خاتمة

رأينا في الصفحات السابقة كيف تطوَّر الفن الإيراني في الإسلام، وألممنا في شيء من الاختصار بالميادين المختلفة التي أظهر فيها الإيرانيون عبقريتهم الفنية، ونَوَد الآن أن نختتم حديثنا بلمحة عامة عن مميزات هذا الفن.

ولعل أول ما يلفت النظر في العمائر والتحف الفنية الإيرانية ما فيها من عظمة وفخامة، ولكنها عظمة ممتازة، ومشربة بالدقة وحسن الذوق والبراعة والتوفيق في الاختيار؛ فإن الشعب الإيراني شعب ذو مِزاج رقيق في فنه وأدبه وحياته الاجتماعية، والذين يفهمون مقام قصائد حافظ ورباعيات الخيام وقصص سعدي في الأدب العالمي، يمكنهم أن يعرفوا مكانة الفن الإيراني بين سائر الفنون، وأن يدركوا ما يمتاز به من أرستقراطية قوامها الرقة والإبداع والإتقان.

وفضلًا عن ذلك فالإيرانيون شعب فنان ذو غريزة زخرفية قوية؛ ولذا يكاد الفن يشمل كل ما يستخدمه الإيراني في حياته، بل إن الصانع العادي لا يَقْنَع في منتجاته بنصيب قليل من جمال الفن ورونقه.

والإيرانيون يحبون الزهور والحدائق، ولا يملون الحديث عنها في أدبهم وشعرهم، وهم بعد ذلك يتخذونها عنصرًا أساسيًّا من عناصر الزخرفة عندهم.

•••

والفنون الإيرانية في الإسلام أكثر الطرز الإسلامية تماسكًا ووحدة، وحسبك أن توازن بين الطرز الفنية في مصر: الطولوني والفاطمي والمملوكي؛ لتدرك أن الفرق بين كل منها والذي يليه أكبر من الفرق بين الطراز السلجوقي والطراز الإيراني التتري والطراز الصفوي.

أجل، إن البناء أو التحفة المصرية الإسلامية لها ذاتيتها في كل العصور، وإننا نستطيع أن ندرك لأول وهلة أن القطعة الفنية من منتجات مصر، ولكننا نشعر أن العمائر أو التحف الإيرانية أشد وحدة، وأن غير الأخصائيين إذا نسبوها إلى طراز آخر، فإنما ينسبونها إلى طراز متأثر بالفن الإيراني كل التأثر كالطراز العثماني أو الطراز الهندي.

وقُصارَى القول أن الطرز الفنية الإيرانية عظيمة التماسك ووافرة الاستقلال عن غيرها من الطرز الإسلامية التي لم تتأثر بالأساليب الفنية الإيرانية، بَيْدَ أن الطرز الإسلامية جميعًا في إيران وفي مصر وفي سائر الأقطار الإسلامية مشتركة في صفات عدة هي التي تُكسبها الطابع الإسلامي.

•••

فالفن الإسلامي عامة فن غير شخصي، والفنان المسلم في إيران ومصر وإفريقية والأندلس والشام وتركيا لا يعمل على أن يعبر عن الطبيعة، أو عن الحقيقة أو عن شعوره تعبيرًا خاصًّا يميزه عن غيره من الفنانين، ولا يثبت وجوده باتخاذه طريقًا خاصًّا وأسلوبًا معينًا ينم عنه، وإنما نراه في أكثر الأحيان يتبع السبيل المطروق، ويقتفي أثر الأقدمين، ويسير على الأساليب الفنية الموروثة. والفنان الماهر يفوق غيره في إتقان الرسم أو الزخرفة، ولكنه قَلَّ أن يبتدع شيئًا جديدًا. ولعل هذا أكبر سبب في أن أكثر التحف الإسلامية مجهولة الصانع، ونحن حين نعجَب بهذه التحف قَلَّ أن نفكر في صانعها؛ لأنها جزء من كل: هو الطراز الذي تُنسب إليه، ولأننا نستطيع أن نعرفَ البلد الذي صُنعت فيه والعصر الذي ترجع إليه، ولكن صانعها لم يترك لنا من شخصيته ما يساعد على تسجيل اسمه لنا، وما يبعث فينا الشوق إلى معرفته. أجل إن هناك حالات شاذة ولكنها تُثبت القاعدة كما يقولون، والفنان إذن وسيلة وأداة، ومنتجاته لا تدل عليه؛ ولذا لم يكتب المسلمون في تاريخ حياة الفنانين، حتى إننا إذا عثرنا على اسم فنان لم نجد عنه في كتب التاريخ والأدب ما يمكننا أن نتبين منه بيئته والعوامل التي أثرت في فنه. والحق أن الْبَوْن شاسع بين حال الفنانين في تاريخ الغرب ونصيبهم في الشرق الإسلامي؛ فاللغات الإغريقية واللاتينية ثم اللغات الأوروبية غنية بما فيها من مؤلفات في تاريخ الفنانين ودرس البيئة التي عاشوا فيها والعوامل المختلفة التي أثرت في فنونهم، بل إن بعض مؤرخي الفنون يكرسون حياتهم العلمية لدرس فنان من الفنانين وإماطة اللثام عن كل دقيقة صغيرة في حياته وفي آثاره الفنية، أما في الإسلام عامة فإن نصيب الفنان من العناية كان ضعيفًا هينًا.

والواقع أن الفنانين في الإسلام لم يفتنوا بمنتجاتهم من ناحية الجدة والإبداع، فكانوا في معظم الأحيان لا يكتبون على تلك التحف أسماءهم، ولم يشعروا بلزوم ذلك ولم يفكروا فيه، كأنهم كانوا يعلمون أنهم في الغالب صناع وليسوا فنانين.

ولا ريب في أن هذه الصفة من صفات الفنون الإسلامية غير واضحة لكثيرين من المشتغلين بالفنون، وحسبك أن أحد الزملاء كتب العبارة الآتية في مقال عن «بدائع الفن الإيراني»:

وظاهرة من أهم ظواهر الفن الإيراني وحدة معانيه في جميع نواحي الفنون وفي جميع عصوره التاريخية؛ فالفنون الإيرانية مجموعة لها شخصية متحدة تتلاشى من ورائها شخصية الفنان، وإذا كنا لا نعرف إلا القليلين من رجال الفن الإيراني؛ فذلك لأنهم كانوا يدمجون شخصيتهم في شخصية قومية أعلى، وكانوا يعتقدون أنهم إنما يعملون لمجد خالد لا لمنفعة شخصية.

وفي رأينا أن الزميل الفاضل لم يكن موفقًا كل التوفيق في الجزء الأخير من هذه العبارة؛ لأن الواقع أن قلة الإمضاءات في الفنون الإسلامية ونُدرة البيانات عن الفنانين ترجعان إلى طبيعة الفن الإسلامي في قلة الإبداع والابتكار، وفي اتباع الفنانين مجموعة من الأساليب الفنية الموروثة، كما ترجعان إلى أرستقراطية الفنون الإسلامية، وإلى أن الأمير أو الثري الذي يُشَيَّد له البناء أو تُصْنَع له التحفة الفنية، يأبَى أن يسود اسم المهندس أو الفنان، ويحرص على أن يكون الفضل كل الفضل لشخصه بوصفه المنفِق على تشييد البناء أو صاحب التحفة.١

ولكن لا يفوتنا أن نذكر أن الطرز الإيرانية هي أحفل الطرز الإسلامية بالحالات الشاذة عن القاعدة التي شرحناها في السطور السابقة؛ وذلك لأن الطرز الفنية الإيرانية كانت أكثر فهمًا للحياة من سائر الطرز الإسلامية. ويرجع ذلك إلى أن الفنانين الإيرانيين لم يكترثوا بتحريم تصوير الكائنات الحية أو تجسيمها؛ فاتسع الأفق الفني عندهم، وأقبلوا على توضيح المخطوطات بالصور، وعلى إنتاج التحف البديعة، وأصاب بعضهم في هذا السبيل توفيقًا حق له أن يفخر به وأن يسجله لنفسه، أو ظن خطأً أنه أصاب ذلك التوفيق فسجله بدون أن يستحقه.

•••

وكان الإيرانيون كسائر الشعوب الإسلامية يكرهون الفراغ في زخارفهم ويميلون إلى تغطية كل المساحات المراد تزيينها، فلا يتركون من سطحها شيئًا بدون زخارف، ولكنهم لم يبالغوا في ذلك كل المبالغة بل لقد أدركوا أحيانًا — ولا سيما في زخرفة الخزف — ما يمكن أن يفيدوه من ترك بعض الفراغ بين العناصر الزخرفية المختلفة.

•••

وثمة ميزة أخرى للطرز الإيرانية في الإسلام، وهي أنها أكثر الطرز الإسلامية اتصالًا بالتاريخ القومي في الأقاليم التي قامت فيها؛ فقد عمد الإيرانيون إلى تاريخهم الوطني، واتخذوا منه موضوعات عديدة للتصوير والزخرفة، ورسموا قصصه في الخزف وفي الصور التي زينوا بها المخطوطات وغير ذلك.

ولعل السبب في ذلك أنهم الأمة الوحيدة التي لم يقطع الإسلام صلتها بتاريخها القديم بعد أن فتحها العرب، وأصبحت جزءًا من إمبراطوريتهم. وحسبك أن تُمْعِن النظر في الطرز الفنية التي قامت في مصر: الطولوني والفاطمي والمملوكي؛ فإنك لن ترى فيها كبير صلة بالعصر الفرعوني أو العصر الإغريقي الروماني أو العصر القبطي من عصور التاريخ المصري؛ ولا غرابة فإن المصريين فقدوا بعد الفتح العربي لغتهم وأدبهم القديم، بينما إيران صمدت للعنصر العربي طويلًا ولم تفقد لغتها القديمة، وإن كَتَبَتْها بالحروف العربية، واستعارت لها من اللغة العربية آلاف المفردات والتراكيب. وفي القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي) قامت نهضة قوية في إيران، وذاع استخدام اللغة الفارسية في الأدب من جديد، وزاد اعتزاز الإيرانيين بتاريخهم الوطني القديم وبعبقريتهم الفنية التي ورثوها عن أسلافهم الساسانيين. وكان بعد ذلك كتابهم العظيم «الشاهنامه» سجلًا لتاريخ بلادهم، وما ألم بها من الأحداث الخرافية والواقعية، فضلًا عن سِيَر أبطالهم المشبعة بطرائف الأخبار وقصص الحب والبطولة، وكان لهذا كله أكبر أثر في فنونهم وفي الموضوعات التي أقبلوا على تصويرها أو اتخذوها عناصر زخرفية.

وحسبك دليلًا على خلود الثقافة الإيرانية في تاريخ إيران — على الرغم من التقلبات السياسية — أن هذه الملحمة الإيرانية الوطنية نظمها الفردوسي برعاية محمود الغزنوي الذي كان تركي الأصل، والذي عُنِيَ برعاية الثقافة الإيرانية الإسلامية، وعاش في بلاطه بعض ذوي الشأن الخطير من شعراء إيران.

بل إن الثقافة الإيرانية كانت حينًا من الزمن مِنْ أَلْزَمِ الأشياء للطبقات العالية في الشرق الإسلامي؛ وذلك بعد أن زادت مكانة اللغة الفارسية حتى صارت تُعْنَى بدراستها الطبقةُ المثقفة في الولايات التركية منذ القرن العاشر الهجري (السادس عشر الميلادي). وقد ظلت الفارسية ذائعة في بلاد الهند حتى القرن الماضي (التاسع عشر الميلادي)، ولا يزال لها في تلك البلاد شأن غير يسير.

•••

ومما تمتاز به التحف الإيرانية على غيرها من التحف الغربية ومنتجات الشرق الأقصى أن في أشكال التحف الإيرانية شيئًا من الحرية والحياة والبُعد عن الدقة والكمال الآليين. وحسبك أن توازن بينها وبين الأواني الإغريقية مثلًا لتتبين في هذه شيئًا من الجمود والشدة والجفاف، ربما كان أساسه التزام أشكال معينة وأدائها بدقة تُذَكِّر بالآلات التي تُنْتِج آلاف القطع المتماثلة، والتي لا تتميز إحداها عن الأخرى.

•••

وإذا جاز لنا أن نتكلم عن وحدة فنية عامة في إقليم من الأقاليم التي ساد فيها الإسلام، فإن هذا الإقليم هو إيران؛ لأن الفن الإيراني في الإسلام — ولا سيما الفنون الزخرفية أو الفرعية — يمكن اعتباره متصلًا إلى حد كبير بالفن الإيراني القديم؛ فالعبقرية الفنية قديمة في الشعب الإيراني، وكانت تتكيف بأهواء الأسرات الحاكمة في البلاد بدون أن تفقد طابعها الوطني كله، حتى أصبحت الطرز الإيرانية في الإسلام أغنى الطرز الفنية الإسلامية بآثار الفنون التي كانت سائدة في البلاد قبل الإسلام. حقًّا إن الطراز الهندي الإسلامي يَصْدُق عليه هذا القول أيضًا، ولكن علينا أن نذكر أنه قام على أكتاف الإيرانيين، وأنه تأثر بهم تأثرًا كبيرًا، حتى إن بعض الباحثين لا يعتبرونه طرازًا فنيًّا قائمًا بذاته.

•••

ولا يجدر بنا أن ننسى ما في التحف الفنية الإيرانية من نضارة تُكسبها شبابًا دائمًا، وتبعد عنها في أكثر الأحيان ذلك الوقار والجفاء والهيبة التي تحيط بالتحفة الفنية فتطبعها بطابع آخر. وحسبك أن تنظر إلى صورة إيرانية ثم إلى لوحة فنية غربية من العصر نفسه؛ لترى أن شعورك في الحالتين لا يكون واحدًا؛ فللصورة الإيرانية سحرها الخاص، وخيالها الواسع، وثروتها الزخرفية، وألحانها المتكررة كالموسيقى الشرقية، وفي اللوحة الغربية ألوانها المملوءة بالمعاني، وتكوينها الباعث على التفكير، ومغزاها في بيان نعيم الحياة أو آلامها. وقُصارَى القول أن اللوحة الفنية الأوروبية أكثر نضوجًا، وأنفذ إلى أعماق الحقيقة، وأقدر على بيان الجمال الروحي في الحياة والطبيعة، وعلى تصوير التضحيات البشرية في الدين والوطنية والمثُل العليا.

وإننا لا نلمس هذه النضارة والشباب الفني في الصور الإيرانية فحسب، بل نراها في الخزف وألواح القاشاني والمنسوجات، حتى العمائر الإيرانية لا نجد فيها كل الوقار والجفاف والهيبة التي نراها في العمائر الإسلامية في سائر الأقطار الإسلامية.

ولا ريب في أن هذه الميزة كأكثر الميزات الأخرى في الفن الإيراني، ترجع لدرجة كبيرة إلى طبيعة إيران ومناخها وشمسها وبيئة الفنانين فيها. وقد اختلفت الآراء في تحديد ما كان لهذه العناصر من التأثير في الفن الإيراني؛ فبالغ بعض الكتاب في مقدار هذا التأثير، كما بالغ تين Taine في كتابه «فلسفة الفن» ومارش فيلبس Philips في كتابه «الفن والبيئة» في تقدير تأثيرها على الفنون عامة، ورأى آخرون أن تأثير تلك العناصر لا يمكن إهماله، ولكن يجب الحذر من المبالغة في تقدير شأنه.

بَيْدَ أننا نستطيع أن ننسب إلى الموقع الجغرافي كثيرًا من طبيعة الفن الإيراني؛ فإن إيران تقع في وسط المدنيات العظيمة في العصور القديمة والوسيطة، وكان اتصالها عظيمًا بالبلاد التي قامت فيها تلك المدنيات؛ فتأثرت بها وأثرت فيها، وقد عاب بعضهم على الفنون الإيرانية أنها أخذت أصولها عن بلاد السومريين والبابليين والحيثيين والأشوريين والمصريين القدماء والإغريق والرومان والبيزنطيين، ولكن الواقع أن هذه سُنَّة الفنون كلها، وأن الفنون كما تأخذ تعطي، وأن الفن الإيراني القديم أعطى الطرز الإسلامية جزءًا كبيرًا من عناصرها الأولى كما أعطاها الفن البيزنطي جزءًا آخر.

ومما يخالف روح البحث العلمي الصحيح أن بعض الباحثين الذين يريدون أن يزجُّوا بالقومية في كل شيء يزعمون أن الفن الإسلامي أصيل لم يتأثر بغيره، وإنما أثر في فنون الأمم الأخرى.٢ وهذا غير صحيح؛ لأن الفن الإسلامي تأثر في إيران وفي مصر وفي غيرها من الأقطار الإسلامية بالأساليب الفنية القديمة التي كانت قائمة في تلك البلاد، ثم أُتيح له أن يؤثر في غيره من الفنون، ولا سيما بوساطة المدنية الإسلامية في الأندلس وجزيرة صقلية وبوساطة الحروب الصليبية، ثم بوساطة اتصال البلاطين العثماني والإيراني بالبلاد الغربية.

•••

وقد كان من حسن حظ إيران أن الذين فتحوها من عرب وتتر وأفغان، كانوا أقل منها في المدنية وأفقر في الأساليب الفنية، فلم يأتوا بشيء يطغى على العبقرية الفنية الإيرانية طغيانًا تامًّا. والأمم التي كانت لها أساليب فنية زاهرة كالإغريق أو الصين أو الهند لم يُقَدَّر لها أن تغلب إيران على أمرها؛ ولذا بقيت السيادة الفنية في الفنون الإيرانية لإيران نفسها، وأخذت إيران عن تلك الأمم كثيرًا من الأساليب، ولكنها طبعتها بعد ذلك بالطابع الإسلامي القوي، وظلت العبقرية الفنية الإيرانية قوية وغالبة في كل مراحل التاريخ الفني الإيراني.

•••

وهناك ميزة عامة في الفنون الإسلامية، ولكنها أظهر ما تكون في الطرز الإيرانية، ونقصد طموح الصانع أو الفنان إلى الكمال الفني، وقدرته على الصبر، واستهانته بالوقت في هذا السبيل. وحسبك أن تفكر في النقوش الدقيقة على التحف، وفي صور المخطوطات، وفي عُقَد السجاجيد؛ لتدرك الوقت والصبر اللازِمَيْنِ لها. والواقع أن هذا طبيعي ولازم إلى حد كبير في الفنون الإسلامية، وهي كما نعرف فنون زخرفية قبل كل شيء، والمعيار الأساسي في الحكم على منتجاتها هو النظر دون الفكر، فضلًا عن أن هذه الفنون لا تستخدم من الموضوعات ما يثير الشعور أو يؤدي إلى التأثر العميق؛ فليس غريبًا أن تكسب في ميدان الزخرفة ما فقدته في ميدان الشعور والتأليف الفني.

•••

وقد وُفِّقَ الفنانون الإيرانيون في العصر الإسلامي إلى تعضيد السلاطين والأمراء، ولعل هذا من أعظم أسباب ازدهار الطرز الفنية الإيرانية؛ لأن المصور الذي يقضي السنين في تزيين مخطوط واحد، وصانع السَّجَّادة التي يلزمها العدد الوافر من العمال والمقادير الكبيرة من الحرير والصوف وربما الذهب والفضة، والفنان الذي يشتغل الأشهر الطوال في إنتاج تحفة أو إتمام زخرفة، كل هؤلاء كانوا يحتاجون إلى من يقوم بأودهم ويجزيهم عن هذه الأعمال خير الجزاء. وكان السلاطين والأمراء هم الذين يفعلون ذلك؛ ولا عجب فإن الفنون الإسلامية عامة فنون مَلَكية إلى حد كبير، والأمير وحاشيته هم الدِّعامة التي يقوم عليها الفن ويعتمد عليها أهله، أما رجال الدين في الإسلام فلم يشملوا الفنانين برعايتهم كما فعلت الكنيسة المسيحية في الغرب. وصفوة القول أن أكثر الملوك والحكام في إيران كانوا يقدِّرون رجال الفن وينفقون الأموال الطائلة في تشجيعهم والانتفاع بجهودهم وتيسير سبل العمل لهم.

وحسبنا أن نعرض بعض الأسماء في تاريخ إيران لنرى العلاقة الوثيقة بين الحكام وبين الإنتاج الفني؛ فعلى يد الأمراء السلاجقة قامت العمائر ذات القباب والأقبية، وشيد غازان خان (٦٩٤–٧٠٣ﻫ/١٢٩٥–١٣٠٤م) الجامع الأزرق في تبريز، بينما ترجع بعض أجزاء المسجد الجامع في أصفهان إلى عصر الجايتو محمد خدابنده (٧٠٣–٧١٦ﻫ/١٣٠٤–١٣١٦م) الذي شيد جامع فرامين والضريح الفخم في سلطانية، وبنى جامع جوهر شاد على يد شاه رخ الذي أسس في هراة مجمعًا لفن الكتاب؛ فأصبحت هذه المدينة في عصره مركزًا كبيرًا لصناعة التصوير، وأسس ابنه بايسنقر مكتبة أخرى ومجمعًا للفنون جمع فيه الخطاطين والمذهِّبين والمجلِّدين والمصوِّرين.

وكان الشاه إسماعيل الصفوي يُقَدِّر المصور بهزاد بنصف مملكته؛ وقد جاء في بعض المصادر التاريخية أن هذا الشاه اشتد جزعُه حين نشبت الحرب بين الترك والإيرانيين سنة ٩٢٠ﻫ/١٥١٤م وخشي أن يقع بهزاد والخطاط المشهور شاه محمود النيسابوري في يد أعدائه؛ فأخفاهما في قبو، وتم النصر للترك؛ فدخلوا تبريز ثم رحلوا عنها، ولما عاد الشاه إسماعيل كان أول ما عُنِيَ به أن يطمئن على بهزاد وزميله، وأن يستوثق من بقائهما في خدمته. وكذلك كان الشاه طهماسب مصوِّرًا ماهرًا وراعيًا للفن والفنانين، والشاه عباس الأكبر يرجع إليه الفضل في تجميل أصفهان وجعلها مركزًا عظيم الشأن للعلوم والفنون.

وأما صاحب الجلالة الشاه رضا، إمبراطور إيران الحالي، فيُعير الفنون قسطًا وافرًا من رعايته ويشملها بنصيب عظيم من عنايته، وقد تم بفضله ترميم كثير من العمائر، وانقضى عهد تسرب التحف الإيرانية الجميلة إلى البلاد الأجنبية، وعاد إلى الفنون والصناعات الدقيقة الازدهار الذي عرفته في العصور الذهبية من تاريخ إيران، فضلًا عما عُنيت به حكومة جلالته من تنظيم المتاحف وتشجيع رجال الفن.

١  راجع مقالنا عن «إمضاءات الفنانين في الإسلام» بمجلة «الثقافة»، العدد ٤٠، القاهرة في ٣ أكتوبر سنة ١٩٣٩.
٢  انظر عددي ٧١ و٧٣ من مجلة هَدْي الإسلام (القاهرة في ٢٧ مارس و١٠ أبريل سنة ١٩٣٦) ص٢٤–٢٦.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤