القبر

على سَفح ذاك التَّلِّ من جانب الحِمى
له جدَثٌ في الأرض قد طاولَ السَّما
مُطلٌّ على البحرِ المحيط وقد حَوى
أجَلَّ من البحر المحيط وأعظَما
يحيِّيه نورُ الشَّمس في كل مطلعٍ
ويبكِي عليه الصبحُ دمعًا مُعندما
ويحنُو عليه الليلُ وهو مروَّعٌ
فيُطلِع أقمارًا عليه وأنجُما
أحاطَت به الأشجارُ وَهي كأنها
حزانَى لديه شاكيات تألُّما
تمدُّ إليه الظلَّ يعبِسُ وجهُه
إذا ما شعاعٌ في الغُصون تبسَّما
وتُؤنسها نَدبًا وشَجوًا حمائمٌ
هواتف فوق الغُصن تعقِد مأتما
يمر به الغادِي فيسكُب دمعةً
ويُطرِق حزنًا ضارعًا مترحِّما
يَسيرُ وما بين الجَوانح نَزعةٌ
إلى اليأس تُذكِي دفَّتيه تضرُّما
على والدٍ لم يخلُق الله مثلَه
بمِيتته أشقَى يتامى وأيِّما

•••

أبي كنتَ تُنسي اليتم كلَّ ميتَّمٍ
بموتكَ أضحى مرَّتين ميتَّما
توسَّعتَ في المعروف حتى ملكتَه
وحيدًا فلما رُحتَ راح مُقسَّما
وكنت كبيرَ العقلِ والقلبِ والنُّهى
وكنتَ الأبرَّ المُستحبَّ المفخَّما
وكنتَ طهورَ النفسِ والدِّين والحِجَا
وكنتَ الأَبيَّ الأريحيَّ الميمَّما
شمائلُ يُرويها النسيم وقد سَرى
عَليلًا على القَبر الكريمِ مسلِّما

•••

أبي لو تراني واهيَ الروح باهتًا
أجرِّر جِسمًا خاوِيًا متهدِّما
يقطِّعُ قلبي الداءُ والداءُ قاتلٌ
إذا ثار أصلَى واستبدَّ وحطَّما
أروحُ وصَدري مُفعمٌ بهُمومه
وأغدو وقلبي بالمَصائب أُفعِما
نعم لو تَراني يَنفثُ الصدرُ روحَه
رأيتَ إذن هَولًا ويأسًا تجسَّما
فليتَك لما مُتَّ مُتنا معًا لكي
نرَى التُّربَ أجرًا والنهايةَ مغنَما

•••

غدَتْ لك روحٌ في السماءِ أمينةً
وجسمُك في الدنيا إلى الأرضِ أسلَما
وإني على هَذا وتلك مولَّهٌ
فويلِي من الدُّنيا وويلي من السَّما

•••

لقد أرسلوا رَسمًا إليَّ أرَى به
جمالَك مَيْتًا بالرَّدى مُتلثِّما
أطافَ به أحبابُنا تبعَثُ الأسى
لواحظُهم حولَ المفارِق حُوَّما
رأيتُهمُ لا يمسِك الصدرُ قلبَه
عليكَ وُجومًا من أسًى وتأَلُّما
ومنشورة الشَّعر التي طار لبُّها
شَعاعًا وقد صار الفِراق محتَّما
غدتْ تستجيرُ الموتَ والموتُ جائِر
وأنت مَهيبُ الصَّمت لن تتكلَّما

•••

أبي، أين ما كنَّا عليه فإنني
أرى اليوم عُمري حالكَ اللون مُظلما
ولستُ أرى صُبحًا ولستُ أرى دجًى
ولكنْ أرى شيئًا من الليل أقتَما
تَكاثَر فيه الهولُ والويلُ ضاربًا
عليه شُحوبًا بالخُطوب مخيَّما
تطايرَت الأشباحُ حُولًا عُيونُها
به مثلُ نيرانٍ تقاذف مرتَمى
ترجرَج قلبُ الجوِّ والجوُّ أربَد
أسالتْ على أكنافِه نارُها دَما
لعَمرك لم يُمنَ امرؤٌ بمصَائبٍ
أشدَّ من اللائي عرَفتُ وأعظَما

•••

ألا وقفةً يا قبرُ تطفئُ لوعةً
وتُسعدُ هذا المستميتَ الميتَّما
أُذيب سوادَ المقلتين تفجُّعًا
وأَسقِي الثرى حتى يحنَّ ترحُّما
وأسأَله عن والدي كيفَ حالُه
وقد أنزلُوه فيه ضَيفًا مكرَّما
وأسأَله رِفقًا ولطفًا بضَيفِه
وحقًّا له أن لا يُضاعَ ويُهضَما
أيا قبرَه في كل يومٍ وليلةٍ
عليكَ إلهُ العرش صلَّى وسلَّما
أبريل سنة ١٩١٣

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤