القصيدة

أنا وحدي والساعة تدق! يا للعزلة يا للفقر!

دي موسيه
محالٌ لعَمر الله هذا التندُّمُ
وزورٌ شَكاتي والأسَى والتظلمُ
وما بي داءٌ أشتَكيه ولا أذًى
رميتُ به أو ما يمضُّ ويُؤلم
تمرُّ بي السَّاعاتُ شتَّى سَريعةً
أُباشِر أعمالي بها وأتمِّم
ولا همَّ إلَّا واجبُ العمر ينقَضي
كما ينقضِي داءٌ يداوَى فيُحسم
فأَغنَمُ في الدنيا حَياتي وإنها
بها للفؤاد الخالص السرِّ مَغنم
أنالُ بحمد الله وَفرًا ومُتعةً
وليسَ على غَيري بما نلتُ مغرَم
كفيتُ الورَى شرِّي ولا شرَّ لي وما
جميعُ الورَى إلَّا الذين هُمُ هُم
وما قالَتي شَكوى ولا فخر إنما
على ما أنا يَدمَى فؤادي ويُكلم
أُقلِّب طيَّاتِ الحياة مفتِّشًا
على فعلةٍ يومًا بها المرءُ يوصَم
فأغدو بقلبٍ يعلَم اللهُ طاهِرٌ
ونفسٍ على علَّاتها تتردَّم١
لقد دُرتُ دوْراتِ الحياة جميعِها
وطالعتُ فيها ما يُضيء ويُظلم
فألفيتُها حَربًا لزامًا وإنما
بها يغنَم الأسلابَ من يتقحَّمُ
فزوَّدتُ نفسي واعتزَلتُ غِمارها
أراقِب عن بُعدٍ لظاها فأسلَم
وإني لمستغنٍ عن الناسِ عائشٌ
بنفسيَ حرًّا سادرًا أتنعَّم٢
كأنيَ طيرٌ في الخَمائل راتِع
يروحُ ويغدُو شاديًا يترنَّم
وعمري غديرٌ قد جرَى متموِّجًا
حوادثُه حَصباؤه تتبسَّم
يقبِّلُ ثغرَ الشمسِ وهو أشعَّةٌ
ويغسِل فيه الوجهَ بدرٌ وأنجُم
إذا روَّع الليلُ الرِّياض يزورُه
نسيمُ الصَّبا يأتي عليه يسلِّم
فيُؤنِسه بالنَّفحِ والطِّيب مُمليًا
عليه حديثَ الزَّهْر وهو مُرجَم٣
ويروِي له ما قاله الغصنُ مائلًا
وما قاله عُشبُ الرِّياض المُنمنم٤
ويُفهمه سرَّ السماءِ وإن يكُن
يحجِّبها هذا الظلامُ المخيَّمُ
لغاتٌ يهزُّ الدوحَ حسنُ بيانها
فليستْ إلى أخرى سِواها تترجَم

•••

ولكنَّني أَبلتْ شعوريَ عُزلتي
فها أنا ذا كالعُود يَذوِي فيُحطَم
أيا عُزلتي أنضَبتِ ماءَ شَبيبَتي
فصرتُ على مَهلي أشِيب وأهرَم
ولا عملٌ إلَّا دواةٌ ومكتبٌ
فأنثُر ما بي مِن شقاءٍ وأَنظِم
وأقتل كُتبي قارئًا وكأنما
تحوَّطني منها خَميسٌ عرَمرم
أقلِّب فيها أوجُهَ الدَّهرِ باحثًا
فتُعرِب عن أسرارها لي وتُعجِم
وتُفنِي حياتي لذَّةً وفُكاهةً
وأُفنِي الليالي جاهلًا أتعلَّم
أرى بينَها الأجيال شتَّى وجوهُها
فمبتهجٌ هذا وذا مُتجهِّم٥
يمرُّون أَرسالًا٦ كأنَّ صُفُوفهم
نِمال على وكرٍ ترد وتزحم
منابرُ والأفكارُ فيها نواطقٌ
مناهلُ والمورودُ أَريٌ٧ وعَلقَم
أسافِر فيها كلَّ يومٍ وطيَّتي٨
مرامي فناءٍ تستحيلُ وتبهَم
أضحِّي بقلبي فوق مَذبحِها وما
صَحائفُها إلَّا لظًى يَتضرَّم
وأخرُج صِفرَ الكفِّ منها بحَسرةٍ
أُسيغ شَجاها كلَّ يومٍ وأَكظِم٩
فياكتُبي مالي ومالكِ إنني
رضِيتُ عمَى قلبي ونورُك أسحَم
هجرتُك فامضي في سبيلِك وادرُجي
إلى حيثُ يُفنيك الغُبار المهوَّم
ويطلع جيشُ العثِّ فوقَك غازيًا
فيثأرُ لي مما جَنيتِ وينقِم

•••

لحى الله من باع الضَّميرَ بدرهمٍ
وأثمنُ مما باع في القَدر درهَمُ
وما عِرْضُ نفسِ المرءِ إلَّا ضميرُها
إذا كان عرضُ الجسم ما أنتَ تعلَم
فافهم عرض الجسم يُبذلُ واصلًا
إلى غرَضٍ محسوسُه متجسِّمُ
ولكنَّ عرض النفس يُبذل ضائعًا
فذلك بين الناسِ ما لَستُ أفهَم

•••

ظلمتُ حياتي بالصِّيانَة والحِجا
ولي بالذي جرَّت حَياتيَ أَظلَم
أَمنعًا وتَعذيبًا وجُهدًا وحَيرةً
حنانَيكَ ربي إن صدريَ مُفعَم
وإني قطَعتُ الشوطَ إلَّا أقلَّه
وأقطَعُه سيانِ أرضَي وأرغَم
عزاءُ فؤادي أَنَّ للعمر منتهًى
ولا رجعةٌ منها أخافُ وأوجَم

•••

على أَنني أَحببتُ في العُمر مرَّةً
رجوتُ بها تحقيقَ ما كنتُ أحلُم
فكنت أرى الآفاقَ تضحَك بهجةً
فأستَنزل الإلهامَ منها فأُلهَم
وأشعُر بالعَزم الأكيدِ يضمُّه
فؤادٌ على لذَّاته يتألَّم
لَعوبًا بأسرار الوُجود كأنما
يُطلُّ عليها ناظري المتوسِّم
إذا ابتسمَتْ سلمى ففجرٌ منوِّرٌ
وإن عبسَت فالليلُ أعكر أهيَم١٠
ولكنَّها ملَّت سَريعًا لضَعفِها
وما الحبُّ إلَّا قُوةٌ وتَعظُّم
فلمَّا عرَفتُ الضَّعف فيها وأنها
تخالَف في نُطقَيهما القلبُ والفَمُ
عمِلت على الهَجر الجَميلِ لأنه
غدا وهو أمرٌ بيننا متحتِّم
كذلك قد جرَّبتُ نفسيَ في الهوَى
فأُبتُ بجرحٍ لا يُداويه مرهَم
وضيَّعتُ قلبي في الغَرام فها أنا
أَعيشُ بلا قَلبٍ وأُسقى وأُطعَم

•••

أرَى العقلَ في الدُّنيا حديثًا لأنه
أَتى ليُزيل الجهلَ فالجهل أقدَم
وكلُّ قديمٍ كان ذا أوَّليةٍ
تفضِّله فهْو العَزيز المكرَّم
لذاك ترَى أنَّ الجهالةَ في الورَى
أَحبُّ من العَقل الصَّحيح إليهم

•••

إذا أَنت أسلمتَ الفُؤادَ زمامَه
يقودُك وهو الآمِرُ المتحكِّم
ويبني لك الآمال غيرَ محقَّق
وكل بناءٍ بالعواطف يُهدم
فتدخُل في الدنيا سَعيدًا مهنَّأً
وتخرج طفلًا يُستضامُ ويُفطَم

•••

… … … …
… … … …
إلى كم أُسلَّى بالرَّجاء يُزيله
قضاءٌ على كل البَرية مُبرَم
وتعبَس في وجهي النُّجومُ وإنها
إلى كل رانٍ في الدُّجى تتبسَّم
ويندكُّ صَرح العُمر عند ارتفاعِه
وكان على الأيَّام يعلُو ويدعَم
… … … …
… … … …
… … … …
… … … …
قنعتُ من الدنيا بخِلٍّ وِداده
صَميمٌ به يجرِي ويمتزِج الدَّم
غدا سَلوتي إذ لم أجِد ليَ سَلوةً
وغُنمي الذي أصبحتُ في العُمر أغنَم
رضيتُ به حِصنًا على الدَّهر قائمًا
وإني له حصنٌ على الدَّهر أقوَم
هو الرِّزق من ربٍّ كَفيلٍ وإنها
من اللهِ أرزاق على الخلق تُقسَم
يونيو سنة ١٩١٩

هوامش

(١) تردَّم ثوبَه رقَعه، والمعنى: نفس تسوِّي شئونها بنفسها.
(٢) السَّادر: الذي لا يهتَم ولا يُبالي ما صنَع.
(٣) لا يوقَف على حقيقَته.
(٤) المُزخرف.
(٥) غليظ سمِج.
(٦) جمع رَسَل بفتح الراء والسين، وهو القَطيع من كل شيء.
(٧) عسل.
(٨) النية والضمير، والمعنى أنَّ الغايةَ المقصودة في السَّفَر هي مرامي هذا الفناء، قال ابن هاني الأندلسي: وودعونا لطيَّات عَبابيد؛ أي: إلى غاياتٍ بَعيدة.
(٩) الشجا ما ينشَب في الحَلق من عظمٍ وغيرِه، وكظَمَ غيظهَ: اجترَعَه.
(١٠) أي: شديد السواد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤