العصر

وقالوا إن هذا العصرَ نورٌ
فهل سَلِمتْ من اللُّؤمِ الطباعُ
أو انجابَت غيومُ الغشِّ يومًا
فلاحَ الصبحُ وابتسمَ الشعاعُ
وهل سادَ الوفاءُ وماتَ غدرٌ
وزال الشكُّ وانحسر القِناع
وإلَّا ما الذي يدعون نُورًا
وبين عناصر الدنيا صِراع
أكفرٌ كله سَفَهٌ وعابٌ
وإيمانٌ هو الشَّتم القِذاع
وفلسفةٌ تقوم على جمادٍ
أَشال نشوءَه القومُ الرِّعاع
بها انقادُوا لما يُرضي هَواهم
كما ينقادُ للريح الشِّراع
تُشاد لربةِ الفِسق المغاني
ويَعمُرُ في جوانبها النِّزاع
ويُبذَلُ كل أحرشَ١ في حِماها
أحقُّ به الأُطيفال الجِياع
لقد بكتِ الطهارة يوم ولَّى
بنوها وانجلَى عنها الوداع
على الحب السلامُ فما تَبَقَّت
سوى الشَّهوات يُضرمها الْتِياع
فتُقضى مثل شُرب الماءِ فيهم
ولا سيفٌ يرُوع ولا يُراع
زواجهمُ لمالٍ أو مقامٍ
يسوقهمُ إليه المستَطاع
سماسرةٌ تتاجر بالغَواني
لها الأعراضُ تُشرَى أو تُباع
رمَينا بالبناتِ لهم مَتاعًا
كأن بناتِنا لهمُ متاع! …
عفاءً أيها الدُّنيا فإني
رأيتُ الناسَ قد ماتوا وضاعوا
إذا قلتُم بأن العصرَ نور
يعزِّزه ابتداعٌ واختراع
فباسم العصر لا تُبقوا على ما
يقال له التَّضامنُ والمَشاع
وباسم العِلم والعُلما أَضِلُّوا
نفوسًا قد تناولها الضَّياع
وباسم الدِّين والتقوى أمِيتوا
ضميرَ الناس وليَحْيَ الخِداع
كلُوا مالَ الأرامل واليتامى
وجِدُّوا في تطلبُّه وداعُوا
ولا تُحزِنكمُ ثكلَى أرنَّت
ولا طفلٌ نبا عنه الرَّضاع
ولا قومٌ أمضَّهم نُواح
فما أصغَى لنوحهمُ سَماعُ
وقولوا إن هذا العصرَ نورٌ
فقولكمُ هو الأمر المُطاع

•••

لحَى الله السكوتَ وناصحِيه
ولكنْ ليس في العذْل اقتِناع
تَمَدْيُنهم مصائبُ صَائباتٌ
يضيقُ ببعضِها الصَّدر الوَساع
مصائبُ كلَّما فكرتُ فيها
أرى رأسِي ألمَّ به صُداع
فيا دِهري وبَيعي كان خُسرًا
لحاكَ الله هل مثلي يُباع
٢٢ يوليو سنة ١٩١٣

هوامش

(١) الأحرش من الدنانير: ما ظهرت فيه خشونة الحدَّة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤