبًّا على البشر وحياتهم الفعلية، لا جدليَّة «فكرية» تجعل التطوُّر مُنصبًّا على «العقل» وما يدور فيه.

ثورة على فلسفة كَانْت

أرأيتَ — إذن — كيف التقَتْ هذه الفلسفات المُعاصرة كلها في نبذِها «للمُطلَق» الذي أراد له هيجل أن يكون هو الحقيقة كلها، وفي اهتمامها بالفرْد وحياته على هذه الأرض؟ لكن هذا الاهتمام بالفرد البشري كما هو كائن فِعلًا، وكما هو يحيا ويُفكِّر، قد وجدَ سبيلَهُ أيضًا في ثورةٍ أخرى على «عمانوئيل كَانْت» بدَلَ أن تخُصَّ هيجل بغضْبَتِها، ولذلك سُمِّي أصحابها — وهم من الألمان — بالكانْتيِّين الجُدد، وهذا المقال حديث في أحدِهم وأشهرهم، وهو أرنست كاسيرر Ernest Cassirer فكيف كان ذلك؟

نشأة كاسيرر

وُلد أرنست كاسيرر في مدينة برسلاو Breslaw بألمانيا عام ١٨٧٤م لأسرةٍ يشتغِل عائلها بالتجارة، وكان الغلام في صِباه مرِحًا ذا خيالٍ مُبدع تبدَّى في ألعابه مع لِداته، ولم تكن تبدو عليه في يَفاعتِهِ علاماتٌ تُشير بأنَّ مصيره إلى حياة التأمُّل الهادئ العميق، لكنه لم يكَدْ يزور جدَّه لأمِّه الذي كان يعيش على غير مبعدةٍ من برسلو حتى شهِد في داره مكتبةً ضخمة، لم يكُن له بمِثلها عهد، فكانت صفوف الكُتب أمام عَيْنَيه، وطريقة جدِّه في الحديث المُثقَّف المصقول في مسمَعيْه، حافزًا إلى حياةٍ جديدة، كأنما قلَبَ صفحةً من حياته وبدأ صفحة؛ فقد مضى عهد المِزاح واللعب، وجاء عهد العمل الجاد، المُتَّصل، الذي سرعان ما أظهر منه في مدرسته طالبًا لفتَ إليه الأنظار.

وحان حينُ دخول الجامعة فالتَحقَ بجامعة برلين، وكان عمرُه عندئذٍ ثمانية عشر عامًا، وكان موضوع التخصُّص الذي اختاره بادئ الأمر هو القانون، ولم يكن اختيارُه هذا إلَّا إرضاءً لرغبة أبيه التاجر؛ ولذلك فلم يلبَثْ فتانا أن استجابَ لصوتٍ في دخيلةِ نفسه، وترك دراسة القانون لينصرِفَ إلى الفلسفة وإلى الأدب والفن. انصرَفَ إلى هذه الدراسات وفي ذِهنه مسائل أشكلتْ عليه كان يَرجو أن يجِدَ عنها الجواب المُقنِع، لكنَّه — وا أسفاه — لم يجِد في أساتذة برلين العُمق الذي يبتغيه، فراح يتنقَّل من جامعةٍ إلى جامعة، من برلين إلى ليبزج، ومن ليبزج إلى هيْدلبرج، ومن هيدلبرج عائدًا إلى برلين لمَّا سمِع أنَّ محاضرًا ناشئًا هناك يُجيد المُحاضرة في فلسفة كَانْت.

وسقطت من شفتَي المحاضر المُجيد في غضون حديثِه عبارة كأنَّها وردَتْ بغَير قصد؛ إذ قال: «إن أحسن المؤلَّفات عن فلسفة كَانْت هي بغَير شكٍّ كُتب هرمان كوهين (في جامعة ماربورج)، لكنَّني لا بُدَّ أن أعترِف بأنني لا أفهمُها.» فماذا يصنع الفتى كاسيرر إلَّا أن يُسرع بعد المحاضرة إلى مكتبة فيشتري كُتُب كوهين هذا، ثُم ينكبُّ عليها انكبابًا لا يلبَثُ معه حتى يُقرِّر مُغادرة برلين إلى ماربورج ليحضُر على هذا المؤلف النادر في فهمِه وفي عُمقه. وسرعان ما برَز كاسيرر بين الطلَّاب، حتى لقد قال كوهين في ذكرياته عنه: «إنني أحسَسْتُ من فوري أنَّني بإزاء طالبٍ أعلمَ من أن يتعلَّم عنِّي شيئًا.» ذلك أنَّ كاسيرر كان قد طالَعَ في الفلسفة مُطالَعاتٍ واسعة، ووهبَهُ الله ذاكرة لا تُضيع شيئًا ممَّا حفظت، فكان في مُستطاعِهِ أن يَتلُوَ من الذاكرة صفحاتٍ بعد صفحاتٍ ممَّا قد قرأه، لا في ميدان الفلسفة وحدَها، بل كذلك من الأدب الذي كاد ألَّا يترُك من روائعه رائعةً لم يقرأها بمِثل هذا الحفظ العجيب، ولم يكن هو الحفظ السَّلبي الذي يَعي وكفى، بل هو الحِفظ الإيجابي الفعَّال الذي يَستخدِم المادة المحفوظة استخدامًا ينتهي به إلى خلقٍ وإبداع.

كتابه: مُشكلة المعرفة

جاوز كاسيرر الثلاثين بِسنتَين، وإذا هو يستوقِف أنظار المُشتغلين بالفلسفة في أرجاء العالم كلِّه بمُجلَّدين يُخرجهما في «مشكلة المعرفة» يستعرِض فيهما — استعراض المُتمكِّن القدير — صورةَ الفكر الأوروبي كيف تطوَّر حتى بلغ قمَّتَهُ في فلسفة كَانْت. ومرَّت بعد ذلك خمس عشرة سنة فأتْبعَ المُجلَّدين بثالثٍ يعرِضُ فيه ما بعْدَ كَانْت. ثم لمَّا رحل أخيرًا إلى أمريكا (١٩٤١م) أعدَّ مُجلَّدًا رابعًا يُكمِل به الرواية إلى آخِر فصولها.

كتابه: الجَوهر والأداء

على أنَّ هذا المؤلَّف العظيم إن دلَّ على علمٍ غزير، فلم يكن هو المُؤلَّف الذي أخرج عبقرية الرَّجل في أتمِّ صُورها. وقد بدأت دلائلها القوية تظهَر في كتابٍ آخَرَ أخرَجَه وهو في السادسة والثلاثين، عنوانه «الجوهر والأداء»، فكان هذا الكتاب أول ما تُرجِم للفيلسوف إلى لُغاتٍ كثيرة، منها الإنجليزية والروسية. وخُلاصة الفكرة هي أنَّ حقيقة الإنسان ليستْ في جوهرٍ ساكن، بل في أداءٍ حيٍّ فعَّال، وذلك أنَّ الفلسفة قد لبِثتْ ألفي عامٍ من قبل ذلك تأخُذ بمنطق أرسطو في مُدرَكات العقل، وهو منطق يُبنى على أنَّ العقل الإنساني إنما يَصِل إلى المعاني الكلية بوساطة التجريد من الجُزئيات المحسوسة. فمثلًا: كيف يصِل العقل إلى الفكرة الكلية العامة «منضدة»؟ إنه يَصِل إليها بعد أن تُدرك العين مناضِدَ مُفردة، منها المربَّع ومنها المُستطيل، ومنها ما لونُه كذا وما لونُه كيت، فيطرَح العقل من حسابه الجوانب المُختلِفة في مُفردات المناضد، ليستبقي الجوانب المُشتركة وحدَها فتكون هذه الجوانب المُشتركة هي المعنى الكُلِّي لكلمة «منضدة» وهو في استعراضِهِ لمُفردات المناضد إنما يعتمِد على أوجه «الشَّبَه» التي تجعل منها أعضاء من مجموعة واحدة.

وهنا يتدخَّل كاسيرر باعتراضِه القوي: وكيف للعقل بادئ ذي بَدْء أن يعرِف بأنَّ الشيء الأول الذي وقعَتْ عليه العين هو من نوع الشيء الثاني الذي وقعَتْ عليه العَين أيضًا؟ إنَّنا إذا قُلنا إنه يعرِف ذلك لِما بينهما من «شبَه» كنَّا كمن يَسير في دائرةٍ مُفرَّغة، لأن ذلك معناه أنَّنا قد عرَفْنا النَّوع قبل أن نعرِف الأفراد، ثُمَّ إذا بنا نزعُم أننا لم نعرِف النوع إلَّا بعد أن رأيْنا الأفراد! فلِماذا — مثلًا — لم أُقارِن المنضدة الأولى بمقعدٍ أو بفنجانٍ أو بقبضةٍ من هواء؟ لماذا قارنتُها «بمنضدة» ثانية إلَّا أن يكون في العقل قُدرة سابقة على الفاعِلية النشيطة التي تَعرِف كيف «تختار» الأشباهَ من الأشياء فتُقارن بينها، وإذن فالعقل حقيقته فاعِلية وأداء قبْلَ أن يكون جَوهرًا ذا كيانٍ قائم بذاته.

وبعد أن بسط كاسيرر هذا الجانب في كتابه «الجوهر والأداء» أخذ يُفرِّق تفريقاتٍ دقيقة بين أنواع المُدرَكات العقلية في شتَّى فروع العلم، فلكلِّ عِلمٍ مُدرَكات أساسية يقوم عليها بناؤه: للرياضة مُدركات العَدد، وللطبيعة مُدرَكات المكان والزمان والطاقة، وهكذا، فكيف تتغيَّر البِنية المنطقيَّة في هذه المُدرَكات من عِلمٍ إلى عِلم، فإذا ما انتقَلْنا — مثلًا — من العلوم الرياضية ومُدركاتها إلى العلوم الفيزيائية ومُدرَكاتها نكون قد انتقلْنا من ضربٍ من الأداء العقلي إلى ضربٍ آخر، وكذلك إذا انتقلْنا من العلوم الفيزيائية إلى علوم الحياة وهكذا. وإنه ليُقال إن كاسيرر في تحليله هذا الدقيق العميق، كان أول من أدرَكَ — في تاريخ الفكر الإنساني — طبيعة المُدركات العقلية في مجال الكيمياء.

جامعة هارفارد تعرِض على كاسيرر أستاذية الفلسفة بها

ولكن هل كان هذا الإنتاج الفلسفي المُمتاز ليُغيِّر من وضعِه في بلده — ألمانيا — شيئًا؟ كلا! فأمْر الحياة في هذا الصَّدد عجبٌ من العجَب، فالألسنة جميعًا تنطلِق بتقديره والثناء عليه، حتى إذا ما كان الأمْر أمرَ مناصِب لم تتقدَّم إليه جامعة واحدة بمنصِب الأستاذية، وتُرك الرجل العامل الجاد العميق يُنتِج الفلسفة الجديدة، وهو مُغتبِط بما يُنتِجُه، والعالم من حوله مُقدِّر لفضله، إلا أصحاب الكلِمة في توزيع المناصب على مُستحقِّيها. وكم يذكُر لنا التاريخ حالاتٍ يجيء فيها العرفان والتقدير من غير الأهل. وهكذا كانت جامعة هَارْفارد بالولايات المتحدة أول جامعة تُرسِل إلى كاسيرر تعرِض عليه كُرسي الأستاذية في الفلسفة.

كتابه الصُّور الرمزية

ومضتِ السُّنون بعد ذلك بما فيها من أحداث الحرب العالمية الأولى، والعشرة الأعوام التي تلتْها. وها هنا خرج كاسيرر على العالَم بذُروة عبقريته الفلسفية كلها، وأعني كتابه «الصور الرمزية». وسنعود إليه بعد قليل.

تنقُّلُه بين الجامعات

فانتُخِب على أثر ذلك أستاذًا فمُديرًا لجامعة هامبرج. ثم نَشِبَت الحرب العالمية الثانية، وهمَّ بالهجرة من ألمانيا، فدعَتْه جامعة إكسفورد أستاذًا بها، وكذلك جامعة جنبرج بالسويد. وبعد أن قضى فيهما حينًا، عبر المُحيط مُلبِّيًا دعوة جامعة ييل Yale في الولايات المتحدة، ومنها إلى جامعة كولمبيا بنيويورك حيث وافاهُ الأجل عام ١٩٤٥م، بعد أن أصدر كتابًا أخيرًا عنوانه «مقالة في الإنسان» (تُرجِم إلى العربية) لخَّص فيه معالِم فلسفته كلها.

بين كاسيرر والفيلسوف كَانْت

قُلنا إن كاسيرر — كغيره من فلاسفة هذا العصر — يُعبِّر عن ثقافة زَمنه التي محورها البُعد عن التجريد، والتركيز على الإنسان في تَعيُّنه وفي وجوده الحي، ولكنه — على خلاف فلاسفة العصر — قد جعل ركيزته «عمانوئيل كَانْت Kant» الذي عُني طول حياته بدراسته، ثُمَّ راحَ آخِر الأمر يُعدِّل من نتائجه بحيث يجعلها أكثر مُلاءمةً لرُوح عصرنا. وشرْحُ ذلك أن «كَانْت» في كتابه «نقد العقل الخالص» كان قد اضطلع بتحليل العمليات «العقلية» الصِّرفة، التي لا بُدَّ للعقل أن يقوم بها لكي يُتاح له أن يبلُغ الحقائق العلمية؛ ففي مُستطاع الإنسان أن يصُوغ المُعادلات الرياضية التي لا شكَّ في يَقينها، وكذلك في مُستطاعِه أن يصُوغ قوانين العلوم الطبيعية — كقانون الجاذبية مثلًا — وهي أيضًا قوانين لا شكَّ في يَقينها من وجهة نظره، التي هي نفسها وجهة نظر علماء الطبيعة في القرنَين السابع عشر والثامن عشر.

رأي للفيلسوف ديفد هيوم

وكان تاريخ الفلسفة قد شهد فيلسوفًا إنجليزيًّا — هو ديفد هيوم David Hume — شهِده وهو يتصدَّى لليقين المزعوم لقوانين العِلم، ليخرُج بنتيجة عجيبة، ألا وهي أن الحقائق العلمية ما دامت مُستنِدة إلى مشاهدات الحواس، فيستحيل منطقيًّا أن تُوصَف باليقين؛ لأنَّ ما تُشاهده الحواسُّ قد كان يمكن عقلًا أن يكون على صورةٍ أخرى غير التي هو عليها بالفعل. فلئن كان الحجَر المُلقى يميل نحوَ السقوط إلى الأرض بفعل الجاذبية كما تدلُّ المشاهدات، فليس عند العقل الخالص ما يمنع أنْ كانت تكون حال الأشياء على غير هذا الوضع، بحيث نُلقي بالحجَر فيميل نحو الصعود إلى أعلى بدل الهبوط إلى أسفل، أي أنَّ كلَّ ما في وُسعنا إثباته هو أنَّنا قد شاهدْنا الأمور على هذا النحو المُعيَّن لا على نحوِ سواه، وإذن فلا يقين ولا حتْم يَقضي بضرورة أن تجري الطبيعة هذا المَجرى في كلِّ آن.

الفيلسوف كَانْت ينقُض رأيَ هيوم

ولو صَدَق هذا الذي زعمَه هيوم لاهتزَّ بناء العِلم كما كان أهل العلم يتصوَّرونه، فكان لا بدَّ لفيلسوفٍ آخَر أن يأخُذ هذا الزعم مأخذ الجد، ليكشف عمَّا قد يكون مدسوسًا فيه من مواضع الخطأ. وكان هذا الفيلسوف هو عمانوئيل كَانْت، الذي قال إنَّ هيوم قد أيقظَه من سُباته الفكري. نعم، لو كانت الحواسُّ بمشاهدتها هي وحدها أبواب العِلم الطبيعي، لوجَبَ أن ننتهيَ إلى النتائج التي انتهى إليها هيوم، لكن الأمر ليس كذلك، فالحواسُّ تأتينا بالمادَّة الخام من أحاسيس تسلُك إلينا هذا الطريق أو ذاك، إذ تهجم الأحاسيس على العين والأذن والجلد وغيرها، فتصِل إلينا خليطًا. ولو وقف الأمر عند هذا الحدِّ لما كانت معرفة، لكن هنالك وراء الحواس «عقلًا» لا بدَّ أن يكون قد جُهِّز بمقُولات — أو قوالب — تَنصبُّ فيها مادة الإحساسات فتكون بذلك علمًا سويًّا، كما تنساق حروف المطبعة فوق صفحات الكتاب على نسَقٍ معلوم فإذا هي معانٍ لا مُجرَّد أحرُفٍ مُفككَّة مُتناثرة. ويخلُص «كَانْت» من هذا إلى أنه لا بدَّ للمعرفة العلمية من جانِبَين: إحساسات تجيء إلى حواسِّنا من خارج، ومقولات عقلية تُنظِّم تلك الإحساسات، وهي مفروزة في نظرتِنا من داخل، ولولا الأولى لظلَّت المقولات فارغةً من المضمون، ولولا الثانية لأصبحت الإحساسات كَومةً مُهوَّشة عمياء بغَير معنًى معقول.

كاسيرر يُتمِّم رأي كَانْت

وجاء صاحبنا أرنست كاسيرر لا لينقُضَ «كَانْت» بل ليُضيف إليه ويُتمِّمه؛ فليس الإنسان عقلًا صِرفًا كما صوَّرَه «كَانْت»، وإلَّا لذهبت جوانب كثيرة من ثقافته هباءً مع الريح. فانظر إلى ثقافة الإنسان على طول التاريخ وفي كلِّ مجتمع، تجِدْها نسيجًا من أشياء كثيرة لا غِنى له عن واحدٍ منها؛ فهو أن يكون بحاجةٍ إلى الجانب العِلمي العقلي الذي اقتصر كانْت على تحليله وتوكيده، إلَّا أنَّهُ كذلك بحاجةٍ إلى «الفن» وإلى «الأساطير» وإلى «اللغة» وإلى «التاريخ» وإلى «الدين» وإلى غَير ذلك كلِّه من جوانب يستحيل عليه أن يحيا بغَيرها، فهل شهِدتَ شعْبًا واحدًا — همجيًّا كان أو مُتحضِّرًا — عاش بغَير فن؟ عاش بغَير دين؟ عاش بغَير أسطورة؟ عاش بغَير لغة؟ عاش بغَير تاريخ يَرويه؟ وليست هذه «علومًا» تنصبُّ في مقولات العقل الخالص، وإذن فلا مناصَ من التسليم بأنَّ فطرة الإنسان أوسع من مُجرَّد العقل الخالص، وأنه لا تفضيل في تلك الفطرة بين جانبٍ وجانب، لأنَّها كلها مطلوبة لحياته وضرورية لحضارته، وتلك الجوانب الكثيرة هي التي يُطلِق عليها كاسيرر اسم «الصور الرمزية» أو قُل إنها القوالب التي تُصاغ فيها هذه المواد كلها، والتي يتَّخِذ منها الإنسان رموزًا يهتدي بها في هذا المَسلك أو ذاك من مسالك حياتِهِ.

كاسيرر فيلسوف واسِع الاطلاع غزير العِلم

وكانت المهمَّة الكبرى التي اضطلع بأدائها كاسيرر هي أن يُحلِّل هذه الصُّور تحليلًا يستقصي فيها كلَّ شيءٍ حتى الجذور، ولبِثَ في الفترة المُمتدَّة بين عامَي ١٩٢٣م و١٩٢٩م يُعدُّ المجلدات الثلاثة التي أصبحت آخِر الأمر هي كتابه العظيم «الصور الرمزية» الذي أفاض في تفصيلات الشواهد التي ساقها فيه إفاضةً لم يكن يستطيعها إلَّا رجلٌ في مِثل سَعةِ اطلاعه وغزارة علمه، لأنه إذا زعم لك زعمًا عن هذا الجانب أو ذاك من فطرة الإنسان الأصيلة، ساح بك سياحةً طويلة في كلِّ ما قد شهِده التاريخ من حضارات وثقافات، فكأنما الآداب كلها والأساطير كلها والديانات كلها والعلوم كلها، والتاريخ كله مِلك يمينه ورهن إشارته.

كاسيرر يضمن للإنسان الوحدة المتكاملة

أما بعد، فلئن كان التعصُّب لناحيةٍ واحدة من نواحي الإنسان وإهمال كلِّ ما عداها ضربًا من الجنون، لا يردُّه إلى حِكمة العقل إلا النظرة المُتَّزنة التي تلحظ شتَّى النواحي لتنسج منها نسيجًا واحدًا متكاملًا يخلُق من الإنسان وحدةً مُتماسكة البناء: عقلًا وعاطفة، وروحًا وبدنًا، وصحوًا وحلمًا، وحاضرًا وماضيًا، فإن أرنست كاسيرر بين فلاسفة عصرنا هو الذي ضمن للإنسان هذه الوحدة المُتكاملة بعد أن تجزَّأت على أيدي سواه أشلاءً مُتناثِرة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤