الفصل السابع عشر

أَمْرٌ عَجِيبٌ

يَبْدُو وَاضِحًا لِي أَنَّ
مَا لَا أَفْهَمُهُ أَسْتَغْرِبُهُ.
الْغُرَابُ بلاكي

قَدْ يَكُونُ بلاكي مُحِقًّا، وَقَدْ لَا يَكُونُ. فَإِذَا كَانَ مُحِقًّا، فَسَيُفَسِّرُ ذَلِكَ غَرَابَةَ كَثِيرٍ مِنَ الْأَشْخَاصِ فِي الْعَالَمِ. فَإِنَّنَا إِذْ لَا نَفْهَمُهُمْ، نَسْتَغْرِبُهُمْ. عَلَى الْأَقَلِّ، هَذَا مَا يَقُولُهُ الْآخَرُونَ، وَلَا يُفَكِّرُونَ أَبَدًا، وَلَوْ لِمَرَّةٍ، أَنَّهُمْ رُبَّمَا هُمْ مَنْ يَتَّسِمُونَ بِالْغَرَابَةِ لِأَنَّهُمْ لَا يَفْهَمُونَ.

لَكِنَّ بلاكي لَيْسَ مِنَ الْأَشْخَاصِ الَّذِينَ يَرْضَوْنَ بِعَدَمِ الْفَهْمِ وَالِاعْتِقَادِ بِأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ دُونَهُمْ غَرِيبٌ. فَهُوَ يَبْذُلُ قُصَارَى جُهْدِهِ لِيَفْهَمَ. فَيَنْتَظِرُ وَيُرَاقِبُ وَيَسْتَخْدِمُ بَصَرَهُ الْحَادَّ وَسُرْعَةَ بَدِيهَتِهِ حَتَّى يَنْتَهِيَ بِهِ الْأَمْرُ عَادَةً إِلَى الْفَهْمِ.

فِي الْيَوْمِ الَّذِي اكْتَشَفَ فِيهِ عَلَامَاتِ الطَّبِيعَةِ الْأُمِّ الْعَجُوزِ عَلَى أَنَّ الشِّتَاءَ الْقَادِمَ سَيَكُونُ طَوِيلًا وَقَاسِيًا وَقَارِسَ الْبُرُودَةِ، قَامَ بلاكي بِزِيَارَةِ النَّهْرِ الْكَبِيرِ. فَقَدْ كَانَ اكْتَشَفَ مُنْذُ زَمَنٍ أَنَّ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً تُرَى عَلَى صَفْحَةِ النَّهْرِ الْكَبِيرِ أَوْ إِلَى جِوَارِهِ، وَلَا تُرَى فِي مَكَانٍ آخَرَ؛ لِذَا كَانَ يَذْهَبُ إِلَى النَّهْرِ فِي أَغْلَبِ الْأَيَّامِ.

إِذْ أَخَذَ بلاكي يَقْتَرِبُ مِنَ النَّهْرِ الْكَبِيرِ، كَانَ شَدِيدَ الْيَقَظَةِ وَالْحَذَرِ؛ حَيْثُ إِنَّهُ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ مَوْسِمُ تَوَاجُدِ الصَّيَّادِينَ ذَوِي الْبَنَادِقِ الرَّهِيبَةِ، وَكَانَ قَدْ عَرَفَ أَنَّهُمْ يَخْتَبِئُونَ عَلَى الْأَرْجَحِ فِي مَكَانٍ مَا عَلَى ضِفَافِ النَّهْرِ الْكَبِيرِ؛ أَمَلًا فِي اصْطِيَادِ السَّيِّدِ كواك أَوِ السَّيِّدَةِ كواك أَوْ بَعْضِ أَقَارِبِهِمَا. لِذَا كَانَ شَدِيدَ الْحَذَرِ فِي اقْتِرَابِهِ مِنَ النَّهْرِ الْكَبِيرِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَعْلَمُ بِمَخَاطِرِ الْمُرُورِ بِالْقُرْبِ مِنْ صَيَّادٍ يَحْمِلُ بُنْدُقِيَّةً رَهِيبَةً. فَقَدْ أُطْلِقَ عَلَيْهِ النَّارُ أَكْثَرَ مِنْ مَرَّةٍ فِيمَا مَضَى. وَلَكِنَّهُ تَعَلَّمَ مِنْ هَذِهِ التَّجَارِبِ. أَجَلْ، تَعَلَّمَ بلاكي مِنْهَا. أَوَّلًا: تَعَلَّمَ أَنْ يَتَعَرَّفَ عَلَى الْبُنْدُقِيَّةِ عِنْدَمَا يَرَاهَا، وَثَانِيًا: تَعَلَّمَ الْبُعْدَ الَّذِي يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْبَنَادِقُ عَلَيْهِ وَمَعَ ذَلِكَ تُؤْذِي الْهَدَفَ الَّذِي تُوَجَّهُ إِلَيْهِ، وَتَعَلَّمَ أَنْ يَبْقَى دَوْمًا عَلَى بُعْدٍ أَكْبَرَ قَلِيلًا. وَكَذَلِكَ تَعَلَّمَ أَنَّ الرَّجُلَ أَوِ الطِّفْلَ بِدُونِ الْبُنْدُقِيَّةِ الرَّهِيبَةِ غَيْرُ مُؤْذٍ إِلَى حَدٍّ بَعِيدٍ، وَأَنَّ الصَّيَّادِينَ مُخَادِعُونَ وَأَحْيَانًا يَخْتَبِئُونَ مِمَّنْ يُرِيدُونَ قَتْلَهُ. لِذَلِكَ مِنَ الْأَفْضَلِ فِي مَوْسِمِ الصَّيْدِ الْبَغِيضِ أَنْ يُمْعِنَ الطَّائِرُ النَّظَرَ قَبْلَ أَنْ يَقْتَرِبَ مِنْ أَيِّ مَكَانٍ.

عَصْرَ ذَلِكَ الْيَوْمِ، عِنْدَمَا اقْتَرَبَ مِنَ النَّهْرِ الْكَبِيرِ، رَأَى رَجُلًا بَدَا مَشْغُولًا لِلْغَايَةِ عَلَى ضِفَافِ النَّهْرِ الْكَبِيرِ، فِي مَكَانٍ يَنْمُو فِيهِ الْأُرْزُ الْبَرِّيُّ وَنَبَاتُ السَّمَّارِ لِمَسَافَةٍ فِي الْمَاءِ، حَيْثُ كَانَ الْمَاءُ ضَحْلًا حَتَّى مَسَافَةٍ بَعِيدَةٍ عَنِ الْيَابِسَةِ. بَحَثَ بلاكي مُدَقِّقًا عَنْ بُنْدُقِيَّةٍ رَهِيبَةٍ، وَلَكِنَّ الرَّجُلَ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ بُنْدُقِيَّةٌ، وَمِنْ ثَمَّ لَمْ يَكُنْ ثَمَّةَ مَا يَخْشَاهُ بلاكي. فَاقْتَرَبَ بلاكي بِجُرْأَةٍ حَتَّى صَارَ بِإِمْكَانِهِ رُؤْيَةُ مَا يَفْعَلُهُ الرَّجُلُ.

اتَّسَعَتْ عَيْنَا بلاكي عَنْ آخِرِهِمَا وَكَادَ يَنْعِقُ دَهْشَةً. فَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ يُخْرِجُ حُبُوبَ ذُرَةٍ صَفْرَاءَ مِنْ كِيسٍ وَيُلْقِيهَا فِي الْمَاءِ، حَفْنَةً فِي كُلِّ مَرَّةٍ. أَجَلْ، كَانَ ذَلِكَ مَا يَفْعَلُهُ؛ يَنْثُرُ حُبُوبَ الذُّرَةِ الصَّفْرَاءِ اللَّذِيذَةِ بَيْنَ الْأُرْزِ الْبَرِّيِّ وَنَبَاتِ السَّمَّارِ فِي الْمَاءِ!

تَمْتَمَ بلاكي بَيْنَمَا وَقَفَ يُرَاقِبُ الْمَشْهَدَ: «هَذَا أَمْرٌ عَجِيبٌ!» «لِمَ يَنْثُرُ ذُرَةً سَلِيمَةً لَا عَيْبَ فِيهَا فِي الْمَاءِ؟ إِنَّهُ لَا يَزْرَعُهَا، فَهَذَا لَيْسَ مَوْسِمَ الزِّرَاعَةِ. كَمَا أَنَّهَا لَنْ تَنْمُوَ فِي الْمَاءِ عَلَى أَيِّ حَالٍ. وَمِنَ الْمُؤْسِفِ أَنْ تُهْدَرَ مِثْلُ هَذِهِ الذُّرَةِ اللَّذِيذَةِ. لِمَ يَفْعَلُ هَذَا؟»

طَارَ بلاكي إِلَى شَجَرَةٍ أَبْعَدَ قَلِيلًا وَوَقَفَ عَلَى قِمَّتِهَا يُرَاقِبُ هَذَا الْأَمْرَ الْعَجِيبَ. فَبلاكي عَيْنَاهُ ثَاقِبَتَانِ وَيُمْكِنُهُ أَنْ يَرَى مِنْ مَسَافَاتٍ بَعِيدَةٍ. اسْتَمَرَّ الرَّجُلُ لِفَتْرَةٍ فِي نَثْرِ الذُّرَةِ وَوَاصَلَ بلاكي التَّسَاؤُلَ عَنْ سَبَبِ فِعْلِهِ ذَلِكَ. فِي النِّهَايَةِ مَضَى الرَّجُلُ عَلَى مَتْنِ قَارِبٍ، وَرَاقَبَهُ بلاكي حَتَّى تَوَارَى عَنِ الْأَنْظَارِ. حِينَهَا بَسَطَ جَنَاحَيْهِ وَرَاحَ يَحُومُ حَوْلَ نَبَاتَاتِ السَّمَّارِ وَالْأُرْزِ الْبَرِّيِّ بِبُطْءٍ، فِي الْمَكَانِ الَّذِي كَانَ الرَّجُلُ يَنْثُرُ فِيهِ الذُّرَةَ. وَكَانَ بِإِمْكَانِهِ رُؤْيَةُ بَعْضِ الْحُبُوبِ الصَّفْرَاءِ فِي الْقَاعِ. وَسُرْعَانَ مَا رَأَى شَيْئًا آخَرَ. فَهَتَفَ بلاكي: «آهْ!»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤