الفصل العشرون

بلاكي يُحَذِّرُ الْآخَرِينَ

عِنْدَمَا تَرَى غَيْرَكَ فِي خَطَرٍ،
نَبِّهْهُ وَلَوْ كَانَ غَرِيبًا لِيَأْخُذَ الْحَذَرَ.
الْغُرَابُ بلاكي

ظَلَّ الرَّجُلُ يَأْتِي يَوْمِيًّا طِيلَةَ أُسْبُوعٍ فِي قَارِبٍ لِيَنْثُرَ الذُّرَةَ بَيْنَ نَبَاتَاتِ السَّمَّارِ فِي بُقْعَةٍ بِعَيْنِهَا عَلَى ضِفَافِ النَّهْرِ الْكَبِيرِ، وَكَانَ بلاكي يُرَاقِبُهُ كُلَّ يَوْمٍ وَيَهُزُّ رَأْسَهُ الْأَسْوَدَ مُحَدِّثًا نَفْسَهُ بِأَنَّهُ غَيْرُ مُرْتَاحٍ لِهَذَا الْأَمْرِ، وَأَنَّهُ مُتَأَكِّدٌ أَنَّ وَرَاءَهُ غَرَضًا شِرِّيرًا. أَحْيَانًا كَانَ بلاكي يُرَاقِبُ عَنْ بُعْدٍ، وَأَحْيَانًا أُخْرَى كَانَ يُحَلِّقُ فَوْقَ الرَّجُلِ. وَلَكِنَّ الرَّجُلَ لَمْ يَكُنْ يَحْمِلُ بُنْدُقِيَّةً فِي أَيِّ مَرَّةٍ.

كَانَ بلاكي يَطِيرُ إِلَى ذَلِكَ الْمَكَانِ كُلَّ يَوْمٍ فِي الصَّبَاحِ الْبَاكِرِ، فَيَجِدُ داسكي وَأَقَارِبَهُ بَيْنَ نَبَاتَاتِ السَّمَّارِ وَالْأُرْزِ الْبَرِّيِّ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ الْمُحَدَّدِ، وَيَعْلَمُ أَنَّهُمْ قَضَوُا اللَّيْلَ فِي هَذَا الْمَكَانِ. كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُمْ جَاءُوا اللَّيْلَةَ الْمَاضِيَةَ وَقْتَ الْغَسَقِ لِيَأْكُلُوا الذُّرَةَ الصَّفْرَاءَ الَّتِي يَنْثُرُهَا الرَّجُلُ عَصْرًا فِي هَذَا الْمَكَانِ.

قَالَ بلاكي مُحَدِّثًا نَفْسَهُ: «لَا شَأْنَ لِي بِمَا تَفْعَلُهُ تِلْكَ الْبَطَّاتُ، وَلَكِنِّي مُتَأَكِّدٌ مِنْ أَنَّ شَيْئًا سَيَحْدُثُ لِبَعْضِهِمْ يَوْمًا مَا مِثْلَ تَأَكُّدِي مِنْ سَوَادِ رِيشِ ذَيْلِي. رُبَّمَا انْطَلَتْ عَلَيْهِمْ خُدْعَةُ هَذَا الرَّجُلِ، وَلَكِنَّهَا لَمْ تَنْطَلِ عَلَيَّ، لَمْ تَنْطَلِ عَلَيَّ الْبَتَّةَ. لَمْ يَكُنْ مَعَهُ بُنْدُقِيَّةٌ فِي أَيِّ مَرَّةٍ رَأَيْتُهُ فِيهَا، وَلَكِنَّهُ صَيَّادٌ، أَشْعُرُ بِذَلِكَ فِي أَعْمَاقِي. إِنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ تِلْكَ الْبَطَّاتِ الْحَمْقَاوَاتِ تَأْتِي إِلَى هُنَا كُلَّ لَيْلَةٍ مِنْ أَجْلِ الذُّرَةِ الَّتِي يَنْثُرُهَا، وَيَعْرِفُ أَنَّهَا بَعْدَ أَنْ تَأْتِيَ إِلَى هُنَا بِضْعَ مَرَّاتٍ دُونَ أَنْ تَجِدَ مَا يُخِيفُهَا، سَتَطْمَئِنُّ إِلَى أَنَّ الْمَكَانَ آمِنٌ، وَلَا تَشُكُّ فِيهِ مُطْلَقًا. ثُمَّ إِنَّهُ سَوْفَ يَخْتَبِئُ خَلْفَ تِلْكَ الشُّجَيْرَاتِ الَّتِي وَضَعَهَا بِالْقُرْبِ مِنْ حَافَةِ الْمَاءِ وَيَنْتَظِرُهَا بِبُنْدُقِيَّتِهِ الرَّهِيبَةِ. هَذَا هُوَ مَا سَيَفْعَلُهُ وَلَا شَكَّ.»

أَخِيرًا قَرَّرَ بلاكي أَنْ يُلَمِّحَ بِالْأَمْرِ لِداسكي، فَذَهَبَ لِزِيَارَتِهِ صَبَاحَ الْيَوْمِ التَّالِي. قَالَ بلاكي لِداسكي، الَّذِي كَانَ يَسْبَحُ أَمَامَهُ: «صَبَاحُ الْخَيْرِ، أَتَمَنَّى أَنْ تَكُونَ فِي أَفْضَلِ حَالٍ كَمَا يَبْدُو عَلَيْكَ.»

رَدَّ داسكي قَائِلًا: «كُوَاكْ، كُوَاكْ، عِنْدَمَا يُطْرِي الْغُرَابُ بلاكي أَحَدًا، فَإِنَّهُ يُرِيدُ مِنْهُ شَيْئًا. مَاذَا تُرِيدُ هَذِهِ الْمَرَّةَ؟»

رَدَّ بلاكي: «لَا شَيْءَ، أُقْسِمُ بِشَرَفِي. لَا يُوجَدُ شَيْءٌ يَعْنِينِي هُنَا، رَغْمَ أَنَّهُ يَبْدُو أَنَّهُ يُوجَدُ الْكَثِيرُ لَكَ وَلِأَقَارِبِكَ، بِمَا أَنَّنِي أَجِدُكَ وَأَقَارِبَكَ فِي هَذَا الْمَكَانِ نَفْسِهِ كُلَّ صَبَاحٍ. مَا السَّبَبُ فِي ذَلِكَ؟»

رَدَّ داسكي بِصَوْتٍ خَفِيضٍ كَمَا لَوْ كَانَ خَائِفًا مِنْ أَنْ يَسْمَعَهُ أَحَدٌ: «ذُرَةٌ! ذُرَةٌ صَفْرَاءُ لَذِيذَةٌ!»

هَتَفَ بلاكي مُتَعَجِّبًا: «ذُرَةٌ!» وَكَأَنَّ الْمُفَاجَأَةَ صَعَقَتْهُ. وَسَأَلَ: «كَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ تَصِلَ الذُّرَةُ إِلَى الْمِيَاهِ هُنَا؟»

هَزَّ داسكي رَأْسَهُ وَقَالَ: «لَا تَسْأَلْنِي؛ فَأَنَا لَا أَدْرِي. لَيْسَ لَدَيَّ أَدْنَى فِكْرَةٍ. كُلُّ مَا أَعْرِفُهُ هُوَ أَنَّنَا نَجِدُهَا هُنَا عِنْدَمَا نَأْتِي كُلَّ مَسَاءٍ. كَيْفَ تَصِلُ إِلَى هُنَا، لَا أَعْرِفُ، كَمَا أَنَّنِي لَا أَهْتَمُّ بِمَعْرِفَةِ ذَلِكَ. يَكْفِينِي وُجُودُهَا هُنَا.»

قَالَ بلاكي: «لَقَدْ رَأَيْتُ رَجُلًا هُنَا يَأْتِي عَصْرَ كُلِّ يَوْمٍ. ظَنَنْتُ أَنَّهُ رُبَّمَا يَكُونُ صَيَّادًا.»

فَسَأَلَهُ داسكي بِارْتِيَابٍ: «هَلْ كَانَ يَحْمِلُ بُنْدُقِيَّةً رَهِيبَةً؟»

رَدَّ بلاكي: «لَا.»

فَهَتَفَ داسكي وَقَدْ بَدَا عَلَيْهِ الِارْتِيَاحُ: «إِذَنْ هُوَ لَيْسَ صَيَّادًا.»

فَقَالَ بلاكي مُلْمِحًا إِلَى ظَنِّهِ: «وَلَكِنْ رُبَّمَا يَجْلِبُ مَعَهُ بُنْدُقِيَّةً يَوْمًا مَا وَيَنْتَظِرُكُمْ حَتَّى تَأْتُوا لِتَنَاوُلِ الْعَشَاءِ. يُمْكِنُهُ أَنْ يَخْتَبِئَ خَلْفَ تِلْكَ الشُّجَيْرَاتِ، كَمَا تَعْلَمُ.»

أَلْقَى داسكي رَأْسَهُ إِلَى الْوَرَاءِ وَرَدَّ قَائِلًا: «غَيْرُ مَعْقُولٍ! لَمْ نَجِدْ شَيْئًا يُنْذِرُ بِالْخَطَرِ مُنْذُ أَنْ جِئْنَا إِلَى هُنَا. إِنَّنِي أَعْرِفُكَ يَا بلاكي؛ إِنَّكَ تَغَارُ مِنَّا؛ لِأَنَّنَا وَجَدْنَا طَعَامًا وَفِيرًا هُنَا، وَلَمْ تَجِدْ أَنْتَ شَيْئًا، وَتُحَاوِلُ أَنْ تُخِيفَنَا. لَكِنِّي أُخْبِرُكَ أَنَّكَ لَا تَسْتَطِيعُ أَنْ تُخِيفَنَا وَتُبْعِدَنَا عَنْ مِثْلِ هَذَا الطَّعَامِ الرَّائِعِ الَّذِي نَجِدُهُ هُنَا؛ فَإِلَيْكَ عَنَّا!»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤