السَّجَّاد

السَّجَّاد أكثر منتجات الفن الإيراني انتشارًا في العالم، وأكبر الظن أن شهرة إيران في هذا الميدان ترجع إلى العصور القديمة، وأنها كانت تصدِّر السَّجَّاد إلى الإغريق ثم إلى البيزنطيين ثم إلى الغربيين في العصور الوسطى. ولا عجب فقد كانت أُبَّهَة السجاجيد الإيرانية أول ما يبدو لمن يزور إيران من الرَّحَّالة أو يتصل ببلاطها من السفراء ورجال البعثات، فضلًا عن أن موازنة هذه السجاجيد بما كان ينتجه الغرب لم تكن لتترك أي مجال للشك في التفوق العظيم الذي أحرزه الإيرانيون في هذا الميدان.

على أن أقدم السجاجيد الإيرانية المعروفة ترجع إلى عصر السلاجقة في القرن السادس الهجري (الثاني عشر الميلادي). وكان نسج السَّجَّاد شائعًا بين القبائل الرُّحَّل وبين الأسرات الإيرانية العادية وفي المصانع التِّجارية المختلفة. أما اهتمام البلاط والأمراء بإنتاج السَّجَّاد فقد بدأ في القرن التاسع الهجري (الخامس عشر الميلادي)، وأنشئت مصانع النسج الشاهانية لينسج فيها مَهَرة الصُّنَّاع السجاجيد الجميلة لقصور الشاه أو للأمراء والملوك الأجانب الذين يأمر بإهدائها إليهم.

ولا ريب في أن إيران كانت أكبر مركز لصناعة السَّجَّاد في الشرق كله، وأن المراكز الأخرى تأثرت بأساليبها الفنية كل التأثير، كما نرى في الهند وتركيا اللتين تأثرتا بها مباشرة، ثم بلاد القوقاز التي كانت منتجاتها في هذا الميدان خليطًا من الأساليب التركية والإيرانية، ثم مصر وإسبانيا اللتين تأثرتا بها عن طريق تركيا.١

ولعل السبب في ازدهار الصناعة في إيران هو تشجيع الملوك والأمراء ورجالات الدولة، وإنفاقهم الأموال الطائلة في إنتاج أحسن الفُرُش والأبسطة، وأفخرها مادة وحسن صناعة، على يد كثيرين من العمال، يشتغلون الشهور الطويلة في صنع سجاجيد تخرج آية في الفن، ولا يدري المرء بأي شيء يعجب فيها، أبنضارة الألوان وانسجامها أم بجمال الزخارف ودقتها أم بمتانة الصناعة وإتقانها؟!

•••

وقد كتب الأستاذ أحمد زكي بك في العدد الخاص الذي أصدرته مجلة الثقافة عن إيران في ١٤ مارس سنة ١٩٣٩ مقالًا نفيسًا عن الأبسطة والسجاجيد، جاء فيه أن عالمًا إنجليزيًّا اسمه رتشارد هكلوت Hakluyt عاش في القرن السادس عشر الميلادي، ونشر كتابًا اسمه «الرحلات» قال فيه يخاطب التاجر الرحَّالة من تجار بلده:

… وفي فارس ستجد أبسطة من الصوف الخشن ذات فضالات من خيط مرسلة عند أطرافها، فهذه أحسن أبسطة الدنيا، وألوانها أجمل ألوان، فإلى هذه المدائن والبلدان فَتَوَجَّهْ، وفيها فاعمل كل حيلة لتتعلم من أهلها كيف تُصبغ هذه الفتائل؛ فهي مصبوغة بحيث لا يؤثر في لونها مطر أو خل أو خمر. فإذا أنت بَلَغْتَ منهم عِلْمَ ذلك، واكْتَنَهْتَ كُنْهَ هذا السر العجيب أمكنك أن تستخدمَه في صَبْغ القماش وأنت واثق؛ فالصبغة التي تثبت في الفتائل الخشنة تكون أكثر ثبوتًا في الثوب المنسوج … واسأل عن سوائل الصباغة وحوائج الصبغ، وتعرَّفْ أثمانها. وإذا أنت استطعت أن تعود برجل واحد يُحْسِن صناعة الأبسطة التركية، فقد غنمت الخير الكثير لأمتك، والكسب والعمل لشركتك.

ولسنا نريد في هذا المقام أن نعرض للناحيتين العلمية والصناعية في نسج السَّجَّاد،٢ فهما لازمتان للأخصائيين ورجال العلم من المشتغلين بهذه المسائل، ولكنا نخشى أن يكون في بحث هاتين الناحيتين خروج عن المسحة الفنية العامة التي نريدها لهذا الكتاب، فحسبنا أن نقتطف بشأنهما ما نحتاجه من مقال الدكتور أحمد زكي بك؛ فقد أصاب فيه أبعد حدود التوفيق في تبسيط البيانات العلمية البحتة.

وقد ذكر الأستاذ في مقاله أن الخيوط كانت تُصبغ قبل نسج السجاجيد والأبسطة، «وأن كل اعتماد الشرق في قديمه كان على صبغات نباتية أو حيوانية قليلة — قليلة بالنسبة لألوف الأصباغ المصطنعة اليوم اصطناعًا. فكانوا يغطسون الغزل فيها فيحصلون على ألوان بعدد هذه الصبغات، ثم هم يعيدون تغطيس الغزل في غير صبغته الأولى؛ فيؤلفون بهذا بين الصبغات المختلفة؛ فيحصلون منها على ألوان جديدة عديدة، هي أوساط بين تلك الصبغات؛ وبهذا يوسعون فيما ضيقت الطبيعة عليهم فيه. ومن أمثلة هذه الأصباغ وأشهرها النيلة أو النيلج، وهي زرقاء، ثم الفوَّة وهي حمراء، وكلتاهما من النبات.»

•••

وتدل المصادر الأدبية والتاريخية على أن إيران في بداية العصر الإسلامي كانت أعظم البلاد شهرة في إنتاج السَّجَّاد؛ فكانت السجاجيد الإيرانية الثمينة تفرش في الحفلات الرسمية ببلاط بيزنطة في القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي). وكتب جغرافيو العرب الأقدمون عن كثير من المدن الإيرانية، وذكروا أنها كانت مركزًا لنسج السَّجَّاد،٣ وأكبر الظن أن زخارف السجاجيد الإيرانية غلبت عليها العناصر الهندسية والنباتية منذ بداية العصر الإسلامي إلى القرن التاسع الهجري (الخامس عشر الميلادي).
ومهما يكن من الأمر فإن أقدم المعروف من السَّجَّاد اليدوي في إيران يرجع إلى القرن العاشر الهجري (السادس عشر الميلادي)، ففي متحف بولدي بدزولي Poldi Pezzoli في ميلان سَجَّادة إيرانية بديعة، عليها بيت شعر فارسي نصه:
شد أز سعى غياث الدين جامي
بدين خوبي تمام اين كارنامي
سنة ٩٢٩
ومعناه أن هذه التحفة الجميلة تم صنعها في سنة ٩٢٩ (١٥٢٣م) على يد غياث الدين جامي.٤
وثَمَّةَ سَجَّادة أخرى قد تكون أقدم قليلًا من سجادة بولدي بدزولي، إذا صح ما يقال عن أنها كانت بين الغنائم التي استولى عليها السلطان سليم العثماني حين فتح مدينة تبريز سنة ٩٢٠ﻫ/١٥١٤م،٥ وهذه السَّجَّادة في مجموعة المستر بجيان Bégian، ونحن لا نميل إلى تصديق ما يُقال عن صلتها بفتح تبريز حتى يقومَ على صحته دليل قوي. وأكبر ظننا أنها ترجع إلى نهاية القرن العاشر الهجري (السادس عشر الميلادي).
وثَمَّةَ سَجَّادة أخرى مشهورة جدًّا طولها ٥٢‚١١ مترًا وعرضها ٣٤‚٥، وهي تحفة فنية نادرة المثال محفوظة الآن في متحف فكتوريا وألبرت بلندن. وقد كانت قبل ذلك في مدينة أردبيل بضريح الشيخ صفي الدين جد ملوك الأسرة الصَّفَوِيَّة، وفي وسط هذه السَّجَّادة جامة أو صرة كبيرة، وحولَها جامات أخرى صغيرة وبيضاوية، والأرضية تزينها رسوم الزهور والزخارف النباتية ذات الألوان البراقة. أما الأركان ففي كل منها رسم يتكون من ربع جامة كبيرة حولها جامات صغيرة، وإطار هذه السَّجَّادة غاية في الجمال، فهو مكون من أشرطة مملوءة بدوائر ومستطيلات ذات فصوص، فضلًا عن رسوم الزهور والزخارف النباتية، وفي طرَف من أطراف السَّجَّادة مستطيل فيه بيتا شعر لحافظ الشيرازي،٦ وتحته العبارة الآتية: «عمل بنده دركاه مقصود كاشاني سنة ٩٤٦»؛ أي عمل خادم الأعتاب مقصود القاشاني سنة ٩٤٦ﻫ/١٥٣٩م.٧

•••

أما السجاجيد التي ترجع إلى ما قبل العصر الصفوي فلم يصل منها شيء يستحق الذكر، والذي نعرفه عنها مستمد من رسمها في الصور الإيرانية واللوحات الفنية الأوروبية التي ترجع إلى القرن الرابع عشر الميلادي. وأكثرها سجاجيد صغيرة ذات زخارف هندسية أو رسوم حيوانات محوَّرة عن الطبيعة. وفي القرن التاسع الهجري (الخامس عشر الميلادي) كانت الزخارف هندسية فحسب، كما نرى في نوع أُطلق عليه اسم هولبين، وهو المصور الألماني هانس هولبين Hans Holbein الأصغر الذي عاش في بداية القرن العاشر الهجري (١٤٩٧–١٥٤٣م) ورسم في بعض صوره سجاجيد من هذا النوع.
ولا غَرْوَ فقد كانت هناك تِجارة واسعة في السَّجَّاد الإيراني بين الشرق والغرب في العصور الوسطى، ولم تَرِدْ هذه السجاجيد في اللوحات الفنية فحسب؛٨ بل جاء ذكرها مرارًا في القوائم التي كانت تُكتب عن الكنوز الفنية في القصور والمجموعات الفنية المختلفة. وقد عُني باقتنائها الملوك والأمراء وأعلام الفنانين ولا سيما روبنز Rubens، الذي كانت له منها مجموعة طيبة، اضْطُرَّ إلى بيعها في نهاية حياته.

•••

وكانت السجاجيد الإيرانية تختلف باختلاف صانعيها والذين كانت تُصنع لهم؛ فضلًا عن أنها تطورت، فكانت صناعتها في القرن التاسع الهجري (الخامس عشر الميلادي) شابَّة فتية، وبلغت عصرها الذهبي في القرنين العاشر والحادي عشر بعد الهجرة (السادس عشر والسابع عشر)، ثم دَبَّ إليها الضعف في القرنين الثاني عشر والثالث عشر (الثامن عشر والتاسع عشر). وأما في القرن الحالي فقد فقدت نضارتها القديمة، بل غدت منتجاتُها سوقية ولا يمكن موازنتها بالسجاجيد الإيرانية القديمة، اللهم إلا بعض السجاجيد التي يُعنى بها عناية خاصة.

وطبيعي أنَّ أبدع السَّجَّاد الإيراني ما كان يُصنع للملوك وكبار الأمراء، ثم يليه الذي كان يُصنع في المراكز الرئيسية التي اشْتَهَرَتْ بنسج السَّجَّاد؛ مثل أصفهان وكرمان وقاشان وقم وتبريز وكرباغ وهمذان وشستر وهراة ويزد. وكانت أكثر الصادرات من هذا النوع، فضلًا عن أن رجال الطبقة الوسطى كانوا يُقبلون عليه إقبالًا شديدًا. أما أبسط الأنواع فهي التي كانت تصنعها القبائل الرُّحَّل وعامة الشعب في المدن.

وكثيرًا ما كان الملوك والأمراء يطلبون إلى أعلام المصوِّرين والرسامين أن يقوموا بإعداد الرسوم التي تزين بها السجاجيد الفاخرة. والمعروف أن المصورين كان لهم في البلاط وفي الحياة الاجتماعية نفوذٌ كبير بين القرنين التاسع والحادي عشر بعد الهجرة (الخامس عشر والسابع عشر بعد الميلاد) فلم يصوروا المخطوطات فحسب، بل أشرفوا على شتى أنواع الزخرفة: في العمائر وعلى المنتجات الخزفية والمنسوجات والسَّجَّاد. ولعل أعظم من اشتغل من المصورين بعمل زخارف السَّجَّاد هم بهزاد وسلطان محمد وسيد علي.

•••

وتتركب السجاجيد والأبسطة من الرقعة والخميلة، أما الرقعة فالنسيج التحتاني وتُصنع من القطن وخيوط الكتان، وأما الخميلة فالنسيج الفوقاني وهو في أكثر الأحيان من الصوف الطويل الشعرات أو الحرير.

والسجاجيد نوعان: يَدَوِيٌّ شرقي ومَكَنِيٌّ غربي، وقد قال الدكتور أحمد زكي بك في مقاله سالف الذكر: إنهما يختلفان اختلافًا كبيرًا من حيث تركيبُهما ونسيجُهما، «ففي اليدوي الشرقي تستقِلُّ رقعة السَّجَّاد عن خميلته، والرقعة فيه نسيج ككل الأنسجة، له سَداهُ وله لُحْمَتُه، وهو كأبسط ما تكون الأنسجة. والخميلة عبارة عن خُصَل مستقلة من الصوف الممشوط تُعقد من أواسطها على خُيوط السَّدَى عقدًا. أما في الْمَكَنِيِّ الغربي فخميلته من رُقعته فما هي إلا نُتوءات خرجت بها خُيوط سَدَى الرقعةِ عن مستوى الرقعة فبانت كحلمات الثَّدْي، والثُّدِيُّ كثيرة عديدة.

ومنسج البِساط الشرقي بسيط؛ فهو يتكون من عارضتين من الخشب متوازيتين، تُمَدُّ بينَهما خُيوط السَّدَى وطول هاتين العارضتين هو عرض البِساط، وَبُعْدُ ما بينَهما هو طوله. وتُعقد خُصَل الصوف عُقَدًا على خُطوط السَّدَى. وهذه الخُصَل تبلغ البوصتين طولًا، وقد تقصر وقد تطول، وتُختار ألوانها حسب الرسم الموجود أمام الناسج، فإذا تم الصف أو بعض الصف دَفَعَهُ بالْمُشْط جَذْبًا إلى أخواته وشد عليه خيطين أو أكثر من خُيوط اللُّحمة، ثم عاد سِيرَته الأولى بعَقْد الْخُصَل على السَّدَى. ويختلف نوع العقدة باختلاف البلاد، ويُستخدم نوعُها في تعرف البلد الذي عُقدت فيه؛ فالعقدة التركية تلتف الخصلة الواحدة من الصوف فيها حول خيطين متجاورين من السَّدَى بحيث تُجمع بينهما من أعلى، ثم يدور طرَفاها غائصين في مستوى الرقعة وراء هذين الخيطين ثم يجتمعان فينفذان بينهما صاعدين معًا متلامسين إلى وجه الرقعة؛ فيَحُلَّان محلهما من خميلة البِساط. أما العقدة الفارسية فتلتف الخصلة فيها وراء خيط واحد من السَّدَى، ولا تلتف حول جاره وإنما تحتضنه من تحته احتضانًا، وفي كلتا الحالتين من التفاف واحتضان ينتهي طرَفاهما فوق الرقعة في مكانهما من الخميلة.

ويتبين من صفة هاتين العقدتين أن الخُصَل — وهي التي تتألف منها خميلة السَّجَّاد اليدوي — لا تكون رأسية أبدًا على سطح الرقعة بل تنام مُلْقِيَة بأطرافها نحو طرَف السَّجَّاد اليدوي، ويتعسر بل يتعذر على الْمَكَنات تقليدها.

ويُلاحظ في العقدة الفارسية أنها تأذن باكتناز الخُصَل أكثر مما تأذن به العقدة التركية؛ ومن أجل هذا يُستطاع معها نسج أبسطة فيها الخُصَل أرَق وأكثر، وفي رِقَّة الخُصَل وكثرتها مجال للتلوين والتصوير أوسع وأفسح.»٩

•••

ويرجع جمال السَّجَّاد الإيراني وشهرته إلى إبداع ألوانه وتناسقها وحسن توزيعها، وإلى متانة الصناعة والعناية بالصوف؛ حتى لقد كانت الغنم تُرَبَّى خصيصًا ويُعنى بنظافة صوفها لينسج منه السَّجَّاد، كما أن الحرير وخيوط الذهب والفضة كانت تدخل في صناعة السجاجيد الشاهانية النفيسة.

وقد مرَّ بنا أن أقدم السجاجيد الإيرانية المعروفة ترجع إلى العصر السلجوقي. والحق أننا قد نستنبط من المصادر التاريخية والأدبية وجود سجاجيد إيرانية ثمينة في القرن الخامس الهجري (الحادي عشر الميلادي) في بلاط الدولة الغزنوية. ومع ذلك كله فإننا نستطيع أن نقول إن صناعة السَّجَّاد في إيران تطورت ببطء في العصر الإسلامي ولم تبلغ أَوْج عِزِّها إلا في القرن العاشر بعد الهجرة، ثم بدأت في الاضمحلال منذ نهاية القرن الحادي عشر (السابع عشر الميلادي).

ولكنا نستطيع أن نعتبر نسج السَّجَّاد بالرغم من هذه الحياة القصيرة خير الصناعات التي تمثل العبقرية الفنية الإيرانية؛ ولا غَرْو فقد كانت هذه الصناعة أَعَمَّ وأكثر انتشارًا ولا يَعِيبُها في شيء أن أبطالها لم تُرَدِّدِ الألسنةُ أسماءهم كما رددت أسماء الخطاطين والمذَهِّبين والمصوِّرين.١٠

وأكثر السجاجيد الإيرانية القديمة مستطيلة الشكل، وألوانها هادئة تغلب عليها الزُّرقة والحُمْرة، ونجد أن ما كان فيها من أصفر قد بَهِتَ بمرور الزمن وانكسرت حِدَّتُه.

(١) تقسيم السجاجيد الإيرانية وتاريخها

وقد اختلف رجال الفنون في تقسيم السجاجيد الإيرانية فبعضهم يقسِّمها باعتبار زخرفها، بينما يذهب آخرون إلى تقسيمها بحسب مراكز صناعتها في إيران، ولكن الوصول إلى هذا التقسيم الأخير ليس سهلًا ميسورًا؛ لأن البيانات الصحيحة بهذا الشأن نادرة جدًّا، فضلًا عن أن المصانع في البلاد الإيرانية المختلفة كانت تقلِّد أي طراز يَنال رَواجًا كبيرًا ولو كان موطنه في بلد آخر.١١ وعلاوة على ذلك فإن مركز الصناعة قد يكون قرية وقع عليها الاختيار؛ لسهولة الوصول إليها ولكثرة المواد الأولية حولَها ولجودة مياهها، بينما يكون تصميم السَّجَّاد وإعداد رسومه في مصانع البلاط بالعاصمة أو في بلد كبير آخر؛ فتكون العاصمة أو هذا البلد الآخر أعظم شأنًا من القرية التي يكون العمل فيها مقصورًا على النسج وتنفيذ ما تطلبه المراجع الفنية الرئيسية.١٢ ولا يجب أن ننسى أمرًا يتعلق بطبيعة الفن الإسلامي عامة وهو أنه فن ملكي أرستقراطي؛ فكانت المصانع المختلفة تُقبل على إنتاج النوع الذي يَحُوز رِضاء الشاه؛ فيصعب أن يُنسب هذا النوع إلى إقليم بالذات؛ ولكن بعض الملوك — كالشاه عباس مثلًا — كانوا يحرصون على أن تحتفظ مصانع كل إقليم بمميزاتها الخاصة؛ ولعل هذا الحرص كان سببًا في أن بعض المراكز الفنية مثل جوشقان قالي احتفظت بطابع خاص في كل ما أنتجَتْه من السَّجَّاد.

وقُصارَى القولِ أنه من الممكن تقسيم السجاجيد الإيرانية إلى أنواع مختلفة بحسَب زخارفها، كما يمكن نسبة بعض هذه الأنواع إلى مصانع بعض المدن الإيرانية المعروفة، ولكن بعض المدن الأخرى لا يمكن أن تُنسب إليها أنواع بالذات، كما أن بعض الأنواع لا نستطيع نسبتها إلى أي مدينة بالذات.

وكان مؤرخو الفنون الإسلامية في بداية هذا القرن يميلون إلى نسبة بعض السجاجيد الإيرانية إلى عصر سابق بقرن أو قرنين عن العصر الذي تُنسب إليه الآن. والحق أن معظم السجاجيد المصنوعة في القرنين العاشر والحادي عشر بعد الهجرة (السادس عشر والسابع عشر بعد الميلاد) يمكن تأريخُها على وجه التقريب؛ وذلك بفضل بعض السجاجيد المؤرخة التي وصلتنا، وبفضل ما كتبه في وصف السجاجيد الإيرانية بعضُ الرحالة الغربيين، وما جاء عنها في البيانات التي كُتبت عن الكنوز الفنية في بعض القصور والمجموعات الأثرية في القرون الماضية، وبفضل موازنة رسومها وزخارفها بما نعرفه في المؤرخ من المخطوطات والصفحات المذهَّبة والمنسوجات.

وفضلًا عن ذلك فإن تصوير السجاجيد الإيرانية في اللوحات الفنية الأوروبية عنصر له قيمته في تأريخها، والمعروف أن أكثر السجاجيد التي رسمها المصورون الأوروبيون في لوحاتهم الفنية من منتجات آسيا الصغرى، ولكنا نعرف أيضًا أن السجاجيد المصنوعة في شرقي إيران والتي تنسب إلى هراة رُسمت كثيرًا في اللوحات الفنية الأوروبية التي ترجع إلى نهاية القرن السادس عشر الميلادي (العاشر الهجري) والنصف الأول من القرن السابع عشر.

على أن تأريخ السجاجيد الإيرانية — على وجه عام — أمر محفوف بكثير من الصعاب، فإننا إذا أردنا الحكم بحسب الموضوعات الزخرفية وتطورها لم نجد النجاح حليفنا في كل الأحوال، وحَسْبنا أننا نجد في السَّجَّادة الواحدة موضوعات زخرفية مختلفة في تطورها؛ فيحملنا بعضها على تقديم تاريخ التحفة، ويدفعنا البعض الآخر إلى تأخيره.

ومهما يكن من الأمر فإن أعظم السجاجيد الإيرانية شأنًا ما يرجع إلى القرنين العاشر والحادي عشر بعد الهجرة (السادس عشر والسابع عشر بعد الميلاد). وقد قدر الأستاذ بوب A. U. Pope عدد المحفوظ من هذه السجاجيد في المتاحف والكنائس والمجموعات الخاصة، والذي ظهر منها في أسواق السجاجيد الأثرية، قَدَّرَهُ بزُهاء ثلاثة آلاف سَجَّادة كاملة.

(١-١) السجاجيد ذات الصرة أو الجامة

وهي نوع من صناعة شمالي إيران ولا سيما في تبريز وفي قاشان، وترجع أحسن منتجاته إلى القرن العاشر الهجري (السادس عشر الميلادي)، وقد بدأ الاضمحلال يدب إليها منذ القرن التالي.

وتتكون زخارف هذه السجاجيد من صرة أو جامة في الوسط ذات أشكال مختلفة أو فصوص، وقد يمتد من طرَفَيِ الجامة الأعلى والأسفل موضوع زخرفي أو إناء معلق إلى جانِبَيِ السَّجَّادة، وفي الأركان أرباع جامات. وهذا النوع من الزخرفة عامٌّ في الفنون الإسلامية، ولا سيما في جلود الكتب والصفحات الأولى المذهَّبة في المخطوطات، وهو من أكبر الأدلة على غرام الفنانين المسلمين بالتوازن والتقابل في الرسم والزخرفة.

وأما أرضية هذا النوع من السجاجيد فكانت من رسوم الزهور والفروع النباتية المحورة أو السيقان ذات الزوايا، فضلًا عن رسوم السحب الصينية.

واستُعملت فيها الألوان الأحمر والأخضر والأزرق الفاتح والغامق والأسمر والأصفر والأبيض. وامتازت تلك السجاجيد بأن لها إطارًا ثانويًّا صغيرًا داخلَ الإطار الخارجي. ويمكننا أن نقول إن المعروف من السجاجيد ذات الصرة أكثر عددًا من المعروف من سائر أنواع السجاجيد الإيرانية، وإن تلك السجاجيد من أبدع منتجات السجاجيد في شمال غربي إيران؛ حيث كانت البيئة وطبيعة البلاد في إقليم آذربيجان مَرْتَعًا للفنون الجميلة، ولا سيما فن صناعة السَّجَّاد.

ومن المحتمل أنها كانت تُفرش في المساجد لخلو معظمها من الرسوم الآدمية والحيوانية، ولكن ثمة سجاجيد ذات جامة وفي زخارفها رسوم آدمية وحيوانية مثل السَّجَّادة المشهورة في متحف بولدي بدزولي Poldi Pezzoli. ومن أبدع ما أخرجته مصانع السَّجَّاد في البلاد سجاجيد ذات جامة ومصنوعة من الحرير المُحَلَّى بالخيوط المعدِنية. وتنسب السجاجيد الحريرية في أغلب الأحيان إلى مدينة قاشان.
وفي مجموعة سمو الأمير يوسف كمال جزء كبير من سَجَّادة ذات صرة، وأرضيتها حمراء في الوسط وزرقاء في الأركان، أما الصرة فعلى هيئة مربع ذي أضلاع غير مستقيمة بل فيها انكسار هندسي. وتكثر في هذه السَّجَّادة النفيسة زخارف المراوح النخيلية والسحب الصينية، وأكبر الظن أنها من صناعة شمال غربي إيران في النصف الأول من القرن العاشر الهجري١٣ (السادس عشر الميلادي).

وقد تطورت السجاجيد ذات الجامة في القرنين الثاني عشر والثالث عشر بعد الهجرة (الثامن عشر والتاسع عشر بعد الميلاد) إلى طراز السجاجيد الحديثة التي تُنسج في كرباغ، والتي تشبه السجاجيد القديمة في الشكل والرسوم والألوان.

(١-٢) السجاجيد ذات الزهريات

ويُظن أنها كانت تُصنع في الأقاليم الوسطى من إيران في القرنين العاشر والحادي عشر بعد الهجرة (السادس عشر والسابع عشر بعد الميلاد). وقد امتاز بها عصر الشاه عباس؛ حتى إنها تُنسب إليه في بعض الأحيان.

وقد غلبت هذه التسمية على هذا النوع من السجاجيد؛ لأن في زخارفه رسومًا تشبه الزهريات. وعلى كل حال فإن زخارفه كلها من الزهور وليس فيه زخارف تتوسط السَّجَّادة، وإنما كل رسومه مرتبة في توازن حول محورها الأوسط. وتمتاز السجاجيد ذات الزهريات بمتانتها ودقة صناعتها وكثافة وَبَرِهَا وضِيق إطارها وأرضيتها الزرقاء أو الحمراء، وبما فيها من مُعَيَّنات من سِيقان الزهور والفروع النباتية والزهريات والزهور والمراوح النخيلية (بالمت)، كما نلاحظ أن زخارفها غير متأثرة بأساليب المصورين والمُذَهِّبِين والمجلِّدين، وأن الألوان التي استُخدمت فيها مختلفة جدًّا وبراقة وغير هادئة، أما في المساحة فإنها تمتاز بأنها طويلة بالنسبة إلى عرضها فقد يبلغ طولها في بعض الأحيان ثلاثة أمثال عرضها.

(١-٣) السجاجيد ذات الرسوم الحيوانية

وأكبر الظن أنها من صناعة شمالي إيران في القرنين العاشر والحادي عشر بعد الهجرة (السادس عشر والسابع عشر بعد الميلاد) وهي إما تمثل مناظر صيدٍ كالسَّجَّادتين المشهورتين في متحف فينا ومتحف الفنون الزخرفية في باريس، وإما تمثل رسوم حيوانات خرافية أو مُحَوَّرةٌ عن الطبيعة وعلى أرضية مملوءة برسوم الزهور والنبات.

وقد أفلح بعض صناع السَّجَّاد في إكساب هذه الرسوم روحًا وحياة وحركة دونَها ما وصل إليه أعلام المصورين والمذهبين.

ومن أجمل السجاجيد ذات الرسوم الحيوانية سجادة من الصوف محفوظة في المتحف المتروبوليتان بنيويورك، وأصلها من ضريح الشيخ صفي الدين في أردبيل، وقوام زخارفها رسم متكرر يمثل أسدًا ونمرًا يهاجمان حيوانًا من حيوانات الصين الخرافية، وإطار هذه السَّجَّادة مكون من فروع نباتية متصلة (أرابسك) وبينها رسوم سحب صينية (تشي).١٤
وفي نفس المتحف سَجَّادة حريرية بديعة تنسب إلى قاشان (انظر شكل ٦٢) وزخارفها الحيوانية في ستة صفوف، نرى فيها الأسد والفهد والنمر والتنين والغزال وابن آوَى والثعلب والأرنب على أرضية من الأشجار والزهور، أما الإطار فمن مراوح نخيلية يحف بكل منها طائران بَرِّيَّان.

(١-٤) السجاجيد البولندية

هي سجاجيد من الحرير مُحَلَّاة بخيوط الذهب والفضة، ولعلها من منتجات مصانع البلاط بأصفهان في نهاية القرن العاشر الهجري (السادس عشر الميلادي) وبداية الحادي عشر، وقد غلبت عليها هذه التسمية؛ لأنها كانت تُنسب إلى بولندة حينًا من الزمن.

أما زخارفها فخليط من زخارف الأنواع الأخرى من السجاجيد الإيرانية وألوانها غنية، وفي أكثر الأحيان لا تكون الأرضية كلها ذات لون واحد، بل تكون السَّجَّادة ذات أرضيات مختلفة الألوان. وأهم الألوان المستخدمة في السجاجيد البولندية هي الأصفر الفاتح والأخضر الباهت والبرتقالي والأزرق الفيروزجي والأحمر القرمزي، ولم يكن هذا النوع دقيق الصناعة؛ ولذا كانت أكثر النماذج الباقية منه في حالة غير جيدة.

ومن أقدم السجاجيد البولندية المعروفة واحدة بين الكنوز الفنية في كاتدرائية سان مارك بمدينة البندقية أهداها سفير الشاه عباس إلى حاكم البندقية (الدوج) سنة ١٦٠٣م، كما نعرف أيضًا أن بعثة من شاه إيران أهدت إلى دوق هولشتاين جوتورب Hollstein Gottorp سنة ١٦٣٩ ست سجاجيد «بولندية» نفيسة بينها سجادة التتويج المشهورة والمحفوظة الآن في قصر روزنبرج Rosenborg بمدينة كوبنهاجن؛ ولذا فإن المرجح أن هذه السجاجيد «البولندية» ذات الألوان الرقيقة والأرضية الفضية أو الذهبية التي تلائم الذوق الغربي، كانت تُصنع في إيران لتُهدى إلى الملوك والأمراء في الغرب.١٥

(١-٥) السجاجيد المزخرفة برسوم الحدائق

كانت تُصنع في شمالي إيران في القرنين العاشر والحادي عشر بعد الهجرة (السادس عشر والسابع عشر بعد الميلاد)، ولكن في المصادر التاريخية أن كسرى الأول (٥٣١–٥٧٩م) كان يملك سَجَّادة نفيسة عليها رسم صادق لروضة غَنَّاء، أما السَّجَّادة التي كانت في قصر كسرى الثاني بالمدائن ثم وقعت غنيمة في يد العرب الفاتحين، فقد أطنب المؤرخون في وصف حديقتها وأشجارها وقنواتها وطيورها وزهورها.

وعلى كل حال فإن زخارف هذا النوع من السجاجيد تبدو كأنها خريطة أو مصوَّر لحديقة، يبين طرقاتها وأقسامها ومجاري المياه فيها فضلًا عما فيها من النبات والزهور.

والواقع أن حب الحدائق والزهور من أبين الصفات في الفن الإيراني، وأن الزهور والنباتات تزين أرضية أكثر أنواع السجاجيد المعروفة.١٦ ولم يكن غير طبيعي عند الإيرانيين أن تكون الحدائق والزهور في السجاجيد ميدانًا للحيوانات المختلفة كالأسد والفهد والنمر والغزال والثعلب وحِمار الوحش، فضلًا عن الطيور والحيوانات الخرافية التي يرجع معظمها إلى الأساليب الفنية والأساطير السائدة في الشرق الأقصى.
وأقدم المعروف من السجاجيد المزخرفة برسوم الحدائق واحدة محلاة بخيوط الذهب والفضة ومحفوظة في مجموعة فيجدور Figdor في فينا، وترجع إلى نهاية القرن العاشر الهجري١٧ (السادس عشر الميلادي)، ولكن أكثر النماذج المعروفة ترجع إلى القرن الثاني عشر الهجري.

وأكبر الظن أن هذه السجاجيد كانت تُصنع لِتُهْدَى إلى ملوك أوروبا وأمرائها، وكانت تدخل في نسجها خيوط الذهب والفضة.

(١-٦) السجاجيد المزخرفة برسوم الزهور

كانت تصنع في خُراسان وتُنسب في أكثر الأحيان إلى هراة، ومعظمها يرجع إلى القرنين العاشر والحادي عشر بعد الهجرة (السادس عشر والسابع عشر بعد الميلاد)، وقوام زخارفها فروع نباتية ومراوح نخيلية (بالمت) ورسوم سحب صينية. وقد جاءت هذه السجاجيد في بعض اللوحات الغربية من القرن السابع عشر الميلادي، والأرضية في معظم السجاجيد المنسوبة إلى هراة حمراء اللون بينما الإطار أخضر، ونلاحظ في سجاجيد هراة المصنوعة في القرن الحادي عشر الهجري (السابع عشر الميلادي) أن رسوم المراوح النخيلية فيها أكبر، وأنها تشتمل — فضلًا عن الزخارف المعروفة في القرن السابق — على وريقات طويلة مقوَّسة، وأنها أقل دقة في الصناعة وانسجامًا في الألوان.

ولا عجب في أن تكون خُراسان مركزًا عظيمًا من مراكز صناعة السَّجَّاد؛ فقد كان هذا الإقليم في طليعة الأقاليم الإيرانية في الأدب والسياسة والفن. وقد ازدهرت فيه منذ القرن الخامس الهجري (الحادي عشر الميلادي) أساليب فنية في عصر الدولة الغزنوية والعصور التالية، وكانت هراة مركزًا عظيمًا من مراكز الثقافة الإيرانية، فضلًا عن أن هذا الإقليم امتاز بصوفه الطيب وأصباغه الصالحة.

(١-٧) سجاجيد الصلاة

كانت تُصنع في شمال غربي إيران ولا سيما في تبريز، وامتازت بالآيات القرآنية المكتوبة بالخط النسخي والكوفي والنستعليق في أرضية السَّجَّادة وفي مناطق تحف بها. ويتوسط السَّجَّادة رسم عقد يمثل المحراب. ومعظم المعروف من هذا النوع لم يكن غاية في الجمال والإبداع؛ لأن الفنان لم يفلح تمامًا في أن يستخدم الكتابة عنصرًا زخرفيًّا متقنًا.

وأبدع النماذج المعروفة من هذا الطراز سَجَّادة حريرية محلاة بخيوط معدِنية، وترجع إلى نهاية القرن العاشر الهجري (السادس عشر الميلادي)، وقد كانت في مجموعة السيدة بارافيتشيني، ثم اشتراها حضرة صاحب السمو الأمير يوسف كمال.١٨

•••

وصفوة القول أن السَّجَّاد كان للإيرانيين ميدانًا واسعًا لإظهار تفوقهم في اختيار الألوان. وقد بلغ ما استخدموه منها في بعض الأحيان زُهاء عشرين لونًا في السَّجَّادة الواحدة؛ ومع ذلك فقد أصابوا أبعد حدود التوفيق في ترتيبها بحيث تكون السَّجَّادة وحدة متماسكة في ألوانها. وكانت مصانع البلاط تبذل الجهود الوافرة في إنتاج السجاجيد التي تمتاز عن سائر الأنواع المعروفة والتي تبعث العجب بجمالها وحسن تنسيقها وإبداع مادتها وزخارفها.

والظاهر أن السجاجيد الإيرانية لم تكن تُصنع كلها لتُفرش على الأرض؛ فإننا نرى في صور المخطوطات رسوم بعض السجاجيد المعلقة أو التي تظل مجلسًا من المجالس. وقد كان تعليق السجاجيد في الحفلات أمرًا معروفًا في أوروبا في عصر النهضة، كما أننا لا نزال نرى أثره حتى اليوم في تعليق الأبسطة الثمينة من الشرفات التي يُطل منها الملوك أو رؤساء الحكومات على الشعب أو يستعرضون منها جيوشهم أو فريقًا من رعاياهم.

•••

وفي مصر مجموعة ثمينة جدًّا من السَّجَّاد الإيراني تُعد من أكمل مجموعات العالم في هذا الميدان، وهي للدكتور علي باشا إبراهيم عميد كلية الطب، وقد قضى في جمعها السنين الطوال، وبذل النفقات الطائلة. وفي الحق أن كثيرًا من سجاجيد هذه المجموعة لا نظير له إلا في قليل جدًّا من المتاحف أو المجموعات الخاصة الأوروبية؛ ولذا كانت كعبة الأخصائيين في الفنون الإسلامية، يحرصون على مشاهدتها كلما ألقَوْا عَصَا التَّسْيَار في مصر، فضلًا عن أن بعض التحف من هذه المجموعة قد عُرِضَ في أعظم المعارض الدولية للفن الإيراني أو الفنون الإسلامية.

أما دار الآثار العربية فليست غنية جدًّا في السَّجَّاد الإيراني النفيس؛ لأنها لم تبدأ في العناية بجمعه إلا في السنوات الأخير. ولعل أبدع ما فيها سَجَّادة من الحرير الْموَشَّى بالذهب والفضة، ترجع إلى نهاية القرن العاشر الهجري (السادس عشر الميلادي)، وتتكون زخارفها من السيقان والفروع النباتية الدقيقة المتصلة بخطوط متعرجة على شكل السحب الصينية (تشي)، ويتوسط هذه السَّجَّادة جامة كبيرة ذات فصوص عديدة، أما الإطار فيتكون من خمس مناطق غير متساوية في العرض، وأعرضها المنطقة الثانية من الخارج وبها بحور فيها كتابات.١٩ وأكبر الظن أن هذه التحفة من صناعة شمال غربي إيران، وقد أهداها إلى الدار حضرة صاحب السمو الأمير يوسف كمال.
كما أن في دار الآثار جزءًا من سَجَّادة نفيسة مصنوعة من الصوف، وقوام زخارفها زهور كبيرة مُحَوَّرةٌ ومنسقة وبعيدة عن الطبيعة، وذات ألوان متعددة على أرضية ذات لون أزرق قاتم، وهذه القطعة من أجمل التحف المعروفة من السجاجيد «ذات الزهريات».٢٠

وفي الدار — عدا ذلك — سجاجيد إيرانية أخرى ولكنها من صناعة القرنين الثاني عشر والثالث عشر بعد الهجرة (الثامن عشر والتاسع عشر بعد الميلاد).

١  لا شك في أن مصانع السَّجَّاد في تركيا ومصر والهند أنتجت أنواعًا جيدة من السَّجَّاد، ولكن هذا الإنتاج كان محدودًا، فضلًا عن أنه كان متأثرًا بالأساليب الإيرانية أيضًا ولم يكن فيه تنويع كبير؛ فاشْتَهَرت كل من هذه البلاد بإنتاج نوع معين من السَّجَّاد بينما ذاع صِيت إيران في إنتاج أنواع مختلفة.
٢  راجع A survey of Persian Art ج٢، ص٢٤٣٧–٢٤٦٥.
٣  راجع المصدر السابق ج٣ ص٢٢٧٦ وما بعدها.
٤  انظر المصدر نفسه ج٦ ص١١١٨ وF. Sarre & H. Trenkwald: Old Oriental Carpets ج٢ لوحة ٢٢.
٥  راجع مقال الأستاذ فييت في مجلة Syria سنة ١٩٣٢ ص١٩٧.
٦  هما:
جز آستان توام درجهان پناهي نيست
سرمرا بجز اين درحواله كاهي نيست
ومعناهما: لا ملجأ لي في الدنيا إلا عتبتك ولا حمى لرأسي إلا هذا الباب.
٧  انظر المصدر السابق للأستاذين زره وترنكولد Sarre-Trinkwald، ج٢ لوحة ١٨.
٨  انظر J. Lessing: Altorientalische. Teppiche وK. Erdmann: Orientalische Tierteppiche auf Bildern des XIV und XV Jahrhunderts. في الكتاب السنوي للمجموعات الفنية البروسية Jahrbuch der Preussischen Kunstsammlungen، سنة ١٩٢٩ ص٢٦١–٢٩٨.
٩  راجع مقال الدكتور أحمد زكي بك في ص٥٦ و٥٧ من عدد «الثقافة» الذي أشرنا إليه.
١٠  لعل السبب في أن السجاجيد التي عليها أسماء صانعيها نادرة جدًّا؛ هو اشتراك عدد كبير من الصناع في السَّجَّادة الواحدة، فضلًا عن اعتبار السَّجَّاد من الأثاث الضروري للقصور والبيوت والخيام؛ فهو من هذه الوجهة سلعة تِجارية، ولكن الفن وحسن الذوق كانا حَلِيفَيِ الصانع الإيراني في معظم منتجاته.
١١  حقًّا إن صناع السَّجَّاد لم ينتقلوا بين المراكز الفنية انتقال غيرهم من الفنانين؛ لأن جودة العمل لم تكن نتيجة عبقريتهم الفنية فحَسْبُ، بل كانت تتوقف على أعوانهم، وعلى الموادِّ الأولية التي يشتغلون بها، وعلى طبيعة الماء في الجهة التي يعملون فيها، وما إلى ذلك مما لا يَسْهُل نقلُه.
١٢  نذكر في هذه المناسبة أننا لاحظنا في أوروبا — ولا سيما في فرنسا — أن بعض الناشرين في العواصم والمدن الكبرى يطبعون ما يُصدرونه من المؤلفات في الريف أو في بعض المدن الصغيرة حيث يستطيعون الاطمئنان إلى حسن سير العمل فضلًا عن رخص الأيدي العاملة.
١٣  انظر A Survey of Persian Art ج٦ ص١١٧.
١٤  انظر A Survey of Persian ج٦ ص١١٧٧.
١٥  انظر Loan Exhibition of Persian Rugs of the So-called Polish Type (The Metropolitan Museum of Art, New York 1930).
١٦  من أبيات الشعر المكتوبة على السَّجَّادة المحفوظة في متحف بولدي بدزولي والتي مر ذكرها بيت الشعر الآتي:
بوستا نيست يراز لاله وكل
زان سبب كرده دروجا بلبل
ومعناه: إنها (السَّجَّادة) حديقة مَلْأَى بالسوسن والورد؛ ولذا اتخذها البلبل سكنًا له.
١٧  انظر شكل ٣٧ من Bode-Kühnel: Vorderasiatische Knüpfteppiche.
١٨  راجع G. Wiet: L’Exposition Persane de ١٩٣١ ص٨٧ ولوحة ٤٣.
١٩  انظر Wiet: L’Exposition Persance de 1931 ص٨٨، ولوحة ٤٤.
٢٠  المصدر السابق.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤