الكون مصلَّى

تبدَّد الليلُ مضمحِلًّا
إذ أَفَلَتْ أنجُمُ العَلاءْ
وأقبل الفجرُ مستهِلًّا
يُضاحكُ الأرضَ والسَّماءْ

•••

أطلَّ في الشرق زاهرًا
تصبَغهُ حُمرةُ الشَّفَق
يخترقُ الغَيم باهرًا
بنورِه عندما ائتَلَق
ويُرسِل النورَ زائرًا
يُنبِّهُ الطَّيرَ في الورَق
كأنما الكونُ إذ تجلَّى
وامتزجَ الليلُ بالضِّياء
بقيَّةُ البؤسِ حين ولَّى
في مَطلع السَّعدِ والهَناء

•••

وأقبلت ربةُ النَّهارِ
في موكبِ النُّور رافعَة
ألويةَ النَّصر والفَخار
ورديَّة اللَّون ساطعَة
كأنها والنَّسيمُ سارِي
في الرَّوض يغدُو الشَّذَا معه
تاجُ عَقيقٍ به تحلَّى
وزاد حُسنًا هذا الفَضَاء
أو مَلكُ عزٍّ وافى محلًّا
يغمُره الشَّرقُ بالبَهاء

•••

فقمتُ أمشِي إلى الحُقول
أشاهدُ الشَّمسَ مُشرِقة
والنورُ من وجهِها الجَميل
يسكُب في قلبي المِقَة١
في مسرحٍ بالضُّحى حَفيل
حيثُ الرياض المنمَّقَة
إن شئتَ وردًا أو شئت فُلًّا
وكلُّها نابتُ الخَلاء
تقلَّدتْ رَونقًا وطلَّا
وابتسمَت بَسمة الحَياء

•••

واستعرَضَ العُشبُ فرشَه
خضراءَ مثل الزمرُّد
إذ نشَر الطيرُ ريشَه
ملتَمعًا فوقَها ندِي
وبارَح الفرخُ عُشَّه
في ملعَب الجِدِّ والدَّد٢
على الرُّبى طائرًا تعلَّى
مستشرفًا هابط الجِواء٣
يسبِّح اللهَ مُستقلًّا
لواحفَيه ملكُ الهواء٤

•••

جئتُ إلى النَّهر قاصدًا
جمامَ نفسي على حصَاه٥
مسرَّحَ الفكرِ ناشدًا
من العُلا راحةَ الحَياة
أنظر حولي إلى مدًى
والشجرُ الخافرُ الميَاه
يرسم فوق المياهِ ظلًّا
مُضطربًا عابسَ الرواء
قلت لنفسي يا نفسُ مهلًا
لا ينفَع الهمُّ والعَناء

•••

فكل هذي الحصَى نُجوم
على الرِّمال استقرَّتِ
والمرجُ وجه السَّما الوسيمُ
والنهرُ نهرُ المجرَّةِ
والنبتُ زاهٍ به عَميمُ
يبعث روحَ المسرَّةِ
والزهرُ فيه يُشبه طفلًا
ضجيع مهدٍ رحبٍ رخاء
إذا يهُبُّ النسيم سَهلًا
يلعبُ فيه كما يَشاء

•••

الماءُ والنورُ والعَبير
والرَّملُ والنبتُ والحصَى
والنسَمات التي تَسير
والظلُّ إمَّا تقلَّصا
رمزٌ لكونٍ به السُّرور
على المدَى قد تخصَّصا
وجاءَ هذا عنه مُقِلًّا
بكل ما فيه من عَداء
يقتصُّ فيه الإلهُ عدلًا
ممن بغى فيه أو أَساء

•••

الكلُّ في الكونِ لازم
حتى جَماد بغيرِ حِس
والحيَوان المُسالم
يسرَح في مأمنٍ وأُنس
له الفضا والنَّواسِم
وظلُّ دوحٍ ونورُ شَمس
واتَّخذ اللهَ فيه كِفلًا
لما يوافيه من غِذاء
يُنتج ولدًا له وأَهلًا
ويُكثِر الخصبَ والنَّماء

•••

كذاك كلُّ العَناصر
تنضمُّ حتى تُوَحَّدا
أواصرٌ في أواصِر٦
أوائل لن تعددا
موصولةٌ بالأواخر
وهي بناءٌ تفرَّدا
لمن بناه فهو مُصلَّى
يُعبَدُ فيه سرُّ البَقاء
والله فيه عزَّ وجلَّا
يدبِّرُ الكلَّ بالسَّواء

هوامش

(١) المحبَّة.
(٢) اللهو واللعب.
(٣) الجواء بكسر الجيم، جمع جو، وهو ما اتَّسع من الأودية.
(٤) الواحف: الجناح الكثير الرِّيش.
(٥) جمام النفس: راحتُها.
(٦) أواصر جمع آصِرة، وهي رابطةُ القَرابة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤