الفصل الثاني

خمارويه ابن طولون

١

قال أبو العباس أحمد بن الموفق لأبيه: «يا أبه! لقد جاءك النبأ بمهْلِكِ أحمد بن طولون صاحب مصر، أَفَلَسْتَ ترى خلاصك منه حين فراغك من أمر صاحب الزنج أذانًا من الله بحرب تلك الدولة الناشئة في العصيان؟ … لقد بلغت دولة بني طولون ما بلغت حتى لَتُوشِكُ أن تغزونا في ديارنا، فإن يكن ثَمَّ قِصاص١ فهذا أوانه.»
قال الموفق: «لَبِّثْ قليلًا يا بُنَيَّ،٢ إنك لست تدري على أي هول تُقبِل من حرب هذه الدولة، وقد مات أحمد بن طولون، ودَدِتْ لو كان اليوم حيًّا، إذن لَنِلْتُ منه منالًا، فذلك رجل رُبِّي في خدمتنا، وشاهد قوة أمرنا وأحوالنا، فامتلأ من ذلك قلبه، وكبرت سطوتنا في عينه، وقد خلَّف لولده دولة واسعة، وجيشًا وعدة، ومالًا لا يبلغه الإحصاء، وقد اجتمع لولده إلى ذلك قلة التهيب لنا؛ إذ لم يشاهد من أحوالنا ما شاهده أبوه، وليس بينه وبيننا ذمة٣ تعطفه، ولا له في دولتنا عهد يرده، وإنما يرى كل ما في يده تراثًا خلَّفه له أبوه، فإنه ليدافع عنه دفاع صاحب الحق عن حقه، وما أجدَرَهُ بذلك أن يكيدنا ويبلغ منا! ونحن اليوم يا بُنَيَّ قافلون٤ من حرب استنفدت منا مالًا وجهدًا، وعُدَّة وعددًا، وإنه على ما وصفتُ لك من البأس والغنى، فلعل التريُّث في أمره أن يفتق لنا حيلة، ويبلغنا منه ما نأمل إن شاء الله.»
وبدا الامتعاض في وجه أبي العباس، وغلبه شِمَاسُه،٥ فقال وفي صوته رنة لم يسمع أبوه مثلها قبل اليوم من ولده: «فكأنك يا أبتِ تريد أن تَمُدَّ لخمارويه حتى يبسط ظله، فما ننهض لقتاله إلا وقد وطئتنا خيله واجتازت الدولة من أطرافها.»
قال أبوه: «مه!٦ … لكأنك أغْيَرُ٧ مني على الدولة وأبصَرُ بسياسة المُلْك!»
قال أبو العباس: «لست أقولها، وإنما أرى بك رقَّة على بني طولون، وكأني بك قد ذكرت الساعة ما كان من عطف أحمد بن طولون على ابن عمك المستعين حين خُلِع وأُريدَ ابنُ طولون على قتله، فأنت بهذه الذكرى تريد أن تحفظه في ولده، ولقد رأيتك يوم جاءك منعاه وإنَّ عينك لتدمع، فكأنْ قد ندمتَ على ما كان منك له في حياته، ونسيتَ ما قدمت يداه، أم تراك قد خشيت أن تعجِزَ عن الظَّفَر بولده مما نالك من الجَهد في حرب الزنج، فأنا لك بهذا الأمر،٨ وقد شهدت بلائي، وعرفت من خبري في حرب البصرة.»
وتململ الموفق في مجلسه، وهمَّ أن يجيب، ولكنَّ عَبْرَةً سبقته منحدرة على خده حتى توارت في لحيته، فصمت برهة، ثم قال: «يا ليت يا أبا العباس … وأنت تعلم أنْ ليس شيء أحب إلى نفسي مِنْ عِزِّ دولة الخلافة، وليس أحد من بعْدُ أعز عليَّ منك، ولكنَّ بني طولون لن يُؤْتَوْا من قريب،٩ ما دامت في يدهم خزائن مصر، وتحت أرجلهم كنوز الفراعنة، فإن استطعت فانفذ إليهم من هذا الباب، فإنك إن أنفدْتَ المال من خزائنهم فقد انتهيت من الأمر وبلغْتَ الغاية، أَفَتُرَاكَ تقدر؟»

قال أبو العباس: «فسأنفذ إليهم من هذا الباب ومن كل باب حتى تنقضَّ على رءوسهم دولتهم، وسألحق منذ اليوم بجيش إسحاق لحرب خمارويه، فهل أذنت يا أبت؟»

قال الموفق: «اذهب يا بُنَيَّ مكلوءًا،١٠ ولعل الله أن يُبَصِّرَك ويَرُدَّك إليَّ راشدًا موفورًا.»
وخلف أبو العباس أباه في مجلسه يدبِّر من أمره وأمر الدولة ما يدبر، ومضى فلبس شِكَّتَه١١ واتخذ أُهْبَتَه لسفر طويل، وذهب لوجهه وهو يدندن صوتًا في شعر الهمداني:
كذبتم وبيتِ الله لا تأخذونها
مراغمة،١٢ ما دام للسيف قائم
متى تجمَعِ القلبَ الذكي وصارمًا
وأنفًا حميًّا تجتنبْك المظالمُ
ومنْ يطلبِ المال المُمَنَّع بالقَنَا١٣
يَعِشْ مُثريًا أو تخترِمْه المخارمُ
وكنت إذا قومٌ غزَوْني غزوتهم
فهل أنا في ذا يَالَهَمْدَان ظالم

٢

مضى الفارس الشاب يُغِذُّ السير١٤ نهاره وليله في غير كَلَالٍ،١٥ لا يقعد به حر الظهيرة، ولا برد السحر، ووراءه بضع مئات من غلمانه وجنده قد امتطوا صهواتهم عليهم السلاح والزرد يتبعونه فارغين من الفكر في أمر اليوم والغد، بما عودهم مولاهم من الطاعة، فإنهم لَيَمْضُون لما أمرهم، لا يسألون فيمَ خرجوا ولا أين يقصد بهم؟
وذهبت الخيل تدقدق على صخور البادية، وإنَّ سنابكها لتقدح الشرر، واختلطت صلصلة اللجم ودقدقة الخيل بصليل السلاح وخشخشة الزرد، فتألف من ذلك موسيقا لها في سكون البادية ترجيعٌ وصدًى، والركب منطلق في طريقه إلى «الرَّقَّة»،١٦ حيث عسكر إسحاق على الشاطئ الشرقي من نهر الفرات في انتظار مقدَم أبي العباس بن الموفق وغلمانه …

في ذلك الوقت كان فارس آخر عليه شعار الطولونية قد جاوز حدود مصر إلى الشام يؤيده أسطول بحريٌّ قد جاوز مضيق دمياط ومضى موازيًا له في البحر؛ لتحصين الشواطئ الشامية، هذا الفارس هو أبو عبد الله الواسطي وزير الدولة الطولونية ورفيق نشأتها، وقد عقد له خمارويه بن طولون ملك مصر وبرقة والشام والثغور على جيش كبير، وأخرجه للقاء إسحاق.

ولكنَّ أبا عبد الله الواسطي لم يكد يفصل عن أرض مصر حتى عرض له أمر من أمره فتوقف برهة، وبلغه حين وقف رسول من قِبَل الموفق في بغداد عليه سواده،١٧ وفي يده كتاب من الموفق، ونظر أبو عبد الله في الكتاب، ثم أطرق ساعة يفكر في أمره وأمر هذه الدولة الناشئة التي وَزَرَ١٨ بضعة عشر عامًا لأميرها الأول، وحمل لواء الجيش للدفاع عن حدودها في عهد أميرها الثاني، ثم عاد ينظر في كتاب الموفق وهو يفكر في أمر دولة الخلافة العظمى حيث كانت نشأته الأولى، وذكر الماضي والمستقبل، ووازن بين حال وحال، فما هي إلا خطرة فكر حتى خلع الشعار وحطم اللواء، واتخذ طريقه مع رسول الموفق إلى بغداد.

•••

وكان جيش المصريين بلا أمير حين زحف إسحاق بجيشه يصحبه محمد بن أبي الساج وأبو العباس بن الموفق، فاجتاز الفرات إلى أرض الشام، ولم يلقَ الجيش الفاتح في طريقه كيدًا، فتسلم قِنسْرِين،١٩ والثغور، وأوغل في مملكة بني طولون.

وبلغ النبأ خمارويه بن أحمد بن طولون فعبَّأ جيشه وخرج للقائهم في سبعين ألفًا من المصريين، عليهم السلاح والزرد، ولكن جيش إسحاق لم يتلبث ومضى في طريقة، فما هي إلا جولة وجولة حتى غلب إسحاق على دمشق ففتحها، وانحدر إلى فلسطين يطلب عرش مصر أو رأس خمارويه، وأبو العباس بن الموفق على المقدمة يُغَنِّي لنفسه في شعر كليب بن وائل:

سأمضي له قُدْمًا ولو شاب في الذي
أَهُمُّ به فيما صنعتُ المقادمُ٢٠
مخافةَ قولٍ أن يخالف فعله
وأن يهدم العزَّ المُشَيَّدَ هادمُ

ومضت أسابيع ثم التقى الجيشان، ورأى أبو العباس وجه خمارويه، ورأى خمارويه وجه أبي العباس، واقتتل الشابان اللذان ترتبط بهما مصاير الدولتين … ثم كانت الوقعة التي شابت لها مقادم أبي العباس، فخلف وراءه جنده وأتباعه وما احتاز من مغانم، وفر على أدباره وحيدًا يلتمس السلامة، فما وقف به فرسه حتى بلغ أبواب دمشق، ولكن دمشق يومئذ كانت قد بلغها النبأ، فأغلقت أبوابها دونه، وتركته على الطريق يلتمس الدفء والمأوى فلا يكاد يجد، واستأنف الفرس عدوه بفارسه المنهزم، حتى بلغ ثغر طرسوس، ولكن المقام لم يَطِبْ للأمير في طرسوس، كما لم يَطِبْ له المقام من قبل، فقد خاصمه «يا زمان» البحري صاحب الثغر، وثار به أهل المدينة، فَأَجْلَوْهُ عن ديارهم، فخرج وحيدًا طريدًا قد ضاقت عليه الأرض، فاعتلى ظهر جواده وأطلق له العِنان، حتى بلغ قصر أبيه الموفق في بغداد بعد غياب عام ونصف عام في حرب لم يظفر فيها بغير الإياب …

وأوى الشاب الثائر إلى بيته صامتًا مكروبًا، لا يكاد يجد مساغًا للطعام والشراب، ولا سبيلًا إلى المنام.

٣

قال الموفق لولده: «الحمد لله يا بنيَّ إذ ردك إليَّ راشدًا موفورًا، فلا تأسَ٢١ على ما كان، فإن للدول كما للناس آجالًا، إذا جاء أجلهم لايستأخرون ساعة ولا يستقدمون.»

وهمَّ أبو العباس أن يجيب فذابت الكلمات على طرَف لسانه، ومضى أبوه في حديثه: «… وإنما يأتي أجل بني طولون يوم تصفرُ أيديهم من المال، فلا يجد الجند يومئذ لهم رزقًا في دولتهم، ولا يجدون هم في أيديهم من المال ما يرشون به الوزراء ويصطنعون القواد … وقد تولى اليوم أمرهم إسحاق ومحمد بن أبي الساج، كل منهما يطمع في عرش الطولونية، فلا يزالان يطلبان لها الغرة ويضعفانها بما يثيران في بلادها من أسباب الفتنة، فدعهما يا بني وما تولياه من أمرٍ حتى يأذن الأجل.»

قال أبو العباس: «يا أبَهْ …»

قال أبوه: «اصمت لا أب لك! إنما هي سياسة الدولة، وقد جرَّبْتَ ما جربت حتى رأيت عاقبة أمرك.»

وغلى الدم في رأس أبي العباس، وهمَّ بالكلمة التي لم يقُلْها٢٢ ثم أقصر واتخذ سبيله إلى الباب صامتًا، وأبوه ينظر إليه أَسْوَانَ.٢٣

•••

وكرَّ إسحاق ومحمد بن أبي الساج راجعَيْنِ بمن معهما من فلول الجيش إلى الحدود يتربصون أن تحين لهم فرصة، وسِيقَ الأسرى منهم إلى مصر.

وقال خمارويه لصاحب خزانته، وقد اطمأن به مجلسه في قصر الميدان بحاضرة ملكه: «انظر كم عدد هؤلاء الأسرى، فادفع إلى كلٍّ منهم ثلاثمائة درهم، فإنما هم إخواننا في الدِّين، وعُدَّتنا في حرب أهل الشرك، وقد نزلوا ديارنا، فلهم علينا حق الضيف على مضيفه.»

ثم أشرف خمارويه عليهم فخاطبهم: «إنما أنتم ضيوفنا، فمن أراد منكم أن يقيم بيننا فله علينا حق المواطن في وطنه، ومن أراد الرحيل فقد أذنَّا له.»

فعجَّ الأسرى بالدعاء لمصر وأميرها، واستأسروا له طائعين فكانوا جندًا من جنده.

وذاع في الناس ما فعله خمارويه بأسراه، وما أغدق عليهم من بره، وراح الخبر يتنقل على الأفواه وينحدر مع الركبان حتى بلغ شاطئ الفرات، حيث كان يقيم عسكر إسحاق في انتظار الموقعة التي زعم أنْ سَيُقَوِّضُ بها عرش بني طولون.

وقال جندي من جند إسحاق لصاحبه: «أسمعْتَ يا أخا ناجيةَ ما فعل ملك مصر؟»

فابتسم صاحبه وقال: «نعم، والله لئن كانت الموقعة لأستأسرنَّ له، فيكون لي على ضفاف النيل دار وجار.»

قال محدثه ضاحكًا: «… وثلاثمائة دينار.»

كان الجند في مضاربهم يتحدثون هذا الحديث وأشباهه جادين أو هازلين، وإن في خيمة القيادة لحديثًا له طعم آخر، يدور بين القائدَيْنِ اللذين يليان أمر الجيش: إسحاق بن كنداج، ومحمد بن أبي الساج.

قال إسحاق: «… فإن الموفق قد عقد لي اللواء وولاني مصر، فهي لي حتى يخلعني عنها السلطان.»

قال ابن أبي الساج: «وأنا، أين يكون موضعي، ولك الجند والإمارة؟ أتراك أدنى مني منزلة إلى الموفق، أو أبْصَرَ بشئون الحكم، أو أَعْرَفَ بفنون الحرب؟»

قال إسحاق: «وي!٢٤ شئون الحكم وفنون الحرب معًا؟ لا ترضى حتى يجتمع لك الأمران كلاهما؟ على رسلك!٢٥ أو فاطلب إلى ذلك القضاء والخراج والبريد! …»

وغضب ابن أبي الساج غضبة أعجمية … فقال، وقد وضع يده على قائم سيفه: «أدعوى وسخرية!»

ثم رد يده إلى موضعها وقال في صوت يحاول أن يكون أكثر هدوءًا مما يدل عليه انفعاله: «ولكن لا، سأدعك وما اخترت لنفسك، لتختبر قوتك، وتعرف قدرتك في الميدان وحيدًا لا يسندك ابن أبي الساج.»

ودار على عقبيه فخلَّف إسحاق وراءه، وخرج من ساعته إلى النهر فاستقل زورقًا عبر به الفرات إلى الشام، حيث يلحق بخمارويه مستأمنًا يعرض عليه طاعته.

٤

لم يَطُلْ مقام خمارويه بمصر بعد الوقعة التي كانت، فما هو إلا أن دبر شئون الحاضرة، وجدد آلة الحكم، وجمع شتات السلطان، ثم أخذ يعبئ جيشه لأمر قد خط خطته، وأحكم تدبيره، وكأنما كانت تلك المعركة التي خاض غمرتها منذ بضعة عشر شهرًا أذانًا له بفتح جديد، فخرج إلى الشام في جيش قويٍّ، قد استكمل أهبته واستتم عدته وعدده، وبلغ دمشق فأقام بها حينًا ثم أصعد في البادية موليًّا وجهه شطر العراق …

ولقيه في الطريق محمد بن أبي الساج، فانضم إليه بمن وراءه من غلمانه وجنده، ثم قصد إسحاق في الرقة، فعبر إليه الفرات مع ابن أبي الساج فأزاحه عن موضعه واشتد وراءه عدْوًا، وهو يدك الحصون ويحوز البلاد، حتى غلب على الجزيرة والموصل وبلغ سامرَّا، حيث كانت حاضرة الخلافة، وخطب له محمد بن أبي الساج على منابر الجزيرة والموصل ودعا له.

وخفق قلب الدولة هيبة ورهبة لخمارويه، ورددت الآفاق صدى فتوحه المظفرة، وخبا٢٦ كل نجم إلا نجمه، فلم يَعُدْ أحد يذكر إلا اسم خمارويه، وبلغ من المكانة ما يبلغ فاتح بسيفه.

وسعى الوسطاء بالصلح بينه وبين الموفق فكان، وكتب الخليفة المعتضد بيده عهد الصلح، ووقَّعه الموفق وولده، واعترفت له الدولة بالولاية على مصر والشام والثغور.

وعاد خمارويه من حيث أتى، وسأله محمد بن أبي الساج أن يوليه الجزيرة والموصل، يحكمهما باسمه ويدعو له، ودفع إليه ولده «ديوداد» يصحبه إلى مصر، رهينة على الولاء.

•••

كتب الخليفة عهد الصلح لخمارويه، ثم أوى إلى قصره راضي النفس، موفور الهناءة، كأن لم يكن به ولا بالدولة شيء، فما خلا بنفسه حتى دعا بالشراب والندمان، وجلس غير بعيد منه مغنيه «أبو حشيشة» وقد اقترح عليه صوتًا يغنيه:

قلبي يحبك يا منى
قلبي ويبغض من يحبك
لأكون فردًا في هوا
ك فليت شعري كيف قلبك؟

فما انتهى المغني من صوته حتى خلع الخليفة وقاره، وقد نال منه الشراب واستخفه الطرب، فرمى قَلَنْسُوتَهُ ودار في الغرفة يرقص، ولم يزل يدور ويدور حتى سقط من الإعياء بين أيدي غلمانه، فحملوه إلى قصر الحرم، لا يحس ولا يعي.

ذلك كان شأن الخليفة في قصره ذلك اليوم، وقد كان ذلك شأنه في كل يوم، وفي الساعة نفسها كان في قصر آخر غير بعيد من قصر الخليفة اثنان يعنيهما من أمر الخليفة وأمر الدولة ما لا يعنيه جالسين وجهًا لوجه، قد خلا لهما المكان وازدحمت في رأسيهما الخواطر، ولكنهما مما جثم على صدريهما من الهم قد آثرا الصمت، فلا حس ولا حركة ولا بِنْت شَفَة، ولا شيء غير النظرات يتبادلانها في وجوم وأسًى، ذانك هما الأميران أبو أحمد الموفق ولي عهد الخلافة، وولده أبو العباس …

ومضت فترة قبل أن يقول الأمير الشاب لأبيه: «يا أبه … افسح لي صدرك! … لست أنكر عليك ما تفعل، ولكني أريد أن أعرف وجهه … وقد صنعت اليوم شيئًا … أفرأيتك وقد أعطيت خمارويه عهد الصلح، قد أعطيته شيئًا تملكه به أو يملكك؟ … وهل هو إلا ثائر قد خرج على مولاه، فليس له إلا السيف أو يثوبَ٢٧ إلى الطاعة والولاء؟»
قال أبوه: «نعم، وما أراني أعطيته شيئًا أملكه أو يملكني، بل أملك به نفسي وتملك به نفسك، وسيصير إليك أمر هذه الدولة يومًا، فإذا حَزَبَكَ٢٨ يومئذ أمر من أمرك ولم تجد الوسيلة فاعتصم بالأناة وحسن التأني، حتى تُمكِنَ الفرصةُ ويحين الأجل، ولا بد أن يحين …»
قال الشاب في ثورة حانقة: «… لا بد أن يحين يوم تصفر يده من المال … هكذا تقول …» وما أرى هذه ستكون يومًا، وأنت تُقْطِعُه كل يوم ملكًا جديدًا، وتُمَكِّن له فيَغْنَى وَيَشْرَه.٢٩

قال الشيخ في هدوء: «فما تصنع أنت؟»

فبدا الانكسار في وجه الأمير الشاب، وتذكر الماضي القريب فأطرق وعاد إلى الصمت …

ودخل غلام الأمير يؤذنه بحضور بعض من كان ينتظر من أصحاب سره …

وخلا الأمير بأصحاب سره، وهم بضعة نفر من أهل العزم والقوة، ليس فيهم إلا من يتمنى جاهدًا أن يكون على يديه مصرع خمارويه وتقويض دولته، منهم من نشأ في نعمة بني طولون، ومنهم من سلبه بنو طولون نعمته …

وتقدم الأمير إلى حاجبه أن يستوثق من الباب، فلا يأذن لقادم ولا يؤذنه بقادم، ثم أقبل على جلسائه فقال: «ماذا وراءكم من النبأ؟»

قال إسحاق: «إن مولاي لعليم بكل ما هنالك، فما تخفى عليه خافية في أطراف البلاد، ولكن هذا العهد الجديد يا مولاي! …»

قال الموفق: «خلِّ عنك ذلك العهد وحدثني بما عندك.»

قال إسحاق: «فإني لم أزل على ما عهدني مولاي، فليَرْمِ بي حيث شاء، فلن أعصي له أمرًا.»

قال الأمير: «بورك فيك يا إسحاق، وأرجو ألا ينال من عزمك ما تلقى من المكاره في سبيل حفظ الدولة من أطماع الخوارج، ولعلك أن تكون في خرجتك المقبلة إلى الشام أكثر توفيقًا وغنمًا … وسيجتمع لك الجيش قبل أن يستدير هلال العام الجديد … أما أنت يا أبا محمد!»

قال أبو محمد لؤلؤ الطولوني: «أما أنا فما نسيت بعد … وقد أعددت العدة لتحقيق ما أشار به مولاي … وقد أَجْمَعَ أَرْبَعةُ آلافِ أَسْوَدَ مِنْ غلمان خمارويه أمرَهُم على ما يعلم مولاي …»

قال الموفق: «وترى السودان أهلًا لتحقيق الخطة؟»

أجاب أبو عبد الله الواسطي: «نعم، وقد أنفذت إليهم رسولي منذ قريب بما دفع إليهم لؤلؤ من المال، وأحسب ذلك الرسول بينهم الساعة يدبر من أمرهم ما يدبر، وسيكون أول قصدهم إلى صاحب شرط خمارويه،٣٠ فإذا ظفروا به نفذوا إلى خزائن السلاح، ثم يمضي الأمر إلى غايته.»

وتحالف أصحاب السر على الكتمان ثم افترقوا.

٥

كان خمارويه في ساعة صافية من أكدار الملك، قد طابت نفسه وهدأت خواطره، فليس يشغله شيء غير أمر نفسه، وما أقل ساعات الأنس والمسرة في حياة ذوي الهمة من الملوك وأصحاب السلطان … إنهم مما يشغلهم مِنْ هِمِّ أنفسهم وهموم الناس لا يكادون يظفرون بمثل هذه الساعة إلا عابرة في العام بعد العام، كأنهم يدفعون ضريبة الجاه والسلطان من سعادتهم ومسراتهم على مقدار ما يكون سلطانهم عاليًا أو نازلًا …

وكان كل شيء في تلك الساعة ساكنًا، كأنما استقال الأمير من تكاليف الإمارة ساعة فأقاله الزمن، وقد جلس بين يديه بنوه وبناته، وقام الوصفاء والغلمان من حوله، ينظرون ما يأمر به وعلى مقربة منه جلست «أم آسية» قابلة أولاده٣١ وحاضنتهم تقص عليه نوادر طفلته اللعوب الفاتنة «قطر الندى».
وكانت «قطر الندى» أحب أطفال الأمير إليه وأدناهم منه منزلة، وكان لها جمال وظرف وقوة أسْرٍ،٣٢ وعلى أنها لم تكن قد بلغت السابعة، فقد كان لها من قوة الإدراك أن تحسن الحديث، وتحسن الاستماع، وتفصل في بعض ما يعرض لها من الأمر …

وأغفلت أم آسية فيما تقص على الأمير من خبر ابنته ما يلزمها من الاحتشام في حضرة الأمير، ورعاية الرسوم الملوكية، وقد كان لأم آسية من الحرمة عند خمارويه ما يسمح لها أن تتبسط في حضرته وتنسى الاحتشام، أليست قابلة أولاده جميعًا وحاضنتهم، ولها عليهم مثل حق العمة ودلال الخالة، فإنها لتقيس مكانتها عند الأمير بمكانتها من ولده.

وقالت: «ودِدْتُ لو أذن مولاي الأمير فقصصت عليه رؤياي ليكون لي بذلك حق منذ اليوم أن أكون ماشطة الأميرة يوم زفافها إلى أمير المؤمنين في بغداد، كما كنت حاضنتها في قصر الأمير، وقابلتها يوم استهلت.»٣٣

قال خمارويه: «هيه يا أم آسية!»

قالت: «كان ذلك منذ بضعة أشهر، وكان مولاي الأمير في سفرته إلى الشام، وخطب إليَّ ابنتي «آسية» شاب من أهل الستر والصيانة، ولم أكن أملك يومئذ ما أتجمل به، وامتنع «أبو صالح الطويل» خازن مولاي أن يدفع إليَّ ما طلبت … وإنه لبخيل …»

وضحك خمارويه وقال: «جزاك الله يا أم آسية! ما يزال هذا دأبك منذ كنت تقدمين المسألة في صدر كل حديث، قولي، وسأدفع إليك ما منعه أبو صالح.»

قالت وأطرقت: «لا زالت نعمتك ممدودة الظلال يا مولاي … ثم إنني قضيت شطرًا من الليل أتحدث إلى مولاتي «قطر الندى» — وكان بها وحشة لغيبتك — وأقص عليها من طريف الأخبار ومليح النوادر ما يؤنسها ويسليها حتى غلبها النوم، فأويت إلى مضجعي، وبعد لَأْيٍ ما٣٤ تخلصت مما كان بي من فكر في أمر ابنتي آسية، وما يلزمها من جهاز العروس، وتسرحَتْ بي الأحلام من وادٍ إلى وادٍ …»
واستمرت تقول: «ورأيتني في قصر لم ير الراءون مثله، قد أخذ زخرفه وازَّيَّن كأنه من قصور الجنة، وسألت: لمن هذا القصر؟ قالوا: هذا قصر ملك المشرق! … قلت: وما هذه الزينة؟ قالوا: اليوم تزف له عروسه بنت ملك المغرب، قلت: وهذه الزينات كلها من أجل ذلك؟ فكيف يكون مبلغه في الاحتفال والزينة لو جاءه النبأ بالفتح والنصر؟ … وكأنما لم يقع سؤالي هذا موقعًا حسنًا ممن سمع، فضحك ساخرًا كل من حولي، حتى استحييت وهممت أن أفلت من الزحام، وسمعت من يقول: ما تقول هذه الشيخة؟ أليست تعرف من يكون ملك المشرق ومَن عروسه؟ فاليوم يجتمع على عرش واحد ملكان قد دانت لسلطانهما الدنيا … وحدق في وجهي محدِّق ثم هتف: افسحوا لأم العروس! فانفرج الناس صفين كأنما مسَّتْهم عصا موسى،٣٥ ورأيتني أمشي في طريق قد فرش حُصْرًا من ذهب، ونُثِرَت عليه حبات الجوهر، وبين يديَّ وصائف كأنهن من حور الجنة يَقْدُمْنَنِي ويَتَكَنَّفْنَنِي٣٦ في طريق القصر الباذخ، وأنا أتهادى بينهن تهادي العروس، وذكرت ابنتي آسية، وتوقعت أن أراها ثمة إلى جانب زوجها «أبي الحسنات» ووطئت عتبة القصر، واجتازت بي الوصائف إلى دار الحرم، وكانت قطر الندى هي العروس جالسة على سريرها في غرفة شارعة تطل من اليمين على نهر مثل النيل، ومن الشمال على نهر تحسبه دجلة … ولم أدرِ أين أنا من أرض الله؟ فلو قلت: رأيت عرش مصر لما أسرفت في التأويل، ولو قلت: إنه عرش أمير المؤمنين في بغداد لكان حقيقًا بأن يكون …»
قالت: «وكان البخور يفوح من مجامر المسك عطرًا مسكرًا، فكأنما حملني الأريج٣٧ على جناحين من لهب فطار بي في السماوات، فما تنبهت إلا على صائح يصيح …»

•••

كان الأمير يستمع إلى حديث القابلة مأخوذًا به، كأنما يتنقل معها حيث سارت منزلة بعد منزلة، فما بلغت من حديثها هذا الحد حتى انتبه من سكرته على صيحة أخرى غير الصيحة التي وصفت أم آسية … ثم تتابعت الصيحات كأن الناس قد دهمهم الفزع الأكبر، فنهض من مجلسه عَجْلان يستطلع الخبر …

وجاء حاجبه مهرولًا يقص عليه: «السودان يا مولاي!»

قال الأمير وفي وجهه علائم الجد: «ما شأن السودان؟»

قال الغلام: «لقد اجتمعت جموعهم، فوثبوا بصاحب الشرطة على غرة٣٨ فألجئوه إلى داره، وما أراه إلا قد هلك في أيديهم.»

ولبس خمارويه شِكَّته، وقصد إلى دار صاحب الشرطة، وفي يده سيف مسلول، فما رآه السودان حتى أخذتهم هيبته، وأعجلهم سيف الأمير فمن ناله منهم هلك، وتفرق جمعهم أباديدَ ذات اليمين وذات الشمال، وتتبعهم غلمان الأمير يقتلون كل من لقوه منهم، فهلك منهم من هلك، واستخفى من استخفى، حتى يبيض وجهه، وسكنت الفتنة وأمن الناس، وعادت الحياة في مصر كما كانت: تجري مجراها آمنة مطمئنة.

وجيء إلى الأمير بهارب من السودان كان مستخفيًا في بعض أزقة المدينة، فلما استنطقه الأمير نطق …

وظهر لخمارويه بعض ما كان خافيًا من أسباب فتنة السودان، فكتب إلى الموفق في بغداد كتابًا يذكره فيه بما بينهما من عهد، ويسأله القبض على لؤلؤ الطولوني والقصاص منه، جزاء سعيه بالفتنة بين جند مصر.

وقُبِض على لؤلؤ واسْتُصْفِيَ ماله، وحُبِس في المطبق.٣٩

٦

كان محمد بن أبي الساج في كرسي الإمارة من بلاد الموصل، قد اجتمعت في يده كل أسباب السلطان، فلولا أنه قد دفع ولده «ديوداد» إلى خمارويه رهينة على الولاء لاستبد بالأمر وخلع طاعته …

على أن خواطر أخرى كانت تصطرع في نفسه، وتسلبه الطمأنينة وراحة الضمير، فإنه ليعلم من نفسه علم اليقين أنه يوم خرج لجهاد الطولونية منذ سنوات ثلاث، لم يكن يقصد إلى الإمارة والتملك والاستبداد بالحكم في بلد من بلاد الخليفة بغير رسمه، ولم يكن يُقَدِّر أن تسخر منه الحوادث هذه السخرية الأليمة، فتَحْمِلَه قسرًا على أن يغير وجهه، فيكون عاملًا من عمال خمارويه وكان حربًا عليه، ولكن إسحاق بن كنداج — ذلك الخزري٤٠ المغرور — هو الذي طوع له أن يسلك هذا المسلك بكبريائه وغطرسته وسعة أطماعه، فحمله بذلك أن يتخذ هذا الوجه.

وتأذى ابن أبي الساج مما وصلت إليه حاله، وإنه لفي الذروة من الغنى والجاه والسيادة، وراح يقلب جوانب الرأي …

وجاءته الأنباء بأن إسحاق قد اجتمع له في «الرقة» جيش، فما لبث أن نسي كل شيء مما كان يفكر فيه إلا ما بينه وبين إسحاق من عداوة، فجمع جموعه وخرج لقتاله.

والتقيا مرة ومرة، ودارت الدائرة على إسحاق دورة بعد دورة.

ولكن إسحاق لم ييئس، وإن وراءه ظهرًا يستند إليه، وإن أمامه أملًا يتنوره.٤١

واجتمع له جيشه بعد شتات، وانضم إليه من انضم، من حيث يعلم وحيث لا يعلم، فعبر الفرات إلى الشام في جيش قوي لم يجتمع له مثله …

وجاء البريد خمارويه في مصر بما كان من أمر إسحاق فعبأ جيشه واستكمل آلته ومضى …

وردَّ إسحاق على وجهه كسيرًا مهزومًا لا يقفه شيء حتى عبر إلى الرقة … واتخذ خمارويه جسرًا على الفرات فعبر إليه …

ونظر إسحاق حوله، فإذا جيشه أباديد قد تبعثر كل مبعثر، ففر بمن بقي له من الجند إلى حصن قد اتخذه هنالك يحتمي به.

ورأى الهول الهائل من جيش خمارويه يزحف إليه من أمام، وذكر الكمين الذي يتربص به من جيش ابن أبي الساج من وراء، فلم يرَ لنفسه مذهبًا إلا أن يرسل إلى خمارويه مستأمنًا يسأله الصفح ويعاهده على الولاء.

وأمنه خمارويه وولاه الجزيرة وما والاها.

واجتمع في قبضة خمارويه القائدان اللذان انعقد بهما أمل الموفق في القضاء على دولة بني طولون: إسحاق بن كنداج، ومحمد بن أبي الساج، فإذا هما قد تجاورا صديقين على إمارتين من بلاد الخليفة: الجزيرة والموصل، يليان أمرهما٤٢ باسم ملك مصر والشام والثغور: خمارويه بن أحمد بن طولون.

وضحك القدر ساخرًا ضحكة رن صداها في الدولة بين أقطارها الأربعة، وبلغ النبأ بغداد حيث كان الموفق وولده أبو العباس في انتظار أخبار المعركة، وحيث كان الخليفة المعتمد بين الندمان والقيان لا يكاد يُفِيقُ من نشوته.

وأوى أبو العباس إلى قصره مكروبًا قد جثم الهم على صدره ثقيلًا لا يكاد يجد معه روح النسيم أو نور الضحا، ودخل معلمه ورائده أبو بكر القرشي بن أبي الدنيا٤٣ فنهض الأمير لاستقباله متثاقلًا، ثم جلس وجلس الشيخ صامتين لا تنفرج منها شَفَة عن صوت …
ومضت برهة قبل أن يقول أبو بكر عاتبًا: «لغير هذا اللقاء قصدتُ إليك يا أبا العباس … وما حسبتك بهذا الوجه تلقى شيخًا مثلي علمك في سالف الأيام حرفًا … أفكنت تلقى نديمك عبد الله بن حمدون هذا اللقاء، ولو كان على صدرك من هم الدنيا مثل أُحُد؟»٤٤
وَفَاءَ أبو العباس إلى نفسه، فقال لمؤدبه الشيخ: «معذرة إليك يا أبا بكر، إنك لتعرف مكانك مني وحقك عليَّ، ولكنَّ أمرًا ذا بال …»٤٥
قال الشيخ وقد تهيأ للقيام: «فسأدعك لذي بالك يُسَارُّك وتُسَارُّه٤٦ دون جلسائك.»
قال أبو العباس: «لا سرَّ عليك يا عم، وإنما يعنيني ما لعلك قد علمت من أمر صاحب مصر، وما يكيد به للدولة، وإن الموفق مع ذلك ليصانعه ويتعبد له.»٤٧

قال الشيخ: «الموفق! إنه أبوك يا أبا العباس وصاحب أمرك، وإن إليه سياسة هذه الدولة، فدعه وما يملك من أسباب هذه السياسة، ولا عليك من أمر صاحب مصر، ولا من أمر غيره حتى يظهر لك وجه التدبير …»

قال: «أفنتركها بتدبير الموفق مأكلة٤٨ لبني طولون؟»

قال الشيخ وقد نهض مغضبًا: «أوَّه! والله لا رأيتَني بعدها في مجلسك، قد واللهِ عذرتُ أباك الموفق مما يجد منك، وهو لا يريد إلا صلاحك، فلستُ متحدثًا معه منذ اليوم في شأن من شأنك.»

ثم مضى الشيخ نحو الباب فلم يستجب للنداء، ولم ينعطف يَمنةً ولا يسرةً حتى جاوز قصر الأمير …

وتضاعف هم الأمير فلزم بيته أيامًا لا يلقى أحدًا غير غلمانه ولا يلقاه أحد، فلما كان بعد أيام لبس سواده وأخذ زينته وقصد إلى قصر الخليفة المعتمد.

وكان المعتمد فيما يشغله كل يوم من أمره، بين القيان٤٩ والندمان، حين دخل الحاجب يؤذنه بقدوم أبي العباس بن الموفق …

وهش الخليفة للقاء ابن أخيه وبسط له وجهه ومجلسه، ودخل الأمير الشاب فجلس غير بعيد من عمه، وتسلل نُدمان الخليفة وجواريه، وخلا لهما المكان …

ثم خرج أبو العباس من حضرة الخليفة بعد ساعة، ومعه عهد منه بولايته على الشام فراح يسعى سعيه منذ اليوم لتأليف جيش يقوده نحو الشام لينتزعها من يد خمارويه، ويحطم عرشه، فيوحد الدولة تحت الراية العباسية، بعد ما أوشكت أن تتفرق، ويثأر من خمارويه لبعض ما ناله في المعركة التي كانت، ويُرِي أباه أين رأيٌ مِنْ رَأْيٍ؟ وأين عزيمة من عزيمة؟ وزيَّن له شبابه.

٧

قلق ابن أبي الساج وشغلته الوساوس منذ جاوره إسحاق أميرًا على الجزيرة، واشتدت حفيظته٥٠ على خمارويه، الذي أمَّنه وولاه، واشتجرت في نفسه خواطر متباينة لا يعرف ما يأخذ منها وما يدع، فلا هو بقي على ولائه للدولة، ولا هو استقل بما كان في يده من الأمر، وقد نسي خمارويه عارِفَتَه٥١ حين أحلَّه في مثل منزلة إسحاق، وفرض عليه أن يجاوره جوار الأمير للأمير.

وإنه لفي خلوته يومًا يفكر في مثل هذه الخواطر المتباينة، إذ طرق طارق من بعيد، فأجدَّ له من ماضيه ذكريات …

وقال له صديقه أبو سعيد المدائني، وقد اطمأن بهما المجلس: «إنني رسول أبي أحمد الموفق إليك؛ لأمر من أمر الدولة، وإنه ليستبطن ما تُسِرُّ٥٢ من الطاعة والولاء لدولة الخلافة، وقد أبعد خمارويه في طريقه إلى مصر، وزعم أن البلاد قد دانت له، فقد حانت الفرصة لتأتيه من مأمنه فتكبه على وجه، فتظهر من ذلك بحظك من الإمارة، وتنال ثأرك من عدوك، وتحقق للدولة ما تأمل على يديك من المَنَعَة والسلطان.»

قال ابن أبي الساج: «ويراني الموفَّق أهلًا لكل ذلك؟»

قال أبو سعيد: «ولأكثر من ذلك، فلم يخْفَ على مولاي أنك لم تُعْطِ خمارويه الطاعة إلا مصانعة، حتى تستمكن منه فتَثِبَ وثْبَتَكَ، ثم ليجتمع لك من مال الولاية ما اجتمع لتنفقه في حربه حتى تظفر به.»

قال وصوته يختلج من التأثر: «وعند مولاي علم ذلك كله؟»

قال أبو سعيد: «وإنه ليعلم ما وراء ذلك مما لا آذن لنفسي أن أحدثك به.»

وصمت ابن أبي الساج برهة، وقد غشَّى عينيه الدمع، ثم نظر في وجه محدثه، وهو يقول في لهجة فيها صرامة وحزم: «فسيطيب لمولاي الموفق منذ اليوم ما أُبْلِي٥٣ في الدفاع عن وَحْدَة الدولة.»

ثم لم يَكَدْ يودع صاحبه حتى أخذ في شأنه يدبر أمر الجيش.

•••

وكأنما كان جيش ابن أبي الساج مما نفخ فيه قائده من روحه وعزمه يطير طير السحاب، فما مضى شهر حتى أوغل في الشام وحاز البلاد والأموال وصفَّد الأسرى٥٤ … وبدا كأنه من مصر على بعد شهر، ثم يتقوَّض عرش بني طولون وتنهار الدولة.
واستدار خمارويه على عقبيه قبل أن يبلغ مصر ووجَّه وجهه شطر محمد بن أبي الساج، والتقى الجيشان على مقربة من دمشق، فما هو إلا أن حمل المصريون على العدو حتى أزاحوه عن مواضعه، وفرقوه شراذم، ومضى ابن أبي الساج منهزمًا قد خلَّف متاعه وثقله وعتاد جيشه، واتخذ وجهه إلى حمص٥٥ ليستنقذ وديعة أودعها هنالك ولكن جيش خمارويه أعجله، فمضى من حمص لم يستنقذ وديعة، وتولى نحو حلب٥٦ … ثم عبر الفرات إلى الرقة …

وأوى خمارويه إلى خيمته ليستريح، ودعا بديوداد بن محمد بن أبي الساج، وكان رهينة عند خمارويه منذ تولى أبوه الموصل، ومَثَلَ الفتى بين يدي الأمير مبهورًا تكاد أنفاسه تسابق أجله مما به من الذعر والفزع، ونظر خمارويه إليه مشفقًا ثم ابتسم وقال: «اذهب يا بنيَّ موفورًا إلى أبيك، فحدِّثه أن خمارويه لا يأخذ الأبناء بغدر الآباء.»

ثم دعا صاحب خزانته فأمره أن يدفع إلى الفتى ألف دينار ويهيئ له كسوة وزادًا ليلحق بأبيه.

وورد على الفتى مما رأى وسمع ما لم يخطر له على بال، فاضطربت أنفاسه في صدره وأكبَّ على بساط خمارويه باكيًا يقول: «مولاي! قد برئتُ من أبي فكن لي …»

قال خمارويه: «بل اذهب إلى أبيك، فذاك أحب إلينا، وإن غدر.»

وعبر جيش خمارويه الفرات إلى الرقة فالموصل، واستطاب خمارويه المقام ثَمَّةَ، فقال لغلمانه: «إن بي حاجة إلى أن أتروح من نسيم دجلة، فهيئوا لي هنا مقامًا.»

فصنعوا له سريرًا طويل القوائم أثبتوها في قاع النهر، وجعلوا له عرشًا على الماء …

ثم دعا خمارويه إسحاق بن كنداج فوكل إليه أمر تأديب ابن أبي الساج، وضم إليه من ضم من جنده وقواد جيشه، وكرَّ راجعًا إلى الشام.

وخلف وراءه القائدينِ العظيمَيْنِ اللذين اجتمعا يومًا على حربه وعداوته يتحاربان وجهًا لوجه، ونجا، كأنما أرادها سخرية يتناقل أنباءها رواة النوادر والمُلَح٥٧ من ظرفاء بغداد؛ ليضحك منها من يضحك ويعتبر من يعتبر.

ودارت الحرب سِجالًا بين إسحاق وابن أبي الساج صاعدة هابطة، ومقبلة مدبرة، حتى لم يبقَ إلا فلول تحارب فلولًا، وخمارويه في مأمنه ينظر حتى يتفانى أعداؤه.

وكانت العاقبة على إسحاق فمضى مهزومًا إلى الرقة ثم عبر الفرات إلى خمارويه وتبعه ابن أبي الساج حتى صار بينهما النهر.

وتمثَّل لابن أبي الساج خيال المنتصر، ووقع في وهمه أنه مستطيع أن يمضي قدمًا، فيخترق الشام ويحوز ملك بني طولون، أليس قد غلب إسحاق صاحب ولاية خمارويه؟

وكتب إلى الموفق يعلمه بالفتح والنصر، ويطلب منه المدد.

وردَّ عليه الموفق يشكره ويطلب إليه أن يتوقف حتى يبعث إليه بما طلب …

٨

كان اليوم عيد الفطر، وقد خرج الناس بعد صلاة العيد من الجامع مثنى مثنى وثلاث ثلاث، وجماعات مؤتلفة، يحيي بعضهم بعضًا، ويسأل بعضهم عن بعض، قد تخففوا من أعباء الحياة فما يذكرونها، وإن وجوههم لتطفح بِشرًا ومسرَّة …

وكان في الميدان فارس على سرجه قد غدا على طائفة من الجند يعرضهم صفوفًّا على الأهبة مستكملين عدتهم، ما فيهم إلا فتى قد باع نفسه وأقسم ليبلغن في طاعة مولاه إحدى الحسنيين: النصر أو الشهادة.

وترجَّل الفارس عن فرسه وأقبل على اثنين من قواده يُسِرُّ إليهما حديثًا، ثم راح يتخلل صفوف الجند راجلًا، فدار بينها دورة وقصد إلى فرسه يهم أن يعتليها، حين أقبل نحوه رجل من عُرض الطريق، فوقف الفارس وأسند يده إلى معرفة فرسه وعلى شفتيه ابتسامة، ودنا منه الرجل فحيا وسلم ثم قال: «كأنك يا أبا العباس قد نسيت أن اليوم عيد، فهلَّا ذكرتَ — حين نسيتَ نفسك — أن عليك لهؤلاء الجند حقًّا أن تُسَرِّحَهم يومًا يستطعمون طعم الحياة كما يحياها الناس؟»

قال أبو العباس: «لا تزال تهزل يا يحيى والدنيا تجدُّ … أرأيت العدو الرابض على حدود الدولة يغفل لو غفلنا عنه يومًا، ولو كان يوم عيد؟»

قال يحيى: «نعم، رأيت في النجوم …»٥٨

قال أبو العباس عابسًا: «خَسِئْتَ، دعْ عنك حديث النجوم وما تكذب به من ذلك على الناس لتخدعهم عن ذات أنفسهم، فوالله لئن صار الأمر إليَّ يومًا لأقطعنَّ ألسنة المنجمين، فلا يكونون فتنة للعامة، ومعجزة للخاصة.»

قال ضاحكًا: «وتقطع لساني، فيقول الناس كان أول ما فعل أبو العباس حين ولِيَ الأمر أنْ قطع لسان نديمه وصاحبه يحيى بن علي!»

قال أبو العباس، وقد غلبته ابتسامته: «وأقطع لسانك.»

فانفلت يحيى من بين يديه عَجْلانَ، وهو يقول: «رأيت في النجوم أنك لا تفعلها.»

وشيعه أبو العباس ضاحكًا، ثم وثب إلى ظهر حصانه.

وبلغ يحيى بن عليٍّ المنَجِّمُ دارَ الموفَّق فدخل، وكان الأمير في مجلسه قد جاءه البريد من خراسان والجبل٥٩ فهو ينظر فيه، غير ملتفت إلى شيء مما حوله حين دخل يحيى فقال: «السلام على مولاي الأمير ورحمة الله.»

ثم اتخذ مجلسه من الأمير على مقربة.

ورفع الموفق رأسه عن كتابه ثم أقبل على نديمه يحييه ويلطف له …

قال يحيى: «لقد مررت الساعة بالأمير أبي العباس ابن مولاي، وهو يعرض الجند في الميدان، وها أنا ذا أرى مولاي حبيسًا بين هذه الكتب، أفليس اليوم يا مولاي عيدكما وعيد الناس؟»

قال الموفَّق: «ماذا قلتَ؟ ولدي أبو العباس يعرض جنده؟ فلقد كنت على أن أبعث إليه٦٠ الساعة لأمر من أمر الدولة.»

قال يحيى: «فسترسل إليه يا مولاي بعد أن أفرغ من الحديث إن أذنتَ لي.»

قال الموفق: «ما وراءك يا أبا أحمد؟»

قال: «يا مولاي! إني لأعلم مقدار ما يشغل بالك وبال مولاي أبي العباس من أمر هذه الطولونية التي تجاذب أطراف الدولة منذ سنين، وقد استخبرت النجوم فأخبرتني …»

قال الموفق: «وترى هذه البضاعة تَنْفُقُ عندنا٦١ يا أبا أحمد؟»

قال المنجِّم: «صبرك يا مولاي، إنما هي أخبار تصدق وتكذب، ولعل فيها على الحالين ما يدل دلالة، ومولاي أعلى عينًا، وأبصر بسياسة الملك.»

قال الموفق: «هيه!»

قال: «وقد أخبرتني النجوم أن هذه الدولة لم يَحِنْ أجلُها بعدُ.»

فضحك الموفق ساخرًا، وقال: «نعم.»

قال: «وستمضي سنوات … وتكون الطولونية أدنى إلى بغداد مما هي اليوم.»

قال الموفق غاضبًا: «ماذا؟ …»

وكأنما همَّ أن يبطش به ثم أمسك.

قال يحيى: «صبرك يامولاي، إن في حديث النجوم رمزًا يشبه رؤيا الحالم، أنا إنما أتحدث بما تراءى لي، وليس عليَّ تعبيره … وقد رأيت الطولونية تكون أدنى إلى بغداد مما هي اليوم، وسيكون بتدبير ولدك أبي العباس يا مولاي أقصى ما تبلغ من الدنو، حتى يقع ظلها على عرش الخليفة.»

قال الموفق ساخرًا: «بس! أمسكْ عليك يا يحيى، لقد كذبتْكَ نجومك، أو لا فأنت منذ اليوم لا تحسن ما تقول، لو زعمت غير أبي العباس لكان خبرًا، فليس شيء أبغض إلى أبي العباس في دنياه من طولون، وددت لو سمع منك ما تقول ليدقَّ عنقك.»

قال يحيى: «فيأذن لي مولاي أن أفرغ من حديثي قبل أن يقدم أبو العباس فيدق عنقي، ولم أروِ خبرًا؟»

قال الموفق ضاحكًا: «قل.»

قال: «وستدنو الطولونية حتى تكون في القصر الحُسَنِيِّ، وتدخل دار صاعد بن مخلد،٦٢ وتسير بها الشذوات في دجلة،٦٣ وتضاء لها في قصر الخلافة أنوار … ثم تخبو كما ينطفئ المصباح فلا يبقى غير الرماد … فإن رأى مولاي أن يعرف متى يكون أجلها، فإنه بعد بضعة عشر عامًا بين العشرة والعشرين، ولست أعرف على التحديد، ولكن إذا أمرني مولاي فإني أستنبئ له.»
قال الموفق: «وتستنبئ أيضًا يا فاسق! اغْرُبْ عني٦٤ فليس بي حاجة إلى نبوءتك.»

قال المنجم: «آمنت بالله! فهل غَضِبَ عليَّ مولاي، وما قلت إلا ما أذن لي فيه!»

وأرهف الموفق سمعه، ثم قال: «صه، إني أسمع خَفْقَ نعل٦٥ أبي العباس قادمًا، وما أريد أن يسمع شيئًا من حديث الطولونية، فإنه يهيجه هياجًا لا يهدأ من قريب.»

ودخل أبو العباس فحيا، وجلس بين يدي أبيه وخلى بينهما يحيى بن علي فحيا وانصرف.

قال الموفق لولده أبي العباس: «ما وراءك يا أحمد؟ لقد كنت على أن أرسل إليك الساعة لتتهيأ للرحلة في جيشك إلى خراسان وبلاد الجبل؛ فإن أمرًا ذا بال ينتظرك هناك.»

قال أبو العباس: «خراسان وبلاد الجبل؟»

قال الموفق: «نعم، أفتُرَاك قد استبعدت الشُّقَّة؟٦٦ لقد أُنبِئْت أن جيشك على الأُهْبَة، وإنك يا أبا العباس لَأَهْلٌ لما تنتدب له.»

قال أبو العباس: «يا أبت!»

قال أبوه وفي نظرته جدٌّ صارم: «ماذا؟»

قال: «فإن ابن أبي الساج على الفرات ينتظر المدد؛ ليبلغ من خمارويه بن طولون شفاء نفسه وشفاء نفس الدولة، ولم يبقَ بينه وبين النصر إلا غلوة سهم.»٦٧

قال الموفق: «قد علمتُ، ولكن أمر الطولونية يا بني لم يَحِنْ بعد، وقد دبرْتُ الأمر على ما دعوتك إليه، وما أحسبك تخالف عن أمري.»

وازدحمت في رأس أبي العباس خواطره، فصَمَتَ برهة ثم قال: «ولكنَّ غلماني يا أبت قد تهيئوا لغير خراسان.»

وضاق صدر الموفق لعناد ولده فهَمَّ بأمر، ثم ذكر أنه يوم الفطر والناس جميعًا غادون على مسرَّاتهم فأمسك عما اعتزم وقال في لين ووداعة: «لست أعني أن تبدأ رحلتك اليوم يا بني، وإنما دعوتك لتتهيأ لها، فإذا كان بعد أيام فاغدُ عليَّ، وقد اجتمع لك رأيك.»

ثم انصرف بوجهه عن أبي العباس؛ ليعبث بما بين يديه من رسائل أصحاب البريد … وبقي أبو العباس صامتًا برهة، ثم تسلَّل إلى الباب، وعين أبيه تتبعه من حيث لا يريد أن يشعره.

ومضت أيام ثم دعاه أبوه إليه، فلما مَثَلَ بين يديه قربه وأدناه وأقبل عليه بوجهه وهو يقول: «أراك اليوم وقد اجتمع لك رأيك، وستكون وجيشك غدًا على طريق خراسان.»

قال أبو العباس: «لا يا مولاي، سأكون في جيشي قِبَل مشرق الصبح على الطريق إلى الشام.»

قال الموفق غاضبًا: «وَيْ: أعصيانًا ومشاقة!٦٨ فوالله لا يكون إلا ما أمرتك.»

قال أبو العباس: «إنما صلاح الدولة أردتُ، وقد ولاني عمي أمير المؤمنين المعتمدُ الشامَ، فلست أخرج إلا إليها، طاعة لأمير المؤمنين، وصلاحًا لأمر الدولة التي أوشك أن يتوزعها أبناء الأعاجم.»

ثم هب أبو العباس من مجلسه فاتخذ طريقه إلى الباب.

وثارت ثائرة الموفق فصاح بغلمانه وأمرهم أن يأخذوا عليه الطريق أو يردوه على وجهه وصدع غلمانه بما أمر، فلم تمضِ إلا دقائق حتى كان أبو العباس المعتضدُ بنُ الموفَّق سجينًا في غرفة من دار، ليس معه إلا غلام من غلمانه، وقد وُكِّلَ به طائفة من الجند، وأغلقت دونه أبواب وراءها أبواب.

وكان الجيش في الميدان ينتظر مقدَم أميره، وطال انتظاره ثم بلغه النبأ بما كان من الأمر فاضطرب الجند وركب القُوَّاد وقد أزمعوا أمرًا من أمرهم ليردوا مولاهم إلى حريته، وثارت بغداد كلها لأميرها الشاب ثورة حاطمة.

وبرز الموفق على سَرْجه في الميدان، فما كاد يراه الجند والعامة حتى سكنت أصواتهم، واشرَأَبُّوا٦٩ ينظرون إليه، وانتهى إليهم صوته جهيرًا يجلجل في صرامة وقوة وهو يقول: «ما شأنكم؟ أترون أنكم أشفق على ولدي مني وقد احتجت إلى تقويمه؟»

ونظر بعضهم إلى بعض ثم تفرقوا كأن لم يسألْ سائل، ولم يُجِبْ مجيب.

٩

وقف محمد بن أبي الساج بالرقة ينتظر ما وعده الموفق من المدد والمعونة؛ ليعبر الفرات إلى الشام فيحطم ما بقي من جيش إسحاق ويدك عرش الطولونية، ولكن إسحاق لم يصبر عليه، فما هو إلا أن جاءه المدد من خمارويه حتى عبر النهر وكبس جيش ابن أبي الساج كبسة تركته أشلاء في البادية، واشتد ابن أبي الساج عَدْوًا فلم يتوقف حتى بلغ الموصل، وقد انقطع ظهره،٧٠ وفنِيَ زاده، وتفرق جنده، فما له راحلة يركبها، وكان يطلب عرش دولة ومد يده إلى من يعرف من أهل الموصل يسألهم عونًا من أموالهم، وكان فيهم صاحب العرش والخزانة.

وأقام شهرًا بالموصل على ضيق العيش وذل المسألة وسقوط المروءة، ثم انحدر إلى بغداد يطلب جوار أبي أحمد الموفق.

وأقام إسحاقُ أميرًا على الموصل والجزيرة جميعًا.

•••

قال أبو بكر القرشي ابن أبي ليلى مؤدب الأمراء وصاحب الفقه والحديث والخبر: والله لقد ورد عليَّ من ذلك يا أبا أحمد ما لا صبر عليه، فما يهون عليَّ أن يصير إلى ذلك أمرُ ولدك أبي العباس، فتحبسه وتُوَكِّلَ به وتُفْرِدَه من أهله وصحابته لا يلقى أحدا منهم ولا يلقاه أحد، وما أراه قد ركب في أمرك وأمر الدولة ما يستوجب ذلك كله أو بعضه، فإنما هو شاب اجتهد لصلاح الدولة فأخطأه الرأي، وإنك يا أبا أحمد لأرحبُ ذرْعًا.٧١

قال أبو أحمد الموفق وقد غلبه حنان الأبوة: «حسبك يا أبا بكر، أفَتُرَاه هينًا عليَّ؟ إنما هي سياسة الدولة، وقد يظن هذا الغلام أنه مستطيع ببضعة آلاف من غلمانه أن يفرغ من أمر الطولونية، وما أراه إلا ناسيًا ما كان من أمره وأمر خمارويه منذ قريب، أو لا، ولكنه في سبيل طلب الثأر قد غفل عن التدبير، إن خمارويه ليملك من أمر نفسه ما لا نملك من أمر أنفسنا، وإنه ليستطيع ببعض ما في يديه أن يشتري جيش العباسية كله، فماذا تغني القوة والعدد الجمُّ؟ وإن خمارويه لشاب في يده المال والجاه، وفي دمه إرث من طباع الأعاجم، فلعله لو كان فارغًا من مشاغل الجهاد أن تهلكه البطالة والشباب والغنى، أو يهلكه السرف وانتهاب اللذات، فنأتيه يومئذ بلا جهد، أما بالحرب فهيهات!»

قال ابن أبي ليلى: «وَيْ! وترى الأمر خافيًا عليَّ كما خفي على ولدك أبي العباس، فما هذه الجيوش التي تسير عن أمرك لقتاله حينًا بعد حين، فلا تزال معه في إقبال وإدبار، من الرقة إلى الموصل، ومن الموصل إلى الرقة؟»

قال الموفق: «تعني جند ابن أبي الساج وصاحبه؟ لقد أبعدتَ يا أبا بكر، فوالله ما ظننت يومًا أنني بالغ من الطولونية شيئًا بواحد من الرجلين، وإنني لأعلم علم اليقين ماذا يريدان من هذه الحرب، إنما بلاؤهما يا أبا بكر من أجل ما يطمعان فيه من الإمارة والسلطان لا من أجل الدولة، وقد رأيت عاقبة أمرهما.»

قال ابن أبي ليلى: ولكنك لا تزال تُولِيهِما مِنْ بِرِّكَ وتأييدك، حتى لقد أيقن الناس أنك صاحب أمرهما وبعينك ما يصنعان.٧٢

قال: «فهل حسبتني أتخلى عن إسداء المعونة إليهما، وقد خرجا لقتال عدوي وعدو الدولة؟ إنني إلا أربح بذلك فما خسرت شيئًا، فقد تركتهما وما يطيقان من أسباب الكيد له حتى يكون ما هو كائن.»

قال ابن أبي ليلى: «فقد أيستَ من أمر الطولونية يا أبا أحمد؟»

قال الموفق: «أما هذه فلا … ولكن …»

وقطع عليه دخول غلامه يؤذنه بمقدم محمد بن أبي الساج، وعليه غبار السفر من الموصل، فاعتدل الموفق في مجلسه، وألقى إلى جليسه نظرة ذات معانٍ، ثم تهيأ لاستقبال القادم …

وحيا ابن أبي الساج، وجلس مطأطئًا كأن على ظهره حملًا لا ينهض به، وقال الموفق وهو يبتسم له: «لله ما أبليت٧٣ من أجل الدولة يا ابن أبي الساج وما بذلت!»

قال، وكأنما يأتي صوته من مكان بعيد: «في طاعتك يا مولاي.»

وأخذته حبسة فتنحنح ثم سعل.

قال الموفق: «إنك لمجهود٧٤ من بلاء الحرب وطول السفار، وأرى لك أن تستريح بعد طول ما جاهدت.»
ثم خلع عليه ووصله،٧٥ وتقدم إلى غلامه أن يهيئ له سرجًا يركبه٧٦ إلى حيث نزل …

وكان ابن أبي ليلى لاصقًا بمكانه صامتًا لا يتحرك كأنما أصابه مسخ، فالتفت إليه الموفق سائلا: «كيف رأيت يا أبا بكر؟»

وعاد الشيخ إلى الحياة، فقال وهو يثب عجلان كأنه ملدوغ: «رأيت الدنيا قد ازَّيَّنَت لأهلها.»٧٧

ثم قصد إلى الباب، وخلَّف الموفق في مجلسه وعلى شفتيه ابتسامة وفي عينيه انكسار.

•••

كان أبو العباس على أديم منقوش في الغرفة التي جعلها أبوه سجنًا له، وقد أسند رأسه إلى راحته، وأسبل جفنيه يفكر في أمره، وجلس غير بعيد منه غلامه «طريف»، قد جمع يديه في حجره، وعيناه شاخصتان إلى مولاه لا يكاد يطرف، وقد شمل الغرفة صمت كصمت القبور، إلا أنفاسًا تتردد، تعلو حينًا حتى تبلغ أن تكون زفرة شاكٍ، وتخفت أحيانًا فتشبه أنفاس محتضَر.

وكان قد مضى أيام على الأمير في سجنه لا يطعم شيئًا من زاد، فإن غلمان أبيه ليحضرون له المائدة الحافلة في موعد كل طعام، فيردها لم يتبلع منها بشيء، فيعودون من حيث أتوا، لا يعترض منهم معترض، ولا ينبِس ببنت شَفَة، وفى وجوههم الكآبة وفي عيونهم الانكسار وفى صدورهم همٌّ لا يبرح، شفقة على أميرهم وحبًّا له، فلولا ما يخشون من بأس الموفق لتمردوا على الولاء له …

وقال طريف لمولاه، وقد نال منه ما رأى من ذبوله وإطراقه وصمته: «إلى متى يا مولاي؟»

قال أبو العباس: «إلى أن يحين الأجل … فإن كنت قد مللت الصحبة فقد أذنت لك.»

قال طريف: «يامولاي!»

قال أبو العباس: «اسكت، لا مولى لك … أرأيت الموفق مُخْرِجِي من هذا الجب، وقد ألقى بي إليه إلا أن يحين الأجل … تلك كلمته دائمًا كلما سأله سائل عن موعد أمر لم يقطع فيه برأيٍ … ستنهار الطولونية يوم يحين أجلها … وسيخرج أبو العباس من سجنه يوم يحين أجله! … ولكن لا، سيحين هذا الأجل بيدي، بيدي وحدي …»

وصرَّتْ أسنان أبي العباس وحملق كأنما يرى أمامه عدوًّا قد آدَهُ٧٨ الصبر عليه، وصاح: «سيحين هذا الأجل بيدي، بيدي وحدي … وسيرى الموفق ما لم يرَ، وسيعلم ما لم يكن يعلم.»
وارتاع الغلام فوثب إلى مولاه يمسح بيده على كتفه، وهو يهتف به في حنان وتوسل: «مولاي، لا أراك تفعلها.»٧٩

فنظر إليه أبو العباس كالمغضب وقال: «ماذا تعني؟»

قال طريف ولسانه يلجلج في فمه: «لن تستعجل أجلك بيدك يا مولاي، وأنت من أنت، إن وراء كل ضيق فرجًا!»

قال أبو العباس ساخرًا: «ماذا فهمتَ يا غبي؟ حسبتني أعني ذلك؟ والله لا كان، ولن أموت حتى أبلغ الثأر بيدي من تلك الدولة الباغية، لا أنتظر حتى يحين أجلها كالذي يزعمه الموفق، وإنما بيدي سيحين ذاك الأجل.»

وهدأت نفس الغلام هونًا ما، وعاد إلى مجلسه بين يدي مولاه، وقال كأنما يريد أن يصرفه عن الفكر في أمر يحاوله: «لقد أذكرني مولاي ذكرى، فإن رأى أن أقصها عليه …»

وتشوَّف أبو العباس إلى جديد يتفرج به مما هو فيه من ضيق النفس، فقال: «هيه يا طريف.»

قال الغلام: «فسأقص على مولاي ما كان من أمر يحيى بن علي المنجم ومولاي الموفق في يوم الفطر، وكنت بالباب أسمع — من حيث لا أريد — ما يدور بينهما من الحديث.»

فابتسم الأمير وقال: «ماذا سمعت من حيث تريد، أو من حيث لا تريد؟ …»

قال طريف: «زعم يحيى أنه استنبأ النجوم، فأنبأته بأمر الطولونية، وأنها ستكون أدنى إلى بغداد مما هي اليوم، حتى تصير في القصر الحسني، وتدخل دار صاعد، وتسير بها الشذوات في دجلة، وتضاء لها الأنوار في قصر الخلافة، ويقع ظلها على عرش أمير المؤمنين! …»

قال أبو العباس مغيظًا: «فمن أجل حديث المنجمين يصانعها الموفق؟ فليهنأ بما بلغ من تدبير أمر الدولة.»٨٠

قال طريف: «فإن للحديث تتمة، فقد زعم المنجم أن الطولونية ستبلغ ذلك كله على يدي مولاي أبي العباس!»

قال الأمير غاضبًا: «أنا؟ فلأجل ذلك كان هذا السجن، وكان هؤلاء الموكَّلون بي، تكذيبًا لما زعم المنجمون أو تحقيقًا لما زعموا٨١ … فوالله إن كان شيء من ذلك ليكونن سببه هذا السجن الذي يشملني حتى تطأ خيل الطولونية أرض بغداد، فلا تجد من يدافعها عن عرش الخليفة، ولكن ذلك لن يكون … وسيكون مصرعها على يدي.»
وَسُمِعَتْ لَقْلَقَةُ المفاتيح في الأقفال، فصمت أبو العباس، وصمت طريف، ودخل النُّدُلُ٨٢ يحملون مائدة الأمير، فبسطها بينه وبين غلامه وجلس يأكل …

لقد عقد النية منذ اليوم على أن يعيش لينتقم.

١٠

عاد خمارويه إلى حاضرة ملكه بعد غيبة بلغت ثلاث سنين إلا أشهرًا، فُطِمَ فيها الرضيع، وشب الوليد، ونَهَدَت الصبية، وكانت مصر من الشوق إلى أميرها الشاب في لهفة وحنين، فإنها لتقتص آثاره٨٣ حيث سار وحيث نزل، ففى كل دار بالقطائع٨٤ حديث عما أفاء الله عليه٨٥ وما يسر له من أسباب التوفيق، فما كاد النبأ بمقدمه يذيع في الحاضرة حتى تهيأت المدينة كلها لاستقباله وتحيته، وخف شبابها وشيبها لاجتلاء طلعته، فلم يبقَ في دار من دور المدينة على ما بلغت من السعة إلا النساء قد علوْنَ الأسطح، والفتيات قد انتقبن في الشرفات٨٦
وبدا موكب الأمير يتقدمه الحُجَّاب والغلمان، عليهم أقبية الحرير وجواشن الديباج،٨٧ قد انتطقوا٨٨ وتقلدوا السيوف المحلاة، يتبعهم جند الأمير على ترتيبهم وطوائفهم، ومن ورائهم السودان: ألف أسود، لهم درق محكمة الصنعة٨٩ وسيوف ذات حِلًى، وقد لبسوا الأقبية السود والعمائم السود، فلولا الدرق وحِلَى السيوف والخُوَذ التي تلمع على رءوسهم من تحت العمائم لحسبهم من يراهم — لسواد ألوانهم وسواد أقبيتهم وعمائمهم — بحرًا أسود، أو قطعة من ليل أسحم!

ثم أهلَّ الأمير على فرسه مديدًا مستَوِيَ القامة، كأنه قطعة من جبل، يحف به خاصته والمختارة من جنده، وقد حبس الناس أنفاسهم إجلالًا وهيبة، فليس فيهم متحدث ولا مشير ولا متحرك من موضعه، وبلغ الموكب باب الميدان، فانفرج الغلمان صفين ودخل الأمير …

ومُدَّت الموائد للعامة في القصر والميدان تنتظم الآلاف من أبناء الشعب قد أقبلوا على طعام الأمير فرحين داعين له، وهو يشرف عليهم من قصره سعيدًا بما بلغ من محبة الشعب ومن توفيق الله.

واستقر الأمر في مصر والشام لخمارويه بن أحمد بن طولون …

•••

كانت الشمس ضاحية، وقد جلس خمارويه على دكته من قبة الهواء في أعلى القصر، يشرف على الميدان والبستان، وعلى المدينة والجبل، وعلى النيل والصحراء؛ فما شيء في المدينة وأرباضها إلا نالته عيناه، كأنما اختُصرت له الحاضرة وما يحيط بها في رسمٍ مصوَّر يطالعه في إطاره من هذه الشرفة الشارعة في أعلى القصر.

وكان كل شيء في القبة من الفرش والطنافس والستور المسدلة يشير ما بلغ خمارويه من أسباب الترف والرفاهية حين استتب له الأمر، وكان وحيدًا في مجلسه ذاك، فما ثمَّة حي ذو نفَس إلا سَبُعُهُ «زريق»، قد غاص رأسه في لِبْدِه ورَبَض بالوصيد٩٠ يلحظ مولاه ويحفظ طريقه، قد استغنى به عن الغلمان والحَفَظَة.٩١

وسُمِع حفيف ثوب ناعم يتسحب على آثار خطًا راتبة كأنها توقيع عازف بارع، واستدار «زريق» نحو الطريق، وقد برزت مخالبه وقَفَّ لِبْدُه، ثم خطا إلى الوراء خطوة يفسح الطريق، والتفت خمارويه ينظر من القادم، وأهَلَّت صبية قد كعب ثدياها وتحير في وجنتيها ماء الشباب، وعلى شفتيها ابتسامة الرضا والأمان، وقالت في صوت ناعم: «السلام على مولاي ورحمة الله.»

وتهلل خمارويه وأجاب باسمًا: «وعليكِ السلام، تُرَى من علمك يا بُنَيَّة أن تناديني كذلك، إنما أنا مولى الناس ولكنني أبوك، فهلا ناديتِني بأحب أسمائي إليَّ؟»

قالت: «يامولاي …»

قال: «بل قولي: يا أبَهْ!»

واتخذت «قطر الندى» مجلسها إلى جانب أبيها من الشرفة باسمة، وأطلت تنظر …

وأخذ عينيها منظرُ السباع في الميدان تنساب من مرابضها إلى الرحبة تتشمس ويُهارِش بعضها بعضًا، وقد أخذ السُّوَّاسُ يلحظونها من وراء القضبان، وراحت طائفة منهم تنظف المرابض وتهيئ لكل سبع وأنثاه غذاءه وشرابه في مربضه …

وأخذ سبع ضخم من سباع الرحبة يتحبب إلى لَبُؤَةٍ من اللَّبَات قد انفردت عن صاحبها، فما دنا منها حتى اعترضه سبع، وسُمِعت زأرة قد تفرق صداها في أنحاء الميدان، واجتمعت الآساد ثم افترقت، راحت اللبؤة تمشي إلى جانب أسدها مزهوة …

وقهقه خمارويه ضاحكًا، والتفت إلى ابنته يقول: «كيف رأيتِ يا بنية؟»

قالت الفتاة مبتسمة: «تُشْبِهُ السباع يا أبتِ أن تكون آدمية.»٩٢

ثم تحولت تنظر إلى الجانب الآخر من البستان حيث قامت النخيل باسقة قد كسيت أجسامها رقائق النحاس المُذهب، فبدت كأنها أساطين من الذهب قائمة قد غرست فنمت وأثمرت، وتدلى قطافها ياقوتًا أحمر، وكان الماء المدبَّر ينبثق من أنابيب قد غابت في الجذوع الذهبية، فما يُرى منها إلا قَطْر متتابع يتدحرج على أساطين الذهب كأنه تحت ضوء الشمس حبات من لولو منتثر، ثم لا يزال يقطر متتابعًا حتى يتجمع في أصول النخل، إلى فساقيَّ معمولة يفيض الماء منها إلى قنوات تتفرع بين شعاب البستان متلوية، ولها تحت الشمس بريق وشعاع.

وكان البستاني يعمل بمقراضه في الرياحين الملونة على أرض البستان، فلا يزال يدور حواليها عن يمين وشمال ومقراضه في يده يقص من أطرافها ما يقص ويعفي ما يعفي، ثم انتصب ووقف ينظر إلى الرياحين وقد سوَّاها بمقراضه كتابةً ناطقة ذات معانٍ، وبرزت لعين الأمير في شرفته كأنه يقرأ منها في صحيفة …

وطابت نفس الأمير وافترَّتْ شفتاه عن ابتسامة راضية، ثم نزل عن دكته واتخذ طريقه إلى دار الحرم يقدمه «زريق» حارسه، وتصحبه ابنته قطر الندى، وغُلِّقت أبواب القبة وأسدلت الستور على الشرفات …

•••

ودخل على الأمير غلامه بَرْمَش فقال: «يا مولاي قد أحضرنا الجوهريَّ.»

قال الأمير: «يدخل.»

فدخل شاب عليه زي أهل العراق، في وجهه طول، وفى عينيه سعة، وقد امتدت منابت الشعر من رأسه حتى كادت تبلغ حاجبيه، وتدلت على فمه شعرات من شاربه، وكان في يده صرة قد جمع عليها أصابعه يحذر أن تفلت …

ونظر إليه الأمير فاحصًا ثم قال في جفوة: «ما اسمك؟»

قال الجوهري: «عبدك الحسين بن الجصاص.»

قال الأمير: «فمن أهل العراق أنت؟»

قال: «في العراق أهلي، وإنما أنا جار الأمير، وغَذِيُّ نعمته وربيب داره.»

قال الأمير ونظر إلى غلامه برمش: «جاري وربيب داري؟»

قال برمش: «إنه يا مولاي يقيم في الدهليز من دار الحرم، ليبيع جواري الأمير ما يطلبن، وهو حريص على التشرف عند الناس بجوار الأمير لمكانته من ذلك الدهليز.»

ثم دنا الغلام من مولاه يُسِرُّ إليه: «وإن به يا مولاي شيئًا من الغفلة!»

قال الأمير باسمًا: «فما معك الساعة من جواهرك؟ لقد أُنْبِئْت أن عندك عِقدًا تزعم أنه من ميراث بني ساسان؟»٩٣

فابتسم الجوهري وخطا نحو الأمير حتى بلغ أدنى مكان منه، وقال: «نعم، وما أراه أهلًا لأن يملكه أحد من ملوك الأرض غير مولاي الأمير.»

ثم فك عَقْد الصرة، فما كاد يفتحها حتى قفز إلى الباب عَجْلان وهو يصيح: «جواهري.»

وتبعه الحاجب مسرعًا في دهشة لا يكاد يدركه، وقام الأمير عن كرسيه غضبان …

ذلك أن صرة الجوهري حين فتحها لم يكن فيها إلا نعله … وكان أراد أن يخلعها عند الباب، فنسي ووضع الجوهر مكانها وصرَّ النعل في المنديل!

وضحك الأمير حين علم بما كان حتى لم يكَدْ يسكت، ثم دعا بالجوهري ثانية فمثل بين يديه …

وكان العِقد على ما وصف الجوهري، فاشتراه الأمير وأجزل الثمن، وأمر الغلام أن يفرد له حجرة في دهليز دار الحرم، وأن يجعله جوهري القصر يبيع جواريَ الأمير ما يطلبن ويبتاع لهن.٩٤

•••

دفع الأمير العِقد الكسروي٩٥ إلى جاريته بوران، وكانت أدنى جواريه إليه وأحظاهن عنده، فما له صبر عنها ساعة من نهار، ولكن بوران لم تقنع بما لبست من نعمة الأمير ولم يَزَل في نظرتها سؤال عاتب، وقال الأمير: «فما تطلبين بعدُ يا بوران، وأين لي أن أنال رضاك؟»

فابتسمت بوران ابتسامة فاتنة وقالت: «رضاي يا مولاي أن ترضى.»

وأسرت في نفسها أمنية أغلى وأعلى …

وانحدر الأمير إلى بستان القصر يتبعه جواريه ووصائفه وحظيَّتُه بوران، حتى انتهى إلى برج الساج، حيث تسرح القمارِيُّ والدباسِيُّ وصوادح الطير شادية مغردة في عشاشها في ترجيع عجيب وموسيقى ساحرة، وقد انتشرت إلى يمين البرج وشماله طائفة شتى من الطواويس ودجاج الحبش سارحة في مسارحها، وقد نثرت الشمس من فروج الشجر على أجنحتها دنانير ذهبية، فاختلط منها لون بلون يبهج النفس ويفتن الناظر، وقال الأمير: «هنا فليكن مجلسنا للصَّبُوح٩٦ في هذه الغداة.»
قالت بوران: «لله ما أبدع يا مولاي! فهلا أمرت أن يُعمَل في هذا الجانب من البستان دار يكون إليها مغدانا للصبوح ومراحنا للغَبُوق٩٧ كل صباح ومساء؟»

وحقق لها الأمير ما تمنت، فما هي إلا أيام حتى تم بناء المجلس الذي اشتهته، وسماه الأمير «دار الذهب»، وكانت دارًا عجيبة لم تشهد لها الدنيا مثيلًا في قصر من قصور الملوك، قد طليت حيطانها كلها بالذهب واللازورد، في أحسن نقش وأبدع زينة، وجعل في حيطانها مقدارَ قامةٍ ونصفٍ صُوَرٌ بارزة من خشب محفور على صورة الأمير وصور حظاياه والمغنيات اللاتي يغنينه، في أحسن تصوير وأبهج تزويق، وجعلت على رءوسهن الأكاليل المرصَّعة من الذهب والجوهر، وفي آذانها الأقراط الثقال، ولُوِّنت أجسامها بأصناف تشبه الثياب من الأصباغ العجيبة.

وكان إلى هذا المجلس مغدى الأمير ومَرَاحه كل يوم للصَّبوح والغَبُوق بين جواريه وحظاياه، وكأنما كشف له الستر عما وراء الغيب من صور الجنة ونعيمها فاستعجل به في دنياه … فلا يكاد يخطر له خاطر مما لا يبلغه حلم الحالم أو خيال المتمني حتى يمثله حقيقة ملموسة تراها العين وتنالها اليد٩٨

•••

واشتكى الأمير إلى طبيبه كثرة السهر وطول الأرق، فأشار عليه الطبيب بالتكبيس، ولكن ابن طولون لم يكن يطيق أن يضع عليه أحد يدًا … فأمر بعمل فسقية من زئبق، تبلغ خمسين ذراعًا طولًا في خمسين ذراعًا عرضًا، وملأها من الزئبق جاء به وكلاؤه من المغرب وخراسان، لم يبخل عليه بثمن ولم تثقل عليه مئونة، وجعل في أركان بركة الزئبق سِككًا٩٩ من فضة خالصة، وجعل في السكك زنانير١٠٠ من حرير محكمة الصنعة، ثم عمل فرشًا من أدَم يُنفَخ بالمنفاخ حتى يمتلئ هواء ويصير حشية من أدم وريح، فإذا انتفخ أُحكِم شده، وأُلْقِي في الفسقية على سطح الزئبق، وشدته زنانير الحديد إلى حِلَق الفضة، وينزل الأمير على ذلك الفرش في بركة الزئبق، فلا يزال الفرش يرتجُّ ويتحرك بحركة الزئبق ما دام عليه … فإذا كانت الليالي القمرية كان ثمة منظر عجيب، حين يتألف نور القمر بنور الزئبق، وتنسرح الروح بين السماوين مصعدة في أودية الأحلام، ولا يزال الزئبق تحت الأمير يرتج ويتحرك.

•••

ذلك كان شأن خمارويه في مصر منذ عاد من غزاته مظفَّرًا، قد ثبت له الأمر في مصر والشام والثغور، ودعي له على منابر الموصل والجزيرة، أما أمر الدولة يومئذ في بغداد فكان مختلفًا جدًّا، فلم يكن ثمة دار الذهب، ولا بركة الزئبق، ولا قبة الهواء، ولا ملاعب السباع، ولا برج الساج، ولاخَرَجَات الصيد والطرد … لا شيء إلا الأمير السجين في عداوة بني طولون يكاد يخرج من جلده غيظًا، وإلا أبوه الكهل قد أنضاه طول السفار لمجاهدة أعداء الدولة على أطراف البادية، وإلا الخليفة المعتمد بين النُّدمان والقِيان يترشف ثمالة الكأس، وإلا ولده وولي عهده من بعده «جعفر المفوَّض» لا يكاد من خموله وضعف همته يجري له ذكر على لسان أو يطيف بخاطر إنسان، وقد خلت خزائن الدولة فليس فيها أبيض ولا أصفر إلا مخلفات للذكرى قد بقيت في الخزانة من أيام منشئ الدولة أبي جعفر المنصور.

وبدا لكل ذي عينين أن دولة الخلافة قد أشرفت على الآخرة، على حين كان اسم بني طولون يتردد صداه قويًّا بين أربعة أقطار الدولة الإسلامية.

ولكنَّ أبا أحمد الموفق على ما به من جراح وما في قوَّته من وهن، لم يكن قد يئس بعد، بل لعله كان في ذلك اليوم أعظم أملًا في تجديد شباب الدولة، وكذلك كان ولده أبو العباس، وإنه لحبيس بين أربعة جدران.

١١

أهلَّ هلال شعبان من سنة ٢٧٧، فلم يلبث في الأفق إلا لحظات ثم غاب، وأخذ الظلام يتسحب على بغداد وما حولها، فما ثمة نور يلمح إلا خلجات من شعاع النجم البعيد يتراءى على ماء دجلة كأنه خط من صحيفة، وإلا أضواء متناثرة تلوح وتخفى من خَلَل نوافذ الدُّور وراء أستارها، وفى جنح الليل كان قائد من قواد الطولونية على رأس جيش من الفرسان والرَّجَّالة في طريقه إلى بغداد، ولكن أحدًا من حماة المدينة لم يعترض طريقه؛ إذ كان في يد قائده جواز من الموفق يأذن له في المرور.

وبلغ الجيش ميدان العرض من حاضرة الخلافة، فترجل القائد وترجل فرسانه وضرب الجند فساطيطهم، وكان أبو أحمد الموفق غائبًا لم يزل في بلاد الجبل،١٠١ والتقى قائد الجيش بالوزير أبي الصقر إسماعيل بن بلبل،١٠٢ وكشف له الأمر … وعرف الخاصة والعامة في بغداد لماذا كان مقدم هذا الجيش …
ذلك قائد له ماض في خدمة الطولونية قد أبلى في خدمتها البلاء الأكبر وكابد في سبيلها الشدائد، ولكنه اليوم غاضب قد بانت لَبَّتُه١٠٣ واستعلنت حفيظة صدره على خمارويه، منذ استوسق له الأمر١٠٤ فانصرف إلى النعيم والترف وأغفل الجيش والقادة … وكتب وكلاء الموفق في مصر إلى مولاهم بما عرفوا من حال هذا القائد، فكانت بينه وبين الموفق رُسُل ورسائل …

ولم يطُلْ مقام ذلك القائد في بغداد، فما هو إلا أن بلغته حيث يقيم رسالة من الموفق حتى انحدر إليه في خراسان، ثم اتخذ طريقه من ثمَّةَ إلى الموصل فالجزيرة لأمر من أمر الموفق …

ولم يلبث الموفق طويلًا حيث كان، فقد اشتد به وجع النقرس، فعاد إلى بغداد محمولًا على سرير يتعاور أكتاف أربعين من غلمانه … فبلغ بغداد في أوائل سنة ٢٧٨.

وأظله الموت، ولكنه ظل يكافح ليعيش ويبلغ من أمر الدولة ما قدَّر ودبَّر، فإنه لتأخذه الغَشْية بعد الغشية ثم لا يلبث أن يُفيق … ورأى المحيطون به ما ينتظره من أمر الله، فأجمع كل منهم نيته على أمر، وبدا للخليفة في قصره أنْ قد آن له أن يملك حريته ويصير إليه أمر الدولة كله بعد أن صبر زمانًا والسلطان كله في يدي أخيه الموفق، وازدحمت الأمانيُّ على ذوي السلطان فتحفز كل منهم لوثبة يكون له بها أمر.

وكان أبو العباس في سجن أبيه، قد أقام به بضع سنين يَحْدِس ما يحدس،١٠٥ ويدبر خطته، وإنَّ له على ضيق السجن أملًا فسيحًا لا يزال يتحدث به كل يوم إلى غلامه …
وسمع أبو العباس من وراء أبواب السجن هديدًا وقعقعة سلاح وضجة تدنو منه في محبسه، وأهوت الأثقال على الأقفال تحطمها في عنف، وظن أبو العباس ما ظنَّ فجرد سيفه وتحفز للدفاع،١٠٦ وقال لغلامه: «أحسبهم قد جاءوا يريدون قتلي، ولا يزال بنو العباس تتربص بهم آجالهم من أجل العرش، فوالله لا يصلون إليَّ وفيَّ شيء من الروح.»

وأهوت دقة حاطمة على القفل الأخير، فلم يلبث أن انفتح الباب وهمَّ أبو العباس بأمر ثم تراجع وردَّ السيف إلى غمده، فقد رأى على رأس القادمين غلامه «وصيفًا»، فاطمأن وسُرِّي عنه، وعلم أنهم لم يقصدوا إلا خلاصه من أسره.

وقال «وصيف» والكلمات تتواثب على شفتيه: «أدرك أباك يا مولاي فإنه يُحتضَر، وقد أوشك أمر الدولة أن يتفرق.»

•••

فتح المُحتضَر عينيه بعد غشية، فأبصر إلى جانب فراشه ولده أبا العباس قد غَشَّى عينيه الدمعُ، والمكان خالٍ إلا منه، فلا شيء بينهما إلا نجوى صامتة تسر بها عينان إلى عينين، ومضت فترة قبل أن يقول المحتضَر وقد اجتمع في رنة صوته ورَنْوَة عينيه كلُّ حنان الأبوة: «كيف تجدك يا بني؟»

قال أبو العباس وقد خنقته عبرته: «إنني بخير ماعشتَ يا أبتِ!»

قال الموفَّق باسمًا: «أرجو أن تظل بخير أبدًا، فلا تجد في نفسك مما كان، فذلك أمر قد انكشفت لك أوائله، ولعلك أن تعرف آخرته عن قريب … لقد أبلى أبوك يا بني في هذه الدولة بلاء عظيمًا، حتى أطاع العاصي، وهدأ الثأر، واطمأن النافر، ولم يبقَ إلا هذه الطولونية في المغرب قد زين لها الغنى والحداثة ما زين من الأماني، ولم تخفَ على أبيك من خبرها خافيةٌ منذ كانت، ولكني آثرت أن أصطنع السياسة فيما بيننا من ظاهر المودة، حتى لا تجاهرَ بالعصيان، وهي على خزانة السلطان وفي يدها نصف خراج الدولة … وقد حمل أبوك العبء كله راضيًا على ما به من جَهد، وعمك الخليفة المعتمد على ما تعرف من أمره، لا يكاد يفيق من نشوته، وقد جعل العهد من بعده لولده جعفر المفوَّض، ثم لأبيك، فلعله حين ينفذ أمر الله أن يُلْهَمَ الخير فيجعل إليك ما كان بيدي من الأمر ويبايع لك … فإذا آل إليك هذا الأمر يا بني فلا تعجل على عدوك حتى تستمكن منه، وإذا حزبك يومًا أمر من الأمر ولم تجد الوسيلة، فاحبس نفسك على ما تكره حتى ينقاد لك العصِيُّ، فقد حبسك أبوك يومًا وأنت أحب إليه.»

وجاشت عواطف المحتَضَر بالذكرى فصمت برهة، ثم تخفف من أشجانه وأقبل على ولده ليتم حديثه إليه، قال: «وقد قامت سياسة بني طولون على محاولة اصطناع ذوي السلطان في الحضرة بالمال والصهر فلا يخدعنك ما يحاولون معك …»

ثم ابتسم وقال: «وأنت يا أبا العباس شاب من همِّك النساء والطعام، فلا تدع لخمارويه بن طولون أن يقودك من هذا الزمام يوم يصير إليك الأمر، فإن لجواري مصر فتنة.»

قال أبو العباس منكرًا: «يا أبَهْ! …»

قال الموفق: «إنه المزاح يا بني مما فاض على قلبي من السرور برؤيتك راشدًا …»

وسُمِع خفق نعال تدنو من الباب، فقال الموفق: «أحسبهم بعض أصحاب الخليفة قد استبطئوا ساعتي فجاءوا في مظهر العُوَّاد،١٠٧ فابتَسِمْ لهم يا بُنَيَّ واحذرهم، وإذا قلدتهم أمرًا من أمرك غدًا فاجعل بعضهم عينًا على بعض؛ لتملكهم وتملك بهم.»

ودخل الوزير أبو الصقر إسماعيل بن بلبل، وكان قد حاول من أمسه أمرًا يتقرب به إلى الخليفة في شأن من شئون الموفق، فلما رآه الموفق ساعتئذ هش له وأدناه، ولم يحدثه في شيء مما كان، وخلع عليه وعلى ولده أبي العباس جميعًا، ثم خرج الرجلان من حضرة الموفق فمضى كل منهما لوجهه …

وعاش الموفق بعدها أيامًا، ثم أسلم زمامه إلى بارئه، وبويع لأبي العباس «المعتضِد» من غده بولاية العهد مكان أبيه — بعد جعفر المفوَّض — ولكن أبا العباس لم يقنع بما قنع به أبوه من قبل، فلم يهدأ حتى رضي الخليفة بخلع جعفر، واستقل أبو العباس المعتضِد بولاية العهد، واجتمع له من السلطان ما لم يجتمع يومًا لأبيه.

وكان الخليفة المعتمد قد ظن أنه ملك الأمر كله يوم مات الموفق، فإذا المعتضد قد سلبه الأمر كله حتى لم يبقَ له شيء مما كان له في حياة الموفق.

وكأنما كان المعتضد في سجن أبيه بضع سنين يدَّخِر قوته لهذه الساعة، فما هو إلا أن ملك الأمر حتى لم يبقَ لأحد إلى جانبه أمر، وهتفت باسمه الدولة جميعًا وعَنَتْ لسلطانه.١٠٨
وسار البريد إلى خمارويه بما كان في حضرة الخلافة، فذكر ما كان من أمره وأمر المعتضد منذ سنين، يوم التقيا سيفًا لسيف، فأراد أن يَعْجم عودَه؛١٠٩ ليأمن منه ما يأمن ويتقيَ ما يتقي … فبعث إليه بهدية مليحة من طرائف مصر، وطلب إليه أن يقره على الموصل إلى ما تحت يده من مصر وبرقة والشام والثغور …
وحضرت المعتضد الذكرى منذ كان وكان وكان، وذكر كلمات أبيه، فبعث إلى خمارويه: «قد قبلنا هديتك وشكرنا لك، أما الموصل فنحن أدنى إليها يدًا.»١١٠

وبدأ بين الشابين اللذين يليان أمر المشرق والمغرب أمر ترك كلًّا منهما، وليس له فكر إلا في صاحبه.

وخلا خمارويه بوزرائه وأصحاب مشورته يبادلهم الرأي في أمره وأمر المعتضد بن الموفق، وقال له مشيره: «لا عليك يا مولاي من أمره، إن هو إلا ولي العهد، وإنك لوثيق الصلة بالخليفة، وهو ولي الأمر وصاحب السلطان.»

واطمأن خمارويه هونًا ما، ولكن البريد لم يلبث أن جاءه من بغداد بوفاة الخليفة المعتمد على الله، والبيعة لولي عهده أبي العباس المعتضد بالخلافة، وقد صار إليه كل شيء في الدولة!

•••

وطال حديث خمارويه إلى نفسه، وطال حديثه إلى وزرائه وأصحاب مشورته، وأرِقَ لياليَ لا يغمض له جفن، وراح يلتمس هدوء النفس بين الحظايا والقيان وفي دار الذهب، وعند رحبة السباع، وفي قبة الهواء، وعلى أرجوحته الرجراجة في بركة الزئبق، وفي الصيد والطرد، ولكن ذلك كله لم يُجْدِ عليه شيئًا ولم يلهمه الرأي، وألهمته ابنته قطر الندى …

وكانت قطر الندى بنت خمارويه قد كبرت، وبلغت شأوًا، ونضجت عقلًا وأنوثة …

واجتمع خمارويه بخاصته وأصحابه فأفضى إليهم بما اجتمع عليه رأيه، فكلهم قد رضيه ورآه صوابًا، وكان في المجلس أبو عبد الله الحسين بن الجصاص الجوهري، وكان قد دنا وحظي وبلغ من نفس الأمير منزلة أصحاب المشورة.

وبات خمارويه على نية وأصبح على عمل …

١  عقاب.
٢  انتظر.
٣  عهد.
٤  عائدون.
٥  عنفه وصرامته.
٦  كلمة زجر.
٧  أشد غيرة.
٨  أنا كفيل بهذا الأمر.
٩  لن يغلبوا بسهولة.
١٠  في رعاية الله.
١١  سلاحه.
١٢  قسرًا.
١٣  المحروس بالسيوف.
١٤  يسرع.
١٥  تعب.
١٦  بلد في الجزيرة على الفرات.
١٧  السواد شعار العباسيين.
١٨  تولى الوزارة.
١٩  من بلاد الشام.
٢٠  ولو شاب شعر رأسي في سبيل الغاية.
٢١  لا تحزن.
٢٢  هم أن يعصي أباه.
٢٣  حزينًا.
٢٤  عجبًا.
٢٥  على مهلك.
٢٦  انطفأ.
٢٧  يرجع.
٢٨  ضاق بك.
٢٩  يزداد طمعًا.
٣٠  قائد حرسه.
٣١  القابلة: الداية.
٣٢  جاذبية.
٣٣  يوم ولادتها.
٣٤  وبعد جهد ما.
٣٥  في القرآن الكريم أن موسى مس بعصاه البحر فانفلق.
٣٦  يسبقنني ويُحِطْنَ بي.
٣٧  العطر.
٣٨  على غفلة.
٣٩  السجن.
٤٠  الخزري: منسوب إلى بلاد الخزر.
٤١  يتطلع إليه.
٤٢  يتوليان أمرهما.
٤٣  عالم من علماء بغداد، كان معلمًا لأبي العباس بن الموفق، ثم صار رائدًا له ومعلمًا لولده.
٤٤  جبل من جبال المدينة كانت عنده موقعة من المواقع المشهورة في تاريخ الدعوة الإسلامية.
٤٥  ذا خطر.
٤٦  يسر إليك الحديث وتسر إليه.
٤٧  يخضع له.
٤٨  طعمة.
٤٩  القيان: الجواري.
٥٠  حقده.
٥١  جميلَهُ.
٥٢  يعرف ما تخفي.
٥٣  ما أبذل من الجهد.
٥٤  قيَّد الأسرى.
٥٥  مدينة في الإقليم الشمالي.
٥٦  مدينة في الإقليم الشامي.
٥٧  الفكاهات.
٥٨  كان يحيى بن علي هذا منجمًا مشهورًا، وله في أحاديث النجوم مؤلفات وأخبار، وقد ورث بنوه عنه هذه الحرفة، فصاروا كذلك منجمين لهم مثل شهرته.
٥٩  من بلاد المشرق، بعضها الآن يتبع إيران، وبعضها يتبع الاتحاد السوفييتي.
٦٠  كنت على نية أن أبعث إليه.
٦١  تنفق: تَرُوج.
٦٢  من قصور الخلافة في بغداد.
٦٣  الشذوات: معابر تشبه الذهبيات.
٦٤  ابعد عني.
٦٥  صوت النعل.
٦٦  المسافة.
٦٧  مرمى سهم.
٦٨  أتعصي وتتكلم.
٦٩  رفعوا رءوسهم.
٧٠  سقطت دابته.
٧١  لأوسع صدرًا.
٧٢  بتوجيهك يتجهان.
٧٣  ما بذلت من الجهد.
٧٤  مجهود: متعب.
٧٥  أعطاه ثيابًا ومالًا.
٧٦  ركوبة يركبها.
٧٧  يعني أنه لم يكن يظن أن في الدنيا مثل هذا النفاق وهذا الكذب.
٧٨  آده: ثقل عليه.
٧٩  فَهِمَ الغلام من كلمة أبي العباس أنه سيقتل نفسه.
٨٠  ظن أبو العباس من هذا الحديث أن أباه صدق حديث المنجم، فهو لا يحارب الطولونية خوفًا منها.
٨١  ثم ظن ظنًّا آخر، فزعم أن أباه حين صدق حديث المنجم حبسه لئلا يكون على يديه انتصار الطولونية!
٨٢  خَدَمُ الطعام.
٨٣  تتبع آثاره.
٨٤  القطائع: اسم المدينة التي بناها أحمد بن طولون جنوبِيَّ الفسطاط، وقد تهدمت بعد ذلك، وقامت على أنقاضها أبنية أخرى، وموقعها الآن بين مسجد السيدة زينب والقلعة، حيث لم يزل مسجد ابن طولون حتى اليوم.
٨٥  أنعم الله عليه.
٨٦  احتجبن في الشرفات.
٨٧  الأقبية: جمع قباء، وهو ثوب مشقوق المقدم، يشبه الجبة، والجواشن: جمع جوشن، وهو الصدر أو الدرع.
٨٨  انتطقوا: تحزموا.
٨٩  الدرق: جمع درقة، وهي الترس.
٩٠  الوصيد: الباب.
٩١  الحفظة: الحراس.
٩٢  تعني أن فيها غيرة على إناثها مثل غيرة بني آدم.
٩٣  بنو ساسان: ملوك إيران القدماء.
٩٤  للحسين بن الجصاص الجوهري شهرة في تاريخ ذلك العصر، وقد كان له دور في التاريخ، وسيرد ذكره كثيرًا فيما يلي.
٩٥  الكسروي: نسبة إلى «كسرى» وهو ملك الفرس.
٩٦  الصبوح: شراب الصباح.
٩٧  الغبوق: شراب المساء.
٩٨  بلغ بنو طولون من الترف ما لم يبلغ ملك من الملوك قبلهم في مصر وفي غير مصر!
٩٩  حلقات.
١٠٠  حبال.
١٠١  في أرض المشرق من بلاد الاتحاد السوفييتي الآن.
١٠٢  وزير من وزراء الدولة العباسية في ذلك العهد.
١٠٣  حقيقته.
١٠٤  اجتمع له الأمر.
١٠٥  يخَمِّن ما يخمن.
١٠٦  ظن أنهم قادمون لقتله.
١٠٧  العُوَّاد: زُوَّار المريض.
١٠٨  خضعت لسلطانه.
١٠٩  يختبر قوته.
١١٠  فهي أقرب إلينا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤