روسكين

دين الجمال

كان والد روسكين تاجر خمور، ولكنه كان يتعشق الطبيعة، ويحب الأدب والتصوير، ويميل إلى الأسفار، وقد ترك لابنه ثروة واسعة، مع هذا الغرام الفطري بالطبيعة والجمال. على أن الجمال لم يكن يتجلى له بادئ ذي بدء إلا من خلال الضباب الضارب قبابه في كل ناحية من لندن. ولما خرج منها إلى الأرباض أخذ يتعرف إلى جمال الأشياء فيما كانت تقع عليه عيناه من المروج الخضراء وبساتين الكرز والتوت، ومناظر تلك الثمار السحرية المتعددة الألوان، وعناقيد اللآلئ المخبَّأة بين الأوراق، فكان الفتى روسكين يرى فيها فردوسه الأرضي، ويقضي عندها الساعات الطوال سابحًا في بحر الخيال بين التأملات والأحلام.

وكانت أمُّه من المتزمتات لا تني في أداء مهمتها كزوج وكأم، حتى رضيت أن ترافقه إلى أوكسفورد الغريبة عنها؛ لتكون على مقربة منه تسهر عليه وتُقصي عنه الألم ما أمكن، والأخطار ما استطاعت، وإن أدى ذلك إلى إضعاف بنيته، أو سد أبواب اللباقة والمهارة في وجهه. وكانت تُعنى بتعليمه العهدين القديم والجديد، فترعرع في النعمة والترف، لا يعرف ما هو الهم، ولا يفهم معنى للحسد أو الطمع، ولا تقرع أذنيه كلمة لوم أو جدل، فكان السلام والطاعة والإيمان الإطار الذي يكتنف حياته؛ فنما الذوق فيه بعيدًا عن المؤثرات الخارجية.

وكان أبوه يقوده في ساعات الفراغ إلى الأنقاض والمعابد والقصور التي يمر بها في أسفاره العديدة، فيملأ منه السمع والبصر بالأناشيد والأشعار والصور، فزار إسكتلندة في الخامسة من عمره، وباريس في السادسة، وشهد تتويج شارل العاشر، ووقف في ساحة واترلو، وعاد إلى إنكلترا وهو يكتب ذكريات ويخط رسومًا، فيصف المدارس والكنائس، وموسيقى أوكسفورد وقبر شكسبير، ومعملًا للدبابيس في برمنكهام، وينظم الشعر في العاشرة، ويجمع الحجارة النادرة في الأودية، ويراقب الأنوار ويقيس الأبعاد. وكل ما كان يستشفه بفكره الثاقب كان يتعشقه بقلب خلي بِكر ظمآن. وكان يهتم بالأشياء أكثر من اهتمامه بالأحياء، ولا سيما ما اتصل منها بالجمال، وفيها ما فيها من أسباب اللذة أو الألم، فتراه مثلًا مشغولًا بالصور المعلقة على جدران البيت الذي يزوره عن أهل البيت أنفسهم.

وأول ما تعرف إلى الجمال كان عندما رأى في الأفق غيومًا صافية كالبلور، وقد صبغتها شمس المساء بلونها الوردي، فما كان الفردوس المفقود بأجمل منها في عينيه!

وأصبحت تأملاته في الطبيعة لا للتسلية، بل نوعًا من دعوة قدسية نحو المثل الأعلى. فصار تاريخ حياته منذ ذلك الحين تاريخ اجتماعه إلى الطبيعة في سفراته المتعددة كل عام، والتي لم يكن يأتيها حبًّا بالاستجمام فحسب، بل كان يذهب إليها كما يذهب إلى الله الذي يفتح للشباب أبواب الفرح!

ولم يكن يستطيع وصفها وتعريفها، فكان يقول: «أي نوع من الشعور البشري هذا الإحساس الذي يُحَب فيه الحجر للحجر والغيم للغيم؟ إن القرد يحب القرد لأنه قرد، وتُحَب شجرة الجوز لثمرها، ولكن الحجر لا يُحَب لأنه حجر. أما أنا فقد كانت لي الحجارة خبزًا.»

ولكي يرى هذه الحجارة عن كثب كان يصرف الأشهر الطوال في سويسرا وإيطاليا. وأحبَّ أن يُقيم في «شافونكين»، إلا أن تزاحم السياح منعه، ففكر في شراء قمة «برازون»، ولكن الفلاحين تعجبوا كيف تُشرى مثل هذه الأرض الصخرية القاحلة؛ فظنوا أن هناك كنزًا وما زالوا عليه حتى أبعدوه.

وما كاد يرفع عينيه عن كتبه حتى وقعتا على فتاة قلبه وعمره ١٧ سنة. وكانت إسبانية المولد، باريسية التربية، كاثوليكية المذهب، فلم يرُقْ لأمه البروتستانتية هذا الحب، وما زالت به حتى حملته على نسيانها مستعينة بالأسفار بين فرنسا وروما وجبال الألب.

وكان حبه للطبيعة ككل حب؛ أي مزيجًا من الفرح والكآبة، واللذة والألم، فإذا مر يومًا بمكان تبدَّل العهد به فرآه على غير ما عرفه من قبل؛ لوجود ميناء جديدة مثلًا، أو سكة حديد، أو أبنية لتنشيط السياحة، شعر بجرح في فؤاده كأنما هي حبيبته قد أُهينت، وصاح بمواطنيه: «إنكم احتقرتم الطبيعة وكل ما تُثير فينا مناظرها من نبيل الشعور. إن الثوار في فرنسا جعلوا الكنائس حرائس للخيل، وأنتم حولتم إلى ميادين سباق كلَّ معابد الأرض؛ أي الجبال التي يمكن فيها عبادة الله بأحسن ما يُعبد، وأقصى أمانيكم أن تمروا في السكة الحديدية من أمام هذه المعابد، وتأكلوا على مذابحها.»

هذا الإغراق في حب الطبيعة كان يلهيه عن كل ما حوله، وكثيرًا ما بقي أيامًا يجهل الجديد من الأحداث في بلاده، وهكذا سقطت الخرطوم وقُتل غوردون باشا، ولم يعرف بهذا ولا ذاك.

وتزوج سنة ١٨٤٨، ثم طلق زوجته بعد ست سنوات، ولم تخبُ نار الحماسة فيه يومًا، ولا تحول نظره في الآفاق المشعة التي علِق بها فؤاده.

•••

هذا الرجل السابح في الخيال كان في الوقت عينه رجل عمل، وبذلك يختلف عن غيره من النقاد والشعراء الذين يكتفون بالوصف والغزل دون أن يفكروا بالإصلاح العملي، فكان كلما أرسل فكرة أو أخرج كتابًا ينزل بنفسه إلى المعركة؛ ليرى ما صارت إليه فكرته، وليُدافع عنها. وقد نادى بتربية الذوق وتنمية روح الفن في الجماعات فلم يُسمع نداؤه؛ فقدم نفسه لإعطاء دروس ليلية في الرسم مدة أربع سنوات، وأنشأ بماله متحفًا للفن على رابية تطل على المروج الخضراء، ثم عُيِّن أستاذًا في أوكسفورد، فأراد أن يقرن العلم بالعمل؛ فأقام فيها متحفًا ووهب المدرسة مالًا، وتطوَّع طوال ثلاث عشرة سنة لعبادة الجمال، والتبشير به.

ولما أدخلوا في التدريس علم التشريح استقال؛ لأن التشريح في نظره بشاعة، فضلًا عن قلة فائدته، بدليل أن كثيرًا من العلماء كانوا في غِنًى عنه، وأن النحاتين اليونان كانوا يجهلون التشريح.

ولكن ما الفائدة من المجامع العلمية وما يُقدَّم فيها من أمثلة للجمال ما دام العالم مملوءًا بالبشاعة، وما دام رجال القرى يتركون الأعمال التي تُقوي عضلات الجسم، ويتزاحمون في المدن لخدمة الآلة، وقد أصبحوا مثلها في أيدي رؤسائهم؟ ما الفائدة من المتاحف ما دامت أجمل مناظر الطبيعة تتوارى خلف البنايات الحديثة والمصانع التي تخنق خضرة الدمن، وتُسوِّد بالدخان وجه السماء؟ إن دخان المعامل كالبَرَص يأكل المباني ويهين المدن ويُفسد المناظر. البلد الغني بلد بشع، والآلة تحط من مقام الإنسان.

هو يريد أن تكون أراضي إنكلترا جميلة هادئة، لا أدوات بخار ولا سكك حديد ولا أناس لا إرادة لهم ولا تفكير. هو لا يطلب الحرية، بل المساواة في الخضوع للشرائع والقوانين، وإذا احتيج إلى التنقل من مكان إلى آخر فليكن ذلك براحة وأمان، دون التعرض لأخطار السرعة وغير ذلك. هو يطلب كثيرًا من الأزهار وكثيرًا من الشعر والموسيقى.

حُلم من الأحلام ساوره أيام قامت ثورة الكومون في فرنسا، وأراد أن يحقق ما بشر به، فجاء باللآلئ للمتاحف، وبالخبز للأكواخ، ودفعه حبه للزراعة إلى منح بعض أراضيه للشيوعيين؛ ليُجربوا آراءهم في استثمارها على شرط أن يحتفظوا بآرائه فيما يختص بجمال الأشياء، غير أن التجربة لم تنجح، ولم تُسفر إلا عن خلْق بعض المقاهي وأندية اللهو.

لقد أراد هذا المجدِّد الرجعي أن يعود بعصره القهقرى، بترك الآلة والبخار واعتماد اليد والمغزل، ونفَس الإنسان الحي؛ فعم هذا العمل بين النساء، وأصبح من العادات السائدة أن يُهدى للعروس نسيج روسكين، واستُغنِي عن الآلة أينما أمكن أن يقوم العمل اليدوي مقامها؛ تمرينًا وتقوية للعضلات. ولم يكن كبعض القسس الذين يعظون الفقراء ويتنعمون بمآكل الأغنياء، بل أجرى على نفسه ما سنَّه من الخضوع لشرائع الجمال، وقام بتجفيف الأراضي على ضفاف بحيرة كونيستون، غير آبهٍ بالنفقات ليلهي الفلاحين عن المدينة، وبنى جسرًا صغيرًا على البحيرة بمعونة بعض تلامذته، وتعلم النجارة والدهان؛ فهو من هذا القبيل يُشبه تولستوي الذي قال عنه: إنه من أعظم رجال العصر.

وأنشأ في البرية مكتبة جامعة كان يحمل إليها الكتب على ظهور البغال احتجاجًا على المدينة وسكك الحديد. وكانت بعض العائلات تقوم بترتيب هذه الكتب وإرسالها لمن يريد مطالعتها خدمة له، وإعجابًا به، فلا ناشر ولا وسيط، بل هي الأيدي نفسها التي كانت تنظم الكتب كانت تنسخها وتكتب المقالات عن مذهب المعلم وتحفر له الرسوم. وكان يقول: في وسعي أن أربح من كتبي ما شئت إذا رشوت النقاد في المجلات والجرائد، ودفعت نصف ما أربح للمكاتب ولمن يلصق الإعلانات، وسايرت أسقف بتربوروف.

وقد أفلح في مشروعه؛ فإن كتابًا من كتبه «المصابيح السبعة للبناء» ربح ٧٥ ألف فرنك، وكتابًا آخر عنوانه «السمسم والزنابق» يُباع منه كل عام ٣ آلاف نسخة.

وكان المتحف الوطني لسنة ١٨٤٥ فقيرًا خاليًا من التحف الثمينة، فرفع صوته مطالبًا بالعناية به، فأغناه بألواح من أشهر الفنانين مما لا تجده حتى في اللوفر. ولما ظهر كتابه «حجارة فينيسيا» وكتابه الآخر «المصابيح السبعة» تغير البناء الإنكليزي واكتسب مسحة جديدة جميلة. وفي سنة ١٨٥٤ شهر الحرب على «سراي البلور» منتقدًا هذا البناء القائم على الحديد والزجاج وما يقتضي من النفقات، وطلب تأليف لجنة لحماية البناء الحجري؛ فكان له ما أراد. وأدرك الناس ما في جانب هذا الرجل من الحق، وأن مناظر الطبيعة منبع غِنًى، فأصبحوا إذا أرادوا مد سكة حديد في مكان ما يستعينون برأي أصحاب الفن، فلا يُقدمون على تشويه جمال تلك البقعة. ولم تلقَ دعايته للألبسة القديمة والأعياد الرمزية آذانًا صماء. والغريب أن الذي يمر اليوم بمدرسة البنات في «شلسا» أول أيار يرى المعبد والدار مزدانة بالأزهار مهداة من كل أنحاء إنكلترا. فتنتخب الطالبات ملكة أيار من بينهن فتمر تحت قبة من الأغصان المتعانقة، ووراءها ملكة العام الماضي، ثم تعتلي العرش بين صفين، وتمر الطالبات من أمامها يتقبلن الهدايا من يديها، وكلها مؤلفات روسكين.

•••

لم يفهم الناس روسكين فرموه بالتعصب والكبرياء والتناقض، وجعلوا إخلاصه استبدادًا، وكرمه الحاتمي محبة ذات؛ ذلك لأنه كان صريحًا إلى أبعد حدود الصراحة، لا يبالي برضاء الناس أو غضبهم. قال له أحدهم يومًا: إني معجب بما تكتب، فأجابه: وما يهمني إعجابك، أتُراك استفدت شيئًا مما أكتب؟ وجاءه وفد من طلاب غلاسكو يرشحونه لرئاسة جمعيتهم فسألوه: هل هو مع دزرائيلي أو غلادستون؟ فأجابهم: وماذا يهمكم دزرائيلي أو غلادستون؟ أنتم طلاب علم، وما عليكم أن تهتموا بالسياسة أكثر من اهتمامكم بمطاردة الفئران، ولو أنكم قرأتم عشرة أسطر لي لأدركتم أنني لا أسأل عن غلادستون أو دزرائيلي، ولكني أكره التحزب السياسي كرهي للشيطان. وأنا، مع كارليل، لله وللملك.

ولم يسلم هو نفسه من نقداته اللاذعة، وكم رجع عن خطأ سابق! وكان صارمًا في انتقاده كتبه. وكان إنسانيًّا بكل ما في هذه الكلمة من معاني الإنسانية؛ فساعد الفقير والعامل، وبدد ثروته البالغة خمسة ملايين في جواهر للمتاحف وخبز للأكواخ.

وكان إلى ذلك خطيبًا ساحرًا. انظر إليه وهو يصعد إلى المنبر في أوكسفورد وقد ضاق النادي بالحاضرين وهجر التلامذة صفوفهم ليسمعوا، وامتلأت النوافذ والشرفات، وتعذر إقفال الأبواب لازدحام الناس، والنساء كالرجال عددًا، وبينهن أمريكانيات عبرن الأطلسي لسماع ذاك الذي يُسميه كارليل «روسكين الأثيري». وما كاد يطل عليهم حتى علا الهتاف من كل جانب، ووقف الناس على رءوس أرجلهم ليروا تلك القامة المديدة، والشعر الطويل، والعينين المتغيرتين كالأمواج، والفم المتحرك كالقوس عندما ينطلق عنه السهم، والسحنة الجامعة في ملامحها بين الحماسة والهزء والتأمل، حتى إذا أنصت القوم حيَّاهم بابتسامة، وأخرج بين يديه أشياء مختلفة من حجارة ومعادن وصور ونقود وما شاكل، يستشهد بها في عرض حديثه، ثم يبدأ بالكلام بهدوء كأنه قس يتلو صفحة من التوراة، ويرتفع صوته شيئًا فشيئًا فيترك أوراقه جانبًا، ويُجيل بصره في الجمهور وقد ملك عليهم مشاعرهم.

وكان محاميًا فصار نبيًّا. أغريزة أم علم أم دهاء أم عبقرية؟ لا يعرفون، ولكنهم يصغون إليه وقد طرحوا الورق والقلم، وأعرضوا عن تدوين ما يسمعون، ومشوا وراءه في الطريق الملتوية التي يقودهم فيها، وفي كل منعطف وادٍ جديد وأفق جديد. وما هي إلا لحظات وإذا بهم يرتفعون معه ارتفاعًا مستمرًّا حتى يصلوا إلى القمة التي تُشرف على العالم.

هذا الساحر العظيم كانت له أسطورته كالأبطال. يُقال: إنه دخل يومًا مخزن مجوهرات فعرفه البائع، فأقبل عليه يعرض كل ما عنده من الحجارة الكريمة، طالبًا إليه أن يكشف عن أسرارها، وتألبت من حوله فتيات المحل والسيدات الشاريات، فوقف بينهن وتكلم، تكلم بعلم الزعنفة الذي يسلب الأمواج درها، وسحر الجنية التي تحرس الدر: هذا الياقوت الأحمر وردة فارسية، لون الفرح والحب والحياة على الأرض، الزهرة التي استُخدم برعمها لإناء العطر الذي سكبت منه المجدلية على قدمي المخلص، وهذا اللازورد مثل الفرح والحب في السماء، لا تفرق عن الياقوت إلا بلونها الأزرق، وهذه اللؤلؤة خضوع الضياء، رمز الصبر، لون الحمامة التي تبشر بتراجع المياه، والمرغريت زهرة اللؤلؤ، والأقحوان رمز التواضع، ولكنها غالية الثمن؛ لأن التواضع يفتح أبواب الفردوس المطعمة جدرانه بالزبرجد.

وقصَّ عليهن ولادة هذه الأحجار في أعماق الأرض والبحار، ثم التفت إليهن يقول ما معناه: «هل من المعقول أن نحب هذه الحجارة ونكرمها؟ نعم، على شرط أن تكون هي التي نحب لا ذواتنا. إن عبادة الحجر الأسود الهابط من السماء لا تبعد كثيرًا عن الحكمة التي هي عبادة السماء نفسها. وليس من الجنون أن نفكر في أن الحجارة ترى، بل الجنون إذا فكرنا أن العيون لا ترى. ليس من الجنون أن نفكر أن اليوم الذي تُجمع فيه الجواهر تكون حجر الزاوية لجدران الهيكل، ولكن من الجنون أن نظن أن يوم انهيار الهيكل تذهب الأرواح هباء ولا تبقى روحانية ما فوق الأنقاض.»

«نعم، أيتها السيدات الجميلات، أحببن الجواهر واعتنين بها، ولكن أحببن نفوسكن أكثر، واعتنين بها ليوم يجمع السيد جواهره.»

وكانت السيدات يُصغين بخشوع ووهن إلى هذه الأقوال التي لم يسمعنها من أفواه من يرقص معهن في ساعات اللهو والسرور.

هكذا تريد الأسطورة أن يُلقي المعلم تعاليمه لا في المدارس والمعاهد فقط، بل على الطرق أيضًا.

إن فضل روسكين أنه أيقظ الأفكار، ولفت نحو الجماعات أنظار الأدباء والفنانين، وساعد بتعاليمه في أوكسفورد على نشر الفلسفة والفن؛ لأنه لا يكفي أن يكون في الناس فنانون، بل يجب أن يوجد من يتذوقهم ويقرأهم ويشجعهم. وكان بعد كارليل أول من نادى بالإخاء ومساعدة العمال بوضع حد أدنى للأجرة، والضمان ضد البطالة. وهو مع ذلك عدو الاشتراكية، ويعتبر المساواة وهمًا؛ لأن دونها أهوال المطامع التي لا تُحد، والكبرياء التي لا تُرد.

غير أن أتباعه ومريديه توسعوا في تفسير أفكاره، حتى إن بعض النساء نشرن جريدة فوضوية بعنوان «المشعل»، ولكن هذا المشعل ما عتم أن انطفأ في الضباب اللندني؛ لأن الفكرة الواقعية غالبة في الإنكليز. وهذا وليم موريس الشاعر المزوق مات مؤخرًا عن نصف مليون من الجنيهات تركها لورثته الأقربين دون أن يستفيد منها أحد من العامة.

لقد نظر روسكين إلى الطبيعة بعاطفة محب للفن مؤمن به، فلم يرَ منها سوى مظاهرها الغرارة. وإن الإنسان، عندما يفكر بهذه المأساة الأزلية الغامضة الأسرار التي تمر بنا على مسرح الحياة، وهذه الحرب الدائمة التي لا هوادة فيها ونتيجتها أبدًا انتصار القوي وانهزام الضعف، وهذه المذبحة التي تُولد وتموت فيها مواكب الناس بعد تهاويل الحياة وشقاء التقلبات، لأمْيَل إلى تشاؤم داروِن الطبيعي منه إلى تفاؤل روسكين السماوي. إن داروِن وروسكين على طرفي نقيض في فهم الإنسان والطبيعة؛ ولهذا كان روسكين يكره داروِن.

إن عبادة الجمال طريق لعبادة الله، وهذه النظرة إلى الجمال كانت تلائم — كما يقول تين — إنكليز ذلك العهد المحافظين المتزمتين، فكان روسكين يشعر بالحنين إلى العصور الماضية، عصور الحرارة والإيمان، ويُثني على معابد الطراز القوطي في فرنسا وإنكلترا؛ لأنها تمثل تلك العصور، وكان يُعجب بالقدامى من أهل الفن؛ لطهارة الشعور فيهم. وفي رأيه أن التقهقر في الفن بدأ من عهد رفائيل؛ فقد كان الفن من قبل وسيلة لإظهار الدين، فصار الدين وسيلة لإظهار الفن. وبلغ به التعصب في هذا الباب أنه لو استطاع لأحرق جميع النساء العاريات لروبنسن وجوردانس؛ ولهذا سماه بعضهم «توركمادا جمال».

ويطول بي الشرح لو أردت تعداد كل ما فكر به روسكين أو قاله أو عمله. ومن عادة الناس أن يستهزئوا بالخارجين على التقاليد والعادات، وينعتوهم بالمتهوسين، غير أن ذلك لا يمنعهم غالبًا من أن يتبعوهم مأخوذين بحرارة القلب والإيمان والكلام، وعلى هذا الوجه قاد روسكين الرأي العام. وفي هذيانه الشعري المُبعثر في ثمانين مجلدًا كان يشعر بأخطار الحالة الاجتماعية، ويرى ما في حرب الطبقات والديمقراطية من الأسباب المؤذنة بانهيار المدنية. وجاءت ثورة الكومون في باريس وحرق باريس بعد الحصار «وقد ساهم بسخاء في إنعاشها» فثبَّتت روسكين في مخاوفه، على أن تفاؤله السماوي لم يُفارقه يومًا؛ ولهذا ظل رسول أُلفة وسلام بين الطبقات.

•••

هكذا كان حب الطبيعة الألف والياء في حياة روسكين، فظهرت آثاره في قسمات وجهه، وتجعدات جبينه، وأملى عليه كل حرف من كلماته، ووجه كل خطوة من خطواته، وأجرى كل معين من أفكاره. وكان له النور الذي يُضيء، والنار التي تعطي الحرارة وتُطهر؛ فأقصاه عن صغائر البغضاء وعن عذاب الحب، وأطلقه في ميادين الأبحاث العلمية؛ لأن العلم وحده يساعد على الدخول على الطبيعة في هيكل أسرارها.

ولا عجب إذا اعتبره الناس رجل أسطورة وهو الذي حارب وحده عالمًا بأسره، لا من أجل الحقيقة التي لها أنبياؤها، ولا من أجل العدالة التي لها رسلها، ولا من أجل الدين الذي له شهداؤه، بل من أجل ما هو فوق هذه الأشياء، وربما اجتمعت كلها فيه: الجمال.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤