الفصل العاشر

الأدب الفرنسي في «القرن العظيم» وهو القرن السابع عشر؛ عهد لويس الرابع عشر

جرى العرف بين مؤرخي الأدب الفرنسي أن يصفوا القرن السابع عشر ﺑ «القرن العظيم»،١ وختام هذا القرن في تاريخ الأدب هو العام الذي شهد موت عاهل فرنسا العظيم لويس الرابع عشر، عام ١٧١٥م.

شهد هذا «القرن العظيم» ما بذله «ريشليو» من جهودٍ موفقة انتهت بتركيز السلطان في صاحب التاج، بعد أن كان موزعًا بين أشراف الإقطاع، حتى بلغ الحكم المطلق أبعد مداه في عهد لويس الرابع عشر، وصحب هذه المركزية السياسية مركزيةٌ في الأدب، بل مركزيةٌ في الثقافة بأوسع معانيها، انتهت بسيادة النزعة الاتباعية (الكلاسيكية) سيادةً مطلقة، فقد كان أدب القرن السادس عشر فرديًّا في جوهره، يستمع فيه الأديب إلى وحي نفسه وهواه، ولم يكن ثمة مقياسٌ عامٌّ ظاهر يقاس به نتاج الأدباء الذي تنوعت صنوفه وتعددت، كما تنوعت أذواق الأدباء أنفسهم وتعددت نزعاتهم، ثم جاء القرن السابع عشر، فطبع الأدب بالطابع الذي وسمت به السياسة، وهو الجمع والتوحيد تحت سيطرة السلطان ونفوذه، فطُمست شخصيات الأدباء وضاعت حريتهم في الأدب، كما طُمست وضاعت في السياسة سواء بسواء.

هذه الحركة التي سارت بالأدب والثقافة نحو التوحيد والتنظيم، والتي تمثلت في «الصالونات» الأدبية التي شاعت عندئذٍ، وفي «المجمع العلمي الفرنسي» الذي أنشئ ليكون صاحب الكلمة العليا في الثقافة الفرنسية، لم تبلغ أوجها إلا حين قبض الملك الشاب لويس الرابع عشر على زمام الأمر بيده بعد موت وزيره «مازاران» سنة ١٦٦١م، وعندئذٍ فنيت «الصالونات» ليحلَّ محلها «القصر»، فمنه كانت تصدر القوانين التي تتحكم في أذواق الأدباء كما كانت تصدر سائر القوانين، فالذوق الفني الذي تجلَّى في بناء «فرساي» هو نفسه الذي فرض نفسه على الأدب، الرشاقة والفخامة وسلامة القواعد.

في هذا الجو «الأرستقراطي» نشأ الأدب الاتِّباعي في فرنسا، وهو أدبٌ «أرستقراطي» صورةً وجوهرًا، ولو أن منشئيه كادوا جميعًا أن يكونوا من أهل الطبقة الوسطى، ارتفعوا إلى أوج الشهرة بفضلٍ من الملك، فالمسرحيون العظماء والشعراء النوابغ والناثرون الفحول، كانوا بمثابة المأجورين ليمتعوا طبقةً رفيعة لا ينتسبون هم إليها وإن عاشوا بينها، ومن هنا كان أدبهم يمثل أرفع المُثُل التي سادت في عصرهم، دون أن يزلُّوا في الأخطاء والعيوب التي تنزل عادةً بأدب رجال الطبقة الرفيعة، وهي الضحولة والتكلف، فجاء أدبهم — على نقيض ذلك — عميقًا جيد الصناعة.

لكنا إن رأينا هذه الوحدة المصطنعة، التي ضمت أذواق الأدباء في مسلكٍ واحد خلال القرن السابع عشر، فلا ينبغي أن نغمض الأعين عن عوامل كانت تعمل في الخفاء رويدًا رويدًا حتى انتهى بها الأمر إلى تحطيم هذا السلطان الأدبي الذي صدر عن «الصالونات» أولًا وعن قصر «فرساي» ثانيًا، ونعني بتلك العوامل جهود الطبقة الوسطى التي أَثْرَتْ — البورجوا — فقد ظل هؤلاء يرتفعون في المجتمع ويزداد خطرهم، حتى إذا ما تحطمت قوة الملك بعد لويس الرابع عشر، انتقل مركز الثقافة والأدب من القصر وحاشيته إلى الأغنياء من رجال البورجوا، وسنلمس آثار هذا الانتقال حين نعرض لأدب القرن الثامن عشر.

وسبيلنا الآن أن نقدم بين يديك أعلام الأدب في «القرن العظيم» فنعرض الشعراء، فرجال المسرحية، فالناثرين وأصحاب القصة.

(١) الشعر الفرنسي في القرن السابع عشر

(١-١) ماليرب Màlherbe (١٥٥٥–١٦٢٨م)

أول من نتناول من شعراء هذا القرن هو «فرانسوا دي ماليرب» الذي ولد في «كان»٢ من أب يتولى القضاء، وقد أراد «ماليرب» أول الأمر أن يسير على نهج أبيه، فيتَّجه إلى دراسة القانون واحترافه، ولكنه ما لبث أن خلع رداء القانون ليمتشق الحسام محاربًا في الحروب الدينية التي كانت ناشبة إذ ذاك، ثم انتهى به الأمر إلى القرار في باريس حيث اتصل بالقصر وانصرف للشعر.

أغدق عليه القصر وأصحاب السلطان في باريس إغداقًا كريمًا، لكنه دفع الثمن غاليًا؛ إذ رد الجميل شعرًا ذليلًا خاضعًا يتقرب به من أولي الأمر، ولو أن ذلك لم يمنعه عن الإنشاء في المناسبات الشعبية العامة.

لم يكن «ماليرب» شاعرًا من الطراز الأول، وإنما يذكره تاريخ الأدب لموقفه أكثر مما يخلده لشعره، فقد كان اللسان المعبر عن المثل الأعلى للحكومة الذي أخذ يسعى ريشيليو نحو تحقيقه، ولولا ذلك لما تناول ديوانه قارئٌ حديث إلا ليقرأ له قصيدةً أو اثنتين، مثل قصيدة «العزاء» التي وجهها إلى والد فقد ابنته. أما سائر شعره فلا يمتاز بقوة الخيال ولا عمق الشعور ولا طلاوة الأسلوب على الرغم من عنايته بالصقل والتجويد؛ ولهذا جاء شعره أقرب إلى النثر في بروده.

نقول إن تاريخ الأدب يذكر «ماليرب» لموقفه أكثر مما يذكره لشعره، فقد ظهر في عصر كان الذوق الأدبي يتجه اتجاهًا يطابق مزاجه ونزعته، فكان من حسن حظه أن اقترنت باسمه الحركة الجديدة كلها، وكان هو بغير شك عاملًا من عوامل رسوخها؛ إذ وضع الأساس الذي قام عليه الشعر قرنَين كاملَين من الزمان، ولم يكن ذلك الأساس قواعدَ إيجابية رسمها لينهج على غرارها الشعراء، بل كانت جهوده سلبية تحذف ولا تضيف، فقد أخذ ينقِّي الشعر من الألفاظ القديمة والعبارات الإقليمية التي أدخلها رجال «السابوع»، وعارض رأي «رُنْسار» في أن تكون للشعر لغةٌ خاصة به، فلغة الشعر — في رأيه — هي الفرنسية النقية الخالصة، وإذن فهي لغة النثر الجيد. وكان «ماليرب» يبذل مجهودًا ضخمًا في العناية بقواعد النحو في أدق تفصيلاتها، حتى لا تفلت منه في إحدى قصائده غلطةٌ نحويةٌ واحدة، لهذا كان يكتب المقطوعة أو القصيدة، ثم يعيد كتابتها، ويعيدها مرة بعد مرة، وهو في كل مرة يصلح أخطاءها ويصقل ألفاظها ويجوِّد أسلوبها، حتى لقد أُثِر عنه أنه كان يستنفد «رزمةً» كاملة من الورق ليفرغ من مقطوعةٍ واحدة فيها بضعة أبيات من الشعر. ومن بين القواعد التي اشترطها في النظم ألا يتدفق المعنى من زوج الأبيات إلى الزوج الذي يليه، فيجب عنده أن يتم المعنى في كل زوجٍ على حدة.

هكذا يجب أن تكون العناية بكتابة الشعر، فلا خطأ في النحو ولا إدخال للفظ الغريب، ولا طلاقة في تدفق المعنى، وشعاره في الشعر هو الوضوح والصحة وجودة المعنى، فلا غرابة إن عدَّه تاريخ الأدب واضع الأساس للمدرسة الاتباعية التي سادت في القرن السابع عشر، وهي مدرسة تعمل على كبت الحرية الفردية، وتجتنب كل ما يؤدي إلى الإسراف في الفكر والأسلوب. ولنضرب مثالًا لشعره أبياتًا من خير قصائده «عزاء إلى مسيو دي برييه»:

أَحُزْنُكَ هذا — إذن — «برييه» حزنٌ سرمديُّ؟
أيظلُّ هذا الحديث الحزين
— الذي يوحي إليك به عطفُك الأبويُّ —
يزيد في أحزانك أبد الآبدين؟
أتكون فادحةُ ابنتك التي نزلتْ بها في قبرها
بموتٍ هو للجميع مآب؛
متاهةً ضَلَّ رشدُك في أنحائها،
فلن يعود إليك صواب؟

•••

إني لأعلمُ ما كان لها من سحرٍ في طفولتها
فلم أكن لك بالصديق الآثم،
وأحجمتُ، لم أخفف من مصيبتها،
ولم أَسْتَهن برُزْئها القاصم.

•••

لكنها تنتمي إلى عالمٍ أجملُ ما به عابر،
يرقبه أسوأُ المصير في الأرض،
وقد عاشت — زهرةً — كما تعيش الأزاهر
صباحًا واحدًا ثم تقضَّى.
وهَبْ أن الله استجاب لك الدعاء،
فامتد بها الأجلْ،
وعاشت حتى أمستْ كهلةً شمطاء؛
فأين أين الأمل؟

•••

أم تظنُّها لو عُمِّرَتْ، فإنها في دار المقرِّ
تزداد من ترحابها؟
أم كانت تقلُّ إحساسًا بتربة القبر،
وبالدود في لحدها؟

(١-٢) رينييه Regnier (١٥٧٣–١٦١٣م)

وضع «ماليرب» قواعده واستنَّ للشعراء الشرائع، فتبعه التابعون، وظن «بوالو» — الناقد المشهور الذي سنحدثك عنه في الكلمة التالية — أن جميع الشعراء قد اعترفوا بالقوانين التي فرضها «ماليرب»، لكنه أخطأ الظن، فكان هنالك من عارض وقاوم، وعلى رأس هؤلاء المعارضين للحركة الجديدة «رينييه».

كان «ماتوران رينييه»٣ شاعرًا عبقريًّا يبتكر ولا يقلد، وله فضلًا عن قصائده الرائعة ست عشرة سخريةً تضارع أروع ما عرفه الأدب الفرنسي من الشعر الساخر، وأهمها «الشعراء»،٤ التي يعرض فيها وصفًا دقيقًا لحالة الأدب في عصره، و«إلى نقولا رابان»،٥ وفيها يهاجم ماليرب، و«ماسِتْ»٦ وهي دراسةٌ قوية لامرأةٍ عجوزٍ منافقة. ولعل هذه السخرية أن تكون آيته، رغم ما فيها من فحشٍ في القول ينبو عنه الذوق المهذب، و«الشاعر رغم أنفه»،٧ وفيها يعرض طريقته في الكتابة وخصائص مزاجه ونزعته.

وأهم ما يمتاز به رينييه تصويره للشخصيات تصويرًا فيه قوة وشمول، ومع ذلك فتاريخ الأدب يذكره لخروجه على قواعد ماليرب أكثر مما يذكره لسائر صفاته ومميزاته، وهو في السخرية التي يهاجم فيها ماليرب، تراه يهزأ بأولئك الذين يبذلون أقصى جهدهم في دقائق القواعد اللغوية وقواعد العروض، فكأنما هم بذلك ينثرون النظم وينظمون النثر، ويحسبون ألا يكون الأدب أدبًا إلا إذا نسج الأديب على منوالهم، أما رينييه فيرفض الإذعان لهذه القيود، ويدافع عن حرية الأديب، وعما يجب أن يتمتع به العبقري النابغ من حقوقٍ في الابتكار هي فوق كل قاعدة وكل قانون. وأسلوب رينييه فيه قوة وطلاقة، لكنه كثيرًا ما يكون مهلهل الديباجة وفيه أخطاءٌ لغوية، نعم إنه يقدم لذلك بقوله إن ما يبدو في أدب النوابغ من إهمال هو نفسه الدليل على مواضع نبوغهم، لكننا حتى إن سلمنا معه بصدق هذا الرأي، فلا يسعنا إلا أن نلاحظ أن مواضع إهماله وخطئه أكثر من أن تغتفر.

وإمعانًا في الخروج على ماليرب، كان رينييه كثيرًا ما يُجْري المعنى في القصيدة من وحدةٍ زوجية إلى الوحدة التي تليها، ولا يحرص على أن يتم المعنى في كل وحدة كما أوصى ماليرب، وهذا مثال من شعره:

مقطوعات

إن كانت عيناك تلمعان نورًا وغرامًا،
فقد كانتا لقلبي الذي استعبدتِه ضرامًا،
وإن كنت أجثو لعينَيك كما أجثو لنجم أقدس،
فلماذا لا تحبينني؟

•••

وإن كان قد خَلَعَ عليكِ الجمالُ جلالًا
فينبغي — كالزهرة فوق العشب تذوي ذبولًا —
من بطش الفصول وعنفها أن تعاني،
فلماذا لا تحببني؟

•••

أتريدين أن يكون فيضُ الغرام من عينيك
هبةً من الطبيعة بغير جدوى عليَّ ولا عليكِ!
فإن كان الغرام — مثل الله — على الجميع يفيض،
فلماذا لا تحبينني؟

•••

أم تنتظرين يومًا يتولاكِ فيه الندم،
إن في ذلك حرمانًا لنا من كثيرٍ من النعمْ،
وما دمنا نعيش من عمرنا في أحلاه،
فلماذا لا تحبينني؟

(١-٣) بوالو Boileau (١٦٣٦–١٧١١م)

ولكن ماذا تجدي ثورة «رينييه» على «ماليرب» والعصر كله يتجه الوجهة التي وجدت في «ماليرب» لسانًا معبرًا؟ لقد أخذت تعاليم «ماليرب» تزداد رسوخًا واتساعًا، حتى إذا ما انقضى بعد موته نصف قرن جاء أديبٌ آخر فأكمل رسالته، أديبٌ يحتل في الأدب الفرنسي مكانةً عالية، دان له الشعر في فرنسا، بل في أوروبا كلها حينًا من الدهر؛ إذ أصبحت قواعده في النقد مقياسًا يؤمن بصدقه الشعراء، فتستطيع أن تعده بحق ممثل المذهب الاتباعي (الكلاسيكي) في الأدب والمعبر عن أصوله وقواعده.

ولد «بوالو» في باريس، وكان في شبابه يُعَدُّ لوظائف الكنيسة، لكنه لم يلبث أن انحرف بمجرى الدراسة إلى القانون، ثم عاد فترك دراسة القانون لينصرف إلى الأدب، وذلك حين مات أبوه وخلَّف له إرثًا يكفيه مئونة العمل لاكتساب القوت، واشتغل «بوالو» بالنقد الأدبي خاصة، فأثار بنقده عداوة كثير من الأدباء المعاصرين، لكنه في الوقت نفسه اكتسب صداقة «موليير» و«راسين» و«لافونتين» كما ظفر برعاية الملك، ولبث بوالو أمدًا طويلًا يسيِّر المجمع العلمي ويرسم له الطريق.

ويتألف نتاجه الأدبي من اثنتي عشرة رسالةً، واثنتي عشرة سخريةً، وطائفة من الأناشيد والحِكَم والقصائد القصيرة، وله كذلك آثارٌ نثرية، غير أن ما يعنينا من إنتاجه كله قصيدتان: «منصة الخطابة»٨ و«فن الشعر».٩
أما «منصة الخطابة» فأساسها معركة نشبت بين رجُلَيْن في إحدى الكنائس على موضع منصة الخطابة، فاتخذ «بوالو» من هذه الحادثة موضوعًا لقصيدة من «الشعر الحماسي الساخر»، وهو نوعٌ جديدٌ مبتكر من شعر السخرية في فرنسا سرعان ما انتقل إلى إنجلترا إذ اتخذ «بوب» — في أوائل القرن الثامن عشر — من قصيدة «منصة الخطابة» نموذجًا احتذاه في قصيدته المشهورة «اغتصاب الخُصلة»،١٠ فقد كانت طريقة السخرية قبل ذاك أن يتناول الكاتبُ الساخر موضوعًا حماسيًّا جادًّا رصينًا، فيعالجه بطريقة تبعث على الضحك؛ إذ يسوقه في عباراتٍ مبتذَلةٍ لا تتناسب مع جلال الموضوع، فجاء «بوالو» وقلب الطريقة بأن تناول موضوعًا تافهًا، ثم عالجه بأسلوبٍ جليلٍ وقور يناسب الملحمة العظيمة، وإذن فأساس «الشعر الحماسي الساخر» أن يكون بين مادة القصيدة وأسلوبها فارق وتباين، فيمتنع التناسق والتناسب، فبدل أن كانت طريقة السخرية القديمة — كما قال بوالو — تُجرَى على لساني «ديدو» و«إينياس»١١ كلامًا شبيهًا بما يجري على ألسنة السمَّاكين والحمَّالين، أصبحت الطريقة الجديدة تُجرى على ألسنة الحلاقين وزوجاتهم كلامًا شبيهًا بما تبادله «ديدو» و«إينياس»، بل لا تكتفي طريقة «الشعر الحماسي الساخر» التي أدخلها بوالو في الأدب الفرنسي، على مجرد استخدام الحديث الذي يلائم الملحمة الكبرى في موضوعٍ تافه، بل تستخدم أيضًا تقاليد الملحمة وقواعدها كما جرى بها العرف في الآداب القديمة، فأحلامٌ وحروبٌ تجري على نمط الحروب الهومرية وهكذا.

وأما قصيدته الأخرى «فن الشعر» فموضوعها قواعد النقد الأدبي وأصول الشعر كما يجب أن تكون، وقد لبثت هذه القصيدة حينًا طويلًا من الزمان مرجعًا هامًّا يرجع إليه الأدباء كلما مسَّتْ بهم الحاجة إلى هداية في أصول الأدب الاتباعي (الكلاسيكي)، والقصيدة منظومة في أربعة أجزاء، فُصِّلت في الجزء الأول منها القواعد العامة، كما رُوي فيها تاريخٌ قصير للشعر الفرنسي من «فيُّون» إلى «ماليرب» وخُصص الجزآن الثاني والثالث لبيان أنواع الشعر، وما يضبط كل نوع منها من قوانين وقواعد، وأما الجزء الرابع فيقدم به بوالو وصفًا لحياة الشاعر الخلقية والخلال التي ينبغي للشاعر أن يتحلَّى بها.

والمحور الرئيسي الذي يدور حوله مذهب بوالو هو أن الشاعر يجب أن يحذو حذو الطبيعة، أو بعبارةٍ أخرى يهتدي بهدْي العقل، وإنما أراد برأيه هذا أن الشاعر عليه أن يجتنب المبالغة والإسراف والشذوذ، وألا يحيد عما هو طبيعي ومعقول، والطبيعي المعقول هو ما يطابق سير الحياة المألوف، فمن المبادئ التي أخذ بوالو يكررها ويشرحها: «لا جميل إلا الحق، فالحق وحده محبب إلى النفوس.» إذ يعتقد أن سائر أصول الفن الشعري مستمدة من هذه القاعدة.

أراد «بوالو» للشاعر أن يستمع إلى ما يمليه العقل ليجيء قوله حقًّا يتفق مع ما يجري في الطبيعة، وأخذ يناقش هذا المبدأ ويشرحه حتى انتهى به الأمر إلى نتيجةٍ غريبة، وهي أن لا مناص للشاعر عن محاكاة الآداب القديمة، إذ ما سبيل الشاعر إلى معرفة ما هو طبيعي معقول، كيف يميز بين الحق وغيره؟ لا سبيل إلى ذلك إلا أن يُدْمن الشاعر مطالعة الأقدمين حتى يكتسب الذوق الأدبي السليم، وتكون له ملكة الحكم الصحيح.

قد تقول: ولكن هذه القواعد الضيقة خانقة لحرية الأديب قاتلة لابتكاره، ولكنك إذ تقول هذا قد نسيت أننا نمهد لعصر طابَعُه الحكم المطلق الموحد في السياسة والأدب.

(١-٤) لافونتين La Fontaine (١٦٢١–١٦٩٥م)

ولد «جان دي لافونتين» في إقليم شمبانيا بفرنسا، من أبٍ كانت له حراسة الغابات في إقليمه، وهو منصب لا بأس به، وورثه الابن عن أبيه، وشاءت الأيام لأديبنا ألا يتلقى من العلم إلا مبادئ لا تُغني ولا تفيد، لكن سرعان ما اجتذبه الأدب إلى حظيرته، فأخذ يطالع الروائع الأدبية في مكتبة جده الغنية بالنفائس، فدرس آثار «مارو» و«رابليه» وغيرهما من أعلام الأدب في القرن السادس عشر، والعجيب أن لافونتين الذي خلقه الله كاتبًا، لم يفكر في حمل قلمه إلا بعد زمنٍ طويل أنفقه في القراءة، فكانت أول آثاره ترجمةٌ عن «تِرِنْس» المسرحي المعروف في أدب الرومان الأقدمين، ثم انتقل لافونتين من الريف إلى باريس، حيث لم يلبث أن سطع نجمه وذاع اسمه في عالم الأدب، وقد عاش في باريس عيش المستهتر الذي لا يأبه لشيء، ينشد متعة نفسه ولا يردعه في سبيلها أخلاق أو ضمير، وقد كان ذا صفاتٍ لطيفة، ظريفًا خفيف الظل؛ فأحبه الأصدقاء وتعاموا عن جوانب ضعفه، وسرعان ما وجد من رُعاة الأدب الأغنياء من يجعله في كنفه ويغدق عليه المال، فاكتفى بذلك، وأخذ يتنقل بين مشاهد الحياة كأنما هو الطفل سذاجةً وصراحةً واستخفافًا بأعباء العيش، لكنه في حقيقة الأمر إنما كان ينظر إلى الأشياء بذلك البصر النافذ الذي يكشف عن كوامن النفوس، وقد تملَّكه إحساسٌ قوي يعبث بالأشياء ويشعر بتفاهتها.

كان لافونتين أثناء إقامته في باريس يخالط أئمة الأدب في عصره: بوالو وموليير وراسين، فكان الأربعة يجتمعون على فتراتٍ منظمة في حانةٍ أو في منزل، لكنه إلى جانب ذلك كان يعاشر صحبة السوء حتى تلوَّث اسمه، فكان ذلك سببًا في أن يشير على الملك مشيروه ألا يأذن بقبوله عضوًا في المجمع الفرنسي، فلما مات أحد الأعضاء، رُشَّح لملء مكانه اثنان، هما لافونتين وبوالو، وهما — كما رأيت — صديقان حميمان، وكان القصر يؤيد بوالو والمجمع يفضل لافونتين، فاختاره المجمع دون زميله، فأرجأ الملك موافقته، وأوشك أن يرفض ما قرره المجمع، لولا أن خلا مكانٌ جديد، فانتُخب له بوالو وحُلَّ بذلك الأشكال، ومع ذلك فقد أشار الملك عند إعلان الموافقة على لافونتين إشارة لها مغزاها: «لكم أن تضموا إليكم لافونتين، فقد وعد أن يكون حكيمًا.» ولما اقترب لافونتين من ختام حياته تاب وندم على مجونه ومات سنة ١٦٩٥م ورعًا تقيًّا.

كتب لافونتين ملهاتَين وعددًا من القصائد، ولكنه خالد بمجموعة «قصصه»١٢ و«حكاياته الخرافية».١٣

أما «القصص» فقد استمدَّها من «بوكاتشو» و«أريوستو» و«مكيافلي» و«رابليه» وغيرهم من أدباء النهضة، كما استمد بعضها من الأدب اليوناني واللاتيني، وأخرجها لافونتين آياتٍ روائع تتألق بعلائم النبوغ وتفيض بدلائل الفن، لولا ما يشيع فيها من إباحية كانت سبب شهرتها وذيوعها في عصرٍ إباحيٍّ مستهتر، لكنه جاوز بإباحيته في «القصص» حدَّ العصر، فلم يسمح أولو الأمر عندئذٍ بنشر آخر جزءٍ من أجزائها.

وأما «الحكايات الخرافية» فهي آيته الخالدة التي اتصفت بكل ما اتصفت به «القصص» من مزايا، ثم سلمت بعد ذلك من نقائصها، ففيها ما في «القصص» من براعة الرواية وحسن الفطنة والسخرية والخيال والرشاقة والتنوع ومرونة النظم، ولا تشوبها شائبة من إفراطٍ ومجون، فقد أثبت لافونتين أنه أمير «الحكاية الخرافية» في آداب العالم أجمع غير منازَع، فلا يزال الناس ولن يزالوا يطالعونها في شوق ورغبة «فالطفل يغتبط بها لما في القصة من نضارة ونصوع، وطالب الأدب المتحمس يشوقه فيها الفن الرفيع الذي ينتظم رواية الحوادث، والرجل الذي حنكته تجارب الدنيا يستمتع بها لما فيها من لمحاتٍ دقيقة عن الحياة وأخلاق الناس».١٤
لم تكن موضوعات «الحكايات الخرافية» من خَلْق لافونتين وابتكاره، فقد يتناول حكاية شائعةً يتناقلها الناس في أحاديثهم، وقد ينقل حكايةً قرأها لكاتبٍ هنا أو كاتب هناك، وإنك لتعلم سعة اطلاعه من تنوع المصادر التي استمدَّ منها تلك الحكايات، فبعضها شرقي، وبعضها من الأدب القديم، وطائفةٌ من الأدب الوسيط، وأخرى من الأدب الحديث، ولكنك تقرأ القصة في قالبها الجديد، فكأنما هي جديدة مبتكرة؛ وذلك لأنه يستعير مادتها، ثم يخرج المادة المستعارة مطبوعةً بطابعه موسومةً بروحه وعبقريته، فنبوغ لافونتين — كما يقول «سانت بيف»١٥ — في طريقة الأداء لا في مادة الموضوع.

والحكاية الخرافية في رأي لافونتين قوامها عنصران: الجسد والروح، فأما الجسد فهو القصة ذاتها، وأما الروح فما تدل عليه القصة من مغزًى، وهو ينظر إلى القصة ذاتها نظرته إلى ملهاة تجري مجرى الرواية القصصية، وهو يصف «الحكايات الخرافية» في مجموعها بأنها ملهاةٌ طويلةٌ تشتمل على مائة فصل يختلف بعضها عن بعض، وما الأشخاص في هذه الملهاة الكبرى إلا صنوف الحيوان في معظم الأحيان، جريًا على تقليدٍ عُرفَ في أدب الحكاية الخرافية منذ أقدم العصور، وجدير بنا في هذا الصدد أن نذكر حقيقةً عن لافونتين، وهي حبه للحيوان ودقة ملاحظته لطرائق عيشه؛ لهذا كان بارعًا في فنِّه صادقًا في نظرته كلما عرض حيوانًا في موقف من المواقف، ولم يكن أقل براعة وصدقًا حين ساق في حكاياته أشخاصًا من البشر. وليس ثمة فرق في حقيقة الأمر بين أن يعرض أفرادًا من الحيوان أو أفرادًا من الإنسان، فهو في كلتا الحالتين إنما يصوِّر النماذج البشرية البارزة في عصره؛ يصوِّر الملك ورجال حاشيته، ويصور رجال الدين ورجال القانون ورجال المال من «البورجوا» كما يصور الزارعين السذج وغيرهم من الطبقات، فالحكايات الخرافية التي خلفها لنا لافونتين من أصدق الصور الأدبية التي تعكس دقائق عصرها، ولا يفوقها في تصوير العصر من آثار ذلك العهد إلا ملاهي موليير.

وأما «روح» الحكاية الخرافية فهي — كما أسلفنا — مغزاها، لكنا نخطئ إن ظننا أن لافونتين كان يستخرج المغزى ليتخذه القارئ درسًا خلقيًّا يهتدي به، فهكذا ظن بعض الناقدين وأخذوا عليه — مثلًا — أن يعلم الناس الخضوع للظروف بدل الوقوف في وجهها، كما جاء في حكاية «السنديانة وقصبة الغاب»، إنه بمثل هذا يسجل ما هو واقع كما تشهد به التجربة، ولا يقرر قواعد الأخلاق كما يجب أن تكون، ومن الإجحاف أن نعيب على الكاتب تصويره للحياة الواقعة كما شاهدها ومارسها، فليس لافونتين بالأديب الذي يحصر نفسه وحياته في حدود العرف والتقليد، ولعل أكبر ما يميز «حكاياته الخرافية» عن حكايات السالفين — مثل أيسوب١٦ — هو أن عنصر التعليم والإرشاد في أدبه ضئيل جدًّا إذا قيس بحكايات أولئك، فلافونتين متفرج يراقب الحياة بنظرٍ ثاقبٍ ناقد، فيرى منها وجه الرذيلة والحمق والنفاق، ثم يسخر مما يرى سخريةً لاذعةً، لكنها حلوة الفكاهة مستساغة.

ولئن عُدَّ أدب لافونتين اتِّباعيًّا بسبب إعجابه بالقدماء وعنايته الشديدة بالتجويد والصناعة، فهو في حقيقة الأمر لا يجري مع الاتباعيين إلى نهاية الشوط، لهذا الذي تراه في أدبه من حرية الابتكار والتنوع؛ فهو مثال فريد في أدب القرن السابع عشر.

وبعدُ، فكتاب «القصص» وكتاب «الحكايات الخرافية» وحدةٌ يتمم أحدهما الآخر، بحيث يكوِّنان معًا «لافونتين» فلا تستطيع أن تحكم عليه بهذا الكتاب دون ذاك، وأهم ما يمتاز به الكاتب؛ أولًا: أسلوبه من حيث المرونة والتنوع، وثانيًا: سلاسة القصة في روايةٍ منظومة، فليس يعوق النظمُ عنده مجرى الحوادث في سهولةٍ وتدفُّق، وثالثًا: براعته في الرمز والإيماء، ولهذه الحسنات في أدبه يكاد يستحيل على قارئ أن يقرأه ولا يُفْتَن به. والعجيب أن «لافونتين» في غير قلمه غرٌّ ساذج، أما إذا حمل القلم ليكتب كان اللوذعي الحاذق المتعمق البصير بطبائع البشر، وهو في هذا شبيه بأديبٍ إنجليزي سنحدثك عنه في القرن الثامن عشر، ونعني به «أوليفر جولد سمث».١٧

ونسوق لك فيما يلي مثلًا من «حكاياته الخرافية»:

بلاط الأسد

صاحب الجلالة الأسدُ يومًا أراد
أن يعلن، على أيِّ الشعوب حكَّمتْهُ السماءُ سيدًا؛
فأرسل الرُّسُلَ ينادي
تابعيه من كل جنس،
باعثًا في أرجاء ملكه بكتابٍ،
وعليه خاتمه، ومضمون الخطاب
أن الملك سيعقد خلال شهرٍ
مجلسَ البلاطِ كاملًا وستكون الفاتحةُ
وليمةً عظيمةً باذخةً،
يتبعها من القِرْدِ ألعابٌ!
فبمثل هذا الحفل العظيم
سيعرض الأميرُ ماله على الرعية من نفوذ،
وقد دعاهم إلى قصره
ويا له من قصر! مُخزَّنٌ فيه الأشلاء مكدسة،
تنبعث منها الرائحة إلى الأنوف، فزمَّ الدبُّ خيشومه،
أَلَا ما كان أغناه عن مثل هذا الزمِّ،
فقد عاد عليه بالويلات؛ إذ استشاط الملك غيظًا،
فأرسل الدبَّ إلى «رب الجحيم» يتقزَّز بين يديه،
واهتزَّ القردُ من طربٍ لهذه القسوة الصارمة،
وامتدح غَضْبَةَ الأمير عن رياءٍ مفرطٍ،
كما أعجبه من الأمير مخلبٌ وعرينٌ ورائحةٌ،
ولم تكن الرائحةُ عنبرًا ولا وردًا،
لكن رياءَهُ الأحمقَ لم يُصِبْ نجاحًا، بل لقي شر الجزاء،
وكان السيِّدُ الأسدُ بهذا
شبيهًا «بكالجولا».
وكان الثعلب على مقربة، فقال له مولاه:
«وأنت، ماذا تشم؟ خبِّر، تكلَّم ولا تُخْفِ شيئًا!»
فاعتذر الثعلب من فوره،
متمارضًا بالزكام الشديد، وليس في وسعه الحكمُ
بغير عضو الشمِّ، وجملةُ القول أن تخلَّصَ الثعلبُ.
فليكن لك ذلك عبرةً:
إن أردتَ في بلاط الملك أن تصادف القبول،
فلا تُخْلِص الحديثَ ولا تُمعن في نفاقٍ مرذول،
وحاول ما استطعت أن تجيب بما فيه النجاة.

وقد نظمها محمد عثمان بك جلال فقال:

أرسل السبع إلى أهل الجبل
فأتى كلٌّ إليه ودخل،
ومغار السبع هذا جامع
رِمَّة الجدي على لحم الجمل،
ورءوسًا من عظامٍ نُشرت،
وجسومًا من بقايا ما أكل.
دخل الدب ودارى أنفه
من أذى رائحةٍ فيها ثقل
فرآه السبع في أحواله
معجبًا فاغتاظ مما قد حصل!
عضَّه بالنَّاب عضًّا مفرطًا،
وله في محضر القوم قتل!
فرآه القرد مَفْريَّ الحشا؛
فاعتراه الخوف من هذا العمل،
أخذ التمليقَ في أقواله
كلها خوفًا على فقد الأجل!
قال: «ذي رائحةٌ ممدوحة،
وكذاك الورد مؤذٍ بالجُعَل،
لم أجد للروض نفحًا مثلها،
لا ولا للنِّد نشرًا في الجبل.
منزل السلطان مسك عَرفُه،
ولقد طاب الذي فيه دخل.»
وعلى كلٍّ فلم ينجح بما
زاد في إطنابه فوق الأمل،
ظنه السبع به مستهزيًا؛
فتوضا من دماه واغتسل؛
ثم قام السبع يمشي بينهم،
فرأى الثعلب يزهو بالحيل،
قال يا ثعلب! قل لي ما ترى،
كيف ريح الغار؟ قال: لا تسل؛
فإلى السلطان أنفي اشتكى
لزكامٍ فيه من أمس نزل،
فعفا عنه وولَّى خارجًا
يوسع الأصحاب ضربًا بالمثل؛
جانِبِ السلطان واحذر بطشه
لا تعاند من إذا قال فعل

(٢) الأدب المسرحي

لا يسعنا ونحن نروي قصة الأدب في العالم أن نهمل طائفةً من رجال الأدب المسرحي في فرنسا في القرن السابع عشر، كان لهم الفضل في شقِّ الطريق ووضع الأصول. فنبدأ الحديث «بكورنِي» الذي يُعدُّ أبا المأساة الاتباعية في الأدب الفرنسي، ولكننا لا نبدأ القول في «كورني» حتى نوضح للقارئ أسس المأساة الاتباعية (الكلاسيكية) التي تنسب الأبوة فيها لهذا الكاتب العظيم.

المأساة الاتباعية تنسج على منوال المسرحية اليونانية وتقوم على مبادئ أرسطو التي فصلها في كتابه عن الشعر، هذا من الوجهة النظرية، أما من الوجهة العملية فقد سارت المأساة الاتباعية على نهج المآسي اللاتينية التي خلَّفها «سِنِكا»، والتي تمثل المبادئ اليونانية في صورةٍ جافةٍ متطرفة، مع التجاوز عن نقطتَين لم يذهب فيهما شعراء القرن السابع عشر مذهب القدماء؛ الأولى: عناية هؤلاء المحْدَثين بإدخال عنصر الحب في مسرحياتهم، وهو عنصر كادت تخلو منه المسرحية في الآداب القديمة، والثانية: إهمالهم للجوقة التي كانت جزءًا هامًّا في المسرحية القديمة، والتي كانت وسيلة الكاتب للتعليق على الحوادث، وإنما أهمل المحدثون الجوقة وأسقطوها من مسرحياتهم لما رأوا عبئًا يعطل سهولة السياق وسلاسته.

استثْنِ — إذن — هاتين النقطتَين اللتين اختلف فيهما المحدثون عن نماذج القدماء، ثم قل بعد ذاك إن المسرحية الفرنسية في القرن السابع عشر اقتفت أثر «سِنِكا» في كل شيء، فكانت «أرستقراطية» مادةً وقالبًا، موضوعًا وأسلوبًا، فتستمد موضوعها من أمجد ما خلد التاريخ وما رَوَت الأساطير، وبخاصة تاريخ اليونان والرومان وأساطيرهم، وتختار أشخاصها رجالًا عمالقة يَسْمون برءوسهم فوق مستوى العامة، وما دام الموضوع والأشخاص على هذا النحو من العظمة والجلال، فلا بد أن يكون الأسلوب فخمًا رنَّانًا ينم عن البطولة السامقة، ولا بد أن تكون الألفاظ من أول الرواية حتى ختامها مختارةً منتقاةً بعيدةً عن ألفاظ الحديث الدارج المألوف المبتذل، وفي هذه المسرحية الاتِّباعية ترى الخُطَب الطويلة القوية تأخذ مكان الحوار الطبيعي والعمل والحركة، فالمذهب الاتباعي يرفض أن يقع على المسرح فِعْلٌ عنيف كالقتال والقتل. نعم قد يكون في صلب الرواية حادثاتٌ مثيرةٌ مروعة، لكنها لا تُمثَّل على المسرح، إنما تُروى للنظارة نبأً من الأنباء، وهذا في حد ذاته عاملٌ جديد يزيد من ضرورة العبارة الفخمة القوية. فإذا لم تُرِدْ لنظَّارتك — مثلًا — أن يشهدوا مصرع بطل أو معركةً عنيفة أو مبارزةً تشتد فيها الحماسة وتشتعل، فلا أقل من أن تروي لهم هذه الحوادث بأسلوبٍ رنَّان يعوض ما فقدوه، ومن هنا اشتدت عناية المأساة الاتباعية ببلاغة الأسلوب على حساب العنصر المسرحي الحقيقي، وهو الحركة والعمل. كذلك كان من خصائص المسرحية الاتباعية التوحيد، فإن كانت مأساةً فيجب ألا يدخلها غير الأسى من الفاتحة إلى الختام، ولا يجوز أن تخفف الفواجع بالهزل والنكات. وأخيرًا عنيت المسرحية الاتباعية بالوحدات الثلاث عنايةً كبرى، وقد وضحنا معنى هذه الوحدات الثلاث في موضعٍ سابقٍ من هذا الكتاب، لكنا نعود فنوجز شرحه ليتضح معنى ما نريد، فالوحدات الثلاث المشهورة في الأدب المسرحي، هي وحدة الزمان ووحدة المكان ووحدة العمل، أما وحدة المكان فتشترط أن تقع حوادث الرواية كلها في مكانٍ واحد، وكلما ضاقت حدود هذا المكان الواحد كانت الرواية ألصق بأصول المذهب الاتباعي، كأن تقع الحوادث في حجرةٍ واحدةٍ مثلًا، على أن ذلك متعذَّر بل مستحيل في كثيرٍ من الأحيان؛ ولهذا يتجاوز الاتِّباعيون فيه قليلًا فيجيزون أن تقع الحوادث في منزل ذي غرفٍ عدة، أو في مدينةٍ بأسرها. وأما وحدة الزمان فتشترط أن تقع حوادث الرواية في أربعٍ وعشرين ساعة، وقد يتجاوز الاتباعيون في هذا أيضًا، فيجعلون زمان الرواية نهارَين بينهما ليلٌ واحد أو نحو ذلك. وأما وحدة العمل فيراد بها أن يكون في الرواية حبْكةٌ واحدة، أو سِلْكٌ واحد للحوادث، ولا يجوز أن تتداخل حبكتان في روايةٍ واحدة.

واتباع مذهب الوحدات الثلاث يؤدي إلى بعض النتائج في تأليف الرواية المسرحية، منها ضرورة البساطة في الموضوع المختار، حتى لا تتطلب حوادثه أكثر من مكانٍ واحد، وأكثر من يومٍ واحد. وبساطة الموضوع تقتضي بدورها قلة عدد الأشخاص في الرواية. ومن هنا كان من أبرز خصائص المسرحية الاتِّباعية قلة أشخاصها، وتمتع كل شخص بقسطٍ أوفر من عناية الكاتب. ومنها أنه لما كان متعذَّرًا أن تجد حادثةً هامة تبدأ أسبابها وتنتهي نتائجها في يومٍ واحد، كان لزامًا على الكاتب أن يأخذ من الحادثة المختارة نتائجها مُهمِلًا أسبابها، فيعرض على نظارته الختام دون البداية. ولعلك تدرك أن هذه الخصائص: قلة الأشخاص وتصويرهم في موقفٍ واحدٍ من مواقف الحادثة، واستبعاد الحركة والعمل من المسرح، والاكتفاء بالأخبار عما يُفْرض وقوعه من الحوادث؛ لعلك تدرك أن هذه الخصائص تُفقد الرواية قوة الحياة، ومن هنا كانت المسرحية الاتِّباعية جامدةً ساكنة تخلو من النمو والتطور، تنظر إليها ممثلة فتكون أقرب إلى لوحاتٍ مرسومةٍ من حياةٍ ناميةٍ متطورةٍ في حركةٍ دائمة.

تلك قيود يرفضها الذوق الأدبي الحديث، ولكن في مثل هذه القيود كَتب كاتبان من أعظم رجال المأساة في آداب العالم، هما «كورْني» و«راسين».

(٢-١) كورني Corneille (١٦٠٦–١٦٨٤م)

ولد «بيير كورني» في «روان»١٨ من أسرة اشتغل كثير من أبنائها في القضاء، فدرس القانون في كليةٍ يسوعية في بلده، وتخرج فيها محاميًا، لكنه لم يلبث أن ترك المحاماة لينصرف إلى أدب المسرح، بعد أن طبعه الاشتغال بالقانون بطابعٍ لازمه في مسرحياته، تراه واضحًا في المناقشات والمرافعات التي تصادفك هنا وهناك.
بدأ حياته المسرحية بملهاة «مِلِيتْ»،١٩ التي أخرجها وهو في الثالثة والعشرين من عمره، وصادفت نجاحًا كان أكبر حافز له على المضي في طريق الأدب المسرحي، ولفتت إليه أنظار وزير فرنسا الأكبر «ريشيلو»، فجعله واحدًا من خمسة شعراء استخدمهم لتنفيذ سياسته، لكن «كورني» لم يتحرج يومًا من نقد الوزير، فكان في ذلك ختام ما بينهما من صلة، وكان ذلك سنة ١٦٣٤م إذ بلغ شاعرنا الثامنة والعشرين من عمره، ثم لم يمضِ على ذلك الحادث عامٌ واحد، حتى أخرج أولى مآسيه «مِيدْيه»،٢٠ ثم عامٌ آخر حتى ارتجَّت باريس لمأساته العظيمة «السِّيد»،٢١ التي تعد باكورة ما أثمرت المدرسة الاتباعية من آيات.
استمد «كورني» موضوع «السِّيد» من مسرحيةٍ إسبانية كتبها عن ذاك البطلِ كاتبٌ يدعى «دي كاسترو»، لكن الرواية في أصلها الإسباني أبعد ما تكون عن الأصول الاتباعية التي بسطناها منذ قليل، فهي كثيرة الشخصيات دائمة الحركة، ولا تقيد نفسها بقيود الوحدات الثلاث؛ فلكي يجعلها «كورنيْ» صالحةً متمشية مع قواعد المذهب الاتِّباعي الذي كان يتحكم في الأدب الفرنسي في القرن السابع عشر، أخذ يشذب أطرافها، فيقلل من حوادثها ومن أشخاصها، بحيث لا يُبقي من الأشخاص والحوادث إلا ما يمسُّ الموضوع الرئيسي مسًّا مباشرًا، وحذف ما يضطره إلى إحداث العمل أمام نظارته، فاستبدل بالمعركة التي تنشب بين البطل وبين الجيش العربي خُطبةً طويلة يصف فيها «السيد» — البطل — ما دار في تلك المعركة. وقيد كورني روايته بحدود المكان والزمان، فمكانها واحد وزمانها يوم، ومع ذلك الجهد كله في التغيير والتحوير لم يوفَّق كورني في جعل مسرحيته اتِّباعيةً خالصة، وظلت فيها عناصر لا تتمشى مع قواعد هذا المذهب، فلم يسع المجمع الفرنسي الذي كان له الإشراف على الحركة الثقافية والأدبية كلها إلا أن ينقدها ويبين مواضع الخطأ والضعف فيها، فقد سمح «كورني» لنفسه أن يجعل والد البطلة «شيمين»٢٢ يصفع والد البطل «السيد» على مرأى من النظَّارة، وفي هذا خروج على قواعد الاتِّباع، وفضلًا عن ذلك فقد جعل «كورني» زمان روايته يومًا واحدًا، لكنه سرد من الحوادث ما يستحيل أن يقع في يومٍ واحد، فخرج بذلك على وحدة الزمان بمعناها الصحيح. هكذا وجهت الهيئة الأدبية الرسمية نقدًا «رسميًّا» إلى رواية «السيد»، لكن ذلك لم يَحُلْ دون نجاحها الباهر، غير أنه في الوقت نفسه علَّم «كورني» درسًا أن يكون فيما يلي من مآسيه أكثر عناية وأشد حذرًا، حتى لا يخرج على المذهب الأدبيِّ المقرر مثل هذا الخروج!
نعم تعلم «كورني» مما لقي من نقد المجمع الفرنسي لرواية السيد أن يكون أشد «اتِّباعًا» مما كان، وذلك ما وفِّق إليه في مآسيه الأربع «هوراس»٢٣ و«سِنَا»٢٤ و«بولْيِكْت»٢٥ و«موت بومبي»،٢٦ وحسبك أن تطالع هذه الروايات الأربع مع روايتَين أُخريين هما «نيكوديم»،٢٧ و«الكذاب»٢٨ لترى «كورني» في أعلى ذراه، وهذه المسرحية الأخيرة «الكذاب» ملهاة، وهي خير ملهاةٍ شهدها المسرح الفرنسي قبل موليير. بهذه المسرحيات الجيدة الرائعة بلغ «كورني» مجده الأدبي، فلم تمضِ سنواتٍ قلائل حتى عُيِّن عضوًا في المجمع الفرنسي، وكان له من العمر إذ ذاك إحدى وأربعون سنة، فتم له بذلك كل ما يرجوه أديب أو عالم من عظمةٍ ومجد. وبينا هو يتمتع بكل هذه المكانة الرفيعة، إذا به يُخرج مسرحيةً جديدة «برثاريت»٢٩ لم تصادف حسن القبول، فكان لفشله صدمةٌ عنيفة في نفسه لم يحتملها؛ فأوى إلى بلده «روان» ليختفي عن الأنظار! وهناك ملأ فراغه بشيئَين؛ الأول: إخراج مؤلفاته كلها في طبعةٍ عليها نقد وشرح. والثاني: نظم أثرٍ أدبيٍّ جليل ظهر في بواكير النهضة الأدبية في فرنسا، وهو كتاب «محاكاة المسيح» لتومس أكمبس،٣٠ وقضى أديبنا في عزلته ما يدنو من عشر سنواتٍ عاد بعدها إلى الكتابة للمسرح، لكنه لم يستطع قط أن يبلغ القمة التي كان قد بلغها من قبلُ.

على الرغم من أن «كورني» يُعَدُّ أبا المأساة الاتِّباعية في فرنسا، وعلى الرغم من أنه استطاع في «هوراس» و«سِنَا» و«بوليكْت» أن يضرب المثل الأعلى للمسرحية الاتِّباعية في أدق أوضاعها وأصولها، فقد كان بطبعه يميل بعض الميل إلى الخروج على هذه الأوضاع والأصول التي تقيد الكاتب بأغلالها، فهو بطبعه «ابتداعي» (رومانتيكي) إلى حدٍّ ما، ترى ذلك في مأساته «السيد» التي هاجمها المجمع الفرنسي لخروجها على قواعد المذهب الاتِّباعي، كما تراه في المقدمات القيمة التي قدم بها مجموعة مسرحياته، وهو في عزلته في «روان»، وتراه في مقالاتٍ ثلاث كتبها على فن المسرحية، ففي هذه المقدمات والمقالات كانت وجهة نظره أن يتخفف الاتِّباعيون من قيودهم بعض الشيء، وألا يسرفوا في تطبيق وحدتَي الزمان والمكان، فليس حتمًا أن يكون الزمان يومًا واحدًا، وليس حتمًا أن يكون المكان منظرًا بعينه لا يتغير.

ومهما يكن من أمر هذه النزعة الفطرية عند «كورني» نحو المسرحية الابتداعية والتحلل من قيود الاتباع، فقد أخرج للناس أمثلةً بارعة لما تستطيع المسرحية أن تبلغه، وهي في قيود المذهب الاتِّباعي، وكان محور فنِّه فيها أن ينصرف بعنايته إلى ما تضطرب به صدور شخصياته من عواطف متضاربة، وبهذا أمكنه أن يستغني عن مجرى الحوادث الخارجية إلى حدٍّ كبير — ومع ذلك فقد استخدم في رواياته من الحوادث الخارجة عن نفوس الأشخاص أكثر مما فعل راسين — نقول إن كورني ركَّز معظم اهتمامه في تحليل ما يدور في نفوس أشخاصه من العواطف المضطرمة والنوازع والدوافع المتعارضة المختلفة، وخصوصًا بين ما تمليه العاطفة وما يمليه الواجب، وكان دائمًا يجعل النصر في مثل هذا الصراع للواجب على العاطفة، ففي «السيد» صراع بين ما يقتضيه الشرف وما يمليه الحب، ينتصر فيه الشرف آخر الأمر، وفي «هوراس» صراع بين ما توجبه الوطنية وما توحي به روابط الأسرة، تنتصر فيه الوطنية آخر الأمر، وفي «سِنَا» و«نيكوديم» صراع بين المرء ونفسه، ينتصر فيه صوت العقل والواجب على إغراء الرغبة والعاطفة، فكورني يدعو في مسرحياته كلها إلى الشجاعة الأدبية التي تعلو بإرادة الفرد على كل ما عداها من دوافع، والطابع الذي يميز أشخاص مسرحياته — سواء أكانوا ينزعون إلى الخير أو ينزعون إلى الشر — هو أنهم جميعًا ذوو نفوسٍ كبيرة تسمو على الطراز البشري المألوف، هم نماذج من الإنسان أعلى من متوسط الإنسان، فهم — لذلك — شواذ بعلوِّهم، يضعهم الكاتب في ظروفٍ شاذة ليست كالظروف التي تجري بها الحياة كل يوم، فينتج من ذلك أن يكون صراعهم النفسي شاذًّا فريدًا، فالمبالغة — التي هي من خصائص الفن الابتداعي — صفةٌ بارزة في فن كورني. ولما كان ينزع بفطرته إلى القوة والبطولة في أشخاصه، كان بالطبع أجود وأبرع في عرض الرجال وتحليلهم منه في عرض النساء؛ لأن القوة والبطولة تتمثلان في الرجال دون النساء، ولهذا لم يحسن كورني معالجة الحب في رواياته، بل إن مَنْ عُرِضْنَ من النساء عند كورني أقرب إلى الذكورة منهن إلى الأنوثة في أخلاقهن، فهن متكبراتٌ طامحاتٌ شامخاتٌ بأنوفهن إلى السماء راغبات في السيطرة والنفوذ.

لم يكن كورني مطَّرد الجودة فيما أنتج، فله الجيد وله الرديء، وهو في جيده يعلو حتى لا يُلْحَق في ارتفاعه، وفي رديئه يسفل حتى يُزْدرى، بل إنا في رواياته الجيدة نفسها نراه يزلُّ أحيانًا في مواضع لا ترى فيها إلا لفظًا رنَّانًا لا هو بالشعر الجيد، ولا هو بالحوار الحيِّ الصالح للمسرحيات، ومن نواحي ضعفه أنه كثيرًا ما يستطرد في مناقشاتٍ دقيقةٍ عميقة يجريها على ألسنة قوم لا تحتمل شخصياتهم مثل تلك الأمور الذهنية المجردة، لكنك — رغم هذا كله — تقرأ مسرحياته الجيدة فتراه إذا ما سطعت فيه شعلة النبوغ أبدع وأجاد، وفي هذه اللمعات الخاطفة يقول صديقه موليير: «إن لصديقي كورني شيطانًا يهبط عليه آنًا بعد آن فيهمس له بأروع ما يعرفه العالم من شعر، لكن شيطانه هذا قد يهجره أحيانًا، وعندئذٍ تراه فيما يكتب لا يَفْضُلُ أحدًا من الناس.»

(٢-٢) راسين Racine (١٦٣٩–١٦٩٩م)

ولد «جان راسين» الذي كان يصغر منافسه العظيم كورني بنيف وثلاثين عامًا في بلدٍ قريبٍ من «سواسون».٣١ وماتت أمه ثم مات أبوه وهو لم يزل في طفولته، فكفله جدَّاه وربياه تربيةً كاملة، حتى أتمَّ دراسته. ولبث بضع سنوات وهو في حيرة أي طريق يختار في حياته. أما ذووه فقد أرادوا له وظيفةً دينية تدرُّ عليه كسبًا منظمًا. وأما هو فكان بطبعه نفورًا من مثل هذا، وأخيرًا شاء له الحظ الباسم أن يُبلَّ الملكُ من مرضٍ ألمَّ به، فكتب شاعرنا قصيدة في ذلك صادفت إعجابًا، فأجرى عليه راتبًا يكفيه، وكان له إذ ذاك خمسة وعشرون عامًا من عمره. وفي السنة نفسها أخرج رواية «تبائيد»،٣٢ ثم لبث بعدها ثلاثة عشر عامًا يخرج الرواية تلو الرواية. وكان «راسين» يحظى عند الملك وتابعيه بمكانةٍ ممتازة، أما عند الخبيرين بالنقد الأدبي، فكان هو وكورني يتنافسان في الزعامة؛ ففريق يؤثر هذا وفريق يفضل ذاك. ومن بين مآسيه «الإسكندر الأكبر» و«أندروماك» التي ارتجَّت لها باريس كما ارتجَّت منذ إحدى وثلاثين سنة لرواية كورني «السيد»، فقد ظهرت في هذه الرواية خصائص راسين ودلائل نبوغه، وأعقب هذه المأساة ملهاة «المترافعون»،٣٣ التي سخر فيها بالقانون سخرية لاذعة، ثم أخرج بعد هذه الملهاة ست مآسٍ «بْرِتانِكِيس»٣٤ و«بِرينيس»٣٥ و«بايازيد»٣٦ و«مِتْريدَتْ»٣٧ و«إفجينيا»٣٨ و«فيدر».٣٩ وفشلت هذه الأخيرة حينًا، فاضطربت لهذا الفشل نفسه الحساسة التي لم تكن تحتمل النقد، فنفض يديه من الأدب المسرحي، وتزوج وعاش عيشًا هادئًا دام عشرين عامًا، ولم يكتب بعد ذاك إلا روايتَين تصطبغان بصبغةٍ دينية، كتبهما بدعوة من «مدام دي مانتنون»٤٠ لتمثلهما الطالبات في معهدها، وهما «إستير»٤١ و«آتالي».٤٢

كان «راسين» من أولئك الشعراء الذين لم يهبهم الله قدرة الابتكار في الموضوعات، لكنه وهبهم قدرةً أخرى في سَعَةٍ وإفراط، ونعني بها قدرة النسج على منوالٍ موجود والكتابة على غرار مُثُلٍ ونماذج سبقتهم إلى الوجود، ويحضرنا من هذا الفريق من الشعراء «فيرجيل» في الأدب الروماني القديم، و«بوب» في الأدب الإنجليزي في مستهل القرن الثامن عشر. لهذه الطائفة من الشعراء قدرةٌ عجيبة على تناول النماذج الأدبية بالتعديل والتبديل، بحيث تلائم ملكاتهم، وكثيرًا ما يَسْمُون بما ينتجونه عن النموذج المحتذى، فأمثال هؤلاء الشعراء يستحيل وجودهم بغير سلف يضرب لهم المثال، ثم يكاد وجودهم يستحيل كذلك بغير ناقدٍ معاصر يأخذ بأيديهم ويهديهم سواء السبيل، وكان راسين مجدودًا في السلف الذي يحتذيه، كما كان مجدودًا في الناقد الذي يهديه، أما سلفه الذي شقَّ له الطريق وظل يُعَبِّدُه له ويمهده ثلاثين عامًا فهو «كورني»، وأما ناقده المرشد الهادي فهو «بوالو» الذي وُهب القدرة على الهداية والإرشاد.

لهذا جاء «راسين» في فن المأساة الاتباعية ماهرًا بارعًا صناعًا، وكانت دقة الصناعة أروع ما فيه، فالقواعد الصارمة التي ضجر بها كورني وأبهظته بعبئها، لاءمت «راسين» وطابقت فنه وميوله، فقد التزمها وراعى أصولها لا كما يلتزم الإنسان قانونًا مفروضًا عليه من قوةٍ خارجةٍ عنه، بل كما يطيع الفنان رغبةً فطرية وميلًا طبيعيًّا يصدر عن النفس في غير حرج ولا ضيق، فلست ترى في مسرحياته تفصيلات معقدة وتشعباتٍ مركبة لمجرى الحوادث؛ لأن المثل الأعلى الذي كان يرمي إليه، ووضعه نصب عينَيه هو تركيز الانتباه والمجهود في موضوعٍ بسيط لا تتشعب منه الفروع. وعنده أن كثرة الحوادث في مسرحية ما — تلك الكثرة التي يبتكرها الكاتب المسرحي ليظفر بانتباه النظارة — ليست دليلًا على خصب الخيال بمقدار ما هي برهان على نضوب العبقرية وإفلاسها، فالشاعر الحق مستطيع — في رأي راسين — أن يُمسك من النظارة انتباههم ويسترعي التفاتهم، بحيث لا يفتر ولا يزول خلال فصول الرواية الخمسة «بحوادث بسيطة تؤيدها العواطف الحادة والمشاعر الجميلة والتعبير الرشيق». وبناء على رأيه هذا في المسرحية، تراه يختار لروايته أزمةً نفسيةً واحدة تكون عواطف الأشخاص عنده على أحدِّها وأرهفها، وتكفي لديها الحادثة اليسيرة لتستتبع الكارثة. ولئن كانت مسرحيات «كورني» تعالج الصراع النفسي الذي تنشب دوافعه في طوية الشخص ودخيلته، دون صراع الشخص مع الحوادث الخارجية المحيطة به، فقد كان «راسين» في هذا الاتجاه أبعد مدًى، فالحوادث الخارجية — عند راسين — لا قيمة لها في ذاتها، وكل قيمتها أنها سبب أو نتيجة لما تضطرب به نفوس أشخاصه من العواطف المصطرعة. ثم يختلف راسين عن سلفه كورني في أنه جعل الحب دافعًا رئيسيًّا في سلوك أشخاصه، ولم ينظر إليه نظرته إلى الحافز الثانوي التافه كما فعل كورني، ولكنه بالطبع لم يقصر الحوافز على الحب، بل أفسح المجال هنا وهنالك لغيره من الدوافع كالولاء والطموح على أنها هي العوامل الثانوية إلى جانب الحب؛ ففي كل مسرحيةٍ من مسرحياته مشكلةٌ غرامية، وتكاد مشكلاته الغرامية تتخذ صورةً واحدة؛ فشخص يحب شخصًا لا يبادله الحب؛ لأنه يحب ثالثًا، وما يتبع ذلك الموقف العاطفي المعقد هو موضوع الرواية، لكن هذه المشكلة الواحدة التي لا تتغير في جوهرها تتخذ في الروايات المختلفة صورًا متباينة بتفصيلاتها، وقد كان طبيعيًّا مع هذا الاختلاف بين راسين وكورني في نظرتهما إلى الحب، أن يكون راسين أنجح من سلفه في تصوير النساء، بل لم ينجح راسين في تصويره للرجال بقدر ما وُفِّق وأجاد في تصوير النساء.

وظاهرةٌ أخرى نلاحظها في أدب راسين، وهي أنه يميل إلى تصوير الواقع، وهنا قد يختلط الأمر على القارئ، إذ يراه في رواياته يرسم عالمًا أبعد ما يكون عن هذا العالم الذي نعيش فيه، لكن النظرة الفاحصة سرعان ما تردُّ الأمر إلى الصواب، فلقد رأينا أن «كورني» ينزع بطبعه إلى اختيار الشواذ، ثم يحيطهم بالمواقف الشاذة، فتكون العواطف الناشئة في نفوسهم عن تلك المواقف شاذةً أيضًا. أما راسين فيختار من الأشخاص والمواقف والعواطف ما يطابق الطبيعة البشرية، ولا عبرة بعد ذلك بأي الأشخاص والمواقف يختار، إنه لا يميل إلى المبالغة والتهويل اللذين لمسناهما في كورني؛ لأن المبالغة من خصائص الأدب الابتداعي، وراسين اتِّباعي صميم لحمًا ودمًا، فلا مبالغة ولا إسراف في تصوير الناس ووصف ما تجيش به صدورهم، قد يختار راسين موقفًا من عهدٍ غابر وأشخاصًا انقضى زمانهم، لكن ليتخذ منهم وسيلة يُبرز بها الطبيعة البشرية كما نعهدها بقوَّتها وضعفها، فتحت ستار من الأوضاع التقليدية للمأساة تُتبيَّن الحوافز التي تدفع الناس إلى العمل في الحياة الواقعة التي تحيط بنا.

ولعل أكبر عيب في الأدب الفرنسي إطلاقًا هو أنه أقرب إلى تصوير النماذج البشرية منه إلى تصوير الأفراد. ولقد قيل — وحقًّا ما قيل — إن واجب الفن هو أن يصوِّر الجنس في الفرد، أي أن يُبَلْور الكُلِّي في الجزئي، فالفن الصحيح إذ يقدم لك شخصية إنما يقدم لك نوعًا بأسره من الجنس البشري ممثلًا في تلك الشخصية، ولكن هذه المهمة شاقةٌ عسيرة؛ لأنه ينبغي للفنان أن يعلم أين يقف بين التعميم والتخصيص، فخطأ الأدب الفرنسي عند بعض رجاله هو أنه يسرف في التعميم، ويهمل التخصيص والتشخيص إلى حدٍّ كبير. كما أن عيب الأدب الإنجليزي والأدب الألماني هو أنهما — على عكس ذلك — ينصرفان إلى تصوير الفرد الجزئي، فيهملان النوع المتجسد في ذلك الفرد. ولنَعُد الآن إلى شاعرنا «راسين»، فلو أنك محوت الأسماء من إحدى مسرحياته ووضعت مكانها الألفاظ الدالة على الأنواع، فقلت بدل زيد وعمر وهند «محب» و«أم» و«طاغية» وما إلى ذلك لما تبدل في الرواية شيء؛ لأن زيدًا وعمرًا وهندًا لم يكونوا عند الشاعر أفرادًا لهم خصائصهم الجزئية المميزة لهم دون سائر الأفراد، بل كانوا رموزًا لنماذج وأنواع. قد تقول: ولكني مع ذلك أقرأ راسين فأجدني بإزاء أشخاص لهم فرديتهم مثل «أندروماك» و«هيرميون» و«فيدر» و«أخيل» و«برينيس» و«أتالي»، فكلٌّ من هؤلاء «فرد» يتميز من سائر أفراد طائفته، فليست كل «أم» مثل أندروماك، وليست كل «حبيبة» مثل برينيس، وهذا صحيح على اعتبارٍ واحد، هو أن طائفة الأمهات التي منها أندروماك، والتي تميز أندروماك عن سائر أفرادها، إنما تمثل مجموعة من النماذج المختلفة للأمهات، ولا تمثل مجموعة من أفراد مشخَّصين. وصفوة القول أن «راسين» — كغيره من الأدباء الفرنسيين — يصور بأشخاصه أنواعًا فيفقدهم كثيرًا من الحياة؛ لأنك تراهم فلا تحسُّ أنهم كصحبتك وجيرتك، لكنك ترى في شيكسبير أشخاصًا «كهاملت» و«عطيل» و«فولستاف» فترتبط بينك وبينهم الأواصر كأنهم ناس من الناس؛ وذلك لأن طريق راسين ينعكس عند شيكسبير، فها هنا يستخرج الشاعر من أنماط البشر أفرادًا، هو يرى الفرد خلال النوع، ولا يرى النوع خلال الفرد كما فعل راسين.

ولعلنا في هذا الموضع نحسن صنعًا لو أجرينا موازنةً سريعة بين شيخ المأساة الاتِّباعية «راسين» وشيخ المأساة الابتداعية «شيكسبير»، ففيها توضيح لمذهبَين أدبيَّين، وفيها تمييز بين الفن الذي ساد في إنجلترا، والفن الذي ساد في فرنسا، فإذا أردنا أن نركِّز الفرق بين المسرحية عند شيكسبير وبينها عند راسين في كلمتَين اثنتَين، قلنا إن الأولى طابعها «الشمول» والثانية طابعها «التركيز»؛ الأولى تضم ما استطاعت أن تضمه من أوجه النشاط الإنساني، والثانية تحدد لنفسها غرضًا تسير إليه في خطٍّ مستقيمٍ لا عوج فيه، الأولى لا تتقيَّد بوحدات الزمان والمكان والموضوع، والثانية تلتزم هذه الوحدات ولا تحيد عنها.

خذ مثالًا لشيكسبير «أنطون وكليوبطره» ومثالًا لراسين «برينيس»، والمقارنة بين هاتين الروايتَين عادلة؛ لأنهما — على اختلافهما في الطريقة — متحدتان في الموضوع، فكلاهما يعالج محبيْن لهما مكانةٌ ممتازة، وكلاهما يجعل المأساة في تعارض ما يقتضيه الحب وما تقتضيه ظروف الحياة، وكلاهما تقع حوادثه أيام عظمة الرومان، ويرتِّب على أقدار الأفراد أخطر النتائج بالنسبة للدولة. أما رواية شيكسبير فطافحة بأوجه النشاط الإنساني ومترعة بألوان الحياة على اختلاف ضروبها، تطالعها فتحسب أن الشاعر لم يَدَعْ من الدنيا شيئًا لم يصوِّره، فالأشخاص في الرواية مختلفة أنواعهم وطبقاتهم: منهم قادة الجيش، والوصيفات، والأميرات، والقراصنة، والساسة، والمزارعون، والخصيان والأباطرة، ترى في الرواية كل هؤلاء ومئات غير هؤلاء، بل حسبنا أن يكون بعض الأشخاص «كليوبطره» بتعدد جوانبها وتشعب نواحيها، ويستحيل — طبعًا — أن يعرض الكاتب لهذا الحشد العظيم من الشخصيات، دون أن يكون إلى جانبها مئات الحوادث، فمأساة «أنطون وكليوبطره» زاخرة بحوادثها، ففيها المعارك والدسائس والزواج والطلاق والخيانة واختلاف الأصدقاء وائتلاف المتخاصمين والموت، وهذا العالم الزاخر بحوادثه يمتد في الرواية على أمدٍ طويلٍ من الزمن، ويشمل رقعةً واسعة من الأرض، فترى مشهد الحوادث في الإسكندرية آنًا وفي روما آنًا آخر، وينتقل إلى أثينا، ثم إلى مسينا. ولقد وقف بعض الناقدين إزاء هذا التغير السريع والانتقال المفاجئ في حوادث الرواية موقف المشفق على «وحدة المكان» أن يصيبها هذا التفكك الشديد، لا سيما أن الشاعر لا يتحرج من أن يعرض عليك منظرًا لا يدوم أكثر من بضع دقائق، تشهد فيه جيشًا رومانيًّا يخوض أرض سوريا، فيعد هؤلاء الناقدون ذلك تحدِّيًا للوحدات التقليدية لم تبرره الظروف، ناسين أن بمثل هذه النفحات الفنية واللمسات العبقرية استطاع شيكسبير أن يعرض على نظارته صورةً قوية للقلقلة التي شملت أرجاء البلاد جميعًا، فيحسُّون انهيار الإمبراطوريات واندثار العروش.

ننتقل الآن إلى رواية راسين «بِرِينيس»، فنرى الأمر كالنقيض مع نقيضه، فالمأساة كلها تقع في غرفةٍ واحدةٍ صغيرة، وحوادث الرواية تتطلب لحدوثها في عالم الواقع زمنًا لا يكاد يزيد على زمن تمثيلها ساعتين ونصف ساعة! وأشخاص الرواية عددهم ثلاثة، وموضوع الرواية نقطةٌ بسيطة لا تعقيد فيها ولا تشعب، فعجيب أن يؤلِّف راسين من هذه المواد القليلة مأساة، وأعجب من ذلك أن يبلغ فيها غاية التوفيق، فاهتمام النظارة بالرواية لا يفتر، والموقف البسيط يبدأ عرضه وتطوره، ثم يبلغ ختامه في سرعةٍ شديدة ودقةٍ فنيةٍ بارعة، فالكاتب لا يحذف من الموقف عنصرًا واحدًا من عناصره الرئيسية ولا يضيف إليه عنصرًا واحدًا ثانويًّا، وقد حرص راسين كل الحرص ألا يقع في روايته فعلٌ عنيف أو مفارقة أو تعقيد في مجرى الحوادث، وكل اعتماده في التأثير على النظارة إنما ينحصر في طريقة علاجه لعددٍ قليلٍ من المشاعر الإنسانية يتفاعل بعضها مع بعض، ولا تكاد تحسُّ في الرواية أثرًا للعالم الخارجي الواقع؛ ذلك العالم الذي كان لب رواية شيكسبير وصميمها. وكل ما يقدمه إليك راسين من حوادث العالم الخارجي أن يُشْعرك — بفنه الرائع العجيب — أن وراء الأزمة النفسية الهادئة التي وقعت في تلك الغرفة الصغيرة، مؤثرات في العالم الخارجي تلعب دورها وتفعل فعلها، فالقوة التي فصلت بين الحبيبَين أمرٌ من أولي الأمر، وواجبٌ للدولة يجب أداؤه، فإذا ما جاءت الساعة الفاصلة رأيت المحب «تَيْتَس» يتردد قليلًا، ثم يختار لنفسه أداء واجبه مؤثرًا ذلك على بقائه إلى جانب حبيبته، وما الحافز له في اختياره إلا كلمةٌ واحدة ينطق بها هي «روما»، فبهذه الكلمة الواحدة يستغنى عن الخروج بك من الغرفة الضيقة إلى العالم الفسيح الذي يجول بك شيكسبير في رحابه.

وليس من شك في أن رواية راسين دون رواية زميله جلالًا، لكن ذلك لا ينفي أن تفضُل الرواية الفرنسية زميلتها الإنجليزية في بعض النواحي، فهي أفضل منها في قابليتها للتمثيل على المسرح، فلا تزال «برينيس» تُعرض على رواد المسرح في نجاحٍ عظيم. أما «أنطون وكليوبطره» فمحال أن تعرض على المسرح بكل جمالها وجلالها، فلا بد لتمثيلها من حذفٍ هنا وتبديلٍ هناك، بل لا بد من إعادة تنظيم عناصرها لكي تصلح للتمثيل، ثم هي بعد كل هذا الحذف والتبديل وإعادة التنظيم لا تترك في النظارة إلا أثرًا لخليطٍ مهوش من فخامةٍ وجلال، وما المشكلة هنا إلا محاولةُ وضع رطلين في زجاجةٍ لا تسع إلا رطلًا واحدًا! فمحال أن تضع عالمًا فسيحًا على مسرحٍ ضيقٍ محدود، أما «بِرِينيس» فرطلٌ واحد يوضع في زجاجةٍ تسع رطلًا واحدًا! فقد قيست عند تأليفها بمقياس المسرح وما يقتضيه، وإنها لمتعةٌ عظيمة أن تشهدها ممثَّلة؛ لأنك إنما تشهد فيها جمالًا رائعًا لا تشوبه شائبة من نقصٍ أو تشويه.

ولا نحب أن نطوي الحديث عن راسين قبل أن نعرض موجزًا لعناصر «أندروماك» التي لم يكد يخرجها في الثامنة والعشرين من عمره، حتى ارتفع إلى أوج الشهرة الأدبية، ففي الرواية أربعة أشخاص: رجلان وامرأتان، يسيطر على كلٍّ منهم شعورٌ قويٌّ محدود المعالم، فأندروماك — زوجة هكتور — لا تزال في شبابها الغض اليانع، ولا تُعنى في هذا العالم كله إلا بشيئين، خرصها على ابنها «أستياناكس»،٤٣ واحتفاظها بذكرى زوجها، والزوج والابن كلاهما أسير في قبضة «بيروس»،٤٤ الذي حارب طروادة وغزاها، وهو أمير قاسٍ غليظ، أحبَّ أندروماك على الرغم من تعاقده مع «هيرميون» على الزواج، وهيرميون هذه امرأةٌ جبارة تكاد تذوب غرامًا بخطيبها «بيروس» الذي صرفه عنها حبه لأندروماك. وكان «أورست» في الوقت نفسه يحب هيرميون، لكنها لا تبادله الحب، تلك هي عناصر المأساة كأنها المواد المتفجرة تنتظر شرارة ليشتغل أوارها، وقد كانت هذه الشرارة حين أعلن «بيروس» معشوقته أندروماك أنها إذا لم تقبل الزواج منه فتك بابنها الأسير، فلا يسع أندروماك إلا أن تُذعن، معتزمةً بينها وبين نفسها أن تزهق روحها عقب الزواج، وبهذا تصون ابنها وشرف زوجها في آنٍ معًا، هنا تلعب الغيرة بهيرميون؛ لأن خطيبها أوشك أن يتزوج من سواها، فأسرَّت إلى «أورست» الذي يهيم بها أنها لن تترد في قبوله زوجًا إذا هو قتل خطيبها الغادر «بيروس»، فما هو إلا أن ينفذ «أورست» ما طلبت إليه حبيبة فؤاده أن يعمله ويقتل بيروس ضاربًا بالصداقة والشرف عرض الحائط، وهنا تشهد منظرًا رائعًا مروِّعًا، لعله أبدع ما جرت به يراعة الشاعر، ترى فيه هيرميون التي أوحت بقتل حبيبها «بيروس» قد أخذها الذعر ونال منها الهلع؛ إذ رأت ذاك الحبيب قد مات فعلًا، فانقضَّتْ على القاتل «أورست» — متجاهلة أنها هي دافعتُه إلى فعلته الشنعاء — وصاحت في وجهه صارخة في صوتٍ يدوِّي: «من قال لك اقتله؟» ثم تندفع خارجةً لتقتل نفسها بيدها، وتنتهي الرواية بأُورسْت واقفًا على المسرح، وقد طار صوابه ومسَّه الجنون.

(٢-٣) موليير Molière (١٦٢٢–١٦٧٣م)

حدثناك عن المأساة الفرنسية في القرن السابع عشر وكاتبَيها العظيمَين «كورنِي» و«راسين». وبقي أن نحدثك عن الملهاة ممثلة في أعظم رجالها في فرنسا، بل في التاريخ الحديث بأسره.

ولد «جان بابتست بوكلان»٤٥ في باريس من أبٍ يشتغل بالتجارة في سعةٍ ويسر، هيأ لابنه نشأةً صالحة وتعليمًا متينًا في كلية الجزويت في «كليرمون» حيث درس الطالب عيون الآداب القديمة، كما درس الفلسفة على فيلسوفٍ معاصر هو جاسندي،٤٦ وقد عُرف هذا الفيلسوف بجرأةٍ نادرة في التفكير، فلعلَّه هو الذي أوحى إلى أديبنا بما عهدناه فيه من تفكيرٍ حر، ثم إلى تعاليمه يرجع الفضل في ميل الأديب نحو مناقشة المسائل الفلسفية في سخريةٍ ممن يقيمون المعارك حول اختلافاتٍ سخيفةٍ تافهة.
وقد أريد لجان أول الأمر أن يخلف أباه في مهنته أو أن يشتغل بالقانون، ولكن تأثير المسرح في نفسه كان أقوى مما أُريدَ له، فلم يكد يشبُّ ويجاوز سنَّ الوصاية، حتى كان له من إرث أمه ما أغناه عن التفكير في احتراف التجارة أو الاشتغال بالقانون. والتحق بالمسرح ممثلًا، وأطلق على نفسه إذ ذاك اسمًا مستعارًا هو «موليير» الذي يعرف به حتى اليوم، وقد شارك أسرة يشتغل أفرادها بتمثيل الملاهي في استئجار ملعب أقاموا على أرضه مسرحًا، لكن المسرح انتهى إلى فشل؛ فاضطر «موليير» وشركاؤه أن يغادروا باريس ليجولوا في أرجاء البلاد. ولبثوا في تجوالهم هذا اثنى عشر عامًا، شهد موليير خلالها ألوانًا من الحياة، وصنوفًا من التجارب، وتعلم أثناءها أصول الفن المسرحي من ناحيته العملية الخالصة، فهو لم يكن يكتب إذ ذاك ليرضي نَقَدَة الأدب، بل كان يكتب ليمتع النظارة وكفى. ومن بواكير إنتاجه في هذه المرحلة مسرحيتان أقرب إلى التهريج، تنقصهما دقة الفن وبراعته، ولكنهما يبشران بالقدرة والنبوغ، ثم أخرج اثنتين أخرَيين في هذه المرحلة التدريبية أيضًا دنا بهما من فنه الصحيح وهما «المشدوه»٤٧ و«إحنة الغرام».٤٨
فلما بلغ عامه السادس والثلاثين عاد من تجواله إلى باريس، حيث اشترك في تمثيل رواية «نيكوديم» لكورني في حضرة الملك فظفر بإعجابه، وأصبح على رأس فرقةٍ تمثيلية لها مكانةٌ عالية في القصر وفي سائر باريس. ولما أقبل العام الجديد استهلَّ حياته في الأدب المسرحي الكامل برواية «المتحذلقات المضحكات»٤٩ سخر فيها من أرباب التكلف وأصحاب «الصالونات» الأدبية التي كانت عندئذٍ في طريقها إلى الزوال ليحلَّ محلها القصر، ومن ثمَّ بدأ «موليير» حياةً خِصْبةً منتجة، فرغم اشتغاله بإدارة المسرح ورغم اشتراكه في التمثيل، استطاع أن يخرج في خمسة عشر عامًا بقيت له من حياته ثماني وعشرين رواية، أي بنسبة روايتَين في كل عام، فلم تحتمل بنيته الضعيفة هذا المجهود المتواصل المضني، فجاءته المنية فجأةً ذات مساء من فبراير سنة ١٦٧٣م، إذ نزلت به النازلة وهو يمثل دوره في آخر رواياته «المريض الموهوم».٥٠
ونحن إذ نستعرض سيرة «موليير» لا بد لنا من الوقوف في حياته عند نقطتَين كان لهما في إنتاجه أثرٌ عميق، الأولى زواجه من «أرماند بيجار»٥١ الجميلة اللعوب، فقد كان لسلوكها ولغيرته أثرٌ ملحوظ في طريقة تصويره للنساء في أدبه، فقد نظر إليهن بعين الناقم الساخط، خصوصًا حين أخذ يصوِّر «سِلِيمين»٥٢ في رواية «كاره البشر»٥٣ التي يقال إنه يصور جانبًا من نفسه في «ألْسِسْت» بطل هذه الرواية، ويمثل زوجته في «سليمين». والثانية علاقته الوثيقة بالملك، فقد أثرت في أدبه أثرًا طيبًا وأثرًا غير طيب، أما الأثر الطيب فهو أن الملك أظله بحمايته من أعدائه الكثيرين الذين ثارت عليه نفوسهم من سخريته اللاذعة بهم، فمكَّنه بتلك الحماية أن يمضي في رسالته الأدبية وهي نقد المجتمع في عصره، وأما الأثر غير الطيب فهو أن الملك كان يضطره حينًا بعد حين أن يهمل ما هو مشتغل به ليكتب للقصر رواية في هذه المناسبة أو تلك، فكان هذا العمل التافه عائقًا له عن الإنتاج الفني الرفيع.
وتستطيع أن تقسِّم نتاج موليير إلى قسمَين: مسرحياتٍ خفيفة يسود فيها الصخب والتهريج، ويراد بها الإضحاك، وملاهٍ عظيمةٍ عُنيت بتصوير أشخاص. وليس هذا التقسيم بالجامع المانع الدقيق، فقد تجد من الروايات ما يقف من هذين القسمين بين بين، فهو من هذا ومن ذاك على السواء، مثل رواية «جورج داندان»٥٤ و«السيد البورجوازي»،٥٥ وقد تجد كذلك روايات لا تدخل في هذا القسم ولا ذاك مثل رواية «نقد مدرسة النساء»٥٦ ورواية «مسرحية فرساي المرتجلة»،٥٧ فليست هاتان الروايتان تهريجًا صاخبًا لإضحاك النظارة، ولا هما تصويرًا لأشخاص، ولكنهما بمثابة دفاعٍ جدلي يوجِّهه إلى ناقديه ليفند به آراءهم، ويؤيد وجهة نظره، فلهما من أجل هذا شأنٌ خطير؛ لأنهما يبصراننا بنظراته في الفن المسرحي.
فأما ملاهيه المضحكة فطافحة باللهو والمسرح تستخرج الضحكات من أعماق القلوب وإن تكن تفحش بنكاتها أحيانًا، ولكنك تتبيَّن في غير عناء — وسط الضحكات المرحة والنكات الفكهة — الساخر الذي يريد بسخريته إصلاح المجتمع وتقويم مفاسده، ومن أمثال هذا الضرب من ملاهيه رواية «الزواج بالإكراه»٥٨ و«الطبيب رغم أنفه»٥٩ و«مسيو دي بورسونياك».٦٠
لكن عظمة موليير لا تتجلى على أتمها وأكملها إلا في الطائفة الثانية من ملاهيه، الملاهي النفسية التي يصور بها أشخاصه، فبهذه المجموعة من ملاهيه استحق أن يحشر في زمرة الخالدين. وتختلف «الملاهي النفسية» عن «الملاهي المضحكة» في أنها تقيم الفكاهة على أساسٍ من الجد، وتحمل في طيِّ نكاتها فكرًا عميقًا رصينًا، وتعمق فيها العاطفة، بحيث تبلغ حدًّا قد تتحول عنده الملهاة إلى مأساةٍ على غير وعيٍ من المشاهدين، وهي فضلًا عن ذلك تقصد إلى غرضٍ تهذيبي، فقد شاهد موليير مِن حوله التوافه والسفاسف يهتم لها الناس، فحلا له أن يهزأ بها في مرحٍ ولهو، لكنه شاهد إلى جانب تلك التوافه شرورًا خطيرة تنال من المجتمع في صميمه، فهمَّ بردِّها وتقويمها بهذه الملاهي النفسية التي أشرنا إليها، ومن أمثلة هذا النوع «مدرسة النساء»٦١ و«تارتيف»٦٢ و«دون جوان»٦٣ و«كاره الإنسان»٦٤ و«البخيل»٦٥ و«النساء العالمات».٦٦
يشغل موليير في الأدب الفرنسي المكانة التي يشغلها «سيرفانتيس» في إسبانيا، و«دانتي» في إيطاليا، و«شيكسبير» في إنجلترا، فليس مجده بمقتصر على حدود أمته وقومه، ولكنه أديبٌ عالمي يخاطب العالمين، فشأنه شأن هؤلاء الأعلام يلخص في شخصه مقومات جنسه، ثم يخرج على حدود المكان واللغة ليبسط سلطانه على قلوب الناس أجمعين، فهو عند غير الفرنسيين أديب فرنسا الفذُّ، وإمامها المعبرُ عن روحها غير منازَع في إمامته، وهنا قد تأخذ المستعرض حيرةٌ أي الأديبين جدير بهذه المكانة؟ زعيم المأساة راسين أم زعيم الملهاة موليير؟ فالحق أننا لو وضعنا خصائص الرجلين في كفَّتي الميزان لتعذرت الموازنة؛ فليس يسيرًا أن تحكم لأيهما الرجحان، أهو لموليير في اتساع أفقه وتنوع إنتاجه والحياة النابضة في ملاهيه، أم هو لراسين لجودة شعره وبراعة فنه التي بلغت أوج الكمال دقة وإحكامًا في مآسيه؟ إنه من رأْيِ «ليتون ستراتشي»٦٧ — الأديب الإنجليزي المعاصر — أن راسين هو الخاسر في هذه الموازنة، وهو خاسر بسبب كمال فنه ودقة إِحكامه! فقد انتهى به ذلك الكمال الفني وهذا الإحكام الدقيق إلى أن يكون نتاجه فرنسيًّا خالصًا، بحيث يكاد يستحيل على غير الفرنسيِّ أن يتذوَّقه إلى حده الأقصى، وأما موليير فهو الراجح الرابح في هذه الموازنة بسبب تهاونه في فنه بعض التهاون، بل بسبب ما في فنه من نقائص وعيوب! فهو أقل تزمتًا من زميله في الأخذ بقواعد المذهب الاتباعي؛ لأن طبيعته الفياضة الدافقة أوسع وأشمل من أن تنحصر في هذا القالب الضيق الحدود، فهو يغمر بفنه كل ما يستثير الفكاهة من العواطف البشرية، لا تفلت منه دقيقة ولا جليلة، وينغمس في خضمِّ الحياة وينظر إليها عن كثب، فجاء فنُّه حيًّا، لكن أعوزته الصناعة المحكمة المحبوكة التي تميز بها راسين، فلغته لا تخلو من الخطأ ونظمه يقرب من النثر، ونثره يحاول أحيانًا أن يحاكي الشعر في إيقاعه، فلا غرابة أن قال عنه الاتِّباعيون المتزمتون في القرن الثامن عشر إن بناءه الضخم قائم على أساسٍ من الطين، ولكن هذا «الطين» في بنائه الفني هو الذي ربط الصلة بينه وبين الأرض المألوفة، فتوثقت العلائق بينه وبين أهل هذه الأرض أجمعين.

وحسبه فخرًا أنه خالق «الملهاة الفرنسية» في أكمل صورها، فقد كانت الملهاة قبله صخبًا للإضحاك، فصنع لها موليير ما صنعه راسين للمأساة، وذلك أنه سما بها إلى مرتبة الفن الرفيع، فهو أول من تبين في جلاءٍ كيف يمكن أن تستخرج آياتٍ فنيةٍ جميلة من نسيج الحياة اليومية المألوفة؛ فموضوع الملهاة عنده مستمد من صميم الحياة من الدعاوى الفارغة التي يتشدق بها الأغنياء، من غرور الشعراء والفلاسفة ورجال القانون، من طوائف الشبان، من الأطباء في جهلهم وادعائهم العلم بما يجهلون، من رجال الدين ونفاقهم، من طموح جماعة الأثرياء من الطبقة الوسطى الذين يحاولون أن يقلدوا الطبقة الرفيعة، فيلقون منها الزراية والاحتقار، من حماقات الحمقى وجرأة المخادعين وسخافات الحياة المنزلية التي نصادفها كل يوم، وهكذا مكَّن للملهاة أن تزدهر، ووضع لها الأساس الذي ظلَّت تقوم عليه وتتطور وفق أوضاعه قرنَين كاملَين من الزمان.

ولئن فات موليير أن يحقق بملاهيه كل ما يتطلَّبه المذهب الاتباعي بالقدر الذي استطاعه راسين في مآسيه، فليس معنى ذلك أنه لم يحدد فنَّه بأوضاع الاتباع التي وفينا شرحها في الصفحات السالفة، فها هو ذا يختار لملهاته عددًا قليلًا جدًّا من الحوادث، لكنه يحسن اختيارها، ويرتِّبها في تعاقبٍ دقيق بحيث يؤثر بها في نظارته أبلغ الأثر، وهو إذ يختار حوادث الملهاة، فإنما يهتدي في هذا الاختيار بشيءٍ واحد، وهو الضوء الذي تلقيه الحادثة المختارة على الشخصية التي هو بصدد تصويرها، وهو حريص حين يعرض شخصًا من أشخاصه أن يبديه من جانبٍ واحد، أو من جوانبَ قليلة، ويأبى أن يحلل الشخصية ويشرحها ليخرج للناس كل ما تحويه من عناصر، وهنا يجمل بنا أن نقارن بينه وبين شيكسبير في سرعة وإيجاز، لنوضح أين يختلفان في وجهة النظر إلى الملهاة، كما بسطنا ذلك عند الكلام على راسين كيف يختلف هذا عن شيكسبير في وجهة النظر إلى المأساة.

ها أنت ذا قد رأيت موليير يختار لملهاته حوادثَ قليلة على أساس أنها تلقي ضوءًا على الشخص الذي يصوره، وهو يحصر نفسه في تصوير الشخص، بحيث ينصرف إلى ناحيةٍ واحدة منه أو إلى قليل جدًّا من نواحيه، أما الملهاة الابتداعية (الرومانتيكية) عند شيكسبير فزاخرة بالحوادث مليئة بالدقائق، وشيكسبير يصوِّر لنا أشخاصه من نواحيهم جميعًا لا يبقي من عناصرهم شيئًا ولا يذر، تتبع الملهاة لشيكسبير فتطالعك أوجه الشخص المصوَّر وجهًا بعد وجه، وفي أثرها تشرق عليك صفاته واحدةً تلو أخرى، يسجل لك الشاعر أدق ما يجول في نفس من يصوره فلا تفلت منه الخطوط الخافتة والخواطر القصيَّة التي من شأنها أن تكمل الصورة، حتى إذا ما جئت في الرواية إلى ختامها استوى أمامك الشخص كائنًا حيًّا يدبُّ ويسعى، ويفكر ويمكر، ويخادع، ويضحك ويبتئس، ويسخر من غيره ويسخر منه غيره، فالحياة كما نراها في الواقع الملموس معقدةٌ متشعبةٌ كثيرة الأطراف، بحيث يتعذر أن تتقن فهمها، وهكذا الشخص في ملهاة شيكسبير أو مأساته، يقدمه إليك الشاعر في تعقده وتشعبه وتعدد نواحيه. أما أمير الملهاة الفرنسية فيختلف عن ذلك في منهاجه اختلافًا بيِّنًا، فبدل أن يوسِّع الصورة لتشمل أطراف النفس جميعًا، يضيِّق حدودها لتتقن طرفًا واحدًا أو طرفَين من تلك النفس التي يريد تصويرها، وهو إذا ما استقر اختياره على الخصائص القليلة التي يريدها، راح يستخدم فنه كله في إبرازها وترسيخها في ذهن القارئ أو المشاهد، بحيث يصعب نسيانها، صوَّر «موليير» البخيل في «أرباجون»٦٨ وصوره شيكسبير في «شايلُكْ»٦٩ فجاء «أرباجون» بخيلًا هَرِمًا وكفى، وجاء شايلُك كزًّا حقودًا متكبرًا جشعًا مرهف الحس. تعرف الشخصية من أول الرواية عند موليير، ثم تمعن في القراءة فلا تتوقع أن تفاجئك تلك الشخصية بشيءٍ لم تكن تتوقعه، وكل ما تلاقيه حوادث وأمثلة تؤكد الصفة الأساسية التي عرفتها فيها منذ البداية، ولكنك كلما أمعنت في قراءة الرواية لشيكسبير طالعتك من الشخصية جوانب لم تكن تحسب لها حسابًا، وتكاد تهمس لنفسك قائلًا: لم أكن أظن أن هذا الغِر — مثلًا — سيقف هنا مثل هذا الموقف الحكيم، ما كنت أحسب أن هذا الفظ سيبدي في هذا الموضع كل هذه الرحمة. خذ شخصية «تارتيف» — مثلًا — عند موليير، وربما كانت خير صورة أخرجتها يراعة موليير، تَرَها متصفة بثلاث صفات: النفاق الديني وحدَّة الشهوة وحب السيطرة، وليس ينطق الرجل في الرواية كلها لفظةً واحدة لا تضيف قوة إلى صفة أو أكثر من هذه الصفات الثلاث.

فموليير يختار من شخصيته مساحةً ضيقة يصبُّ عليها ضوء فنه، لكنه يعمق بك في هذه المساحة الضيقة، ثم يعمق ويعمق، حتى يصل بك إلى أبعد الأغوار، هو يختار ممن يريد تصويره عناصره الجوهرية، ثم ما يزال بها، حتى يخرجها في ضوء النهار الساطع.

وما قُلناه — في الكلمة التي خصصناها لراسين — عن الفن الفرنسي كله بصفةٍ إجمالية، نعيده الآن عن موليير، وهو أنه يصور نماذجَ إنسانية لا أفرادًا من البشر، يصور في «تارتيف» المنافق، لا منافقًا من المنافقين، ويصور في «أرباجون» البخيل لا بخيلًا من البخلاء.

(٣) النثر الفرنسي

قام النثر في القرن السابع عشر بمثل الحركة التي قام بها الشعر، فكلاهما خرج على ما كان سائدًا بين الكتَّاب والشعراء من قبلُ، من تعقيد في المعنى أساسه الحذلقة العلمية، وتعقيد في العبارة مصدره اختلاطُ اللغة بالألفاظ الغريبة والتواءُ العبارة، غير أن الشعر في ثورته تلك قضى على القديم وأصاب نفسه بالأذى في آنٍ واحد، فقد كبَّل حريته بأغلال عاقت فيه المرونة وسهولة انبثاق المعاني، أما النثر فقد انتفع بالثورة على القديم، ولم يكد يصيبه في سبيل ذلك أذًى، نعم استتبعت تصفية اللغة وتنقيتها خسارةً في تنوُّع الصور ونصوعها؛ لأن حرمان اللغة من ثروةٍ لفظية أيًّا ما كان مصدرها ونوعها معناه حرمانها من صور كانت تؤدِّيها تلك الألفاظ، لكن الأدب النثري في فرنسا إلى جانب ذلك قفز إلى الأمام قفزةً بعيدة، حين وضع الكتَّاب نصب أعينهم قواعد الذوق الأدبي الجديد، وفي طليعتها العناية بحسن استعمال الألفاظ، والتخلص من العبارة الطويلة الملتوية المعقدة التي يكثر فيها الوصل والاستطراد، فانحلَّت الجملة الواحدة المركبة إلى جُملٍ كثيرةٍ بسيطة في النثر الحديث، تتتابع على النحو الذي يقتضيه أداء المعنى جليًّا واضحًا، ومن ثَم بلغ النثر الفرنسي مكانته التي نعرفها له من حيث الدقة والوضوح.

وإن شئت أن ترد هذه الحركة إلى أصولها تعذَّر عليك أن تربطها بكاتب بعينه كما ينسب إصلاح الشعر إلى «ماليرب»، غير أنه ظهر في أوائل القرن السابع عشر كاتب هو: «جان لُوي بَلْزاك»٧٠ (١٥٩٤–١٦٥٥م) كان له على النثر الفرنسي فضلٌ عظيم، إذ نحا به نحو سلامة التركيب والصقل ودقة الجرس وتنظيم الفكر، وقد أصبح لأسلوب «بلزاك» سيطرة على من جاء بعده من الناثرين؛ فاقتفى أثره معظم أعلام البيان في «القرن العظيم» سواء شَعَر بذلك أولئك الأعلام أو لم يشعروا.

ويعرف «بلزاك» في الأدب بخطاباته التي خاطب بها — اسمًا — بعض عظماء الرجال في عصره، لكنه أراد بها — فعلًا — أن تكون موضوعًا للقراءة العامة.

ثم أنشئ المجمع الفرنسي فكان فيصلًا يحكم بين الأساليب الجديدة، فيؤْثر أسلوبًا على أسلوب، فكان لذلك المجمع أقوى الأثر في تقدم النثر في شوطه الجديد. وقد يقال إن تلك المقاييس الجديدة — وأهمها حسن اختيار الألفاظ والعناية التامة بتركيب العبارة — قد ضيَّقت الخناق على حرية الكاتب وسدَّتْ دونه المسالك، فلم تُجِزْ له إلا أسلوبًا يتصف بالجزالة الخطابية والكمال الفني على غرار «شيشرون»، لكن ذلك القول بعيد عن الصواب؛ لأن ذلك العصر كان غنيًّا بنوابغه، ومن شأن النابغة أن يصغي إلى من يهديه فيهتدي به دون أن يجد في ذلك ما يُقَيِّد وثباته.

(٣-١) باسكال Pascal (١٦٢٣–١٦٦٢م)

لقد قيل حقًّا إن كل كاتب عظيم في القرن السابع عشر كان كاتبًا خلقيًّا، فالعناية بتقويم الأخلاق ظاهرةٌ بارزة تلمسها في أدباء العصر جميعًا، تلمسها في مآسي «كورنِي» و«راسين» وفي ملاهي «موليير»، وتلمسها في «الحكايات الخرافية» للافونتين، لكن هذا القصد الخلقي الذي ساد ذلك العصر، لم يكن غرضًا مباشرًا عند أمثال هؤلاء الأدباء الذين ذكرنا أسماءهم، فكل أديب منهم منصرف إلى الصورة الأدبية التي يريد إخراجها، ثم بعد ذلك تجيء الغاية الخلقية عرضًا كأنما هي شيء يقتضيه السياق. لكن إلى جانب هؤلاء قامت طائفةٌ أخرى مهمتها الكتابة في الأخلاق، وإنما يهتم تاريخ الأدب بثلاثة من هؤلاء: «باسكال» و«لاروشفوكو» و«لابريير».

ولد «باسكال» لأب عُرف برقة أخلاقه وقوة ذكائه، وبدت بوادر النبوغ فيه، وهو لم يزل يافعًا صغيرًا، فأبدى مقدرةً نادرة في الرياضة وهو في سنٍّ مبكرة. وحسبك أن تعلم أنه وهو في السابعة عشرة من عمره كتب رسالةً رياضية في «القطاعات المخروطية»، وفي سن الثامنة عشرة اخترع آلةً للعدِّ، وإنك لتجد في شخصية هذا الرجل من المتناقضات ما تقف أمامه حائرًا، فهو عالم وصوفي في آنٍ معًا، وهو منطقي وحالم في وقتٍ واحد، له عقلٌ مطبوع على إقامة الدليل والبرهان، حتى قال عن نفسه: «إن لي عقلًا هندسيًّا.» أي يقيم الدليل على نحو ما تقيمه الهندسة، لكنه إلى جانب ذلك مؤمن حار الإيمان يجرفه الخيال، فيخرجه عن حدود المنطق الصارم. وتلاقي هذين الجانبَين في نفسه: قوة العقل وقوة الروح — وهما قليلًا ما يتلاقيان في رجل — هو طابع أدبه. وأهم ما يعنينا من أدبه كتابان: «ريفيات»٧١ و«آراء».٧٢

أما «ريفيات» فمؤلَّفةٌ من ثماني عشرة قطعة كتبت في صورة الخطابات، ونشرت على فترات بين عامَي ١٦٥٦ و١٦٥٧م، وموضوعها ديني يتصل بخصومةٍ مذهبية نشأت في البلاد إذ ذاك، وقد يكون الموضوع جافًّا عند كثرة القراء، لكن أسلوب باسكال من السلاسة، بحيث جعل من الجدل اللاهوتي والتأمل الديني موضوعًا يُقْرأ في لذةٍ وإقبال. وأما «آراء» فنُتَفٌ ومذكرات نشرت سنة ١٦٧٠م في خليطٍ مهوش لا ينتظمها ترتيب ولا تجري على خطة، ومع ذلك فلها مكانةٌ عالية في الأدب الديني لعمق أفكارها ونفاذ البصيرة فيها، وتركيز المعاني في ألفاظٍ قليلة، فقد برع باسكال في صياغة الجملة القصيرة القوية التي سرعان ما تجري في الناس مجرى الأمثال، والتي يصح أن تُتخذ موضوعًا لفصلٍ كامل يوضحها ويشرح معانيها، وقد أُعجب به فولتير فقال عن كتابه «خطابات ريفية»: «إن كل ضروب الفصاحة يحتويها هذا الكتاب.»

(٣-٢) لاروشفوكو La Rochefoucauld (١٦١٣–١٦٨٠م)

ولد في باريس سليلًا لأسرةٍ نبيلة قبل أن يولد باسكال بسنواتٍ عشر، ولما كان في ميعة شبابه تآمر مع آخرين على وزير فرنسا «ريشيليو»، وجرح جرحًا بليغًا في موقعةٍ دارت بين قوة الحكومة وأعدائها، فأوى إلى الريف بعيدًا عن عالم السياسة الصاخب، حتى استردَّ العافية، ثم عاد إلى باريس، وسرعان ما سطع نجمه في «الصالونات» الأدبية الكبرى، وبخاصة صالون «مدام دي سابليه».٧٣
كان «لاروشفوكو» يميل بطبعه إلى التشاؤم، وينظر إلى العالم نظرةً سوداء، وقد ازدادت نفسه مرارة بالدنيا وأهلها لما تعلمه من التجارب التي اجتازها، وهو يدبر المكائد السياسية من جهة، ولخيبة رجائه في كل آماله من جهةٍ أخرى، ومن ثمَّ تقرأ كتابه الصغير الرائع «حِكَمٌ وتأملاتٌ خلقية»،٧٤ فتلمس فيه الرجل الذي عركته الأيام وعلَّمه الفشل في الحياة ألَّا ينخدع بالأوهام. والفكرة الرئيسية عنده، أو قُلْ كان من بين أفكاره العديدة، أن الإنسان مدفوع في حياته بالأنانية. ولقد لبثت أمثاله تدور على الألسن لما فيها من قوة التعبير الذي يركز أضخم المعاني في أقل عدد من الألفاظ. وهاك مختارات منها:
  • «إن كان للعيي عاطفةٌ كان أقوى إقناعًا من أَفْصَحِ الناس بغير عاطفة.»

  • «ما أسهل أن نتغلب بالفلسفة على سيئات الماضي والمستقبل. أما سيئات الحاضر فلا يتعذر عليها أن تتغلب على الفلسفة.»

  • «الشيوخ مغرمون بإسداء النصح الجميل، عزاءً لأنفسهم؛ إذ لم تَعُدْ لهم القدرة على أن يكونوا قدوة في السوء.»

  • «عرفان الجميل شبيه بتبادل الثقة بين التجار، لا تطَّرد التجارة بغيره، فكثيرًا ما نوفِّي الدَّيْنَ لا حرصًا على الأمانة، بل لنجد بين الناس من يثق فينا بغير مشقة.»

  • «لشدَّ ما كنا نخجل من خير أعمالنا، لو عرف الناس الدوافع إلى إنتاجها.»

  • «كثيرًا ما نكون أقرب إلى قلوب الناس بأخطائنا منا بخير صفاتنا.»

  • «لست تجد بين الناس من بلغ به الشقاء، أو بلغت به السعادة إلى الحد الذي يتوهَّمه.»

  • «رأس الإنسان دائمًا مخدوع بقلبه.»

(٣-٣) لابريير La Bruyèue (١٦٤٥م)

ولد «جان دي لابريير» في باريس من أسرة تنتمي إلى الطبقة الوسطى، وتلقَّى علومه في جامعة أورليان حيث هيأ نفسه بدراسة القانون أن يكون محاميًا، لكنه سرعان ما آثر عزلته في مكتبته ينفق شطرًا كبيرًا من زمنه في مطالعة أفلاطون، ولم يحمل قلمه ليكتب إلا بعد أعوامٍ طوال درس فيها وشاهد، فسجَّل كل مشاهداته وآرائه في كتابٍ واحد يخلده على صفحات التاريخ الأدبي هو «النماذج الخلقية» يصور فيه أشخاصًا عاشوا في عصره، وكان في نقده ينفذ بقلمه فيُصْمي كأنما يضرب بسيفٍ بتار. وقد نشر هذا الكتاب أول ما نشر على هيئة ملحق بترجمة أخرجها لكتاب «نماذج خلقية» الذي نقله عن الفيلسوف اليوناني «ثيوفراسطس».٧٥ وليس كتاب «لابريير» بالكتاب المبوَّب المنظم على الصورة التي نفهمها اليوم، بل هو خليط امتزجت فيه العناصر المختلفة المتباينة، وإن يكن أبرز ما فيه هو الدراسات التي يحلل بها أشخاص عصره. يقول الكاتب: «إن روح المؤلف تنحصر في حسن التحديد وجودة التصوير.» وهو بهذا القول يصف لك منهجه؛ لأنه قبل كل شيء يحدد المعاني ويصور الأشخاص، في أسلوب يُعدُّ نموذجًا للفرنسية في أصفى ما تكون وأنقى. وفيما يلي مقتطفات من كتاب «النماذج الخلقية»:
  • «لو تجنب موليير الرطانة والسوقية في أسلوبه وكتب بأسلوبٍ أصفى لبلغ حد الكمال.»

  • «إن كورني — في أجود آثاره — أصيلٌ ممتنع على التقليد، لكنه لا يطَّرد في الجودة، عقله جبار وبعض شعره من أجود ما كتبه الشعراء.»

  • «راسين أقرب إلى الإنسانية من كورني، قلد الأدب الإغريقي القديم، فترى في مآسيه بساطة ووضوحًا وشجنًا يحرك العواطف.»

  • «إن كورني يصوِّر الناس كما ينبغي أن يكونوا، أما راسين فيصورهم كما هم، كورني أَميَل إلى النزعة الخلقية المثالية، وأما راسين فأميَل إلى الواقع، والبعد عن التكلف. ويظهر أن كورني مدين بالكثير لسوفوكليس، وأن راسين مدين ليوريبيد.»

  • «إذا سما الكتاب بعقلك وأوحى إليك شريف المعاني، فلست بعدُ بحاجةٍ إلى شيءٍ لتحكم للكتاب؛ فهو آية في الجودة والسمو.»

  • «ما علة أن يضحك الناس في المسرح. ويسترسلون في الضحك، ثم يخجلهم أن يسترسلوا في البكاء؟ أهو أن طبيعة نفوسنا بعيدة عن أن تتحرك لما يستثير العطف من أن ننفجر ضاحكين مما يثير الضحك؟ أم ذلك لأننا نعدُّ البكاء ضعفا؟ …»

وقال عن النساء:

«لماذا نُحمِّل الرجال تبعة جهل النساء؟ هل سُنَّتْ القوانين وصدرت المراسيم تنهاهن أن يفتحن عيونهن، وأن يقرأن وأن يذكرن ما قرأن، وأن يُبَيِّنَّ في أحاديثهن وكتبهن أنهن فاهمات لما قرأن؟ ألم يكن النساء هن اللائي اعتزمن أن يعرفن قليلًا، أو ألَّا يعرفن شيئًا؛ لضعف في أجسادهن، أو لبلادة في عقولهن، أو لما يقتضيه جمالهن من وقت، أو لأنهن غير موهوبات ولا نابغات إلا في أشغال الإبرة وسياسة الدار، أو ربما كان ذلك لأنهن بالغريزة يمقتن الجد الذي يتطلب الجهد؟ …»

(٣-٤) بوسويه Bossuet (١٦٢٧–١٧٠٤م)

على أن أكثر الناثرين خصبًا وإنتاجًا في العصر الاتِّباعي في فرنسا هو «بوسويه» الذي عرف بنشاطه الذي لا ينفد، حتى لقد استطاع في حياته المليئة بالعمل مدرسًا فقسيسًا، أن يضع نفسه في طليعة الأدباء الفرنسيين إذ ذاك، وإنما احتلَّ هذه المكانة في الأدب الفرنسي بخُطبه الكنسية ومواعظه الدينية، وما كان ينشره الحين بعد الحين من رسائل يجادل فيها خصومه ويحاجُّهم؛ في هذا الاتجاه الخطابي اتجه «بوسويه» بفنِّه، وإن خُطَبه لتُعدُّ من آيات الفصاحة والبيان، وكانت وحدها كفيلةً أن تسلكه في زمرة القادة من رجال الفن الأدبي. على الرغم من أن الخطابة لا تحتل في عالم الأدب مكانةً ممتازة، كان «بوسويه» خطيبًا في كل ما قال وكل ما كتب، خطيبًا في نهجه وفي تأثيره على السامعين أو القارئين، فهو خطيب إن وعظ في الكنيسة، وهو خطيب إن هاجم المسرح وقواعده، وهو خطيب إن هاجم المذهب البروتستانتي أو أيَّد الكاثوليكية، ولم يكن في وعظه مملولًا مرذولًا، بل كان جذابًا في شخصيته، ساحرًا بعبارته، وهو عالم بغير حذلقة العلماء، ومتدين بغير تصعُّب رجال الدين، إن نَقَدَ كان لاذعًا قاسيًا، لكنه لم ينقد بغير حق.

(٣-٥) فينيلون Fénelon (١٦٦١–١٧١٥م)

ونبغ في فن الخطابة من رجال الدين غير «بوسويه» قسيسٌ آخر هو «فينيلون»، وإن يكن أقل من بوسويه قدرةً ونبوغًا، وقد كتب «فينيلون» ما كتبه إتمامًا لواجبات مهنته، ولم يقصد به إلى الأدب ولم يكتبه لوجه الفن. وينبغي أن نذكر أن أكثر نوابغ الفكر كانوا في ذلك العصر يتجهون إلى خدمة الكنيسة والدين؛ لأن الكنيسة كانت في أوج عظمتها، فكان طبيعيًّا أن تجد رؤساء الحكومات من الكرادلة، وأن تجد من رجال الدين على اختلاف طبقاتهم من ساهم بقسطٍ موفور في الإضافة إلى ذخيرة النثر والشعر، حدث ذلك في فرنسا كما حدث شبيه له في إيطاليا من قبلها، فرأينا المصوِّرين يرتدون ثياب الرهبان، وما أشبه الذي حدث في أوروبا إذ ذاك بالذي رأيناه في مصر في تاريخها الحديث؛ إذ خرج من رجال الأزهر بعض زعماء السياسة وقادة الفكر.

حفزت «فينيلون» إلى ما كتب حوافزُ الدين، ولكن سرعان ما ينسى العالم للأديب والفنان حوافزه الدينية ولا يذكره إلا بما خلَّد من آياتٍ باقيات، فقد دوَّن «فينيلون» في كتابه «حِكَمُ القديسين» عقيدته بوجوب أن يفنى الإنسان في الله، وأن ينظر إلى المسيح مخلِّصًا للإنسانية جملةً واحدة، لا مخلِّصًا لهذا الفرد الآثم أو ذاك، فهاجم عقيدته هذه «بوسويه» كما أنكرتها عليه كنيسةُ روما، ولكن ذهبتْ على مرِّ الزمان حرارة الخلاف الديني بين هذين القسيسَين، وبقيت لنا آثارهما حيَّةً في عالم الأدب.

لقد أحبَّ «فينيلون» إخوانه من بني الإنسان قاطبة، فتراه في قصةٍ رمزية اسمها «تِلِماك»٧٦ يصوِّر بخياله دولةً فُضلى يعيش فيها الناس على أسس من الحرية والإخاء، فسبق بخياله أحلام الكتَّاب في القرن الثامن عشر.

(٣-٦) مدام دي سفنييه Mme de Svigny (١٦٢٦–١٦٩٦م)

ولعب النساء دورًا عظيمًا في السياسة والأدب إبان «القرن العظيم» في تاريخ الأدب الفرنسي، وأشرفت عُظْميات السيدات على كثيرٍ من «صالونات» الأدب فأثَّرن بذلك في الحركة الأدبية أعمق الأثر، فضلًا عما أنتجه بعضهن من آثار.

ومن أكثر هؤلاء فتنة وأشدهن سحرًا بما كتبت «مدام دي سفنييه» وهي بين كاتبات الرسائل في الطليعة الأولى، وقد كان غَشِيَ بواكر سنيها الغمُّ وخيبة الرجاء، ولكنها امتازت بقلبٍ قوي ورأسٍ رزين، فاحتملت أحزانها في جَلَدٍ محمود ونفسٍ راضية، وما رسائلها تلك سوى ثرثرة امرأة عَلَتْ ثقافتها فتركت لقلمها العنان يجول في شئون الحياة اليومية، ويمسُّ أحيانًا شئون الدولة وفنون الأدب، لكنها لم ترسل القلم وعيناها مغمضتان، بل كانت حذرة فيما تكتب، تمحص موضوعها وتتأنق في أسلوبها، على نحو ما تعنى سيدة باختيار ثوبها مادةً وزخرفًا. وتشفُّ رسائلها عن كثيرٍ من حياة عصرها وما كان يدور بين الطبقات العالية، وهي على ثرثرتها تدل على عقلٍ راجحٍ، وفكرٍ واضحٍ، وخلقٍ متين.

(٣-٧) مدام دي مانتنون Mme de Maintenon (١٦٣٥–١٧١٩م)

وظهرت سيدةٌ أخرى وهبها الله قدرةً بالغة في التعبير عما يجول بنفسها، وهي «مدام دي مانتنون» التي ارتفعت من غمار الناس، فأصبحت زوجة للملك لويس الرابع عشر، ولم يعلن زواج الملك منها في صورةٍ رسمية، لكن أحدًا لم يجهله من أهل البلاد جميعًا، ولبثت «مدام دي مانتنون» ثلاثين عامًا تتمتع بحياة الملكة وتشقى بسيئاتها، كانت خلالها تُصرِّف بعض شئون زوجها تصريفًا يشهد لها بالإدراك السليم، ورسائلها من أهم ما يكشف عن أسرار عصرها من الوثائق السياسية والاجتماعية، وقد كتبت عن تعليم البنات كتابةً فيها حسن الفهم وصدق الحكم.

(٣-٨) مدام دي لافييت Mme de La Fayette (١٦٣٤–١٦٩٣م)

لم تقصد «مدام دي سفنييه» و«مدام دي مانتنون» أن تكونا صاحبتَي فنٍّ أدبي، لكن انتهى بهما النبوغ الفطري — على غير تدبيرٍ منهما — إلى مزاملة قادة الأدباء، ثم ظهرت كاتبةٌ ثالثة، أقل منهما قدرًا، لكنها تمتاز بأنها قصدت إلى فنها عامدة، وهي «مدام دي لافييت» التي قد تكون قصتها «أميرة كليف»٧٧ أول قصةٍ صادقة كتبتها امرأة، بل إنها لتعدُّ بين من أحدثوا ثورةً وانقلابًا في فن القصة، إذ استبدلت بالمغامرات الصبيانية الشاطحة بخيالها، مواقفَ بسيطةً طبيعية، كما استبدلت بالأسلوب الضخم المتكلف لغة الحياة اليومية، فالقصة الفرنسية التي تطورت فيما بعدُ مدينة لها برزانة الحكم وصدق التصوير.

اختارت الكاتبة لقصتها «أميرة كليف» القصيرة البسيطة الأخَّاذة، بلاط الملك هنري الثاني، ولو أنها تأثرت في تصوير الجو التاريخي للقصة بما شاهدته في قصر لويس الرابع عشر. وبطلة القصة امرأة لبثت أعوامًا طويلة زوجةً لأمير تجلُّه ولا تحبُّه، حتى هامت حبًّا برجلٍ آخر بغتة هو دوق نامور، شاءت لها المصادفة أن تلاقيه في ليلةٍ راقصة، وغلب الواجب الزوجي المرأة الوفية، لكنها خشيت أن يقهرها هذا الحب الجديد، فقررت أن تدلي بالنبأ لزوجها ليكون لها ذلك بمثابة الوقاية من نزوات نفسها، وكان أن قصَّت على الأمير قصة حبها الجديد، فأكبر فيها الأمير الزوج هذه الصراحة وهذا الوفاء، لكن الغيرة أخذت تأكل قلبه، حتى أرهقته العلة ومات، فاعتقدت الزوجة أنها السبب في وفاة زوجها، ولذلك رفضت الزواج من حبيبها الدوق وانتبذت مكانًا معزولًا قصيًّا في أحد الأديرة.

تلك هي خلاصة القصة، وهي كما ترى «أرستقراطية» الجو، لكنها تمسُّ المشاعر الإنسانية الصادقة. وقد دلت الكاتبة على بصيرةٍ نافذة ولمسةٍ فنيةٍ بارعة في تصويرها لأشخاص القصة. ولأول مرة في تاريخ القصة نرى التحليل النفسي ينصبُّ على الحياة اليومية المألوفة، ولا يتبدد سُدًى في موضوعاتٍ بعيدة عن الواقع، ولهذا كله عُدَّتْ قصة «أميرة كليف» بداية لطورٍ في القصة جديد.

•••

وما دمنا قد مسسنا موضوع القصة فحقيقٌ بنا أن نختم لك فصل النثر بكلمةٍ موجزةٍ عن القصة في الأدب الفرنسي في القرن السابع عشر، فالقصة في الشطر الأعظم من ذلك القرن كانت صنيعة أهل الطبقة الرفيعة، ولما كانت تصوِّر أخلاقهم وتعبر عن عواطفهم، فقد جرى العرف أن تسمى تلك القصة «بالقصة الأرستقراطية»، وقد كانت هذه «القصة الأرستقراطية» في أولى مراحلها «قصةً ريفية» بالمعنى الذي فهمناه من الأدب الريفي في مواضعَ متعددة مما سلف.٧٨

كان المراد بالأدب الريفي في أول نشأته أن يصف الحياة الريفية الساذجة كما هي، لكنه تطور، فأصبحت القصيدة أو الرواية التمثيلية أو القصة التي نصفها بأنها «ريفية» لا تَعْنِي وَصْفَ الحياة الساذجة في الريف وصفًا حقيقيًّا، ولكنها قد تصف أفرادًا من الطبقة الراقية في مشاعرهم وأحاديثهم، وتخلع عليهم جوًّا ريفيًّا مصطنعًا.

وأول قصة «ريفية» ظهرت في الأدب الفرنسي — وهي في الوقت نفسه خير ما يمثل هذا اللون من ضروب القصة في الأدب الفرنسي — هي قصة «أَسْتِرِي»٧٩ لكاتبها «دِرْفيه»٨٠ (١٥٦٨–١٦٢٥م)، ولست تجد فيها رعاة وراعيات يتعهدون قطعان الغنم كما كان المفروض في الأدب الريفي الرَّعويِّ في أول نشأته، بل ترى سيداتٍ وسادة جعلهم الكاتب في قصته راعياتٍ ورعاةً ليعيشوا في جوٍّ بعيدٍ عن حضارة الدور والقصور. والقصة تروي حب رجل وامرأة من هذا الطراز المدني المتحضر، خلع عليهما الكاتب ثياب الرعاة ووضعهما في وسطٍ ريفي، هما «سِيلادُون»٨١ و«أَسْتري» اللذان فرقت بينهما الغيرة وسوء التفاهم، لكنهما تلاقيا بعد كثيرٍ من المغامرات والمشاق.
لبثت «القصة الريفية» شائعةً في الأدب الفرنسي، يُقْبل عليها القراء في شغفٍ ويحبِّذها جهابذة النقد مثل بوالو، ثم حلَّت محلها «قصة المغامرة» وأهم فارق بين النوعَين هو كما وصفه «بوالو» أن يختار كاتب القصة الريفية «رعاةً لا يشغلهم إلا اكتساب قلوب حبيباتهم»، أما كاتب قصة المغامرة فيختار لهذا العمل «أمراء وملوكًا، بل مشاهير القادة القدماء». وأول من كتب قصة مغامرة هو «جومبرفيل»٨٢ (١٦٠٠–١٦٧٤م) الذي كان بين أول من انتخبوا للمجمع الفرنسي، وهو يروي في قصته «بولكساندر»٨٣ مغامرات ملك جزائر كناري في سبيل «الملكة أَلْسِدْيان» التي أخذ يجوب في إثرها أقطار الأرض، وجاء بعده «جوتييه دي كوست»٨٤ (١٦١٠–١٦٦٣م) الذي يطلق عليه لغزارة إنتاجه وخصب قريحته «ديماس الأب للقرن السابع عشر»، والذي خَلَّف للأدب ثلاث قصصٍ جميلة صبغها بصبغةٍ تاريخيةٍ، هي «كليوبطره» و«كاسندرا» و«فاراموند»،٨٥ وجاءت بعدئذٍ كاتبة للقصة مبدعة هي «مادلين دي سكيدري»٨٦ (١٦٠٧–١٧٠١م) التي أخرجت بمعاونة أخيها «جورج» قصة «إبراهيم أو الباشا العظيم»٨٧ و«كورش العظيم»٨٨ و«سليلي».٨٩

هذان الضربان من القصة: «القصة الريفية» و«قصة المغامرة» يُعدَّان فرعَين لما يسمى بالقصة الأرستقراطية؛ لأنهما يُعْنَيَان بأشخاصٍ من الطبقة العالية، وهما يتميزان بطابعَين أساسيَّين؛ الأول: ضخامة حجم القصة إلى حدٍّ يعجب له القارئ الحديث، فقصة «أَسْتري» — مثلًا — تقع في خمسة آلاف وخمسمائة صفحة، و«بولكساندر» في ستة آلاف، وتقع «كليوبطره» في اثني عشر جزءًا، و«كاسندرا» في عشرة أجزاء، وكذلك «كورش العظيم»، وعلَّة هذا الطول المستفيض الإطناب في الوصف، والإطالة في تحليل العواطف، ثم الاستطراد من القصة الأصلية إلى حكاياتٍ فرعية، وكلما دخل القصة شخصٌ جديد أخذ يقصُّ قصته وسيرته في تفصيلٍ وإطناب. والطابع الثاني الذي يميز هذه القصص: خيالها الجامح في غير ما هو واقع في الحياة المألوفة، ثم عدم مراعاة الصدق في الوصف، فرعاة لا يشعرون ولا يتحدثون كما يشعر ويتحدث الرعاة، ويونانٌ ورمانٌ ومصريون وفُرْسٌ يعيشون كما يعيش الطبقة الأرستقراطية في فرنسا في القرن السابع عشر، فأنت في رواية «إبراهيم» في تركيا، وفي «سليلي» في روما، وفي «كاسندرا» في فارس حين كان يحكمها دارا، وفي «كليوبطره» في مصر، لكنك مع ذلك لا ترى في كل هذه القصص إلا جو القصر الملكي في فرنسا، ولا تسمع إلا أحاديث كالتي تجري على شفاه رواد «الصالونات» الأدبية في ذلك العصر.

فكان من الطبيعي أن تنشأ في القصة حركةٌ جديدة ترمي إلى مراعاة الصدق في التصوير، فهذا «شارل سورِلْ»٩٠ (١٥٩٩–١٦٧٤م) يخرج قصةً ريفيةً تهكمية يسميها «الراعي المسرف»٩١ يقصُّ فيها سيرة طالب يدعى «ليسيس»٩٢ أخذ يدمن مطالعة «أستري» حتى ملكت عليه لبه، فصمم أن يعيش عيش الرعاة في سبيل الحب. وأخذ يقلد «سيلادون» — بطل قصة «أستري» — في دقائق سلوكه وطريقة حديثه، وهنا مصدر التهكم بالقصة الريفية كما عُرفت وكما تمثلها قصة «أستري». ولعلك تدرك الشبه بين هذا الأسلوب وما رأيته في قصة «دون كيشوت» الذي ظل يقرأ أدب الفروسية، حتى أصبح هو نفسه فارسًا يُقلِّد فرسان العصور الوسطى في مغامراتهم، فلا شك في أن «سورل» متأثر في طريقته بسيرفانتيس.
ثم ظهرت قصةٌ أخرى تعمل على توطيد الحركة الجديدة التي ترمي إلى صدق الوصف في القصة، وهي «القصة المضحكة»٩٣ لصاحبها «بول سكارون»٩٤ (١٦١٠–١٦٦٠م) الذي كان كسيحًا مشوَّهًا عليلًا، ومع ذلك كان ذا مزاجٍ مرحٍ ضحوك، وهو في قصته هذه يسخر من حب الأمراء والملوك الذي اتخذته «قصة المغامرة» موضوعًا لها، ويتلو هذه قصةٌ أخرى في الاتجاه نفسه، هي «القصة البورجوازية»٩٥ وكاتبها «أنطون فِيرتيير»،٩٦ وهو في هذه القصة يسخر من رجال الطبقة الوسطى الذين يحاكون الطبقة الراقية في أخلاقهم وسلوكهم، فتراه يجعل أحد أشخاص الرواية — واسمه نيكوديم — يشتغل بالمحاماة أثناء النهار، ومحبًّا مغرمًا منازلًا أثناء الليل. ويحب «نيكوديم» هذا فتاة تسمى «جافوت» وهي ساذجة تنظر إلى الأمور نظرة الفطرة السليمة العملية، فيخاطبها حبيبها بعبارةٍ مزخرفةٍ منمقة ليناجيها الغرام كما يفعل أرباب الصالونات، فلا تجيبه إلا بقولها «لا أفهم ما تقول!» ويستصحب نيكوديم حبيبته «جافوت» إلى «صالون» فتكون هناك موضع سخرية وضحك لما تُبديه من جهلٍ فاضحٍ بالأدب.

وأخيرًا جاءت مدام دي لافييت بقصة «أميرة كليف» فحددت بها المذهب الواقعي الجديد في القصة تحديدًا واضحًا.

١  Grand Siècle.
٢  Caen.
٣  Mathurin Regnier.
٤  Les Poètes.
٥  A Nicole Rapin.
٦  Macette.
٧  Le Poète Malgré Soi.
٨  Le Lutrin.
٩  L’Art Poétique.
١٠  The Rape of the Lock.
١١  راجع إنياذة فيرجيل في الجزء الأول من هذا الكتاب.
١٢  Contes.
١٣  Fables.
١٤  Silvestre de Sacy وقد ترجمها شعرًا المرحوم محمد عثمان بك جلال في تصرف. وسماها «العيون اليواقظ».
١٥  Saiut-Beuve ناقدٌ فرنسيٌّ حديث (١٨٠٤–١٨٦٩م).
١٦  Æsop كاتب يوناني للحكايات الخرافية، راجع فصل الأدب اليوناني في الجزء الأول من هذا الكتاب.
١٧  Oliver Goldsmith.
١٨  Rouen.
١٩  Mélite.
٢٠  Médée.
٢١  Le Cid وهو شخصيةٌ حقيقية، قاتل المسلمين في الأندلس وأظهر بطولةً نادرة حاكت حوله الأساطير، فأصبح موضوعًا صالحًا للأدب.
٢٢  Chimène.
٢٣  Horace.
٢٤  Cinna.
٢٥  Polyeucte.
٢٦  La Mont de Pompée.
٢٧  Nicodème.
٢٨  Le Menteur.
٢٩  Pertharite.
٣٠  Thomas A Kempis.
٣١  Soissons.
٣٢  La Thébaëde.
٣٣  Les Plaideurs.
٣٤  Britannicus.
٣٥  Bérénice.
٣٦  Bajozet.
٣٧  Mithridate.
٣٨  Ephegènis.
٣٩  Phèdrc.
٤٠  Mme. de Maintenon.
٤١  Esther.
٤٢  Athalie.
٤٣  Astyanax.
٤٤  Pyrrhus.
٤٥  Jean Baptiste Poquelin.
٤٦  Gassendi.
٤٧  L’Etourdi.
٤٨  Le Dépit Amoureux.
٤٩  Les Précieuses Ridicules.
٥٠  Le Malade Imaginaire.
٥١  Armande Béjart.
٥٢  Célimène.
٥٣  Le Misanthrope.
٥٤  George Dandin.
٥٥  Le Bourgeois Gentilhomme.
٥٦  La Critique de I’Ecole des Femmes.
٥٧  L’Impromptu de Versailles.
٥٨  Le Mariage Forcé.
٥٩  Le Médecin Malgré Lui.
٦٠  M. de Porceaugnac.
٦١  L’Écoles des Femmes.
٦٢  Tartuffe.
٦٣  Don Juan.
٦٤  Le Misanthrope.
٦٥  L’Avare.
٦٦  Les Femmes Savantes.
٦٧  Lytton Strachey.
٦٨  Harpagon.
٦٩  Shylock.
٧٠  Jean Louis Balzac.
٧١  Les Provinciales.
٧٢  Pensées.
٧٣  Mme. de Sablé.
٧٤  Maximes et Reflexions Morale.
٧٥  Theophrastus.
٧٦  Télémaque.
٧٧  Princesse de Cléves.
٧٨  راجع نشأة الأدب الريفي على يدي ثيوقريطس — من أدباء الإسكندرية — في الجزء الأول من هذا الكتاب.
٧٩  Astrée.
٨٠  D’Urfé.
٨١  Céladon.
٨٢  Marin Le Roy de Gomberville.
٨٣  Polexandre.
٨٤  Gautier de Costes.
٨٥  Faramond.
٨٦  Madeleine de Scudéry.
٨٧  Ibrahim, ou l’Illustre Pacha.
٨٨  Le Grand Cyrus.
٨٩  Clélie.
٩٠  Charles Sorel.
٩١  Le Berger Extravagant.
٩٢  Lysis.
٩٣  Ronan Comique.
٩٤  Paul Scarron.
٩٥  Roman Bourgebis.
٩٦  Antoine Furetière.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤