هذه الكلمات وسحرها

١

أي شيء أدنى إلى الصواب من قولِنا بأن شهادة الميلاد لا تكون إلَّا لمولود جديد، وأنه إذا وُجدت شهادة ميلاد بغَير مولود فهي زائفة مُزوَّرة؟ وأيُّ شيء أدنى إلى الصواب من القول بأن الرمز لا يتمُّ معناه إلا بوجود المَرموز إليه، وأنه إذا وُجِدَ رمز بغَير مرموز إليه فهو إذن وسيلة خِداع وتضليل؟ وأي شيء أدنى إلى الصواب من تقريرِنا أنَّ الِاسم لا يكون اسمًا إلا إذا وُجِد المُسمَّى؟ وإذا كان ذلك كلُّه صوابًا فمن الصَّواب كذلك أنَّ كلَّ كلمةٍ في اللغة لا تُسمَّى شيئًا ولا تُشير إلى شيء، هي كلمة زائفة مهما طال بين الناس دَورانها؛ فالفرق بين اللفظة التي ترمُز إلى مُسمَّى واللفظة التي لا ترمُز هو الفرق بين اللفظة التي «تعني» شيئًا واللفظة التي «لا تعني»، وهو فرق شديد الشَّبه بما يُفرِّق ورقة النقد التي تستنِد إلى رصيد فتكون ورقةً ذات قيمةٍ حقيقية من ورقة النقد التي لا تَستنِد إلى مثل ذلك الرصيد فتكون ورقةً باطِلة.

إني لأقول مثل هذا الكلام الجليِّ الواضح، أقوله وأكتُب فيه وأحاضر، ولا أخلو عندئذٍ من خجَل؛ إذ أراني أقول البَدائِه؛ لكن ما أشدَّ عجَبي أن ينهض كاتِب فيقول لقرَّائه: احذَروا مثل هذا الكلام لأنه مُودٍ بما لنا من معانٍ جليلة سامية بذلَتِ الإنسانية في بنائها جهدًا جهيدًا! وأن يتصدَّى كاتب آخَر للمُعارضة قائلًا: إنَّ مثل هذه الدعوة تُثير الرِّيبة في صاحبها، وتدعو «إلى أكثر من علامةِ استفهام!» وأن يُحاضِر أستاذ جليل في قاعةٍ عامَّة لم يُحسِن اختيار زائريها فيقول، لمن لا تعنيهم الفلسفة في كثيرٍ أو قليل: إنَّ مثل كلامي هذا يصلُح للغرب ولا يصلُح للشرق! كأنما أراد بذلك أن يُعفي أهل الشرق من قيود العقل فيما ينطقون به وما يكتبون!

ولذلك فإني أطلُب مغفرة القارئ إذا عُدتُ إلى البدائِهِ الواضحةِ أقولها وأكرِّرُها؛ فمن ذلك أنَّ الشيء لا بدَّ أن يُوجَد أولًا؛ حتى يجوز لنا بعدئذٍ أن نُطلق عليه اسمًا يُسمِّيه ويُميِّزه مما عداه، وهذا هو بعَينِهِ الأساس الذي نُقيم عليه تعليمَنا اللغة لأطفالنا؛ فأُشير إلى شيءٍ قائم على مرأًى من الطفل قائلًا له: «شجرة»، ولولا أن هناك الشجرة التي أُشير إليها لذهبَتْ لفظتي عند الطفل عبثًا؛ إنه في سذاجَتِهِ وبفِطرتِهِ ينظُر إلى طرفَين: المُسمَّى المُشار إليه في طرف، والصوت الذي أنطِقُ به في طرفٍ آخَر؛ وعندئذٍ يَقرِنُ الشيءَ المرئيَّ بالصوت الذي يسمَعُه، أو يَقرِنُ المُسمَّى باسمه، أو يَقرِنُ المَرموز إليه بالرمز الذي يُشير إليه، أقول: إنه يَقرِنُ هذا الطرف بذلك، ثُمَّ يَربِط بينهما، حتى إذا ما نطق بالصوت وحدَه بعد ذلك كان كافيًا لاستثارة الصورة التي كان هذا الصوت قد ارتبط بها؛ وبهذا وحده يجوز لنا أن نقول: إن كلمة «شجرة» لها عند الطفل معنى.

ويكبُر الطفل، وتنمو حصيلتُه من الألفاظ، لكلِّ لفظةٍ منها شيءٌ يُقابلها في عالم الأشياء، حتى إذا ما سمِعَ بعد ذلك لفظةً لم يكن قد سمِعَها من قبلُ سأل: ما معناها؟ وهنا لا يكون أمام مُرشِده إلَّا أحد طريقين: فإما أن يُشير له إلى الشيء الذي يُسميه هذا اللفظ الجديد، وإما أن يذكُر له مُرادفًا من الألفاظ المعلومة له؛ ليُتمِّم لنفسه الدورة، بأن يستعيد صورة الشيء الذي عرَفَ فيما مضى أنَّ ذلك اللفظ المُرادف يَعنيه.

فماذا لو صادَف الناشئ كلمةً لا يعرفها، وسألَنا: ما معناها؟ فلم نجِد شيئًا نُشير له إليه ليكون هو معنى هذه الكلمة المجهولة، ثم لجأْنا إلى لفظٍ آخر يُساويه، فسألَنا الناشئ من جديد: وما معنى هذا اللفظ؟ فنظلُّ نبحث له عن ألفاظ مُساوية، ويظلُّ يسأل: ما معناها؟ أفلا يجدُر بنا عندئذٍ أن نتنبَّهَ إلى أنَّ مثل هذه اللفظة التي لا تنتهي بشرحِها وتفسيرها إلى مُسمًّى مُشار إليه في عالم الأشياء هي لفظة بغَير سند، وأنها إذن زائفة لا تُسمَّى شيئًا؟

وأمثال هذا اللفظ الزائف كثير، نُديره بينَنا في الحديث والكتابة، ونظنُّ أنَّنا قد أفهمْنا وفهِمنا؛ حتى يعنَّ لنا أن نقِف منه موقف المُدقِّق، فيتبيَّن ساعتئذٍ أننا في الحقيقة إزاء لفظٍ لا يعنى شيئًا كنَّا أدرْناه فيما بينَنا على ثقةٍ منَّا بعضنا ببعض، وعلى عقيدةٍ منَّا بأن الكلمة ما دامتْ ممَّا يكتُبه الناس وممَّا ينطقون به، فيستحيل أن تكون قد خُلقَتْ عبثًا، ولا بدَّ أن يكون لها معنى! وشبيه بهذا أن يتداوَلَ جماعة منا ورقةَ نقدٍ زائفة أمدًا من الزمان قد يطول، على عقيدةٍ منهم بصِدق قِيمتها؛ حتى تنتهي إلى من ينظُر إليها نظرةَ الفاحِص، فإذا هي مُزوَّرة؛ وقد تهتمُّ الجماعة لهذا اهتمامًا يُحفِّزها إلى تعقُّب المُجرِم الأول الذي أنزل في السُّوق هذا الزيف، ولو كشفوا عنه لسجَنُوه، فيا ليتَ نَصيب مُزوِّر الألفاظ كان كهذا النَّصيب؛ ليستريح الناس من مُضلِّل وضلال!

٢

إنَّني إذا قلتُ هذا صاحوا: «ماديٌ لعين، يُريد أن يقبل الكلمة إذا دلَّت، وأن ينبذ الكلمة إذا لم تَدُل!» نعم؛ إنه لا يُعجبهم أن نشترِط للاسم أن يكون له مُسمًّى خوفًا على آلاف الكلِمات التي يتداولها الناس دُون أن يكون لها مُسمَّيات تُقابلها في عالم الأشياء. فتراهم يسألونك مُستنكِرين: ماذا نحن صانعون بالكلمات التي تمسُّ مشاعرنا وإن لم يكن لها مدلولات محسوسة؟ ماذا نحن صانعون بالحُبِّ والكراهية والغضَب والحُرِّية والمَجْد؟ أنقول ألفاظًا كهذه أم نمحُوها ما دامت مدلولاتها ليستْ شجرًا من الشَّجر ولا حجَرًا من الحَجَر؟ أين نذهب بآمالِنا وآلامِنا وحالاتنا النفسية كلها؟ هل نُعبِّر عنها أو نكمُّ عنها الأفواه؟

وهاهنا نفرق للقارئ تفرقةً واضحةً بين نَوعَين من الكلام حتى لا يختلِط عليه الأمر: فكلام يُراد به وصفُ عالم الأشياء وما يتَعاوَرُه من أحداث، وآخَر ينصرِف به قائله إلى داخِل نفسهِ لا إلى خارجها. فإذا نطقْتَ بعبارةٍ من النوع الأول وقعتْ عليك تَبِعة الإثبات، وأما إذا نطقتَ بعبارة من النوع الآخر فلا إثبات هناك ولا نفي. والعبارات العِلمية هي من النوع الأول، وأمَّا العبارات الفنيَّة فمن النوع الآخر.

هبْني وقفتُ مع زميلي إلى جوار شجرة، فقلتُ عنها: إنها من أشجار التُّوت وعمرها ستُّون عامًا؛ وقال عنها زميلي: إن لونَها يبعَثُ البهجة في نفسه كلَّما رآها؛ فماذا يكون الفرْق بين عبارتي وعبارتِه؟ الفرق هو أنَّني أتصدَّى لوصفِ الواقع الخارجيِّ الذي لا دخْل لمشاعري فيه؛ فلستُ أنا الذي جعلتُها تُثمِر توتًا، ولا أنا الذي ألزمتها أن تكون بهذه الحداثة أو هذا القِدَم؛ إنَّني أصف بعبارتي وقائع ليستْ جُزءًا من نفسي؛ ولذلك فأنا بمثابة من يَدَّعي أمرًا ينسِبُه للشجرة، والبيِّنة على من يدَّعي، فلو طالَبَني زميلي — ومن حقِّه أن يُطالبني إذا أراد — بإثبات ما أقوله وَجبَ أن تكون لديَّ الوسائل التي يستطيع هو أن يُشاركني فيها، والتي تُثبِتُ أنني قلتُ الحقَّ عن الشجرة التي وصفتُها بما وصفْت؛ وأما عبارة زميلي التي قال بها: إن الشجرة تبعَثُ البهجة في نفسه كلما رآها، فمن نوعٍ آخَر، هي عبارة لا صوابَ فيها ولا باطل، ولا إثباتَ ولا نفي؛ إنه «يُعبِّر» عن ذاتِ نفسه ولا «يُقرِّر» أمرًا عن الشيء الخارجي؛ وإذن فليس من حقِّي أن أُطالِبه ببُرهان؛ وكيف يكون البُرهان والأمر خاصٌّ به؟ إنه إذا كانت الشجرة نفسها تبعَثُ الكآبة في نفسي والبهجة في نفسه فلا تناقُض هناك؛ لي عندئذٍ شُعوري، وله شُعوره، لكن ما هكذا الأمر لو قلتُ عن الشجرة: إنها تُثمِر تُوتًا، وقال هو: بل إنها تُثمر الجميز، أو قلتُ: إن عُمرها ستُّون عامًا، وقال هو: بل مائة؛ فها هنا يكون بين قَولَينا تناقُض، وعلى أحدِنا أن يُثبِتَ للآخَر صِدق دعواه.

وأعود فأقول: إنَّ «العلم» كله هو مِمَّا يُقام على صِدقه البرهان، وأما في «الفن» فلا بُرهان على ما يقوله الفنَّان. ونحن إذ نقول عن قطعةٍ فنية إنها «صادقة» فإنما نعني «بالصدق» شيئًا غير الذي نَعنيه حين نقول عن نظريةٍ في العِلم إنها «صادِقة»؛ فصِدق النظرية العلمية مدارُه الخارج، وصِدق القِطعة الفنية مدارُه الباطِن. صِدقُ النظرية العلمية علاقة بينها وبين أحداثِ العالَم الخارجي، وصِدق القطعة الفنية علاقة بينها وبين أصداءِ العالَم الداخلي. صِدقُ النظرية العلمية لا يَحتمِل إثبات نقيضها؛ فلو قال عالم: إنَّ الضوء يَسير بسُرعة كذا، وجَب ألا يقول مرَّة أخرى: إنه يَسير بسرعةٍ أخرى في الظروف نفسِها؛ وأما صِدق القطعة الفنيَّة فيحتمِل التناقُض، بل ليس هو مِمَّا يخضع لمبدأ التناقُض أو عدَمه؛ فلا حرَج على الأديب — مثلًا — أن يبتهِجَ لشجرةِ التوتِ يومًا، وأن يكتئبَ لها يومًا. وقد يكون صادقًا في كِلتا الحالتَين؛ لكن الحرَج كل الحرَج على العالم أن يقول عن الشجرة: إنها تُثمِر التوت؛ ثم يُصبح ليقول عنها هي نفسها: إنها تُثمِر الجميز!

وماذا أُريد بهذا؟ أُريد أن أقول: إنك إذا أردتَ أن تسلُك سبيل الفنِّ فيما تقول — فقُل ما شئتَ ما دُمتَ تُنصِتُ إلى خطوات نفسك، أي أنَّ الدُّنيا الخارجية لا تُلزِمُك شيئًا، ولا تنهاك عن شيء. قِف أمام الشجرة وقل — إن شئت — إنني أرى سحابةً خضراء سابِحةً في فضاء لا نهائي، وأنا من تلك السحابة قطرة راقِصة؛ ولن يعترِضَك مُعترِض بأنَّ الذي أمامك شجرة لا سحابة، وأنها مُثبَّتة في الأرض بجُذورها، وليست هي بسابِحةٍ في الفضاء، وأنك قائم على قدَميك فوق اليابس، ولستَ بقطرة ماء راقِصة. لن يَعترضك مُعترِض بهذا لأنك لم تزعُم لأحدٍ أنك تصِف ما تري كما يصِفُه العالِم إذا وصف. وأما إن زعمْتَ أنك إنما تصِفُ ذلك العالم كما هو واقع فها هنا أنت مُقيَّد بأشياء ذلك العالَم وحوادِثه، ولا يَجوز لك أن تقول عنه إلَّا ما تستطيع الإشارة إليه لمن يُريد منك أن تُشير.

ونعود إلى هؤلاء الذين يسألوننا مُستنكِرين: إذا كنتَ تُريد للَّفظِ أن يُشير إلى مُسمًّى محسوس، فماذا نحن صانِعون بمشاعرنا والتعبير عنها؟ نعود إلى هؤلاء لنُجيبهم قائلين: إنَّ الأمر مرهونٌ بالدَّعوى التي يدَّعيها المُتكلم: فهل يدَّعي أنه يُصوِّر الخارج أو أنه ينفعِل بما يدُور في نفسه؟ إن كانت الأولى فلا مندوحةَ له عن جعل ألفاظه رموزًا تُشير إلى وقائع محسوسة، وإن كانت الأخرى فهو حُرٌّ من هذا القيد.

٣

فالأمر إذن أمرُ رموز لُغوية ومدلولاتها، فهذه الرموز إما أن نَستخدِمها أداةً لتصوير ما هو كائن في عالَم الأشياء، (وهذه لُغة العلوم وما يَجري مَجراها)، وإما أن نَستخدِمها أداةً للتعبير عما تَختلِج به نفس الإنسان من داخل، (وهذه لُغة الفنون وما يَجري مَجراها) ولا ثالث لهذَين الفرضَين.

فإلى أيِّ ناحيةٍ يتَّجِه الفيلسوف الميتافيزيقي بعباراته؟ هل يُريد أن يصِفَ بها ما هو خارج نفسه أو يُريد أن يُعبِّر بها عمَّا يدور داخل نفسه من مشاعر؟ لا يُمكن أن تكون الأولى لأنه يتحدَّث عن أشياء ليستْ هي بَين ما يقَع على حواسِّنا من أشياء. يُحدِّثنا — مثلًا — عن «العدَم» وكلُّ ما في الدُّنيا «موجودات» ليس فيها «عدَم»، ويُحدِّثُنا عن «المُطلَق» من قُيود الزمان وقيود المكان، وكلُّ ما في الدُّنيا «مُقيَّدات» بحدود المكان والزمان، ويُحدِّثنا عن «الخير» وعن «الجمال»، وكلُّ ما في الدُّنيا كائناتٌ ليس بين عناصِرها الكيمياوية أو الفيزيقية عُنصر يُسمَّى «خيرًا» أو «جمالًا». هكذا يُحدِّثنا الفيلسوف الميتافيزيقي عمَّا ليس في الطبيعة، مع أنَّ كلَّ ما في الطبيعة طبيعة؛ وإذن فهو — بمُقتضى عباراته نفسها وموضوعاته التي يختارها لحديثه — لا يُحدِّثنا عمَّا هو خارج نفسه.

إذن فهل يُحدِّثنا عمَّا يدور داخل نفسه من مشاعر وأحاسيس؟ لو قال ذلك لقُلنا: لك ما تشتهي من ذلك؛ فقُل ما شئت، واستخدِم ما أردتَ من ألفاظ وعباراتٍ ما دامت غايتُك هي أن «تعبِّر» عن شعور ذاتي خاص، لكنك إذ تفعل ذلك لا يَجوز لك أن تصِف أقوالك بالصَّواب؛ لأنه لا صواب في التعبير الذاتي؛ إنما يكون الصَّواب صفةً تصِف الكلام حين يُصوِّر شيئًا خارجيًّا. ويكون معناه عندئذٍ أنَّ الصورة الكلامية تُطابِق الأصل الخارجي.

لكن الفيلسوف الميتافيزيقي لا يقنَع بأن يكون كلامُه تعبيرًا عما تَجيش به نفسه هو، بل يدَّعي أنه صورة وصفية للعالَم الواقِع خارج نفسه؛ مع أنه يعترِف لك في الوقتِ نفسه أنه لا يسوق الكلام مُعتمدًا على خِبراته الحسِّية؛ وتسأله: أنَّى لك — إذن — هذه المعرفة عن كائناتٍ ليستْ ممَّا تقَع انطباعاتها على حواسِّك؟ فيُجيب بأنه يركَن في ذلك إلى عيانه العقلي. وهكذا يتذبذَبُ فيلسوف ما وراء الطبيعة بين الخارج والداخل!

أما نحن أصحاب المذهب التجريبي في الفلسفة فمَوقِفُنا صريح؛ يقول القائل عبارته فنسأله: هل هي مُنصرِفة إلى شيءٍ خارجي؟ فإن أجاب بالإيجاب سألناه من فورِنا: أين الخبرة الحسِّية التي تؤيد ذلك؟ فإذا عجز عن أن يُشير لنا إلى كائناتٍ حسِّية هي التي تنصرِف إليها عبارته التي نطقَ بها حَكمْنا على عبارته هذه لا بالبُطلان فحسب، بل بِخُلوِّها من المعنى؛ إذ «المعنى» هو هو بعينِهِ الخبرات الحِسِّية التي يَرمُز إليها الكلام الذي نزعُم له ذلك المعنى.

يقول أفلاطون — مثلًا — إنَّ هنالك عالمًا عقليًّا غير هذا العالم المحسوس، وإن الأفكار المُجرَّدة تقوم في ذلك العالَم العقلي، كما تقوم الجزئيات المحسوسة في هذا العالم الذي نعيش فيه بأجسادنا. أو يقول هيجل — مثلًا آخر — إنَّ المُطلَق يُعبِّر عن نفسه في هذا العالَم المحسوس وإنه كلَّما زاد عن نفسه تعبيرًا ازداد هذا العالم المحسوس، تقدُّمًا في طريق التطوُّر. هذان مَثلان ممَّا يقول الفلاسفة المِيتافيزيقيُّون؛ فهل يُراد بنا أن نقبَل هذا الكلام رغم أنوفِنا، أو لنا الحقُّ أن نسأل أولًا: ما «معاني» هذه الألفاظ التي يَستخدمونها؟ و«المعاني» لا تكون إلَّا خبراتٍ حِسِّيةً ما دام الكلام مُنصرفًا إلى العالم الخارجي، فأين هي الخِبرات الحسِّية التي يُقدِّمها أفلاطون أو هيجل أو أضرابهما توضيحًا لما يقولون؟ إذا لم يكن هناك شيءٌ منها فالكلام إذن فارِغ لا يؤدي إلى شيء.

إنَّني لستُ أقلَّ حرصًا على مشاعر الإنسان وآماله ومُثُله العُليا من هؤلاء الذين يَصيحون في وجهي دفاعًا عنها، لكنني أُفرِّق بين لُغةِ العقل ولُغة الشعور وهُمْ لا يُفرِّقون. إن من يتحدَّث عمَّا لا يقَعُ في حِسِّه (رؤيةً أو سمعًا أو لمسًّا … إلخ) لا يتحدَّث بلُغةِ العقل. وليس في ذلك رفعٌ ولا خفضٌ للُغة المشاعر، بل الأمر أمر تفرِقةٍ بين نوعَين مُختلفَين من الكلام. والذي نُريده وندعو إليه بكلِّ قوَّةٍ يستطيعها اللِّسان والقَلَم هو أنه إذا كان المجال مجالَ علمٍ فلا يَجوزُ للشُّعور أن يتسلَّل إلى سياق الحديث بألفاظه، أما إذا كان المجال مجال أدبٍ وفنٍّ فاخترْ ما تشاء من لفظٍ ما دام يُثير في سامعك المشاعر التي تُريد أن تُثيرها فيه. لو كنتَ تتحدَّث عن السماء بلغة الفلكيِّ فلا تتحدَّثْ عن سموٍّ وعظمةٍ ومجد، ولو كنتَ تتحدَّث عن الزَّهرة بلغة النباتيِّ فلا شأن لك بالروعة والجمال، ولو كنتَ تتحدَّث عن القرية بلُغةِ الإحصائي أو الاقتصادي فلا تقُل عنها: إنها ريفٌ جميل هادئ؛ أعطِ ما للعقل للعقل وما للشعور للشعور.

على أنَّ «الرياضة» كثيرًا ما تُساق في هذا الصَّدد للدلالةِ على أنَّ العلوم قد تتحدَّث بما ليس يقَعُ على الحواسِّ من كائنات؛ فيقولون لك: أين النُّقطة الهندسية التي ليس لها أبعاد؟ وأين الخطُّ المُستقيم الذي ليس له عرض؟ وأين الأعداد السالِبة وكلُّ ما في الطبيعة موجود بالإيجاب؛ وهكذا وهكذا …

لكنه اعتراض مردود عليه؛ ويكفي أن نتبيَّن في وضوحٍ حقيقة الموقِف في العلم الرياضيِّ ليَزول الاعتراض؛ فالعالم الرياضيُّ لا يدَّعي أنه يقول عن العالَم الخارجي شيئًا؛ إنما هو يفترِض الفُروض أولًا (وقد تكون الفروض من محْضِ خياله)، ثُم يستدلَّ منها ما يترتَّب عليها من نتائج، فتكون هذه النتائج هي النظريَّات الرياضية؛ صِدقُها مرهون بالفروض التي هي مُنتزَعة منها؛ وإذن فالصِّدق في النظرية الرياضية صِدق اشتقاقٍ لا صِدق تطابُق بين القول وبين الدُّنيا الخارجية؛ فسواء لدى الرياضيِّ أن يكون في العالم مُثلثات أو لا يكون؛ لأن ذلك لا يؤثِّر في موقفِه إزاء المُثلث حين يستدلُّ نظرياته عن المثلث من الفُروض الأوليَّة التي فرضها، وسلم بصِدقها جدلًا.

فلو قدَّمتَ إليَّ نظريةً هندسية وسألتني: هل هي نظرية صادِقة؟ راجعتُ طريقة استدلالها من مُقدِّماتها، ولا شأنَ لي بالعالَم الطبيعي؛ أما إذا قدَّمتَ لي نظريةً في عِلم الطبيعة عن الضوء مثلًا أو عن الصوت، وسألتَني: هل هي نظرية صادقة؟ فإني أراجعها على الطبيعة نفسِها، على الضُّوء أو على الصوت، لأرى: هل هي مُطابقة لما يقَع في الخارج أو غير مُطابقة؟

وخُلاصة دعوانا هي هذه: لو أردتَ لعبارتك التي تنطِقُ بها أن تُحدِّثنا عن شيءٍ في عالَم الطبيعةِ فلا مندوحةَ لك عن الاعتماد على خِبراتِنا الحسِّية، أما إنْ ضربتَ بالخبرة الحسِّية عرْض الحائط وجعلتَ مع ذلك تتحدَّث عن العالم وحقائقه، فقد جاء حديثُك بغَير معنًى.

٤

ونعود إلى ما بدأنا به: خُلقَت ألفاظ اللغة لتُشير إلى مُسمَّيات؛ فما ليس يُشير منها إلى شيءٍ فإنه يكون لفظًا بغَير معنى. هذه حقيقة ناصِعة الوضوح، لكنَّ قومًا من المُشتغِلين بالفلسفة أو من هُم في حُكمِهم لا يُعجبهم منَّا أن نقول كلامًا كهذا؛ إنهم يُريدون أن يَخبُّوا خبًّا في ألفاظٍ لو طالبتَهم أن يُشيروا لك إلى مُسمَّياتها في دُنيا الأشياء، استنكروا منك هذا الطلَبَ الماديَّ الخسيس؛ إنهم في رأي أنفسهم يَسبَحون في عالمٍ عُلويٍّ، ولا يجوز لك أن تُنزلهم على الأرض الصُّلبة التي يدُوسها الناس بأقدامهم؛ فإذا كان الناس مثلًا يتحدَّثون عن «الشجرة» أرادوا هُم أن يطيروا إلى «فكرة الشجرة»، وإذا تحدَّث الناس عن «النهر كما يبدو من ظواهره» بحثُوا عن «حقيقة النهر الكامِنة وراء الظواهر»، وإذا فكَّر الناس في الأشياء فُرادى كما هي في عالم الواقع المحسوس أصرُّوا هم أن يكون حديثُهم عن الكون في مُجملِه بغضِّ النظر عن تفصيلاته؛ لذلك تراهُم إذا ما حدَّثتَهم عن محمد وزينب من أفراد الناس، نفَروا من مثل هذا الحديث؛ لأنَّ ما يُهمُّهم هو «الإنسان بصفةٍ عامة»؛ وعبثًا تسترعي أنظارَهم إلى أن «الإنسان بصفةٍ عامَّة» لا يجوع ولا يمرَض؛ بل أنت إذا ما هممتَ باستِرعاء أنظارهم إلى مثل هذا التفكير الجُزئي العملي المُفيد صرَخوا في وجهك سُخطًا على هذه الماديَّة الدنيئة التي تُحارِب أحلام الإنسان وأمانيه، وراحوا يكتُبون عنك في المجلَّات والصحف، ويذكرونك في المُحاضرات العامَّة بأنك إنسان نشاز في نغمةٍ سائدة فيها غموض حلو مُستساغ!

ما الذي يُغري هؤلاء الأفاضل بالتشبُّث بكلماتٍ لا يعرفون لها معانيَ ولا مدلولات؟ يُغريهم بذلك أنَّ هذه الكلمات لها في آذانِهم سِحر عجيب؛ إنه لا ضرورة عندهم أن تُشير الكلمة من هذه الكلمات إلى مُسمًّى معلوم، بل يكفيهم أن يكون لها في المسامع هذا الرَّنين اللذيذ المُمتِع … وسِحر الكلمات أمرٌ قديم قِدَم الإنسان نفسه: فتاريخ الكهنوت حافلٌ بالكلمات التي تشفي العِلَل، وتفتِكُ بالعدو، وتُنزل المطر إذا يَبُسَت السماء!

إنه كسْب كبير للفكر العِلمي الدقيق أن نضع نُصبَ أعيُننا مبادئ هي غاية في «البساطة» واليُسر والوضوح؛ أولها أنَّنا نحن الذين خلقْنا هذه الرموز خلقًا؛ وإنما خلقناها أسماء تُطلَق على مُسمَّيات، ولم نخلُقْها لنلهوَ بها ونعبث؛ فلا قداسةَ للفظةٍ اصطنعناها رمزًا إلَّا بمِقدار ما يكون للضوء الأحمر في حركة المرور من قداسة، أو بمقدار ما يكون لعمود الخشَبِ نُقيمُه في الطريق ليدلَّ على اتِّجاهِ السَّير من قداسة. لا قداسة لرموز خلقناها نحن خلقًا لتقوم عندنا مقام مُسمَّياتها، والرَّمز الذي لا يؤدِّي هذه المُهمَّة رمزٌ زائف ينبغي أن نَمحُوَه لئلَّا يختلِط علينا الأمر بين الحقِّ والباطل.

ألفاظ اللغة — على اختلاف صُورِها وأوضاعها — قِطعٌ من مادَّةٍ ولا رُوحانية في الأمر؛ فاللفظة المَكتوبة قطرةٌ من مِداد جفَّتْ على الورق، لا فرقَ بينها وهي مسكوبة على الورَق كلمةً وبينها وهي في الزُّجاجة قطرةً إلا الاتفاق الذي تواضَعْنا عليه بأن تكون صورتُها على الورَق رمزًا لا يُقصَد لذاته، بل يُرادُ به مُسمَّاه الذي يتحتَّم أن يكون شيئًا ممَّا عسانا أن نُلاقِيه في دُنيانا وفي خِبراتنا. وقد تتواضَع الجماعات المُختلفة على أن تسكُب المداد في صُورٍ مختلفة: يسكُبه فريق من اليَمين إلى اليسار على صورة، ويَسكبه فريق آخَر من اليسار إلى اليمين على صورةٍ أخرى، ولا فرْقَ بين الصُّورتَين؛ لأنَّ كلًّا منهما مَوضع اتِّفاقٍ عند الجماعة التي اصطلحت عليها.

واللفظة المنطوقة كذلك قطعة من مادة هي هزَّة في الهواء؛ فقد يهتزُّ الهواء بأوراق الشَّجر ويُحدِث حفيفًا، وقد يهتزُّ بماء الجدول فيُحدِث خريرًا، وكذلك قد يهتزُّ لاهتزاز اللِّسان عند حركة الزفير فيُحدِث صوتًا نختاره ونتَّفِق على أن يكون هذا الصوت رمزًا نكتفي به حِين نُريد أن نتحدَّث عن مُسمَّاه؛ لكن هذا المُسمَّى يتحتَّم أن يكون مِمَّا قد وقَع في دُنيا السامع وفي خِبراته، وإلَّا ذهب الصوتُ اللفظيُّ عبثًا.

اللفظة من ألفاظ اللُّغة حدثٌ من أحداث الطبيعة؛ هي لمعةٌ من الضوء أو نَبرة من الصوت يَحلو لنا أن نتَّفِق عليها وقد نُغيِّر ما اتَّفقْنا عليه غدًا أو بعدَ غد؛ هي حدثٌ من أحداث الطبيعة، ومُسمَّاها حدثٌ آخَر من أحداث الطبيعة، وكلُّ ما في الأمر هو أنَّني أخذتُ جزءًا من مادة الطبيعة لينُوب عن جُزءٍ آخر: فكلمة «شجرة» هذي التي تراها أمامك ترقيمًا أسود، هي نفسها واقِعة من وقائع العالَم المحسوس، شأنها شأن الشجرة العَينيَّة في ذلك، وقد اخترت واقعةً لترمُز إلى أخرى، لأنها أيسَرُ استعمالًا في عملية التفاهُم؛ الكلمة «صورة» ومُسمَّاها «مُصوَّر» فهل يجوز في دُنيا التصوير أن تدَّعي أنَّ أمامك صورةً لشيء مُعيَّن، ثم تقول: إن ذلك الشيء لا وجود له؟ ماذا صوَّرتَ إذن؟

كسبٌ كبير للفكر العلمي الدقيق أن يُحاسِب العالِم نفسه هذا الحِساب كلَّما استخدَمَ رمزًا من رموز اللغة: إلامَ يُشير هذا اللفظ؟ فإذا لم يجِد بين الأشياء شيئًا يُشار إليه به حذَف اللفظ في غَير وجَلٍ ولا خَوف ولا حسرة. ولكنِّي أقول هذا — كاتبًا ومُحاضرًا — فينهَضُ الناقِدون ليَردُّوا هذه العادِيَةَ عن الفلسفة في عصرها الذهبي حِين كانت تُرسِل الكلمات إرسالًا بغَير حِساب؛ أو ليرُدُّوا هذه العادية عن مُثُل الإنسانية العُليا؛ كأنما الإنسانية — عندهم — لا تضعُ أمامها من المُثُل العُليا إلا صُورًا لا تُفهَم، ولا يكون إلى تحقيقها العملي من سبيل!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤