إلمامة

بطرس الأكبر

بطرس الأكبر هو أعظم قياصرة الروس وأول من نهض بروسيا إلى مصاف الدول العظيمة، بعد أن كانت قبل حكمه بمعزل عنها.

ورث المُلك وسنه عشر سنوات، فأقيمت أخته وصية، ولما بلغت سنه السابعة عشرة، غل يدها عن الحكم وألجأها إلى دير.

وولي بنفسه زمام الأمور، وكان فطنًا، قوي الإرادة، كثير الاطِّلاع على الكتب التاريخية منذ نشأته، وقد تعلم من اللغات: الألمانية واللاتينية والفلمنكية.

وخالط الأجانب واستفاد منهم، وعرف البون الشاسع بين أمته المتأخرة وبقية الممالك الغربية التي خطت في الحضارة خطوات واسعة، فبذل وسعه في النهوض بها، وإعدادها للمكان اللائق بها بين دول أوربا المتحضرة.

فأصلح الجيش مستعينًا على ذلك ببعض الضباط الغربيين، ورأى وجوب زيارة الممالك الغربية، واقتباس كل ما يراه نافعًا لبلاده من حضارتها، وأدرك أهمية السفن الحربية لروسيا.

فقام بنفسه برحلة إلى ممالك أوربا ليتعلم صناعة السفن وكل ما يهمه من العلوم والفنون، وترك مكانه لأحد الأشراف، ويمم هولندا متنكرًا في زي العمال.

واشتغل في مصنع بناء السفن بهولندا كعامل بسيط، وكان يتناول أجره كل أسبوع كبقية الصناع الآخرين، ويعيش بينهم كما يعيشون، ويقطن كوخًا صغيرًا كما يقطنون، ويهيئ طعامه بيده كل يوم كما يفعلون، وكان يناديه زملاؤه باسم: المعلم البطرسي ميخائيلوف.

وكان مثال النشاط والدءوب، فادخر من أجره ثمنًا لحذاء اشتراه لنفسه، وكان كثيرًا ما يفخر به.

ولا يزال في مصنع بطرسبرج إلى اليوم قضيب حديدي من صنع يده.

وزار لندن، ثم ذهب إلى ڤيينا؛ حيث تعلم فنون الحرب، ولما رجع إلى بلاده أخذ في تشييد القلاع، وتنظيم المدن، وترتيب الجيش، وأسس مدينة بطرسبرج على أحسن طراز، وأخذ يناصر كل مشروع تلوح له فيه مصلحة بلاده.

•••

وكانت إرادته الحديدية وبطشه أكبر معين له على تنفيذ مآربه، فقد قتل كل مناوئ للإصلاح بقسوة، وعاملهم بقلب لا تعرف الرحمة طريقًا إليه، واتخذ في معاقبتهم — من طريق التعذيب والنفي إلى سيبريا — وسيلة لنيل أغراضه. ولما انضم ابنه «ألكسيس» نفسه إلى الحزب المناوئ للإصلاح ورأى بطرس منه الجمود على القديم، والانتصار له، والتبرم بالنظم الجديدة، زج به في السجن وقتله.

وكان قد بعث إليه برسالة قبل محاكمته يقول فيها تلك الكلمة الجليلة:

إذا كنت لا أضن ببذل حياتي في سبيل خير بلادي وسعادة شعبي، فكيف أستبقي حياتك؟

ولئن عدت قسوته نقصًا في أخلاقه، لقد حمدت روسيا مغبتها، وكان لها أحسن الأثر فيها.

ولم يكن في الإمكان تغيير النظم البالية القديمة، وإدخال الإصلاح في روسيا، وصبغها بالصبغة الأوربية إلا بطريق القسوة الشديدة والسلطة المطلقة، اللتين لجأ إليهما بطرس.

وإليك ما قاله الكاتب الفرنسي المبدع «فولتير» في وصفه:

إن عبقرية بطرس الجبارة التي وقف في سبيل إظهارها التعليم الهمجي الذي تعلمه، وإن لم يستطع محقها —قد ظهرت فجاة تقريبًا؛ فقد صمم على أن يكون رجلًا، وأن يهيمن على الناس، وعلى أن يخلق أمة جديدة.

ولقد نزل كثير من الأمراء عن تيجانهم من قبله، بسبب كراهيتهم لأعباء الملك وتكاليفه، ولكن لم ينزل واحد منهم عن ملكه، ليتعلم كيف يحسن الحكم! ذلك هو ما فعله «بطرس الأكبر»، غادر الروسيا عام «١٦٩٨» ولم يكن قد حكم بعد إلا عامين، وذهب إلى هولندا متنكرًا تحت اسم من أسماء العامة، ووصل إلى أمستردام، وقيد اسمه بقائمة النجارين بديوان البحرية، وهناك أخذ يعمل في المصنع كبقية النجارين.

وفي أثناء عمله تعلم من فروع الرياضة ما قد ينفع أميرًا مثله، كفنون التحصينات والملاحة، وأخذ الرسوم، وقد فحص كل آلات المصانع، ولم يند عن ملاحظاته شيء.

•••

ومن ثَم ذهب إلى إنجلترا، حيث تزود من فن بناء السفن وتكمل فيه، ثم عاد ثانية فمر بهولندا، واهتم برؤية كل ما يعود على بلاده بالنفع، وعاد أخيرًا إلى الروسيا بعد عامين، قضاهما في السياحة والأعمال التي لم يتواضع إليها رجل غيره، وأحضر معه إلى بلاده جميع الحرف الأوربية.

هذه هي صفحة موجزة من تاريخ «بطرس الأكبر» الملك العظيم، وهي التي تهمنا الآن.

ونحن نجتزئ بها عن صفحته الثانية الملأى بحروبه الكثيرة، التي كانت سببًا في تتميم نهضة الروسيا الحقة.

•••

وقد رأى القارئ في هذه القصة صورة موجزة لبطرس الأكبر وهو يشتغل في مصنع بناء السفن بهولندا الذي أسلفنا ذكره، وإنما آثر ذلك لكي يحتذيه جميع أبناء الشعب، فلا يأنف واحد منهم أن يبدأ حياته بالاشتغال في المهن المختلفة؛ مهما تكن حقارتها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤