النجوى

لا تسأليني عن حياتي فَقد
وضعتُها في يدِك اللَّاهيَة
والقلبُ والروحُ تصبَّتهما
مُقلتُك الفاتِنة الساهيَة
والله لا أملِكُ من مُهجتي
غيرَ شِكايات النُّهى الشاكية
ومن فؤادي غيرَ إيغالِه
في اليأسِ والمَجهلة الدَّاجِية
ومن مداعِي العُمر غيرَ الأسى
والبؤسِ والنازلةِ الدَّاهيَة
من لي بأن تلقَيْنني بالرِّضا
أَلقَ المنى زاهرةً زاهيَة
فأَستعيدُ العمرَ من بَدئِه
مُستدنيًا آمالي النَّائِية
مسامِحًا دهريَ عمَّا جنَى
مرتجِعًا أيَّاميَ الخاليَة
إذن أحبَّ القلبُ أَسقامَه
كأنَّها صحتُه الماضِيَة
وجدَّدَتْ نفسِي شبابي الذي
أهرمتِ في العِشرين يا قاسيَة

•••

أراك في نَجواي مغمُورةً
بالنُّور تجلُوكِ المُنى الجَالية
طائرةً في رائعات السَّنى
خاطرةً في الحللِ الراضِيَة
كرَبَّةِ الشِّعرِ وقد رفرَفَت
في أفْقها باديةً خافيَة
طلعتِ في منطقةٍ حولها
آلهةٌ رائحَة غادِية
مجنحو الأوساط مُستكملو
جمال أنوارِهمُ الصَّافيَة
مؤتلقُو الأوجهِ ألحاظُهم
ترد صَولات الدُّجى العادِية
منكِ استعاروا الحسنَ كالأنجُم الزَّ
هْرَاء أبهى حُسنها عارِية
أُقيمَ عرشٌ أنتِ من فوقه
بينهمُ آمِرةٌ ناهِية
مدَّ شعاعًا في السما أصلهُا
وفرعُها في الأبحر القاصِيَة
صفا وحَنَّ البحر إذ أشرَقت
سماؤُك الصَّافية الحانِية
بينهما قد نشَرت عطرَها
ثغورُ هذي الرَّوضة الزاكيَة
أزهارُها الآمالُ مجلوَّةً
حلَّى الضُّحى أوجهَها النادِية
إذا أنا استجليتُ حُبي على
تموُّجات النغَم السَّارية
مسائِلًا عينيك مُستشفيًا
إليهما من مُهجتي الصَّاديَة
مُجرَّدًا عن كل حسٍّ لدَى
أوصافِك النادِرة السَّاميَة
عليل قلبٍ لا تُؤَاسيه في
هواك إلَّا العِلةُ الآسيَة
على شفيرَي جدَثٍ عابِسٍ
وجنَّةٍ ضاحكةٍ باديَة
يُخالسَاني نظَرًا عانيًا
يُجاذِباني نفسيَ العانيَة
بينا أرَى الحُبَّ بعيدَ المدَى
تُقِلُّه أيدي السَّنا العالِية
إذا بنَفسِي في بحارِ الأسَى
والليلُ أرخَى الظُّلَم الغاشِية

•••

يا مُنيتي هذي حَياتي وما
حوَتْه في المنطقةِ الرَّاقِية
العرشُ قلبي قد ترقَّيتِه
قامَ على آماليَ الجاثية
حفَّت بكِ الأحلامُ فِضِّيةً
تُرسلُها أجفانيَ الباكِية
كأنَّ نفسي إذ تملَّكتِها
تحوَّلتْ فيك منًى حَاليَة
وكلَّ ما ازدانَت حَياتي به
من آيةٍ باهرةٍ باهيَة
مكتسبٌ منكِ الجَمال الذي
أولَتْكه أيدي الرِّضى النادِية
أما إذا عادَت إلى أعيُني
حقيقةُ الذاكرة الناسِية
وانتبهَتْ نفسي إلى نفسِها
كما ترفُّ المُقَلُ الغافِية
عُدتُ إلى الليل وعادَتْ إلى
قلبي جِراحاتُ الأسَى الدَّاميَة
وهكذا العمرُ أكاذيبُه
متاعُ هذي الأمَم الفانِية
فإن تراءَى صادقًا أبصَروا
ما يفجعُ الآمنةَ الهانيَة
والحبُّ في العُمر طلاءٌ كسَا
فواجعَ الكارثةِ الخافيَة
فأحسني زخرفه بالرضى
إن الرضى غاية آماليَه
٥ و٦ نوفمبر سنة ١٩١٤

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤