الفصل الرابع

النهضة في إسبانيا

لقد تعاقبت على إسبانيا غزوات الغزاة، لكنها جميعًا لم تستطع أن تفرض لغتها على أهل البلاد، وهي في ذلك شبيهة بالفُرْس التي لبثت لغتها قائمة في وجه الفاتحين، ففي القرون الثلاثة الخامس والسادس والسابع، كانت إسبانيا خاضعة لحكم الغوط، لكن لم يترك هؤلاء في لغتها إلا أثرًا طفيفًا، ثم جاءت قرون سبعة كانت السيادة فيها للعرب، ومع ذلك بقيت اللغة الإسبانية حافظة لكيانها، وإن ضمت إليها طائفة من الألفاظ العربية، أما بناء العبارة وأوضاع الكلام فلم تتغير، والشطر الأعظم من الأدب الإسباني مكتوب باللغة الكاستيلية (القَشْتالية) التي كان مركزها في «توليدو» (طُلَيطلة) كما كانت اللغة التسكانية هي لغة الأدب في إيطاليا، وكان مركزها فلورنسه، وكما باتت لهجة أهل الوسط الشرقي في إنجلترا لسان الأدباء، وكانت تتمثل في أكسفورد ولندن.

وأول من نبغ من الكتاب الإسبان في أوائل النهضة هو «جوان رويز Juan Ruiz» حوالي ١٣٥٠ ميلادية، الذي كان في إنتاجه وفي موقفه من الحركة الأدبية شبيهًا بشوسر١ في الأدب الإنجليزي، حتى لقب «بشوسر الإسباني»، وقد صور لنا في أدبه حالة إسبانيا وأهلها في القرن الرابع عشر.
ثم جاء «لوبيز دي أيالا Lopez de Ayala» (١٣٣٢–١٤٠٧م)، الذي نظر إلى العالم الفاسد من حوله نظرةً قاتمة. وقد لبث «دي أيالا» بضعة أعوام سجينًا في إنجلترا، وعاش في عهد أربعة ملوكٍ غلاظ قساة هم «بطرس القاسي»، و«هنري الثاني» و«يوحنا الأول» و«هنري الثالث»، وأرَّخ للحوادث في ذلك العهد في مذكراته Les bhroniques. ومن آثاره الأدبية الأخرى أنه ترجم للإسبانية أجزاء من المؤرخ اللاتيني «لفي»٢ والكاتب الإيطالي «بوكاتشو»، وكذلك كانت له محاولات في قرض الشعر على الأبحر المستحدثة في عصر النهضة، فكان بحق بشيرًا بالنهوض الأدبي في إسبانيا.
ومن كتَّاب إسبانيا البارزين كذلك «جورج مانريك Gorge Manrique» (حوالي ١٤٤٠–١٤٧٩م)، الذي عالج بأدبه الجوانب المألوفة من الحياة الإنسانية؛ ومن ثم كانت شهرته الواسعة. وكذلك اشتهرت في النهضة الإسبانية امرأة متصوفة هي «سانتا تريزا Santa Teresa» (١٥١٥–١٥٨٢م)، إذ عرفت بشعرها وقصصها وخطاباتها الأدبية، ودعوتها إلى الإصلاح الديني، ثم أعقبها في الظهور أديب إسبانيا العظيم «سرفانتيز»، وسنتناوله بشيءٍ من التفصيل لمكانته العظيمة في آداب العالم.

(١) سرفانتيز Cervantes

كانت حياة «ميجويل دي سرفانتيس سافيدرا Miguel de Cervantes Saavedra» (١٥٤٧–١٦١٦م) معركةً طويلةً متصلة، حارب بها البؤس والفقر والحظ العاثر، فقلما تجد بين رجال الأدب في العالم كله من احتمل من العناء ما احتمله «سرفانتيز».

لم يكن حظ سرفانتيز من التعلم كبيرًا؛ فقد وقف عند مرحلة التعليم الأولي، وليس صحيحًا ما زعمه بعض مؤرخيه من أنه دخل الجامعة، إذ حسبنا أن نعلم أنه يعترف بجهله باللاتينية؛ لأن الجامعات في ذلك العهد لم تكن تعنى بشيءٍ عنايتها بتلك اللغة. ولما كان صبيًّا عمل خادمًا لأحد الكرادلة، وكان لسيده الكردنال ابنٌ ربطته أواصر الصداقة بسرفانتيز، ثم حدث لابن الكردنال أن اقتتل في سبيل فتاة أحبَّها مع رجلَين شهرا في وجهه السلاح، وكان يعاونه في القتال صديقه سرفانتيز، فقتلا الرجلَين معًا، وفرَّا هاربَين إلى دير، ومن ثم هاجرا إلى بلدٍ أجنبي متنكرين في ثياب الرهبان، وكان سرفانتيز إذ ذاك قد بلغ من العمر اثنين وعشرين عامًا.

ونشبت حرب بين إسبانيا وتركيا، فأسرع سرفانتيز إلى صفوف المحاربين، لكنه لم يلبث أن فقد ذراعه اليسرى في معركة «لبانتو» التي انتصر فيها الأسطول الإسباني على الأسطول التركي، فأراد سرفانتيز أن يعود إلى بلاده، وطلب إلى قادته أن يزوِّدوه بخطابات التوصية لملك إسبانيا فليب الثاني، وظفر بما أراد، وأقلع من نابلي على ظهر سفينة تحمل جندًا وتقصد إلى إسبانيا، لكن السفينة سرعان ما سقطت غنيمة في أيدي القراصنة الجزائريين قرب شاطئ الرفييرا الفرنسية، وكان من سوء طالعه أن وجد القراصنة خطابات التوصية التي كان يحملها موجهة إلى الملك ومرسلة من أعظم القواد، فرسخت عندهم العقيدة أن أسيرهم رجل له مكانته، فضاعفوا في فديته وجعلوها مبلغًا طائلًا من المال لم يكن في وسع أسرته أن تدفعه، وبقي سرفانتيز في الأسر خمس سنواتٍ عاش خلالها حياةً هينة، إذ ظن آسروه أنه من أسرةٍ نبيلة فلم يكلفوه ما كلفوا سواه من العمل الشاق، ثم جاء راهب من إسبانيا ليفاوض في افتداء النبلاء الأسرى، وقد اتصل بسرفانتيز وأحبه فافتداه فيمن افتدى، وكان على ظهر سفينة على وشك أن تقلع به إلى القسطنطينية لتبيعه رقيقًا في أسواقها بعد أن طال انتظار الآسرين لفديته. ومما يجدر ذكره في هذا الصدد أن أمه كانت طوال تلك السنين تحاول ما وسعها أن تجمع لابنها الفدية المطلوبة، حتى ناءت في سبيل ذلك تحت عبءٍ باهظٍ من الديْن.

عاد سرفانتيز إلى إسبانيا فاطرح الجندية ليعتنق الأدب، وأخذ يقرض القصائد، ويكتب الروايات التمثيلية وينشئ نقدًا أدبيًّا، فكتب كثيرًا من قصائد المدح لعله يجد من يحميه بين رعاة الأدب الأغنياء، ولكنه لم يُصِب نجاحًا، وكاد لا يجد ما يقتات به، فأخذ يكتب للمؤلفين إعلاناتٍ منظومة عن كتبهم ليعيش من كسبه الضئيل، ثم تزوج سرفانتيز من أرملةٍ غنية، وحاول أن يكتب للمسرح، فأخرج له ما يقرب من ثلاثين رواية جاءته بربحٍ قليلٍ مع أنها على حد تعبيره «لم تقابل من النظارة بالقذائف تُرْمى على الممثلين وبالصفير وبالمواء.»

وكانت إسبانيا حينئذٍ تُعِدُّ أسطولها العظيم «الأرمادا» لتحارب به إنجلترا، فعين سرفانتيز في إحدى الوظائف الرئيسية في الجيش، لكن شاء جده العاثر أن تضيع منه مائتا جنيه فزجَّ في السجن، ثم قدِّم للمحاكمة، فاختفى عامَين ظهر بعدهما في «بلد الوليد»، وكانت سنه سبعة وخمسين عامًا، وكان معه مخطوط آيته الخالدة «دون كيشوت» Don Quichote، ولم يلبث الجزء الأول من هذا الكتاب أن صادف رواجًا شديدًا، لكنه لسوء حظه لم يكسب منه إلا قليلًا؛ لأن حقوق الطبع لم يكن معترفًا بها، فسطا على الكتاب من سطا، وهرب ربح الكتاب إلى سواه.
لم ينقطع سرفانتيز عن إنتاجه الأدبي، وأخرج كتابًا ثانيًا عنوانه «القصص النموذجية»، وهي مجموعة من القصص الرمزية، وكذلك أخرج قصيدةً طويلة عنوانها «رحلة إلى بارناسس ثلاثية القافية» Voyage to Parnassus in terza rima،٣ لكنه في تلك الأثناء كلها لم ينقطع عن التفكير في أعز آثاره لديه وأدناها إلى قلبه، وهو «دون كيشوت»، فأخرج الجزء الثاني منه وأعطاه للناشر عام ١٦١٥م، وعندئذٍ طبقت شهرته الخافقَين، وترجمه إلى الإنجليزية عندئذٍ «سكلتن Skelton»، لكنه برغم ذلك كله ما انفك يعيش في فقرٍ مدقعٍ وضنكٍ شديد.

قصة دون كيشوت ضحكةٌ ساخرة يوجهها سرفانتيز إلى ما يلعب بخيال الإنسان من مثلٍ عليا، كثيرًا ما تكون لسوء الحظ متنافرة مع حقائق الحياة العملية، فدون كيشوت رجلٌ نبيلٌ فقير يعيش في أرضٍ لا زرع فيها، أزاح المطر عن سطحها التربة الخصبة، ولم يُبقِ منها إلا صخورًا ورمالًا، فأصبح نبلاؤها كمزارعيها في مسغبةٍ لا تنبت لهم الأرض ما يقيم أودهم، فيفر دون كيشوت من هذا الواقع الأليم إلى دنيا الخيال، ويأخذ في قراءة كتب عن فروسية العصور الوسطى، فما هو إلا أن يملك عليه اللبَّ هذا اللفظ الفخم، وتلك المشاعر الجياشة العالية، فيشتري كل ما يقع عليه من كتب الفروسية، لكنه يحتاج مالًا؛ ليشتري هذه الكتب، فلا يسعه إلا أن يبيع أرضه الجدباء جزءًا جزءًا، وبدل أن يعنى بفلاحة أرضه واستنباتها أخذ يناقش قسيس القرية (وكان قسيسًا متبحرًا في العلم)، ويجادل حلاق القرية عن تقدير الفرسان القدامى والمفاضلة بينهم، ترى هل يفضل «بامَرِين» الفارس الإنجليزي زميله الغالي «أماديس» أم العكس؟ تلك وأمثالها كانت في نظره من أعوص المسائل التي لا مندوحة له عن إدمان القراءة حولها، حتى يتبيَّنها ويجتليها. وهكذا تدرج به الأمر، حتى أصيب المسكين بنوعٍ من الجنون الخفيف، وذلك أنه رأى حتمًا لازمًا عليه أن يكون هو نفسه فارسًا كهؤلاء الفرسان الذين يقرأ عنهم القصص، وأن يضرب في أرجاء الأرض على ظهر جواده وفي شكته ليبحث عن مغامرة كتلك المغامرات التي استهدف لها أبطال الفرسان، وأن يمارس بنفسه كل ما قرأ من أعمال الفرسان السابقين، فيثأر لكل ضروب العدوان، ويهب نفسه لأخطار ومغامرات لو أصابه التوفيق فيها لكتب له الخلود. وهكذا رسخت عند المسكين تلك العقيدة رسوخًا حدا به أن يهم بالتنفيذ.

وكان فيما ورثه عن آبائه شكة يعلوها الصدأ وليس لها غطاء للرأس، لكنه لم يلبث أن أكمل نقصها بقطع من الورق المقوى، وكان له كذلك سيفٌ مكسور المقبض، فشرع يربط أجزاءه بعضها ببعض، وله حربةٌ نحيلة وحصانٌ هزيل، لكنه ظن أنه جوادٌ كريم، أين منه جواد الإسكندر الأكبر المشهور الذي يطلق عليه «بيوسفالس» (ذو الرأسين)؟ وهل يجوز أن يكون لجواد الإسكندر اسمٌ خاص به، ولا يكون لجواده هو اسم؟ فأنفق أربعة أيام كاملة يفكر، ويفكر ماذا عسى أن يسمي حصانه ذاك الكريم، وأخيرًا استقر رأيه على أن يتخذ «روسنانتي» اسمًا له، ثم نشأت له بعد ذلك مشكلةٌ أخرى، وهي أن يختار لنفسه اسمًا خليقًا أن يقرن إلى مثله، فلا يصح أن يقنع باسمه العادي «كويسارا»، وقلب صحائف كتبه، فإذا به يرى «أماديس» الفارس المشهور لا يقنع باسمه، فيضيف إليه اسم بلده، ولهذا أطلق فارسنا على نفسه اسم «دون كيشوت لامانشا»، وبهذا ظن أنه يزيد من شرف بلده «لامانشا».

بدأ دون كيشوت رحلته مرتديًا شكته العتيقة المهشَّمة المضحكة، فسافر يومًا كاملًا دون أن يصادف مظلومًا يعمل على إنصافه، أو وحشًا ضاريًا يلاقيه فيفتك به، أو فتاة أحاط بها الخطر فيسرع إلى إنقاذها، وأخيرًا بلغ فندقًا صغيرًا يقوم على إدارته رجلٌ عملي على شيءٍ من بلادة الذهن، وفيه خادمتان فاجرتان، فتبدو لعينه هاتان المرأتان «عذراوَين جميلتَين جالستين في غير تصنع عند باب الحصن» فيوجه الخطاب إليهما في ألفاظٍ رنانة ومعانٍ شعريةٍ خلابة، وتنصت له العاهرتان في صبرٍ ماكر، حتى إذا ما فرغ من خطابه سألتاه: «هل تريد طعامًا؟» فيتذكر دون كيشوت أنه لم يأكل طيلة نهاره، وأنه لا بد له من قوت يسد به رمقه؛ ليحتفظ بقواه لما هو مقبل عليه من أهوالٍ جسام، فيطلب الطعام ويأكل، لكنه مؤرق الجنبَين مهموم؛ لأنه يعلم أنه ليس فارسًا حقًّا، إذ لا بد للفارس الحق أن يُنصَّب فارسًا بصورةٍ رسمية تواضع عليها العرف، فحول لصاحب الفندق أن يضربه على رأسه بالسيف تلك الضربة التقليدية التي لا يكون الفارس فارسًا إلا بها، وأن ينطق بالعبارات المألوفة التي تقال عند تنصيب الفرسان، ويطيعه صاحب الفندق؛ لأنه كسائر أصحاب الفنادق لا يترددون في إرضاء زبائنهم ما داموا يدفعون ما يطلب إليهم أن يدفعوه.

ثم لم يلبث دون كيشوت أن أبدى جهلًا شنيعًا بشئون هذه الدنيا العملية، فها هو ذا صاحب الفندق يقدم له قائمة بالحساب، فلا يجد في جيوبه مليمًا واحدًا، ولِمَ يحمل المال مع أنه لم يقرأ قط في قصص الفرسان أن فارسًا حمل ماله معه في رحلاته ومغامراته، ولم يدر دون كيشوت أن مظاهر الشرف والفروسية لا بد لها من مال، فأفهمه صاحب الفندق هذه الحقيقة، وبهذا تلقى أول درس في عيوب هذا العالم ونقائصه. ويعود دون كيشوت إلى داره ليبيع هذا ويرهن ذاك، ويخرج في كلتا الحالتين بصفقة المغبون، حتى تجمَّع لديه قدرٌ ضئيل من المال.

وقبل أن يغادر منزله هذه المرة تذكر فجأة أنه لا بد له من تابعٍ كما كان لسائر الفرسان، لكن دون كيشوت لم يكن ليستطيع أن يظفر بمثل هذا التابع إلا إذا أغراه بالمال والسلطان، وكان له جار يدعى «سانكوبانزا»، وهو رجلٌ شريف، لكنه محدود الذكاء، فأخذ دون كيشوت يشرح له كيف أنه مقبل على حروب تحقق المثل الأعلى، وأنه لا ريب منتصرٌ ظافر، ثم وعد سانكوبانزا أن يمنحه أول جزيرة يغزوها، فتكون ملكًا خالصًا له، فرضي سانكوبانزا أن يكون تابعًا لدون كيشوت لعله يحقق هذا المجد الموعود، وفي الوقت عينه يجد طريقًا للخلاص من زوجته، ثم هو يمتطي بغله، ويرافق دون كيشوت في رحلته.

ويأخذ سرفانتيز في وصف الرحلة، وما وقع فيها من فروسيةٍ كاذبة، في صورةٍ فكهةٍ ساخرة، فها هو ذا يصادف في بعض الطريق فلاحًا يضرب خادمه، فيطلب إليه الفارس المخدوع أن يمسك عن ضربه وإلا طعنه بحربته، فيجيب الفلاح إن ضرب الخادم حق له بحكم القانون، فيرد عليه دون كيشوت إنه مستعد لافتداء الخادم بالمال، فلا يمانع الفلاح ويمسك عن ضربه، فيمضي دون كيشوت، وينتظر الفلاح عبثًا أن يعود له الفارس بالمال، وتغرب الشمس ويسخط الفلاح فينقضَّ على خادمه المسكين ضربًا مبرحًا ليثأر وينتقم، وهكذا أصلح دون كيشوت ما صادف من ظلمٍ وإجحاف!

وهذا دون كيشوت يبصر طواحين الهواء دائرة، فيظنها وحوشًا كواسر تتهيأ للوثوب عليه، فيرفع رمحه في يده ويندفع نحوها في حماسةٍ بالغة، حتى يصطدم بذراع إحداها ويهوي إلى الأرض، فإذا أفاق ظن أن جماعة من السحرة قد رَدَّت الوحوش طواحين هواء لتنقذها منه! وهكذا.

وبعدُ، فماذا يقصد سرفانتيس بكتابه دون كيشوت؟ إنه يريد قبل كل شيء أن يقضي على عصر الفروسية الذي ملأته الأوهام ليفتح أعين الناس لعلها ترى حقائق الدنيا الواقعة التي يعيشون فيها، وفي هذا كان سرفانتيز نقيض السير وولتر سكُتْ (الكاتب الإنجليزي في القرن التاسع عشر)، الذي أراد في عصره أن يعيد الفروسية إلى الوجود والحياة.

ثم أراد الكاتب فوق ذلك أن يصوِّر لنا ضربًا من الناس يعيش في أوهامه، وتتملَّكه فكرة خاطئة، فتتحكم في سلوكه كأنما هي حقٌّ واقع.

وإننا في روايتنا لقصة الأدب في العالم لنتعلم دروسًا من هذا الكتاب ومؤلفه، فسرفانتيز مثلٌ يصح أن يساق دليلًا على استحالة التنبؤ بالسن التي يظهر فيها نبوغ النابغ، فقد حاول سرفانتيز في شبابه أنواعًا كثيرة من الكتابة نثرًا وشعرا، ولم تَبْدُ فيما كتب علامات النبوغ، ثم لم يبدأ في كتابة هذا الأثر الخالد «دون كيشوت» إلا وهو في سن السابعة والخمسين، فجاء كتابًا في طليعة الآداب العالمية، ولم يتردد «السير وولتر رالي» الناقد الإنجليزي في القول بأنه «أحكم وأعظم كتاب في العالم».

ودون كيشوت مثل يصح أن يساق أيضًا لتفنيد الرأي القائل بأن الأثر الأدبي العظيم لا بد من وضع خطته كاملة في ذهن مُنشئه قبل الشروع في إنشائه، فقد بدأ دون كيشوت بغير ما انتهى إليه، إذ كان ينحرف الكاتب في طريقه هنا وهنالك عفو الساعة، فها هو ذا «سانكوبانزا» أحد الشخصيات الرئيسية في الكتاب، لم يَدُرْ بخلد سرفانتيز إلا بعد أن سار في القصة شوطًا بعيدًا، بل إن هذه الشخصية نفسها حين ارتسمت أول الأمر في ذهن الكاتب لم تكن كاملة الأجزاء إنما أخذت تتكامل كلما مضى في قصته.

وأخيرًا تدلنا عظمة سرفانتيز على خطأ الرأي القائل إن العبقري ينبت في عصر الازدهار؛ فقد كان سرفانتيز معاصرًا لشيكسبير، ومات هذان النابغان في عامٍ واحد، أما سرفانتيز فكان قد بلغ نضجه بعد أن تجاوزت إسبانيا أيام مجدها، وأما شيكسبير فقد ازدهر وأينع عندما خرجت بلاده ظافرة على «الأرمادا» الإسبانية، وكم قال النقاد وأفاضوا في القول بأن العظمة الأدبية في عصر اليصابات نتيجة لعظمة إنجلترا في السياسة والتجارة عندئذ! فمن قائلٍ إن روايات شيكسبير ومارلو، وترجمة شابمان لقصيدتَي هومر، وغير هذه وتلك من آيات الأدب الرائعات في عصر اليصابات، نتيجةٌ مباشرة لانتصار الأسطول الإنجليزي على الأسطول الإسباني، إذ وسع هذا النصر الأفق العقلي عند الإنجليز، وأيقظهم ليبصروا ما هم فيه من عظمةٍ ومجد. لكنا نقول: هل كتب «العهد القديم» حين كان اليهود سادة العالم؟ وهل أنشد هومر ملحمتَيه لما بلغ اليونان أقصى مجدهم؟ وهل تفجر من رابليه كتابه «جارجانتوا وبانتاجريل» إذ كانت فرنسا ظافرة في حروبها؟ وأخيرًا كيف أنتجت هزيمة الأرمادا شيكسبير في إنجلترا وسرفانتيز في إسبانيا في وقتٍ واحد؟ إن كان شيكسبير نتيجة النصر العظيم، فهل جاء سرفانتيز نتيجة الهزيمة المنكرة؟ كم يبهرنا التعليل بعمق الفكرة فيه، مع أن عمق الفكرة قد لا يخفي وراءه من الحق شيئًا! ولعل سرفانتيز كان يرمي بكتابه، فيما يرمي إليه، إلى مهاجمة «الأفكار العميقة».

هكذا تجلَّت النهضة الأدبية الإسبانية في سرفانتيز، ولقد شهدت النهضة في إسبانيا — كما شهدت في إيطاليا وفرنسا وإنجلترا — اتجاهًا عامًّا نحو الشعور القومي والإحساس بالوطن، وظهر ذلك الاتجاه فيما نتج عندئذٍ من آدابٍ وفنون، وكان سرفانتيز لإسبانيا إذ ذاك لسانها الناطق، ولو استثنينا روايات شيكسبير، لكان كتاب «دون كيشوت» أجمل ما أنتجه عصر النهضة في أوروبا على الإطلاق.

وشاء الله أن يلفظ سرفانتيز وشيكسبير آخر أنفاسهما في يومٍ واحد.

(٢) لوب دي فيجا Lope de Vega (١٥٦٤–١٦٣٥م)

بلغت إسبانيا نهاية مجدها عام ١٥٨٨م حين أصيب أسطولها العظيم «الأرمادا» بهزيمةٍ نكراء أمام الأسطول الإنجليزي، وكان سرفانتيز إذ ذاك في الأربعين من عمره، وكان بين البحارة الإسبان شاب لا يزال في فتوته وهو «لوب دي فيجا» الذي عاد إلى وطنه سالمًا؛ ليكون مؤسس المسرح الإسباني وزعيم الأدب هناك في القرن السابع عشر، وهو رجل ذاع صيته في بلده، لكن قلَّ من يعرفه في سائر البلدان، على خلاف زميله سرفانتيز الذي أصبح أديب العالم أجمع. وقد كان «لوب» غزير الإنتاج إلى حدٍّ تدهش له العقول؛ إذ أنتج ما يقرب من ١٨٠٠م رواية تمثيلية! وصلَنا منها ما يقرب من ٤٧٠ رواية. وذلك إلى جانب ما أنشأه من غير الروايات كالملاحم والأغاني الريفية والأقاصيص. والعجيب أنك لا تجد بين هذا الإنتاج الخصيب شيئًا واحدًا يصح أن يتخذ نموذجًا لأدبه ونبوغه، ولعل كثرة الإنتاج من شأنها دائمًا أن تؤدي إلى مثل هذه الحيرة عند الاختيار. لكننا يجب أن نعجب بهذا الكاتب الذي استطاع أن يكتب الرواية من ذوات الفصول الثلاثة في اليوم الواحد!

لم يكن «لوب» في تصويره لشخصياته يتقيد بنماذجَ معينة، فهو يطلق الشخصية على سجيتها لتكون مطابقة للحياة الإنسانية الصحيحة، ولم يأبه قط للأوضاع والقيود التي يُحتِّمها أصحاب المذاهب النظرية من رجال النقد، وهو في تلك الثورة شبيه بمعاصريه الروائيين في عصر اليصابات في إنجلترا. ولو قارنَّا بينه وبين شيكسبير لقلنا إن له ما لشيكسبير من نظرةٍ إنسانيةٍ واسعةٍ عميقة، ومن قدرةٍ في الملهاة فائقة، بحيث استطاع أن يرجَّ النظارة رجًّا من الضحك، لكنه بالطبع لم يبلغ ما بلغه ذلك الجبار من أوج، وخصوصًا في المأساة، ولعل ضعفه في الشعر هو الحائل المنيع الذي صدَّه عن مجاراة شيكسبير في المأساة كما جاراه في الملهاة، أو لعل كثرة إنتاجه وسرعته هما علة ضعفه، فقد كتب عشرة أمثال ما أنتجه شيكسبير.

(٣) بدرو كالدرون Pedro Calderon (١٦٠٠–١٦٨١م)

وأعقب «لوب دي فيجا» في الكتابة للمسرح «بدرو كالدرون» الذي يعده العالم أعظم كاتبٍ مسرحي شهدته إسبانيا، وعلة هذا التفضيل أن العالم لا يعرف «لوب» حق المعرفة. ومهما يكن من أمر، فقد أخذ «كالدرون» يكتب للمسرح بعد «لوب»، حتى أشرف القرن السابع عشر على ختامه، وكان أقل إنتاجًا من سلفه، لكنه كان أعظم منه شاعرية.

وقد ترجم «فتز جرلد» Fitz Gerald — مترجم رباعيات الخيام إلى الإنجليزية — ست روايات لكالدرون خيرها «عمدة زالاميا»، وهي تبرز نواحي الضعف في كالدرون كما تبين جوانب المقدرة سواء بسواء؛ فقد كان عسيرًا عليه أن يسلك أجزاء الرواية في وحدةٍ مسرحيةٍ متصلة، ففيها مأساة وفيها ملهاة، بل وفيها ألوانٌ أخرى من ضروب المسرحية، لكنه لم يوفق إلى صب هذه الأنواع المتباينة في قالبٍ واحدٍ متسق كما استطاع شيكسبير حين ألَّف في بعض رواياته بين المأساة والملهاة — مثال ذلك «قصة الشتاء» — ومما يؤخذ على كالدرون فوق ذلك استطراده وانحرافه عن الجادة كلما عن في سياق الرواية ما يغريه بالاستطراد والانحراف، فينتج عن هذا أن تكون الرواية سلسلة من المناظر التمثيلية لا أكثر ولا أقل، أضف إلى ذلك أنه يورد في الرواية أشخاصًا لا داعي لوجودهم، غير أن هذه العيوب كلها إنما تمس الرواية من حيث البناء والتأليف، وذلك لا ينفي أن تستمتع بالرواية جزءًا جزءًا، ففي كل منظر لذةٌ فنيةٌ قائمة بذاتها، وإن فشلت مجموعة المناظرة في أن تكون تأليفًا جميلًا.

ولئن فات «كالدرون» أن يكون رائعًا في تأليفه المسرحي، فقد كان بغير شك بارعًا في مواهبه الأدبية من حيث جمال التعبير، نعني بهذا أن رواياته كانت تعتمد في تأثيرها على جمال العبارة وقوتها لا على حوادثها وشخصياتها. ومما يستحق الذكر أيضًا أن «كالدرون» كان أمهر في بداية الرواية منه في ختامها — وهو عيبٌ ملحوظ في كثيرٍ من كتَّاب المسرحية — وأنه كان يقدم الشخصيات في سياق الرواية، لكنه يعجز عن تصويرها من نواحيها جميعًا، وبخاصة في شخصياته الهزلية، فكثيرًا ما كان بارعًا في تقديم الشخصية للوهلة الأولى، ثم لا يستطيع أن يواصل تصويرها كما بدأها، ولهذا ترى الشخصية في ملاهيه لا تضحك النظارة إلا بموقفٍ واحدٍ في أغلب الأحيان.

ومن رواياته التي ترجمها «فتز جرلد» غير «عمدة زالاميا» «مُصَوِّر العار» ورواية «احذر الماء الذي ينساب هادئًا»، وفيها تصوير بديع لأختَين مختلفتَي المزاج — هما كلارا ويوجينيا — أما الأولى فتحب الوداعة والتحفظ، وأما الثانية فتحب المرح والنشاط، استمع إليها — مثلًا — إذ هما تتحدثان في غرفةٍ من بيت أبيهما في مدريد:

كلارا : أحب في هذا المكان هدوءه.
يوجينيا : أريد الشوارع الصخَّابة مزهرة بحوانيتها وعرباتها وجنودها وسيداتها وفرسانها، أريدها بما فيها من غبار الصيف ووحل الشتاء، أريد مكانًا تجلس فيه المرأة خلف ستار النافذة فترى كل ما يمر في الطريق.

ذلك هو كالدرون بعيوبه ومزاياه، وقد وصفه «جيته» — وهو خير حَكَم في الإنتاج الأدبي — بقوله: «إن رواياته قد بلغت حد الكمال في فنها المسرحي.» لكنه عاد في موضعٍ آخر فقال عن شخصياته: «إنها متشابهة كأنها جنود صُفَّت كلها في قالبٍ من صفيح.» وحسبنا لكي نبيِّن ما بلغه كالدرون من البراعة في الفن المسرحي أن نشير إلى قصة تروى عن خفيرٍ كان ذات يوم بين النظارة، وجاء على المسرح منظر تُباع فيه البطلة الإسبانية لعربي، فانتفض الخفير شاهرًا سلاحه يردُّ ذلك العربي عن ابنة وطنه، ففي هذا دليل على ما في المنظر المسرحي من حياة وقرب من الواقع.

ولا نستطيع أن نطوي الحديث عن كالدرون قبل أن نشير إلى نوعٍ من المسرحية أجاد فيه إجادةً منقطعة النظير، ونعني به تلك الروايات الدينية التي تشبه «رواية المعجزة» التي سادت في فرنسا وإنجلترا — وسيأتي وصفها عند الكلام على الأدب الإنجليزي في عصر النهضة — وذلك أن عادة جرت بأن يمر في الشوارع موكب فيه أشخاص يمثلون بملابسهم ومواقفهم بعض المناظر الدينية، وقد ألَّف كالدرون من هذا النوع سبعين رواية.

(٤) لويس دي كامينس Louis de Camoëns (ولد عام ١٥٢٤م)

وجدير بنا في هذا المقام أن نوجِّه نظرنا لحظة إلى جارة إسبانيا وأختها الصغرى، وهي البرتغال، فنذكر أمير شعرائها في القرن السادس عشر «دي كامينس de Camoens» الذي كان بحارًا يضرب في المناطق البحرية المجهولة بسفينةٍ ضئيلة، فعلَّمته التجربة المرة القاسية كم عانى «فاسكو دي جاما» — المستكشف العظيم الذي دار حول رأس الرجاء — من أهوال، فأنشد الشاعر ملحمةً لا يغفل ذكرها مؤرخو الأدب الأوروبي، ففي هذه الملحمة التي يطلق عليها اسم «لوسياداس» Lusiadas أي سكان لوسيتانيا أو اللوسيتانيون [لاحظ أن اسم البرتغال كما ورد في الأساطير هو لوسيتانيا] يقصُّ قصة أمته، ويروي بطولة «فاسكو دي جاما»، بل إنه ليتجاوز ذلك، فيجعل ملحمته قصة الكشف البحري أينما كان. وقصة الكشف البحري تروعك بما بين الإنسان والموج من صراعٍ عنيفٍ جبار، وبما في استكشاف الأراضي الجديدة من نشوةٍ وانتصار، فجاءت «لوسياداس» أقوى ملحمة تدور حول أهوال البحر بعد «الأوذيسية»، فلو كان دي جاما شاعرًا، لما جرت شاعريته بأفضل من ملحمة «لوسياداس»، وقد ترجمها إلى الإنجليزية في القرن التاسع عشر «رتشارد بيرتن Richard Burton»، الذي كان مثل «دي كامينس» شاعرًا ومغامرًا.

وكان لهذه الملحمة فضلٌ وطنيٌّ عظيم، وذلك أنه لما احتل الإسبانيون لشبونة — عاصمة البرتغال — وجعلوا لغتهم الكاستيلية لغة البلاد الرسمية، وقفت ملحمة «لوسياد» وحدها تحتفظ باللغة القومية، وتثير في البرتغاليين غيرة على لغتهم أن تجتاحها لغة الإسبان الفاتحين، وإن في هذا لمثلًا قويًّا يساق لقدرة القلم أحيانًا على أن يقرر مصائر الأمم.

نهضت إسبانيا — كما رأيت — في القرنَين السادس عشر والسابع عشر نهضةً زاهرة، لكنها عادت فهوت إلى الحضيض في إنتاجها الأدبي، حتى إنك لا تكاد ترى فيها في القرنَين التاليَين أديبًا واحدًا يستحق أن يذكر إذا ما أردت أن تقص قصة الأدب في العالم.

١  اقرأ عن شوسر الفصل القادم.
٢  راجع فصل الأدب الروماني في الجزء الأول من قصة الأدب في العالم.
٣  Terza rima هذه الألفاظ إيطالية الأصل، وهي تطلق على قصائد من الشعر تتكون من وحدات. كل وحدة ثلاثة أبيات. ترى في الوحدة الأولى البيت الأول والثالث من قافيةٍ واحدة، بينما البيت الثاني يكون من قافية البيت الأول والبيت الثالث من الوحدة التالية وهكذا. ولقد ترجمناها حرفيًّا «بالقافية الثلاثية». وأما بارناسس فهو الجبل الذي تسكنه ربات الشعر ببلاد اليونان.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤