كونفوشيوس

دين الإصلاح

١

لقد ظهرت على مسرح هذا الوجود دول شتى، بلغت من حضارتها الأوج، ثم توارت تاركة آثارًا تدل عليها، وتحدَّث عن خالي عظمتها كأقواس النصر والأهرام والعمد والهياكل وما شاكل. ولكن أبقى الآثار وأبعدها مدى في تصريف حياة الشعوب هي بدائع العقل البشري، وما كانت تجود به أدمغة العباقرة حينًا بعد حين، فتقيمه كمنائر في طريق الحياة هدى للعالمين.

وفي هذه الأيام العصيبة التي تبرز فيها الصين على المسرح العالمي كدولة كبيرة، يجدر بنا أن نعود قليلًا إلى ماضيها الحافل بالآثار الأدبية، فنراجع تعاليم أعظم فيلسوف أنجبته هذه البقعة العجيبة التي يتصل نسبها بمهد البشرية كما تتصل هي بمهد الشمس.

لقد تعاقب على الشرق منذ القدم ثورات وانقلابات بدَّلت معالمه وقوَّضت عروشه، وأنزلت إلى القبر حضارات أمم عظيمة لمعت في آفاقه منذ أربعة آلاف سنة، ولم يبقَ منها اليوم سِوى أطلال دارسة، وآثار طامسة. هذه مملكة داريوس التي حفظت لنا كتب زرادشت شيئًا من شرائعها، نحاول اليوم أن نتبين رسومها من خلال المخطوطات المسمارية لبابل وبرسوبوليس، وهذه دولة الفراعنة التي اضطجعت في أهرامها الخالدة بعد أن خلفت تلك اللغة الصورية المجبولة بالألغاز كأنَّما أرادت بها إعجاز الذرية، فلم يرتقِ العلم إلى مفتاحها إلا بعد جهود ألفَي سنة.

ولكن الصين لم تقوَ عليها ثورات الطبيعة والإنسان، فبقيت وحدها واقفة بينما كان كل شيء يتداعى من حولها، كتلك الصخور الوعرة التي لا تزال تلتطم بها أمواج البحار منذ بداية الخلق دون أن تُزعزعها.

•••

لا ريب أن الحضارة الصينية أقدم حضارة على الأرض، يرجع تاريخها إلى ألفين وخمسمائة سنة قبل المسيح. فكان «فو هي» إمبراطورها الحكيم أول فيلسوف في مملكته. ولم تكن الكتابة معروفة لذلك العهد، فرسم حكمته في سطور سرية على ألواح محفوظة حتى اليوم، وعلَّم شعبه العدد والفلك، وعوَّده احترام الأجداد، ثم جاء بعده باو، وشون، وبو، فنظَّم الأول المواقيت، وسنَّ الشرائع، واخترع كثيرًا من الفنون المفيدة، وكان دمث الأخلاق، طيب القلب، إلى حد أنه منع العرش على بنيه؛ لأنهم لم يكونوا أهلًا للحكم، ورفع إليه مُزارعًا بسيطًا هو «شون» الذي اقتفى أثره، فاختار خليفة له مُزارعًا هو «بو».

باو، شون، بو، هم الأركان الثلاثة التي قامت عليها الفلسفة الصينية، وضعوا أسسها وقالوا للحكام: الرعية أبناؤكم، وقالوا للرعية: الملك أبوكم.

ومنذ دفع هؤلاء الصين في طريقها إلى الأمام أخذت تتقدم في معارج الارتقاء، يساعدها على ذلك غِناها الطبيعي، واتساع ملكها، ومناعة حماها؛ بما حبتها الطبيعة من حدود ترد طرف الغزاة وهو حسير، كجبالها الشمَّاء التي تعد أعلى جبال الكرة الأرضية، ومنافذها الشاسعة التي يعز اجتيازها على بني الإنسان.

وانصرف الشعب الصيني إلى إنماء تجارته وصناعته، وكان له من نجاحه المُطَّرد وثروته الآخذة في الازدياد حافز للاهتمام بالفنون الرفيعة، ولا سيما الموسيقى، حتى إن الإمبراطور شون جعل لها في حكومته وزارة خاصة، وكان هَمُّ الصينيين مُتجهًا إلى توفير أسباب الراحة وحياة الخفض والدعة والسكون، فاكتشفوا بسهولة ما قضى الغرب زمانًا طويلًا قبل الوصول إليه. وقبل المسيح بخمسة عشر قرنًا كانوا يعرفون الورق والكتابة ويستعملون البيكار، وكانوا يكرهون الحروب، وقد عوَّدتهم أسوار الصين الهائلة أن يناموا في جناح آمن، فكانوا يحتقرون الأشياء العسكرية، ولا يريدون سوى التمتع بنعم السلم؛ ولهذا لم يحفظ التاريخ ذِكرًا لرجال الحرب منهم.

وكتب الآداب عندهم تُلقِّن مبادئ العدل، وتنص على خلود النفس والثواب والعقاب في عالم آخر، وتأمر كالكتب الهندية بالرحمة والشفقة على الحيوان، واحترام العصافير الصغيرة في أعشاشها، والأشجار التي تُعطي الظل، وتُعلِّم أن الإنسان السعيد هو الذي يرى الخير، ويصنع الخير، وما أجمل هذا التعريف للسعادة!

والقضاء قديم في الصين، وهو عادل وصارم معًا. وعقاب الصين قائم على العصا يخضع لها العظيم والحقير دون أن يجدوا من ورائها عارًا أو تحقيرًا. فترى القاضي نفسه إذا استحقها يخلع ثيابه ويحني ظهره ويتلقى الضربات ثم يقوم فيرتدي لباسه، ويعود إلى منصة القضاء دون خجل ولا استحياء، وأما الجرم السياسي فيُعاقَب بالتعذيب الشديد، والموت بلا شفقة.

وللشعب الصيني شعر وأدب، ولكنه شعر جامد وأدب لا يتغير؛ لأن طاعته العمياء وخضوعه للتقاليد قد وضعا الفكر والخيال في دائرة ضيقة لا يتعدَّيانها، على أنه من العجب العجاب أن يكون لهذا الشعب فلسفة وعلم وأدب، في زمن كان العالم فيه غارقًا في ظلمات الجهالة، وأن يتولى العقل زمام الأحكام فيه بينما كانت سائر الشعوب خاضعة للقوة، وربما كان من أهم أسباب ذلك الجمود الكتابة الصينية التي يحمل كل حرف منها صورة مرسومة، فلا يسهل حفظها؛ ولهذا لا يزال الصينيون يتكلمون اليوم كما كانوا يتكلمون منذ طفولة العالم بلغة كلها ألغاز ورموز يقضي الذكي منهم ثلثي عمره في تفهمها، والثلث الباقي في التبحر بها.

وفضلًا عن ذلك فالصيني محكوم عليه بشرائعه أن لا يُفارق موطنه؛ فحيث وُلد يعيش، وحيث عاش يموت. وكما حُرِّم عليه الخروج من أرضه فقد حُرِّم على الغريب الدخول إليها. فإذا بهذه المملكة الكبيرة كالسجن المُحكم الأقفال، لا تتسرب إليه أصوات الخارج، ولا يُؤثر فيه ما يعصف حوله من الزعازع.

وفي منتصف القرن السادس قبل التاريخ المسيحي كانت الصين — بلا ريب — أعظم بلاد الله حضارة وأرقاها مدنية، مملكة واسعة الأطراف كاملة التنظيم، مقسومة إلى ولايات يديرها حكام باسم الإمبراطور، وفيها نظام للشرطة وللسلطات جميعًا، وصناعاتها كثيرة كالحرير والخزف والصباغ والطباعة والحفر، وزراعتها زاهرة، وبساتينها خضراء، وحدائقها كثيرة غناء، ولا يخلو فيها بيت من روضة يقضي الصيني فيها معظم وقته مستسلمًا إلى الراحة، وأحلام النفس المطمئنة، في تلك الحقبة من الزمن بينما كانت ضفاف الكانج وغابات الهند الأزلية تردد صدى تعاليم بوذا كانت الصين تتلقى الحكمة من فم مرشدها وفيلسوفها الأكبر كونفوشيوس.

٢

لا ريب أن القرن السادس قبل المسيح كان عصرًا خصبًا من عصور الفلسفة البشرية؛ ففي الصين كونفوشيوس، وفي الهند بوذا، وفي اليونان كان طاليس لا يزال حيًّا، وفيثاغور في أوج شهرته، وسولون في إبان شبابه، وسقراط على عتبة الدنيا يتمخض به الغد القريب، وقد مرَّ بنا أن الصين كانت لذلك العهد في الذروة من حضارتها، وكان كونفوشيوس قد بلغ الخامسة والخمسين من عمره، بعد أن أكبَّ منذ الصغر على درس كتب الأجداد، واستخلص منها تلك المبادئ العملية النافعة للحياة، وطبَّق عليها عاداته، فأصبح السيد المُطاع، يشغل أسمى مناصب الدولة، ويتولى إدارة الأشغال العامة والقضاء، فكان في آن واحد المؤرخ والمُشترع والوزير الأول.

وقد سبق القول: إن الصين كانت منقسمة إلى دويلات، فكان من نجاح دولة «لو» وازدهارها ما حرَّك الحسد في قلوب الجيران؛ فحاول ملك «تسي» إفساد ملكها بالهدايا، فأرسل إليه ثمانين فتاة من أجمل حظاياه، وجوقًا من المغنين، وجيشًا من الطهاة البارعين، ومائة وعشرين جوادًا أصيلًا، فاستسلم هذا الأخير إلى اللهو والملذات غير عابئ بنصائح وزيره، ضاربًا بتعاليمه عرض الحائط، فلم يبقَ لكونفوشيوس سوى الاعتزال، فانسحب من مملكته مودِّعًا آماله فيها وابتعد عنها وهو يتألم.

وبما أنه لم يكن يفكر بغير سعادة الشعب، فقد كان الفقر أسرع شيء إليه. ورأى الناس حينئذ، ويا له من مشهد مُحزن، هذا الرجل الحكيم شريدًا طريدًا، لا مأوى له ولا قوت ولا راحة، مُعرَّضًا لإهانة الكبراء، واحتقار الشعب الذي قلَّما يحفظ الجميل، ورفع يومًا أحد الأمراء سيفه عليه فلم يُطأطئ رأسه بل قال: إذا كانت السماء ترعاني فما يهمني بغض الرجل القوي، فكأنه قُضي على كل من يتطوع لخدمة هذه الإنسانية أن يتجرَّع كأس الآلام حتى الثمالة، كأنما هو يُكفِّر بهذا العذاب عما أوتيه من المواهب السامية لأداء رسالته الإلهية على الأرض.

ومات كونفوشيوس في الثانية والسبعين، فكانت حياته ثلاثة أدوار؛ الدور الأول: درس واستعداد، والثاني: حكم وإرشاد، والثالث: عُزلة واستشهاد، على أن الموت كان أعظم منصف له. وكما يقع للرجال العظام الذين تُنكَر أقدارهم وهم في الحياة فقد عاد نجمه إلى الإشراق بعد أفوله، فأُقيمت له الهياكل، وشُيِّدت باسمه المدارس، فكان الأمير أو الحاكم إذا مرَّ من أمام عتبتها يترجَّل احترامًا، وصار الانتماء إليه أكبر شرف يحمله الحكماء والقضاة، وأرباب القلم والصولجان، وأصبحت أعظم مكافأة يحلم بها المتفوقون هي أن يُلقَّبوا بتلاميذ كونفوشيوس، وعادت الكرامة لذويه، وأصبح الشرف إرثًا في ذريته، وكتب الإمبراطور «بون» براءة يقول فيها: «إني أحترم كونفوشيوس، فالملوك هم سادة الشعب، وهو سيد الملوك.»

والحق أنه إذا كانت قيمة الإنسان وقوة تعاليمه على قدر ما يترك من التأثير في الناس، فقد جاز لنا أن نقول مع الصينيين: إن كونفوشيوس أعظم مُهذِّب للجنس البشري أنتجته العصور. أما تعاليمه ففي الغاية من البساطة، وهي عملية مبنية على طبيعة الإنسان، تتناول كل حالات الحياة والصلات الاجتماعية، وتتلخص باستقامة القلب وحب الإنسان قريبه كنفسه. ليس فيها تحليق في الفكر ولا شيء من البطولة ولكن كثير من الحكمة؛ فهي أدب أكثر مما هي فلسفة، أدب يُدرِّب العواطف، جاعلًا من البرِّ بالوالدين أساس الطاعة التي تمتد سلطتها إلى أبعد من العائلة، إلى الإمبراطور والحكومة والأمة.

والغاية القصوى التي تهدف إليها تعاليمه هي الكمال، الكمال الفردي أولًا، وكمال المجتمع بعد ذلك؛ فيبدأ الإنسان بإصلاح ذاته وتحسين نفسه ثم ينتهي إلى إصلاح الآخرين وتحسينهم. ولا يستطيع الإنسان إصلاح غيره قبل إصلاح نفسه، وكلما تقدَّم المرء في الوجاهة وعُلُوِّ الكلمة في قومه كانت واجباته أوسع وأعظم في السعي نحو هذا الكمال. وقد علَّمه درس التاريخ والقلب البشري أن السلطة تُفسد على الإنسان نفسه، فينتفخ كِبرًا، ويزيد صلفًا وعنادًا، فكان لا يفتأ يُذكِّر الحكام بواجباتهم، مُلقيًا عليهم كل تبعة، خيرًا كانت أم شرًّا، غِنًى أم فقرًا.

هذه الصبغة المادية لتعاليمه هي التي جعلتها طويلة العمر؛ لأنها بسيطة خالية من التعقيد، قريبة التناول من الأذهان. لقد فهم كونفوشيوس روح مُعاصريه حقَّ الفهم؛ فكان ماديًّا في شعب لا يعرف غير فوائد المادة، شيوعيًّا بين قوم قوتهم قائمة على الاشتراك، مُستبدًّا في مملكة تتمتع بأحسن نظام للشرطة. وسأجتزئ هنا بإيراد بعض الأمثلة من حِكمه؛ فهي تُعطينا صورة جليَّة عن جمال تعاليمه، قال: ثلاثة على الحكيم احترامها: شرائع الطبيعة، وعظماء الرجال، وأهل الصلاح، وقال: أُوصي الشعب باحترام الشرائع قبل درس العلوم، وقال: خمس قواعد لحُكم العالم: العدالة التي تربط الحاكم بالمحكوم، والحب الذي يربط الآباء بالبنين، والعلاقة بين الزوجين، وخضوع الصغير للكبير، والصدق في الصداقة. كونوا أيها الحكام مثال الاستقامة والعدل؛ فلا يتجرَّأ أحد على العصيان أو التذمر. أيها الحاكم، إن أردت أن تُدير مُلكك فجرِّب ذلك أولًا في داخل بيتك؛ فالعائلة هي المملكة الصغيرة.

وقال أيضًا: الفقير الذي لا يتزلَّف إلى الناس، والغني الذي لا يُصعِّر خدَّيه خيلاء يستحقان الثناء، ولكني أُفضِّل عليهما الفقير الذي يرى نفسه سعيدًا في فقره، والغني الذي يعرف أن عليه واجبات نحو غيره. الشجاعة النادرة أن لا يخجل الإنسان من لباسه الزَّرِي، وأطماره البالية أمام صديق يلبس الخزَّ والديباج. التقوى الحقيقية أن تحب الناس جميعًا، والحكمة أن تفهمهم. تعلَّم أن تعيش مُكرَّمًا لتموت مُكرَّمًا. يُمكن التغلُّب على قائد يحميه جيش كامل، ولا يمكن سلخ الحرية عن أضعف الناس، وقال أيضًا: أربعة شروط للرجل الكامل وأراني مُقصِّرًا فيها:
  • أولًا: لا أستطيع أن أطيع أبي كما يُطيعني أولادي.
  • ثانيًا: لا أخدم سيدي كما أريد أن يخدمني عبدي.
  • ثالثًا: لا أحترم من هو أكبر منِّي سنًّا كما أريد أن يحترمني من هو أصغر مني.
  • رابعًا: لا أؤدي لصاحبي الواجب الذي أريد أن يؤديه لي.

– إذا عرض لنظرك شيء غير شريف فلا ترَه، أو لأذنيك فلا تسمعه، أو لفمك فلا تنطق به.

– مَن لي بإنسان يكون الرقيب لنفسه والشاهد عليها، والخصم والحكم معًا، فيعترف بخطئه، ويجلس إلى محكمة ضميره، ويرسم لنفسه عقابها.

– ليكن سلوكك كما لو كانت عشر من الأعين تُحدِّق فيك، وعشر من الأيدي تُشير إليك.

وأخيرًا، هذه الحكمة البالغة التي أوصى بها السيد المسيح: قابل الإساءة بالإحسان. لا تفعل بالناس ما لا تريد أن يفعله الناس بك، واعمل للآخرين ما تريد أن يعمله الآخرون لك.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤