الفصل الأول

أحمد بن طولون

١

لم يكن عربي الدم، وإن حَسِبَه كذلك كلُّ من رآه أو استمع إليه، فقد كان له لسان وبيان، وكان فيه أريحيَّة ونخوة، وحفاظ على العهد، وتحرُّج في الدين، وعصبية للعرب.

وكان أبوه «طولون» من عمال السلطان لعهد الخليفة المتوكل، فلما مات أبوه فوض إليه الخليفة ما كان بيد أبيه من أعمال السلطان، وقد كان أمر الدولة كله يومئذ إلى الموالي١ من الترك والعجم، ولم يكونوا جميعًا من الترك أو من العجم، وإنما كذلك كان يصفهم أهل «سامرَّا»٢ لذلك العهد، وبرغم أن «أحمد بن طولون» كان واحدًا من هؤلاء الموالي، فقد كان شديد الازدراء عليهم٣ يستصغر عقولهم وآدابهم، ويذكر أنهم قد تسنَّموا من المراتب ما لا يستحقون.
على أن أحمد بن طولون إن لم يكن عربيًّا فقد كانت البداوة طبعًا تحدَّر إليه من أسلافه الأولين، أهل «طُغُزْغُز»، وهم قوم يسكنون أرضًا واسعة على حدود الصين، يعيشون بها في خيام من الشَّعر أو من الأَدم٤ كما يعيش أعراب البادية، فإذا لم يكن أحمد بن طولون عربي النسب، فقد كان عربي الفطرة والدين.

وقُتِلَ المتوكل على سريره بأيدي مواليه من الترك والعجم، وتولى بعده ولده المنتصر، فلم يستتم على سريره بضعة أشهر ثم هلك، وبويع بالخلافة من بعده ابن عمه المستعين …

وبلغ الموالي مبلغهم من الطغيان والعَسْف، واجتمعت لهم أسباب السلطة، حتى لا يكاد الخليفة يملك معهم مخرجًا ولا مدخلًا، ولزم قصره في بغداد يتربص بنفسه كَيْدَ الموالي، ويتربصون به!

وضاقت نفس أحمد مما يشهد من غدر الترك وسوء أثرهم في الدولة، فآثر الاعتكاف والوَحْدَة، وإنه يومئذ لَشَابٌّ في الثلاثين، تَبْسِم لمثله الآمال، وتتفتَّح لعينيه زهرة الدنيا.

وقال لصاحبه: «إلى كم نقيم يا أخي على هذا الإثم مع هؤلاء الموالي، لا يطئون موطئًا إلا كُتِب علينا الخطأ والإثم؟ … والصواب أن نتركهم وما اجتمعوا عليه من الضلال والغواية، ونسأل الوزير أن يكتب بأرزاقنا إلى الثَّغْرِ٥ نقيم به في ثواب دائم وجهاد متصل!»

قال صاحبه، وعلى شفتيه ابتسامة العتب والدهشة: «كأنك يا أحمد قد أيست من التصرف في شيء من أعمال السلطان، وإن كنتُ لأرجو لك، وإنك لأهل للولاية!»

قال ابن طولون: «خلِّ عنك يا أخي حديث السلطان والولاية، إن أمر الدولة يكاد يبلغ آخره من سوء ما يصنع هؤلاء الترك والعجم، وإن أمر الخليفة ليوشك معهم أن ينتهي إلى مثل ما انتهى إليه أمر عمه المتوكل٦ وماذا بعد ذلك إلا انهيار الدولة، فإن رأيت فإننا نخرج إلى طَرَسُوسَ٧ غازيينِ مجاهدينِ في سبيل الله، حتى تنجلي هذه الغمرة، أو يكون أمر من الأمر!»

•••

وأنِسَتْ نفس أحمد بن طولون في طرسوس وزال استيحاشه، واشتهرت له وقائع في جهاد العدو تناقلها الركبان في الفلوات، حتى بلغت سامرَّا حاضرةَ الخلافة، فذاع صيته وأكبر الناس همته وعزمه.

وعاد من طرسوس وله ذكر ومكانة، ودارت الأيام دورتها، وإذا الخليفة المستعين مخلوع قد خلعه الموالي وأقاموا على العرش ابن عمه المعتز، ونفي المستعين إلى واسط٨ ودُعِيَ أحمد بن طولون إلى صحبته؛ ليكون عينًا٩ عليه وحارسًا له، وعرف ابن طولون للخليفة المخلوع قدره فأحسن عشرته وآنس وحدته، ووفاه حقه من التجِلَّة والكرامة، وترك له أن يغدو ويروح حيث شاء!

وأراد الموالي أن يخلُصَ لهم الأمر فأجمعوا على قتل المستعين حتى لا تنازعه نفسه إلى العرش.

وكتبت أم المعتز إلى أحمد بن طولون بواسط: «إذا قرأت كتابي فجئني برأس المستعين، وقد قلَّدْتُكَ١٠ واسط.»

وقال ابن طولون لنفسه وقد جاءه الكتاب: «بِئْسَتِ الإمارةُ تقلِّدُنِيهَا امرأة ثمنًا لمقتل خليفة له في عنقي بيعة.»

وتمرَّد على الأمر وتأبَّى على الإمارة.

وتسامع الناس في سامرَّا وبغداد بما كان من أمره ذاك في واسط، وبما كان من أمره قبل ذلك في طرَسوس، فأكبروا خُلُقه ودينه، وبلغ محلًّا من نفس الترك والعرب جميعًا …

٢

وكانت مصر يومئذ أثمن درة في تاج الخليفة، يباهي منها بما يملك لا بما يحكم، فليس يعنيه من أمرها إلا مقدار ما يؤدَّى إليه من خراجها،١١ وما يهدى إليه من طرائفها، وكذلك كان اعتبارها في أعين من يتقلدها من الولاة، فهي عندهم ضيعة للاستغلال، لا شعب يقتضي حسن الرعية، فليس همهم منها إلا ما يجمعون من مال الخراج، يؤدون منه ما يؤدون إلى الخليفة، ويتبقى لهم بعد ذلك من فضل الغَلَّة ما يحقق لهم الغنى والجاه والسيادة، ومنهم من لا يعنيه من ولاية مصر إلا لقب الإمارة … فكان الوالي إذا قلده الخليفةُ مصرَ يلتمس نائبًا أمينًا يكفيه أمرها ويحمل إليه من ثمرتها، ويظَلُّ حيث هو في الحضرة١٢ (سامرَّا)، يباهي بإمارته ويدل بجاهه، وأمرُ مصر كله إلى نائبه هناك …
على أن المصريين يومئذ لم يكونوا من ضعف الهمة، بحيث يرضون لأنفسهم هذه المكانة، فلم يكن الأمر ليستقيم طويلًا لواحد من أولئك الولاة في مصر، وكانت ثورات المصريين على ولاتهم لا تكاد تهدأ، على أن هذه الثورات المتتابعة لم تكن من القوة بحيث تستطيع إحداث تاريخ جديد، ولكنها مع ذلك كانت إرهاصًا١٣ لأمر قد أظلَّ أوانه١٤

في هذه الفترة من تاريخ مصر كان باكباك التركي هو السيد الآمر في قصر الخليفة المعتز، وكان إليه الأمر كله، ولكنه يطمع في مزيد من الجاه، فسأل الخليفة أن يشرفه بولاية مصر، فولَّاه فراح يلتمس النائب الأمين الذي يخلفه على تلك الضيعة.

وكان ابن طولون قد بلغ تلك المنزلة فأنابه باكباك …

•••

صاح المؤذن، وقد اختفى حاجب الشمس وراء الأفق الغربي: «الله أكبر …» فابتدر الأمير وجلساؤه إلى قصعة فيها تمر رطب، ثم دارت عليهم أقداح الحليب فشربوا ورووا، ومسح الأمير فمه وتلا في صوت خشعت له الجماعة: «الحمد لله الذي هدانا لهذا، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله!» ثم دعا: «اللهم لك صُمْت، وعلى رزقك أفطرت، وبك آمنت، وعليك توكلت … اللهم فاجعلني في المقبولين من عبادك، ووفقني في أمر هذا البلد لرضاك، وأحسِنْ رعيتي في خَلْقِك، فإنه لا إحسان إلا ما أحسنت، ولا هداية إلا ما وفقت، يا أحكم الحاكمين!»

وأمَّن جلساء الأمير على دعائه.١٥
ثم انتدب من بينهم فقيه أهل مصر ومحدثهم أبو عبد الله محمد بن عبد الحكم المصري،١٦ فقال: «بلَّغك الله سؤلك أيها الأمير وأنعم بك، إن هذه أمانة من أمانة الله في عنقك، وقد وليها قبلك أمراء، منهم البَرُّ والفاجر، والأمين والغادر، أما البَرُّ والأمين منهم، فكان للخليفة بره وأمانته، ليس للأمة من ذلك نصيب، وأما فجور الفاجر وغدر الغادر، فكان للأمة من كليهما نصيبها، وللسلطان نصيبه، فعلى الأمة المَغْرَم في الحالين، وإنما نحن وفد هذه الأمة إليك، وقد سبقتك إليها أنباؤك، فاستبشر عامتها وخاصتها بمَقْدَمِكَ، وإنها لترجو على يديك الخلاص من فساد الحكم، وجَوْر الملتزِم١٧ وطماعية عمال السلطان، فإن فعلت فقد قرت الأمة بك عينًا، وإلا فالله وليها١٨ فيما تأمل، وحسْب المؤمن ربه.»
قال الأمير: «نفعل إن شاء الله يا أبا عبد الله، وإن لي عليك شرطًا ليتهيأ لي تحقيق ما التزمته: أن تكون أنت ومن معك عينًا عليَّ وعونًا لي، فأيُّمَا عملٍ رأيتَ أو رأى أصحابك فيه حيادًا عن الجادَّة١٩ فاكشف لي عنه، فإن ذلك حقيق بأن يبصِّرني موضع خُطَاي إذا ضللتُ سواء السبيل.»

وبايعه الجلساء على ذلك، ثم نهضوا جماعة لصلاة المغرب قبل أن يجلسوا إلى مائدة الأمير يستتمون فطور الصائم.

ومدت الموائد للعامة في قصر الأمير وعلى جنباته، ونادى منادي الأمير في الطاعمين: «كل من أفطر على مائدة الأمير الليلة، فله على الأمير حق أن يحضر مائدته في كل ليلة، وله حق عياله وشَمْلِه٢٠ فيما بقي من الطعام، يحمل منه إلى داره ما يشاء.»

وأقبل الناس على طعامهم راضين هانئين، ثم صدروا عن دار الأمير في يد كل منهم سفرة لعياله، وبينه وبين الأمير ميعاد على مائدته.

وصار ذلك شأن الأمير كل يوم في رمضان، ثم كل يوم بعد رمضان.

ومَثَلَ بين يديه صاحب صدقاته، فقال: «يا مولاي، لقد بلغت نفقات مطبخ الأمير في اليوم ألف دينار، وبلغ ما دفعناه إلى المُعْوِزين من مال الصدقة ألفين في ساعات من النهار!»

قال الأمير: «لا عليك من ذلك، إنما هو مال الله، استودَعَنَا إياه لأهل عارفته،٢١ فلا تقبض يدك عن البِرِّ بأحد.»

قال: «أيَّد الله الأمير، فإنا نقف حيث جرت العادة بتوزيع الصدقة، فربما امتدت إلينا الكف المخضوبة، والمِعْصَم فيه السِّوار والكمُّ الناعم، أفنمنعها أم نعطيها؟»

قال الأمير: «ويحك! هؤلاء المستورون الذين يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف، احذر أن ترد يدًا امتدت إليك.»

وذاعت في العامة أخبار الأمير أحمد بن طولون، وتحدث الناس بألطافه وبره وعفته وتقواه، وروى راويهم ما عرفه عنه في طرسوس، وأخبر مخبرهم بما سمع عنه في سامرَّا، وقال قائلهم: نعم الأمير أبو العباس! وقال السامع: يا ليتها دولة تدوم.

وعاد الصدى إلى أحمد بن طولون بما يتحدث به الناس عنه، فاعتقده بيعة له بالإمارة على مصر لا ينقضها السلطان، وأجمع أمره على أمر …

٣

وسارت الحوادث متتابعة في سامرَّا، فقتل الخليفة المعتز وبويع المهتدي بالخلافة، ثم قتل باكباك، وآلت إمرة مصر من بعده إلى يارجوخ التركي صهر ابن طولون، فأقره على ما في يده وبسط له الرقعة،٢٢ فامتدت ولايته إلى الإسكندرية والصعيد وبَرْقة٢٣

واستمرت الحوادث تتتابع في الدولة، فقُتِل المهتدي، كما قتل المعتز من قبله؛ وتعاقب الخلفاء على عرش الدولة العباسية يقتل بعضهم بعضًا، أو يقتل الأتراك بعضَهُم بأيدي بعض، وابن طولون في مصر يدبر ما يدبر لأمره، فلم تمضِ إلا سنوات حتى كان له في مصر عرش وسلطان …

وكان على الخراج في مصر عامل٢٤ من قِبَل الخليفة «المعتمد» لا يُؤتَى من قريب،٢٥ قد اجتمع له من موارد مصر ما لم يجتمع لأمير قط، وإنه لَيَفْتَنُّ كل يوم فنونًا في تحصيل المال، حتى لقد فرض ضرائب على الكلأِ المباح،٢٦ ومصايد البحر، وصخور البرِّيَّة!
وكان على البريد كذلك عامل٢٧ من عمال الخليفة لا سلطان عليه لابن طولون، فلعله يرفع من أخبار مصر إلى الخليفة في بغداد ما لا يعلمه الأمير في مصر …
فماذا بقي لابن طولون من موارد مصر، وعلى الخراج عامل الخليفة؟ وكيف يأمن الغِرَّة٢٨ وعامل البريد مطويٌّ على سره؟

وراح ابن طولون يدبر لأمره ثانية ما يدبر …

ومثل بين يديه وفد من أهل مصر، يشكون إليه سوء ما يَلْقَوْن من عامل الخراج، ورآها الأمير فرصة سانحة لما يرجوه من أمر، وتدانى إليه الأمل فقال وفي صوته رقة: «ودِدْتُ لو كان الأمر إليَّ، إذن لأبطلت عنكم كثيرًا مما تحملون من المغارم.»

قال محمد بن هلال المصري، وكان رجلًا له فيهم خَطَرٌ ومكانة: «فإن الأمر إليك يا مولاي، لو شئت لكان، وإنما أنت الراعي ونحن الرعية، فأين منا من نفزع إليه٢٩ غيرك؟»
ولمَعَتْ عينا أحمد بن طولون، واسترعاه حديث ابن هلال،٣٠ فبسط له وجهه وأَدْنَاه، وقال في صوت خافت كأنما يتحدث به إلى نفسه، وإن حديثه لَيَبْلُغُ آذان الوفد جميعًا: «نعم، كيف يلي رجل من سامرَّا خراج مصر؟٣١ هلا كان ذلك إلى مصري يعرف من حال قومه وحاجتهم، ما لا يطَّلع عليه الغريب.»
وانبسطت نفس ابن هلال، وبدت أمارات الرضا في وجوه الوفد، فغمغم القوم شاكرين، وقد جاش في نفوسهم أمل، وانصرفوا وهم يدبرون أمرًا، والأمير يدبر أمرًا … وأجنَّت٣٢ الأرض الخصبة بذرةً إلى حصاد …

وخلا مجلس الأمير إلا من كاتِبَيْه: أبي عبد الله الواسطي، وأبي يوسف يعقوب بن إسحاق، وكان على شفَتَيِ الأمير كلام حين ابتدره الواسطى قائلًا وما يزال في أذنيه صدًى من حديث الوفد: «للهِ أنت يا مولاي! مكَّن الله لك وبسط ظلك.»

قال ابن طولون: «الحمد لله كثيرًا، تركْنا لله عز وجل شيئًا٣٣ فعوضنا منه أشياء أعظم وأجود وأحمد عاقبة: كانت نهاية ما وُعِدْنا به على قتل المستعين بالله تقليد واسط، فخفنا الله عز وجل في قتله فلم نقتله، فعوَّضَنا الله عز وجل اسمُهُ مصرَ وغيرها.»

قال أبو يوسف: «وإني لأرجو يا مولاي أن يُمَكِّن الله لك، فيمتد ملكك من حدود المغرب إلى أكناف العراق.»

قال الأمير: «صه، لقد أسرفت يا يعقوب فيما تأمُل، إن في أعناقنا لأمير المؤمنين بيعة لا ينقضها إلا الموت.»

٤

وعلا نجم ابن طولون وذاع صيته، فإن حديثه ليدور على كل لسان في مصر وفي سامرَّا، أما المصريون فقد رضُوا مذهبه وحمدوا سيرته، وقد اتخذ ابن طولون من أعيانهم بِطانة٣٤ يتألَّف بها من يليهم٣٥ من الأتباع، فيهم وجيه قومه محمد بن هلال، وفقيه الجماعة محمد بن عبد الحكم، وكبير التجار معمر الجوهري، وراهب القبط أندونه، فكانوا سببًا بينه وبين الشعب،٣٦ فراحت وفودهم تسعى إلى الخليفة المعتمد في سامرَّا، يشكرون عدله وحسن رعيته، ويطلبون تثبيته على عرش مصر.
كذلك كان أمر الشعب معه، أما أبناء الحكام وعمال الخليفة في المرافق الدنيا،٣٧ والطارئون على مصر من الشام وبغداد، وما يليها من بلاد الشرق، فقد رأوا في سيرته ما حملهم على اليقين بأنه قد يُبَيِّت النية٣٨ على الاستقلال بمصر، فمنهم من غار ونفِسَ عليه ما بلغ،٣٩ ومنهم من خاف مغبَّة ذلك٤٠ على مستقبل دولة الخلافة، فراحوا يسعون به إلى الخليفة، يزعمون أنه بسبيل التغلب على مصر والعصيان بها.
وعرف ابن طولون ما يدبَّر له فأعد عدته للدفاع، واتخذ جيشًا فيه مائة ألف فارس وما لا يحصى من الرَّجَّالة، وعديد من سفن الغزو، وعَتَاد الحرب في البر والبحر، وأرضى طموح المصريين بما أنشأ من المصانع والدور والقصور، وزيَّن حاضرته زينة يباهي بها حواضر الملوك، ووثق آصرته٤١ بالشعب بما زاد من حِبَائِهِ٤٢ وبره، وجلس للعامة يستمع إلى مظالمهم، وراح يتفقد الأسواق، ويطوف على حماره بالليل وحيدًا في الأزِقَّة يستطلع طِلْعَ الناس، وما يكون من خبرهم إذا خَلَوْا إلى أنفسهم وذوي خاصتهم … واتخذ العيون٤٣ يرصدون على أعدائه حركاتِهم في مصر وفي بغداد وسامرَّا، واصطنع له في دار الخلافة سفيرًا يكتب إليه بكل ما يبلغه من أخبار السُّعاة،٤٤ ورصد الأموال العظيمة لاصطناع الأولياء من حاشية الخليفة ومن يلوذ به، وأحدث صهرًا بينه وبين الخليفة المعتمد، واستخدم لأمره جماعة من الجوهرية وسراة التجار٤٥ في بغداد يبذلون عن أمره الأموال والهدايا لرجال الدولة، ليقيدوهم على طاعته والولاء له، تارة بالدَّيْن يوثقونهم به على الولاء، وتارات بالعوارف٤٦ والألطاف يبذلونها باسم الأمير لكل من يتوسمون فيه النفع، أو يدفعون به المضرة والمنافسة … فخرست الألسنة، وتقاصرت الهمم، ولم تبقَ إلا قالَةُ الخير على كل لسان.
وأخذ سلطان الدولة الطولونية يتسحب على ما يجاورها من بلاد الخلافة شيئًا بعد شيء، فلم تمضِ إلا سنوات، حتى امتد ملك ابن طولون من حدود المغرب إلى أكناف العراق، كما رجاها أبو يوسف يعقوب بن إسحاق،٤٧ واجتمع له الخراج والبريد والقضاء، وصار له شعار وراية واستقلَّ، فما ثمة رباط يربطه بالدولة إلا ما يؤدِّي إليها من الخراج في كل عام.

٥

استفحل الخطر على الدولة العباسية في بغداد، وأوشكت وحدتها أن تتفرق، وضغطتها الحوادث من الشرق ومن الغرب، أما في الشرق فقد بلغ عَلَوِيُّ البصرة «صاحب الزنج»٤٨ من القوة ما بلغ حتى أوشك أن يصير إليه أمر المشرق كله، وأما في الغرب فكان أحمد بن طولون.
والخليفة المعتمد على الله في قصره من بغداد مشغول بالقصف٤٩ والغناء والشراب، لا يكاد يعنيه من أمر الدولة شيء، قد كفاه أخوه طلحة «الموفَّق» أمر صاحب الزنج بالبصرة، وبذل لحربه كل ما يملك من حَوْلٍ وحيلة، وجرد له كل ما تقدر عليه الدولة من جند وعتاد … وكفاه أحمد بن طولون نفسه بما وثَّق من أمره عند الخليفة بالمال والصهر وتمويه الحديث.٥٠

وبدا للناظر من بعيد أن الدولة الإسلامية العظمى قد أوشكت أن تنهار وتتناثر قطعًا لا يمسكها سبب، ولم يكن يحمل همَّ الدولة كلها يومئذ إلا رجل واحد، هو الموفَّق أخو الخليفة، ولكن الموفق يومئذ مشغول بأمر صاحب الزنج، فمن ذا يكفيه أمر أحمد بن طولون؟ …

ولم تكن ولاية العهد يومئذ خالصة لرجل واحد، فقد جعلها المعتمد من بعده لرجلين، ولده جعفر المفوَّض، ثم أخيه طلحة الموفَّق.

ولم تكن شئون الدولة كذلك في يد واحدة تديرها كيف تشاء، فقد قسمها المعتمد بين وليَّيْ عهده، فولى ولدَه مصر والمغرب، وخص أخاه الموفَّق بالمشرق، وقد كان الموفق بما في طبيعته من الصرامة والحزم أهلًا لما ولي ليرُدَّ عن الدولة عادية الخوارج في المشرق، ويجْتَثَّ جذور الأحقاد، ولكن المفوض بطبيعته الرِّخْوة لم يكن أهلًا لما ولي … وهل كان ممكنًا أن يبلغ ابن طولون ما بلغ لو أن مصر والمغرب كانا إلى رجل فيه مثل صرامة الموفق وحزمه؟ …

على أن الموفق لم يكن يومئذ في غفلة من أمره، وهو يرى الدولة الطولونية تمد مدها حتى تبلغ أكناف العراق وتكاد تصل إلى حاضرة الخلافة، فكيف يقف هذا السيل المكتسح قبل أن يجرف في طريقه دولة بني العباس؟ كيف، وما له يد على ابن طولون، وليس إليه الأمر في شأن من شئون الغرب؟ …

لقد قضى زمانًا يدس الدسائس لأحمد بن طولون، ويؤلِّب عليه٥١ جيرانه فما أجدى ذلك عليه شيئًا، فما بقي إلا أن يسفر عن وجهه ويباديه العداوة صريحة، ولكن من أيِّ سبيل؟ …
بلى، إن ثمة حيلة لعله أن يبلغ بها: إن مصر خزانة السلطان وفيها أمواله — كذلك يراها الموفق — وقد كانت حرب الزنج غرمًا اقتضى الخليفة أن يستدين للإضاقة٥٢ كي ينفق على الجيوش التي يقودها لحرب صاحب الزنج، أفلا يبذل ابن طولون شيئًا من خزانة السلطان عونًا لجيش الخليفة إن كان على الولاء للدولة؟ …

وبعث الموفق إلى ابن طولون يطلب معونته بالمال على قتال صاحب الزنج، يريد بذلك أن يجعله بين أمرين: الطاعة الصريحة، أو العصيان السافر.

وفهم ابن طولون ما عناه الموفَّق، وعلم أن وراء ذلك أمرًا يكاد يلمح بواكيره، فأراد أن يبلي عذرًا مما اعتزم،٥٣ كي لا تكون عليه حجة من بعد، فبعث إلى الموفق بمال …
وأحصى الموفق ما بعث به إليه ابن طولون، فإذا شيء لا يكاد يغني، فكتب إليه كتابًا يستصغر ما أرسله، ونفث في كتابه ذات صدره وسخيمة نفسه.٥٤
وأجابه ابن طولون: «وأيُّ حساب بيني وبينك، أو حال توجب مكاتبتي بمثل هذا أو غيره؟ … أؤكَلَّفُ على الطاعة جُعْلًا،٥٥ وأُلْزَمُ للمناصحة ثمنًا؟ … أَعِنِّي على ما أوثره من لزوم العهد وتوكيد العقد بحسن العِشرة والإنصاف …»

وبلغ الموفَّقَ كتابُ ابن طولون، فأقلقه وبلغ منه مبلغًا عظيمًا …

هذا عامل من عمال الخليفة يرى الولاء للدولة مِنَّة، وكان عليه فريضة، واستعلن بنيته وكان حقيقًا بأن يستخفي.

أكان الموفق بما طلب منه يحاول إيقاعه، أم يستعجله بالعصيان؟

واستحكمت العداوة بين الرجلين منذ اليوم، وأيقن كل منهما أنه من صاحبه بإزاء خَصم قويٍّ إن لم يأكله أكله، فإما دولة بني العباس وإما أحمد بن طولون.

•••

هز الموفق رأسه أسفًا، وأغرق في صمت، وأظلته سحابة عابرة فرفع إليها رأسه، وغمغم بكلام لا يبين، وحضرته كلمة جدِّه الرشيد للسحابة الممطرة: «أمطِري حيث شئتِ فسيأتيني خراجك.»٥٦ فابتسم الموفق ابتسامة كاسفة، وهو يقول في تحسر: «أوشكَتْ واللهِ كلمة الرشيد أن تتمصَّر، فتصير دولة الخلافة طولونية.»٥٧

قال جليسه: «هوِّنْ عليك أيها الأمير، فسيكفيكه الله بغير جهد عليك، وماذا يكون شأن ابن طولون، وأنت أنت؟»

قال الموفق: «شأنه شأن الجالس على عرش مصر: في يده ثروة الدنيا، وتحت قدميه كنوز الفراعين، وأنا فيما ترى من الجهد والبلاء بحرب صاحب الزنج.»

•••

وألقت ضرورات السياسة قناعًا على ما بين الرجلين من عداوة إلى حين، ولكنَّ كليهما كان يعلم أين مكانه من صاحبه على التحديد …

أما ابن طولون فكان يعلم أن الخلافة صائرة يومًا إلى الموفق، وسيبلغ بهذا الحق من قوة الأثر في نفوس المسلمين من رعايا دولة الخلافة ما يَفُلُّ٥٨ به سيف ابن طولون، ويحطم كبرياءه …

وأما الموفق فلم يكن يحمل من هم ابن طولون إلا أمرًا واحدًا، لو كُفِيَهُ لانهارت الدولة الطولونية كلها، فلم تَقُمْ لها قائمة بعدُ، ذلك هو غنى أحمد بن طولون بالمال، هذا المال الذي يشتري به الجند للحرب، ويصطنع به الصنائع للسياسة، فيغلب به ويتمكن.

وراح كلا الرجلين يدبر أمره ليحطم صاحبه من حيث يظن به القوة!

٦

عاد الأمير أحمد بن طولون من جولة في بعض أسواق المدينة ذات مساء، فأوى إلى فراشه مطمئنًا هادئ النفس، ثم أصبح كئيبًا قلقًا كأنما حطَّ على صدره كلُّ هم الدنيا … فدعا عدة من أصحاب الرسائل٥٩ فتقدم إليهم أن يتفرقوا في المدينة يبحثون عن غلامه «لؤلؤ»، فيأتون به من حيث كان …

وكان لؤلؤ من أصحاب الحظوة والجاه عند ابن طولون، قد صحبه الأمير طويلًا ووثق به وائتمنه على سره، حتى لَيَكِلُ إليه من مهام الدولة ما لا يكل إلى ولده.

واتخذ الأمير مجلسه في «قبة الهواء»٦٠ يُسَرِّح النظر بين النيل والجبل، وفي قلبه من الهم والقلق ما به، انتظارًا لمقدم لؤلؤ …

وتفرق رسل الأمير في المدينة، يلتمسون لؤلؤًا حتى وجدوه فَوَافَوْا به الأمير في مجلسه، ومَثَلَ لؤلؤ بين يدي مولاه، وإن نفسه لتكاد تخرج مما به من الذعر والفزع …

وسأله الأمير قَلِقًا: «حدثني يا لؤلؤ: أفي غلمانك فتى أزرق أشقر من وافدة بغداد،٦١ يشرف في الإصطبل على دوابك، اسمه محمد بن سليمان؟» قال لؤلؤ ولم يَزُلْ ما به من الذعر والفزع: «أنظرُ يا مولاي، فإني لا أكاد أحقق وجوه غلماني.»

قال الأمير: «فإذا لقيتَه فاصرفه، أو فاقتله، فقد رأيته في المنام باسمه وصفته منذ بضعة أشهر، وفي يده مكنسة يكنس بها قصري وسائر دُوري وحُجَري، وعاودني هذا الحلم البارحة بصورته التي رأيت من قبل، كأنه إنذار من وراء الغيب بأن هذا الفتى يدبر للدولة شرًّا.»

قال لؤلؤ وقد سُرِّي عنه:٦٢ «كفاك الله يا مولاي ما تخاف.»
ثم انصرف عن مجلس سيده، وهو لا يكاد يصدق بالنجاة، وذهب إلى إصطبل الدواب، فإذا شاب أزرق أشقر في ثياب خَلَقٍ وزي رثٍّ،٦٣ فوقف إليه وسأله عن اسمه وعمله، فأجابه … قال لؤلؤ دهشًا: «ويحك! أنت محمد بن سليمان؟ فمن أين يعرفك الأمير؟»

قال الفتى: «يا مولاي، والله ما رآني قط ولا وقعَتْ عينه عليَّ إلا في الطريق، ولا محلِّي محل من يتصدى للقائه.»

قال لؤلؤ: «لقد أمرني مولاي أن أحتزَّ رأسك لرؤيا رآها …»

قال الفتى فزعًا: «وأي ذنب لي يا سيدي في الأحلام؟»

فهدأت نفس لؤلؤ، وقال: «صدقْتَ، فَتَوَقَّ — ويحك — ولا تتعرف إلى أحد من حاشيته.»

وكان محمد بن سليمان في رثاثته وخُلقَانه عينًا من عيون الموفَّق على الطولونية، وكان له دهاء وتدبير، فلم يزل يحتال لأمره من كل وجه حتى صار أدنى إلى لؤلؤ من سائر غلمانه، فصارت عينه على أسرار الدولة، ويده على أموالها؛ لمكانته من مولاه، ومكانة مولاه من أحمد بن طولون.

ومضى زمان، وإذا لؤلؤ خادم الطولونية الأول يتنكر لها ويخرج على سيده، ويحتال حيلته حتى يجتمع إليه من مال الخراج مال، فيخرج إلى الشام ثم يتخذ طريقه إلى بغداد منحازًا إلى الموفق بما اجتمع له من مال الدولة، لا يصحبه من غلمانه إلا خادمه محمد بن سليمان الأزرق.

وعرف ابن طولون كيف يدبر له الموفق وأعوانه في مصر، فأجمع أمره على خطة تحطم كبريائه، وتفُلُّ غَرْبَه.

٧

كان الخليفة المعتمد في مجلس الشراب من قصره بسامرَّا، قد تكنَّفه نُدْمانه على النمارق،٦٤ وصُفَّتْ بين يديه أقداح البلَّوْر على صينية من جزْع،٦٥ وأرخِيَتْ على النوافذ ستائر الديباج، تتلعب بها النسمات، فتتموج في سكون، وتنعكس عليها الأضواء فتشع بمثل ألوان الطيف، يتضرب لون منها في لون، ولكن الخليفة وندمانه كانوا مطرقين في صمت، لا تمتد يد إلى قَدَح، ولا تنبِسُ شَفَةٌ بصوت، ولا حس ولا حركة، فلولا ما ينفح في مجامر المسك من عطر البخور ودفء النار لحسبه من يرى مجلسًا مرسومًا على أديم قد أبدع تصويره رسام بارع فأتقنه تمثيلًا وصورة، لم يَفُتْهُ من مظاهر الحياة إلا الصوت والحركة.
وكان الخليفة حقيقًا بما هو فيه من العبوس والكآبة، فقد بلغ أخوه الموفق من التضييق عليه مبلغًا بعيدًا، استئثارًا بالسلطة واستقلالًا بالأمر، فاحتجزه في هذا القصر من سامرَّا، وأخذ عليه المذاهب، ووكَّل به العيون وأصحاب الأخبار، وكفَّ يده عن التصرف في شيء من مال الدولة، حتى لكأن الخليفة هو طلحة الموفق نفسه، فليس للمعتمد من أمر الخلافة إلا لقب أمير المؤمنين، وقد بلغ الأمر غايته اليوم، فها هو ذا خازن القصر يأبى على الخليفة أن يحبوَ نديمًا٦٦ من ندمانه ثلاثمائة دينار، فيردُّ توقيعه بلا جواب.

ومضت فترة صمت، ثم رفع المعتمد رأسه وفي عينيه انكسار، وأنشد:

أليس من العجائب أن مثلي
يرى ما قلَّ ممتنعًا عليه؟
وتؤخذ باسمه الدنيا جميعًا
وما من ذاك شيء في يديه!
إليه تُحمَل الأموالُ طُرًّا
ويُمنَع بعض ما يُجبَى إليه!
وقطع عليه دخول غلامه «نحرير» يؤذنه بحضور «طيفور التركي»، صاحب خبر ابن طولون وسفيره في الحضرة٦٧

ومثل طيفور بين يَدَيِ الخليفة فحيا وبالغ في التحية ودفع إليه صكًّا من مولاه بمائة ألف دينار، وكتابًا مختومًا بخاتمه، ثم جلس طيفور حيث انتهى به المجلس.

وفض الخليفة كتاب صاحب مصر، فما مضى في قراءته أسطرًا حتى انبسط من عبوس وتهلل من كآبة، ثم دفع الكتاب إلى أدنى جلسائه إليه، فمضى يقرأ منه:
… وقد منعني الطعام والشراب والنوم خوفي على أمير المؤمنين من مكروه يلحقه، مع ما له في عنقي من الأيمان المُوَكَّدة، وقد اجتمع عندي مائة ألف عنان٦٨ أنجاد، وأنا أرى لسيدي أمير المؤمنين الانجذاب٦٩ إلى مصر، يقيم بها كرسي الخلافة، ويجعلها حاضرة سلطانه، فإنَّ أمْرَهُ — إن شاء الله — يرجع بعد الامتهان إلى نهاية العز، ولا يتهيأ لأخيه فيه شيء مما يُخافُ عليه منه في كل لحظة، فإن رأى أمير المؤمنين — أيده الله — ذلك صوابًا فَعَلَ …

وانتهى أمير المؤمنين من قراءة الكتاب فلم يتلبث، وأزمع منذ الساعة أن ينقل حاضرة الخلافة إلى مصر، وتهيأ للرحلة منذ الغد …

وأوشكت دولة الخلافة أن تصير طولونية.

٨

جدَّت الخيل جِدَّها من نصيبين إلى المَوْصِل،٧٠ عليها أربعة آلاف غلام من الفرسان الأنجاد، يقدمهم إسحاق بن كنداج الخزري قائد جند الموفق، ليرد الخليفة على وجهه …
وكان الخليفة قد أبعد في طريقه إلى مصر، وحط رحاله فيما بين الموصل والحديثة مُريحًا،٧١ ينتظر متاعه وحشمه ومن وراءه من أهله وخاصته، وقد ضرب ابن طولون فساطيطه٧٢ وخيم بدمشق في انتظار مقدم الخليفة، وقد أوشك أن يتم له من تدبيره ما يؤَمِّل …

وأدركت خيلُ الموفق الخليفة، حيث حطَّ رحاله فردته وأصحابه إلى سامرَّا، ووُكِّل به قائد في خمسمائة رجل، يمنعون أن يدخل إليه أحد حيث أُنزِل من دار ابن الخصيب، فلا ينفذ إلى قصر من قصوره، ولا ينفذ إليه أحد من مواليه …

وخلع الموفق على إسحاق بن كنداج ومن معه من القواد ولقَّبه وأحسن إليه، وعقد له على مصر٧٣ مكان أحمد بن طولون، وترك له أمر تأديبه وتقويض عرشه!

وتمزق القناع عما بين الرجلين من عداوة، ولكن الموفق لم يكن قد فرغ من حرب صاحب الزنج، فليس له طاقة بأن يحارب أحمد بن طولون حربًا سافرة، وفي يد ابن طولون خزائن مصر، وتحت قدميه كنوز الفراعين …

وسعى الوسطاء بالهدنة بين الرجلين، فاستقر الأمر بينهما هونًا ما، واستسرت٧٤ العداوة بعد إعلان، وإن لم يزل أتباع ابن طولون وجند إسحاق يتجاذبون الحبل على حدود الدولتين!
وفرغ الموفق من أمر صاحب الزنج في جمادى الأولى سنة ٢٧٠ بعد حرب استمرت بضع عشرة سنة، كلها جراح ومغارم وتضحيات، فما انتهت حتى كانت خزائن الدولة صفرًا٧٥ من المال، وحتى كان كل جنديٍّ من جند الدولة في حاجة إلى نومة عميقة في فراش دافئ لا يوقظه نفير الحرب.

ومات أحمد بن طولون في ذي القَعْدة من السنة نفسها، وقد خلف لولده دولة ثبتت أركانها على ثلاث دعائم: من حب الرعية، وقوة الجيش، والغنى بالمال.

وتقدم أبو الجيش «خُمَارَوَيْهِ» بن أحمد بن طولون إلى خازنه أن يحصي له ما خلف أبوه من المال؛ فقدم إليه الخازن حسابه:
عشرة آلاف ألف دينار (عشرة ملايين)، وسبعة آلاف مملوك، وبضعة عشر ألفًا من الأفراس والجمال والبغال ودواب الحمل، وبضع مئات من المراكب الخاصة والعامة، وأربعة وعشرون ألف غلام، بينهم أربعة آلاف من السودان ذوي الأيْدِ والنجدة، وعشرة آلاف بدرة مختومة،٧٦ و…

قال خمارويه: «حسْبُك! فرِّق في الجند للبَيْعَة رزق سنة — تسعمائة ألف دينار — باسم أبي الجيش خمارويه ملك مصر وبَرْقة والشام والثغور.»

وجلس خمارويه على العرش، واتخذ التاج والصولجان.

١  الموالي: الأجانب الذين لا يجمعهم بالعرب نسب.
٢  سامرا: «سُرَّ مَنْ رَأَى»: مدينة بالعراق على شاطئ دجلة بناها المعتصم سنة ٢٢١ﻫ، وكان فيها دار الحُكْم من بعده.
٣  الازدراء: المعابة، الانتقاد.
٤  الأدم: الجلد.
٥  الثغر: بلد على حدود العدو.
٦  قُتِلَ على سريره بأيدي مواليه.
٧  طرسوس: ثغر من ثغور العرب على الحدود الرومية بالقرب من حلب.
٨  واسط: مدينة بالعراق بين البصرة والكوفة عمرها الحجاج في القرن الأول.
٩  عينًا عليه: جاسوسًا عليه.
١٠  قلدتك: جعلتك حاكمًا لمدينة واسط.
١١  الخراج: الضرائب.
١٢  الحضرة: العاصمة.
١٣  إرهاصًا: علامة.
١٤  أظل أوانه: حان موعده.
١٥  قالوا: آمين.
١٦  محمد بن عبد الحكم: عالم من علماء مصر له كتاب مشهور في التاريخ.
١٧  الجور: الظلم، والملتزم: هو الشخص الذي كان يلتزم للأمير بأن يجبي له الخراج.
١٨  الله يتولى أمرها.
١٩  انحرافًا عن الطريق.
٢٠  شمله: جماعته.
٢١  الذين يستحقون المعروف.
٢٢  زاد مساحة ملكه.
٢٣  برقة: ولاية من ليبيا، وعاصمتها اليوم «بنغازي».
٢٤  انظر التعريف.
٢٥  ليس التغلب عليه سهلًا.
٢٦  العشب.
٢٧  انظر التعريف.
٢٨  الغرة: المفاجأة.
٢٩  نلجأ إليه.
٣٠  تنبَّه إليه.
٣١  كيف يتولى رجل غريب.
٣٢  أجنت: حَفِظَت في بطنها.
٣٣  يشير إلى تركه ولاية واسط، انظر الفصل الأول.
٣٤  بطانة: أصحابًا يلازمونه.
٣٥  من يليهم: مَنْ وراءهم.
٣٦  صلة بينه وبين الشعب.
٣٧  المرافق الدنيا: المصالح الصغيرة.
٣٨  يببيت النية: يعقد العزم.
٣٩  نفِسَ عليه: استعظم بلوغه.
٤٠  مغبة ذلك: عاقبة ذلك.
٤١  آصرته: علاقته.
٤٢  حبائه: كرمه.
٤٣  الجواسيس.
٤٤  الذين يسعون بأخباره إلى الخليفة.
٤٥  أغنياء التجار.
٤٦  الهدايا.
٤٧  انظر الفصل الأول.
٤٨  هو ثائر من البصرة ثار على الدولة واتخذ له مذهبًا جديدًا في الدين وفي السياسة، يشبه الشيوعية، وألف من أتباعه جيشًا يحارب الخليفة، وتشتهر هذه الثورة في التاريخ باسم «ثورة الزنج» اقرأ قصة «الثائر الأحمر» لعلي أحمد باكثير.
٤٩  باللهو.
٥٠  تزويق الحديث.
٥١  يحرض عليه.
٥٢  الإضاقة: قلة المال.
٥٣  أن يكون له عذر.
٥٤  عبَّر في الكتاب عن كراهيته.
٥٥  الجعل: العمولة، أو الثمن، أو المكافأة.
٥٦  يروى أن هارون الرشيد مرت على رأسه ذات يوم سحابة، والسحابة عند العرب أمارة الخصب، فرفع إليها الرشيد رأسه وقال تلك العبارة، يعني أن ملكه متسع يكاد يشمل الدنيا، فأي مكان تمطر فيه هذه السحابة فستنبت زرعًا في أرضٍ مملوكةٍ له، فلا بد أن يأتيه خراجها.
٥٧  يعني أوشك ابن طولون أن يبسط سلطانه على بلاد الخليفة كلها، ويقول في مصر مثل كلمة الرشيد.
٥٨  يفل: يحطم.
٥٩  المخبرين.
٦٠  قبة الهواء: مجلس من مجالس الأمير يطل على النيل، كان يعد من أحسن العمائر الطولونية في مصر.
٦١  القادمين من بغداد.
٦٢  خفَّ بعضُ ما به.
٦٣  بالي الثوب قبيح الزي.
٦٤  أحاطوا به على الحشايا.
٦٥  الجزْع: خرز فيه سواد وبياض.
٦٦  يهب إلى نديم.
٦٧  سفير ابن طولون في بلاط الخليفة.
٦٨  فارس.
٦٩  القدوم.
٧٠  نصيبين بلد من بلاد الجزيرة على طريق القوافل بين الموصل والشام، والموصل من بلاد العراق.
٧١  يطلب الراحة، والحديثة: قرية على الفرات.
٧٢  خيامه.
٧٣  جعله واليًا على مصر.
٧٤  اختفت.
٧٥  خالية.
٧٦  كيس.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤