الفصل الثامن

جون مِلْتُنْ١ (١٦٠٨–١٦٧٤م)

انقضى عصر اليصابات بأدبه المرح الجذل الطروب، فلاحت في الأفق علائم عصرٍ جديدٍ وروحٍ جديد، فها هو القرن السابع عشر قد أقبل، ثم انتصف أو كاد، وها هي روح التَّزمُّت في الحياة والأدب قد ملكت على النفوس زمامها، وإنما تجسمت تلك الروح، وبلغت ذراها في شاعر العصر: جون مِلْتُنْ.

ولقد أجمع النقاد على أن «ملتن» أحد ثلاثة هم أعظم الشعراء قاطبة في الأدب الإنجليزي. ولسنا نعني بهذا أنك لا تجد بين أدباء الإنجليز عددًا من الشعراء قد يبلغ العشرين ممن يرتفعون في بعض أدبهم إلى الأوج الذي ارتفع إليه ملتن، وإنما نعني أن ما أداه هذا الشاعر العظيم من تجسيد روح عصره في شعره، ومن الصعود بشعره إلى أوجٍ لم يهبط منه، لم يتوافر في تاريخ الأدب الإنجليزي كله إلا في ثلاثة: «شيكسبير» و«ملتن» و«وردزورث». فقد تجد من شعراء عصر اليصابات من يبلغ في أروع إنتاجه مبلغ شيكسبير، لكنك لا تجد بينهم من يضارعه في اتساع أفقه، وفي المحافظة على ما ارتفع إليه، فكل ما أنتجه شعراء عصر اليصابات تجد له نظيرًا عند شيكسبير، والعكس غير صحيح، أعني أن لشيكسبير آياتٍ لا يدنو منها شيء مما أنتجه سائر الشعراء في عصره، وهكذا قل في «ملتن» و«وردزورث».

كان «ملتن» أصدق لسان يعبر عن خواطر عصره كله، فكانت له غايةٌ واحدةٌ رئيسية ينشدها في كل ما أنشد من الشعر، وما تلك الغاية المنشودة إلا بغية عصره، وأعني بها أن يقيم للناس برهانًا على عدل الله وحكمته، تلك هي غايته التي قصد إليها تلميحًا في شعره كله، وأفصح عنها تصريحًا في مطلع «الفردوس المفقود»، ولكي نفهم روح العصر الذي عاش فيه ملتن، نعود خطوةً إلى الوراء حيث عصر اليصابات، فماذا نرى؟ نرى حيويةً جارفة تسود العصر، حيوية تدفع الإنسان إلى الانغماس في كل ما يزيده استمتاعًا بالحياة دون أن يجد من العقل أو الضمير ما يكبحه، فمغامرات في جوف المحيط، وتلقف لكل ثقافةٍ جديدة يستخرجها رجال النهضة من أسفار القدماء، فعهد اليصابات في الأمة هو مرحلة الشباب الفتي الطموح، فيه تحطيم القيود الذي نعهده في الشباب، وفيه الأمل الباسم، وفيه الجدة والنضارة، وفيه الرغبة الملحَّة في تحصيل العلم، وفيه الخروج على معايير الأخلاق، وفيه حب الاستطلاع وركوب المخاطر مما نراه كذلك في فتوة الشباب.

فلما انقضت عن العصر دوافع الشباب ونزواته، وذهبت عنه نضارة الشباب وروعته، أقبل على الناس عهد استيقظ فيه الضمير ليحاسبهم على ما قدمت أيديهم في العهد الذي أدبر، عهد لم يعد يقبل الحياة بكل ما فيها وهو بها فرحٌ مغتبط، بل أخذ يقدر خيرية العمل وشريته قبل أدائه، عهد أراد فيه القوم أن يحتكموا إلى الكتاب المقدس كما هو بحروفه وألفاظه بغير تأويل وتحريف، وذلك هو عهد التَّزمُّت الديني الذي كان له شاعرنا جون ملتن لسانه المعبر الناطق.

«جون ملتن» سليل أسرةٍ من أوساط الناس، ولد في لندن عام ١٦٠٨م، وأكمل تعليمه في كيمبردج عام ١٦٣٢م، حيث درس الآداب القديمة درسًا دقيقًا، وغادر الجامعة وهو يعرف اللغة العبرية خير معرفة، كما يجيد من الآداب الحديثة الإنجليزي والإيطالي والفرنسي، وفضلًا عن ذلك فقد برع في الموسيقى، واستمد منها لذة ومتعة.

وما لنا نطيل الوقوف عند أنباء حياته، كأنه ليس أمامنا خضم من أدبه زاخر! فلنأخذ من فورنا في استعراض هذا التراث العظيم، وسنقسمه لتيسير دراسته إلى ثلاث مراحل:

(١) المرحلة الأولى

شعره قبل سنة ١٦٣٩م (أي قبل أن يجاوز الحادية والثلاثين من عمره).

كان من أروع شعره الذي أنتجه مذ غادر الجامعة حتى سنة ١٩٣٨م قصيدتا «لَلِجْرو»٢ (أو الطروب) و«إِلبِنْسروزو»٣ (أو المتأمل) ثم مُقنَّعةٌ مشهورة عنوانها «كومَسْ»،٤ وأخيرًا قصيدة تعدُّ من آيات الأدب الإنجليزي هي «لِسِداس»،٥ التي رثى بها صديقه «كِنْج».

ففي القصيدتَين المتعارضتَين «لِلَجْرو» و«إلبنسروزو» أي الطروب والمتأمل يصور لنا الشاعر الحياة كما تبدو في حالتَين مختلفتَين، يصورهما كما تبدو فيمن يستبشر بالحياة، ويطرب لها، ويسترعيه منها اللذائذ والمباهج، ثم يصوِّرها كما تبدو فيمن يغرق في تفكيره وتأمله، ويأخذ الحياة من جانبها الجاد الرصين، وهاتان الحالتان على اختلاف ما بينهما إنما تصوِّران وجهَين لحياة الشخص الواحد، فليس منا مَنْ لا يطرب للحياة ساعة، ثم لا يشهد فيها إلا الجد ساعةً أخرى، ففي قصيدة الطروب تلمح الشاعر وهو فرح بمباهج الطبيعة سعيدٌ هانئ، وفي قصيدة المتأمل تراه في تفكيره الجاد مُثْقل الفؤاد، مهموم النفس. ولقد كان يُظن أن ملتن أراد بالقصيدة الأولى أن يصور لنا الرجل من حاشية الملك في عصره، وقد كان فارغ القلب لا يرى في الحياة إلا لهوًا ومرحًا، وأنه أراد بالقصيدة الثانية أن يصور الرجل من «المتزمِّتين» الدينيين الذين كان الشاعر واحدًا منهم، وقد كان لا ينشد في الحياة إلا الجد الذي لا يعرف المزاح والعبث، ولكن عاد رجال النقد فبيَّنوا أن الشاعر لا يريد بقصيدتَيه إلا أن يصور نفسه بوجهَيها، فليس من اللذائذ التي يحتفل لها في قصيدة «للجرو» ما يتنافى مع خلق التَّزمت الديني الذي عُرف به ملتن، فمباهج النفس في هذه القصيدة هي الربيع ونضارة الصباح وتغريد القُبَّرة وشروق الشمس والرجال والنساء يشتغلون في الحقول، والقَصص يُروى بجوار المدفأة في المساء، وضجة الحياة في المدينة الشامخة بأبراجها والروايات التمثيلية تجرى على المسارح.

وأما في قصيدة «إلبنسروزو» فترى الشاعر بين كتبه في برجٍ عالٍ منعزل، يقرأ الفلسفة والعلم، وتراه إذا غادر برجه ليمشي فإنما يختار المماشي المنعزلة بين الأحراش، ويقصد إلى الكنائس التي بنيت على أساس الفن القوطي الجليل، تراه يلتفت إلى غروب الشمس لا إلى شروقها، وإذا أنصت إلى تغريد الطير، فإنما ينصت إلى البلبل وهو يغني في جوف الليل، هكذا يصور لك الشاعر نفسه في حالتَيه، لكنه يختار لنفسه الحالة الثانية ويؤثرها على الأولى.

استمع إليه في قصيدة «لَلِجْرو» — أي الطروب — وهو يقول على لسان شابٍّ جذل:

عنِّي أيتها الكآبة الكريهة، عنِّي.

•••

ثم أقبلي أيتها الآلهة الجميلة الطليقة،
يا مَنْ يُطْلَقُ عليها في السماء «يوفروزين»،
ويسميها الناس «بالمرح» المنفِّس للكروب.

•••

أقبلي وفي يُمْنى يديك هاتي
«الحريةَ» الجميلةَ عروس الجبال الشاهقات،
وإذا كرَّمْتُكِ يا ربة المرح بما تستحقين
فاسلكيني يا ربة المرح بين التابعين،
حتى أكون لها ولك في الحياة رفيقا،
فأعيش في بريء اللذائذ حرًّا طليقا،
وأسمع القُبَّرة وهي تأخذ في طيرها،
فتهز وهي تغنِّي جمودَ الليل بسحرها،
وتظل صداحة في برجها العالي في السماء،
حتى يشرق الفجر بطلعةٍ حسناء.

•••

سأظل أستمع إلى كلاب الصيد والبوق
في طربٍ توقظُ الصباحَ بعد رقاد،
من سفح تلٍّ أشيب،
بصرخة الصدى خلال الغابة العالية،
فآنًا تراني في غير خفاءٍ سائرًا
بجانب صفِّ الدوح فوق خُضْر التلال،
فأواجه في الشرق مدخلا
حيث تبدأ الشمس العظيمة موكبها الجليل،
ملفعةً بلهبٍ وضوء من كهرمان،
والسحائب ترتدي من ألوان الثياب ألوفا،
بينما الحَرَّاث مني قاب قوسين،
يَصْفُرُ فوق حقله المحروث،
وحالبةُ اللبن تغنِّي طربا،
وحاصدُ النجيل يُرْهِفُ منجلًا،
والرعاةُ كلٌّ يقصُّ قصته،
إِذْ تفيأ ظل الأشجار في الوادي.

وهكذا ترى الشاعر في حالة طربه وبهجة نفسه يتخير المواضع التي يرى أنها تزيده طربًا وبهجة.

أما في «إِلْبنسروزو» — أو قصيدة المتأمل — فتراه يهيب بصنوف المباهج الفارغة الخادعة أن تنفضَّ عنه فما هو لها ولا هي له، فهو الآن يريد أن يستمع إلى البلبل في صوته الحزين لا إلى القبَّرة في تغريدها الشجي، وهو الآن يريد أن يشهد المأساة على المسرح تبدو له بجلالها الرهيب، فهي أقرب إلى نفسه من ألوان المسرحيات الأخرى التي تزدان بصنوف الزخارف، كالمقنَّعات والمواكب التي عرفتها الأعوام السوالف، والتي صادفت هوًى عند «الطروب» في قصيدة «لَلِجْرو»، وهو يؤثر أنغام الأرغن الرزينة الرصينة على ألحان الغناء العذبة الشجية، ويفضل الحياة يملؤها العمل على الحياة تُقضى في أسباب المتعة.

وبعدُ فالقصيدتان في حقيقة أمرهما وحدةٌ متصلة؛ إذ هما تبينان معًا كيف تكون الحياة المعقولة بوجهَيها.

أما مُقنَّعَتُهُ٦ المشهورة «كُومَسْ»، فقد استمد مادتها من الأدب القديم ومن أدباء النهضة وعصر اليصابات على السواء، فقد رجع إلى أسطورة «سيرسي»٧ الساحرة التي وردت في الأوذيسية، وجعل «كُومَسْ» ثمرة اتصال هذه الساحرة «بباكس» — رب الخمر عند اليونان — وجمع فيه خصائص الأبوَين معًا، ولهذا فأنت تصادف في هذه المقنعة إشاراتٍ كثيرة للأساطير القديمة، كما تجد فيها ما يذكرك آنًا بعد آن بشيكسبير وسبنسر وفلتشر ممن استمدَّ منهم الشاعر واستعان بهم، أضف إلى هذا وذاك ما تراه في هذه المقنعة من عناصرَ فلسفية استقاها من أفلاطون، ومع ذلك كله فالأثر الأدبي في النهاية مطبوع بطابع الشاعر، وهو مبتكرٌ جديد، فيه ما امتاز به ملتن من نغمٍ في اللفظ وجلالٍ في المعنى.

تفقد البطلة في هذه المقنعة إخوتها في الغابة، فيأسرها الإله العربيد، ويحاول أن يعتدي على عفتها، لكنه يحاول عبثًا، فهيهات أن ينال من سيدة يصونها الطهر والفضيلة والعفاف، وكان يحرس السيدةَ روحٌ، فعمل هذا على أن يهدي إخوتها إلى مكانها، فيسرع إليها الإخوة ويطلقون سراحها، وينتزعون من الساحر جرعة السمِّ التي همَّ أن يصبَّها في أسيرته، وعندئذٍ يلوذ الساحر وأتباعه بالفرار.

اقرأ ما تقوله «السيدة» إذ ألفت نفسها في الغاب وحيدة:

… إن ألوف الأوهام
لتزدحم الآن في مخيلتي،
فأطيافٌ تنادي، وظلالٌ بشعة بأصابعها تشير،
وألسنةٌ من هواء تنطق بأسماء الرجال،
على الرمال والشطئان وفي قفر البوادي،
ولشدَّ ما تُفْزع هذه الخواطر، لكنها لن تطير شَعاعًا
بعقلٍ نشأ على الفضيلة، يسير دَوْمًا وفي حراسته
بطلٌ قويٌّ مخلص هو «الضمير».
مرحبًا أيها «الإيمان» الذي لم يزغ له بصر،
مرحبًا أيها «الأمل» الذي لم تلطخ له يد،
أيها المَلَكُ المحوِّمُ بأجنحةٍ من نُضار،
مرحبًا أيها «العفاف» الذي لم تَشُبْه الشوائب!
إني لأراك رأي العين، وها أنا ذا قد آمنت
أن الله — وهو «الخير الأسمى» — الذي ليست الشرور كلها
سوى رُسُلِ انتقامٍ تخدمه كالعبيد،
آمنت أن الله باعثٌ بحارسٍ لألاء إن دعا الداعي،
ليذود عن حياتي وشرفي عدوان المعتدي.

وإنما أراد مِلْتُنْ في «كومَسْ» أن يهاجم الإباحية وتحلل الأخلاق الذي شاع بين حاشية الملك شارل الأول، وأحبَّ أن يرسم لهؤلاء المستهترين مثلًا خلقيًّا أعلى مما يحتذون.

ونختم الحديث عن شعر المرحلة الأولى بكلمة عن قصيدة «لِسِداس» وهي المرثية الرائعة التي بكى بها الشاعر زميله في الدراسة «إدورد كِنْج» الذي ابتلعه اليمُّ وهو يعبر البحر إلى أيرلنده.

و«لسداس» قصيدة من الشعر الريفي،٨ الذي يحاول فيه الشاعر أن يُلْبس أشخاصه أثواب الرعاة، وأن يُنْطقهم بحديثهم، وأن يجعل الجو كله فواحًا بأريج الريف الساذج، فهو يطلق على صديقه «كنج» اسمًا ريفيًّا هو «لسداس»، وهو يشير إلى زمالتهما أيام الطلب في الجامعة بقوله:
… أُرْضعا رحيق تلٍّ واحد
وأطعما سويًّا من قطيعٍ واحد، إلى جانب الينبوع والظل والجدول.

وهو يستهل القصيدة بهذه الأبيات:

إني لأعودُ إليكِ من جديدٍ يا غصون الغار، ومن جديد
أعودُ إليك يا أشجار الآس الداكنة التي أبدًا لا يجف لبلابها،
وإنما جئتُ لأقطف منك الثمار فِجًّا نيئًا
وبهذه الأصابع العنيفة الغليظة
سوف أهشِّم منك الأوراق قبل أوان النضج٩
لكنها الضرورة المرة والحادث الحزين العزيز
ويدفعاني إلى القَطْف قبل أوان الثمر،
لأن «لسداس» قد مات، مات قبل ريعانه،
مات لسداس في شبابه ولم يخلِّفْ ضريبًا،
فمن ذا الذي لا يُنْشد الشعر من أجل لسداس؟
وهو الذي عرف كيف ينشد الشعر وينشئ سامي القريض،
إنه لا يجوز أن يطفو على كفن من الموج١٠
بغير رثاء، ولا أن تلفحه الرياح الحرور
دون أن نجزيه بدمعةٍ حارة.

كتب مِلْتُنْ قصيدة لسداس سنة ١٦٣٧م، وهو ما يزال في بيتٍ أبيه الذي أوى إليه بعد أن غادر الجامعة، ولم يكن بعدُ قد اشتغل بالحياة العملية، بل كان يواصل الدراسة بالقراءة، وفي العام نفسه ماتت أمه، فلم يلبث أن ارتحل إلى أوروبا يجوب أقطارها، وزار إيطاليا بصفةٍ خاصة، والتقى بأعلام الأدب فيها، وهنالك كتب بعض القصائد اللاتينية والإيطالية، ثم أسرع بالعودة إلى بلاده حين جاءته الأنباء أن حَبْلَ الأمور قد اضطرب فيها، وهنا تبدأ مرحلته الأدبية الثانية.

(٢) المرحلة الثانية ١٦٤٠–١٦٦٠م

في هذه المرحلة أنتج مؤلفاته السياسية وأدبه النثري، وكان من أول ما كتبه بعد عودته إلى لندن رسالةً صغيرة «في التربية» نشرت سنة ١٦٤٤م، وفيها يقترح أن تشمل تربية الناشئ ثقافةً عريضة تقوم على أساسَين هما: الآداب القديمة والمواد التي تنفع في الحياة العملية؛ فيدرس الطالب الأدب والفلسفة والسياسة والقانون والطب وفن الحروب، إذ لا بد أن يعنى في التربية بأجسام الناشئين وعقولهم ونفوسهم على السواء، ثم هو يوصي إلى جانب ذلك بالموسيقى التي تبعث البهجة في النفوس.

وكان قبل نشره لرسالة التربية قد كتب بضع رسائلَ دينية يدافع فيها عن عقيدة «المتزمتين»، وعقَّب عليها بمجموعةٍ أخرى من الرسائل الصغيرة تدور حول الطلاق ووجوب تنظيمه، وذلك على أثر فشله في زواجه، فقد كان تزوج من «ماري باول»١١ التي لم يطل بها العهد معه، حتى ذهبت في زيارةٍ إلى أبوَيها وأبت أن تعود إليه.

لكن حماسة ملتن في هذه الرسائل الخاصة بالطلاق سرعان ما فترت حين استسلمت له زوجته بعد نفور وعصيان، وأنجبت له ثلاث بنات، وعاشرته في هدوءٍ، حتى جاءتها المنية، وهي ما تزال شابة في عامها السادس والعشرين.

وننتقل الآن إلى أشهر ما جرت به يراعةُ مِلْتُن نثرًا، وأعني رسالة عنوانها «أرْيُو باجتكا»١٢ فقد حدث في سنة ١٦٤٣م أن فرض على النشر رقابة، بحيث لا ينشر كتابٌ جديد إلا إذا أجازته لجنة أقيمت لذلك، فقابل ملتن هذا النظام بالمقاومة والتحدي، ونشر أولى رسائله الخاصة بالطلاق دون أن يستأذن في نشرها الرقيب، وزاد في تهكمه بأن أهدى الرسالة إلى البرلمان الذي فرض تلك الرقابة الأدبية، ثم عقب على ذلك التحدي بنقدٍ صريحٍ وجَّهه للرقابة في هذه الرسالة التي نحدثك عنها، والتي عنوانها «أريو باجتكا خطبة موجهة إلى برلمان إنجلترا دفاعًا عن حرية الطباعة بغير رقابة»، وهاك نموذجًا من هذه الرسالة:

إننا نعلم أن الخير والشر في هذا العالم ينموان معًا لا يكادان ينفصلان … إنه من جوف تفاحةٍ واحدةٍ أكلها آدم قفزت إلى هذا العالم معرفة الخير ومعرفة الشر اختلطت إحداهما بالأخرى، بل ربما كان ذلك هو ما قدر لآدم أن يسقط فيه، وهو معرفة الخير والشر، أعني معرفة الخير عن طريق الشر، وإن كانت هذه هي طبيعة الإنسان فأية حكمة نستطيع أن نختار وأي جهدٍ يجب أن يبذل إذا اجتنبنا معرفة الشر؟ إن الذي في وسعه أن يرى الرذيلة وأن يفهمها بكل ما تحوي من مغريات ومتعٍ ظاهرة، ثم يمتنع عنها لِيختار لنفسه ما هو في حقيقته خير منها وأفضل لَهُوَ المسيحي الصحيح الذي يسير على الهدى. إني لا أستطيع أن أثني على فضيلة لاذت بالفرار وغلقت دونها الأبواب، فضيلة ينقصها المران والجهد، فضيلة لا تقتحم الحياة باحثةً عن عدوها لتهاجمه، بل تنكص على عقبيها وتخلِّف ميدان السباق، حيث الإكليل الخالد جدير أن يُجْرَى في سبيله ليُظفَر به، ولكن بعد عناء الحر والغبار … إذن فتلك الفضيلة التي تحجم عن التأمل في الرذيلة، والتي لا تدري كل ما تَعِده الرذيلة أتباعها من جزاء، ثم تنبذها بعد هذا، إنما هي فضيلةٌ خاوية وليست مقطوعاته بالفضيلة النقية، إن بياضها بياض الروث …

ولنمضِ الآن مسرعين، فلا نقف عند سائر نثره السياسي — الذي أخذ يخرجه رسالةً بعد رسالة، والذي أفقده البصر وهو في عامه الرابع والأربعين — لنقول كلمةً قصيرة في الشعرية ننتقل بعدها إلى آيته الكبرى «الفردوس المفقود».

فقد صمت ملتن عن قول الشعر عشرين عامًا امتدت منذ عودته من إيطاليا، حتى عادت الملكية إلى إنجلترا بعد أن أبعدت عن البلاد حينًا، كان يتولى الحكم فيه «كرمول» الذي كان شاعرنا من أنصاره، نقول قد صمت ملتن عن قول الشعر خلال تلك الأعوام العشرين التي تفرَّغ خلالها إلى النثر؛ لأنه أداة أنسب للعراك السياسي الذي اشتمل البلاد، صمت شاعرنا عن قرض الشعر إلا «مقطوعاتٍ شعرية» قالها بهذه المناسبة أو تلك، وبعض هذه المقطوعات ذاتيٌّ يعبر عن حالته الشخصية كالمقطوعة المشهورة التي قالها حين فقد البصر، وبعض المقطوعات متصل بالأحداث السياسية التي شغلت أكبر جهده وانصرف إليها أكثر نبوغه.

ولما كان عام ١٦٥٨م — وهو العام الذي فقد فيه زوجته الثانية التي أحبها حبًّا شديدًا١٣ — مات كرمول رئيس الجمهورية، فذهبت بموته آمال أنصار الجمهورية ومن بينهم ملتن، وما هو إلا أن عاد إلى البلاد شارل الثاني سنة ١٦٦٠م، حتى أوى الشاعر إلى مكانٍ يختبئ فيه لعله ينجو من الخطر الذي كان لا بد أن يحيق بأعداء الملكية، وظل في مخبئه حينًا، وأُحرقت بعض كتبه علنًا، وبهذا انتهى جهاده السياسي وانصرف بكل مجهوده إلى آياته الخالدات. وللمقطوعة الشعرية عند ملتن قافيةٌ خاصة به، يجاري «بترارك» في بعضها، وينفرد هو ببعضها، حتى أصبحت في مجموعها مطبوعةً بطابعه، تختلف عن المقطوعة عند سبنسر وعند شيكسبير؛ إذ كان لكل من هذين قافيته الخاصة وتقسيمه الخاص.

فالمقطوعة الشعرية — كما تعلم — قوامها دائمًا أربعة عشر بيتًا، إلا أن تقسيم هذه الأبيات ومجرى القوافي فيها يختلف عند الشعراء الذين عالجوها، فملتن يقسمها إلى رباعيتَين وثلاثيتَين أحيانًا، أو إلى رباعيتَين وثلاثة أزواج أحيانًا أخرى، وفي الحالة الأولى تجري القافية هكذا:

«أ – ب – ب – أ» «أ – ب – ب – أ» «ﺟ – د – ﻫ» «ﺟ – د – ﻫ».

وفي الحالة الثانية تكون القافية على هذا النحو:

«أ – ب – ب – أ» «أ – ب – ب – أ» «ﺟ – د» «ﺟ – د» «ﺟ – د».

وهو في الرباعيتَين يحذو حذو بترارك، ثم يجدد في الستة الأبيات الأخرى.

ومن أمثلة هذه المقطوعات:

في عماه

إني إذ أرى كيف غاب عن عيني الضياء،
وبتُّ أقضي نصف دهري في عالمٍ معتمٍ رحيب،
وكيف أصبحتْ نفحةُ الشعر التي إخفاؤها عندي كالموت الرهيب
معطلةً بغير جدوى رغم أن نفسي أشد انحناءً،
لعلي بالشعر أخدم خالقي،
فأقدم بين يديه — خوف اللوم — الحساب.
وهل يقتضينا الله واجب اليوم كاملًا، ودون الضوء حجاب؟
هكذا أسائل في عناءٍ، وسرعان ما أرد على الخوف المقلق:
ليس الله محتاجًا
من الإنسان إلى عمله ومواهبه؛
فخير من يخدمون الله هم خير من يصبرون على قضائه.
لله مُلْك الأرض والسماء، يأمر فتسرع الألوف
في البر والبحر لا تعرف قرارًا،
وكذلك يخدم الله من يصبر وينتظر.

(٣) المرحلة الثالثة ١٦٦٠–١٦٧٤م

ها قد زالت من الشاعر شواغله السياسية بعودة الملكية إلى إنجلترا، فانصرف إلى تحقيق أمنية طالما تمناها، وهي أن ينشئ في الشعر آيةً خالدة لا تعرف لها بين ما أنتج الشعراء ضريبًا، ففيم يكتب؟ أيختار «أرثر» بطلًا لآيته الكبرى التي اعتزم أن ينهض بإنشائها؟ لقد جال بنفسه هذا الخاطر، ثم لم يَطُل، ولم يلبث أن اتجه بفكره نحو موضوع قصيدتيه الكبراوين «الفردوس المفقود» و«الفردوس المردود». أما الأولى فتقصُّ ثورة الملائكة على الله، ثم كيف تم خلق الإنسان وإغراؤه وسقوطه طريدًا من الفردوس، وأما الثانية فتصف كيف حاول الشيطان أن يغري المسيح وهو في البيداء المقفرة بشتى المغريات، لكنه لم يوفق في إغرائه وخرج المسيح ظافرًا.

ونريد الآن أن نقف وقفةً طويلة عند «الفردوس المفقود»؛ لأنها في آداب العالم درةٌ فريدة.

تقع «الفردوس» في اثني عشر جزءًا، يمكن تقسيمها إلى ثلاث مجموعات، فثورة الملائكة وكفاحهم ضد الإله يشغل الجزء الأول والثاني والثالث، كما يشغل الشطر الأعظم من الجزأين الخامس والسادس، وخلق الإنسان وشفاعة المسيح له يرد ذكرها في الجزأين الأول والرابع، ثم يشغل جانبًا من الخامس والسابع والثامن، وإيقاع الشيطان بالإنسان، ثم عصيان آدم وحواء وطردهما من الجنة هو موضوع الأجزاء الباقية من التاسع إلى الثاني عشر.

وهاك خلاصةً لهذه الملحمة العظيمة.

يستهل الشاعر قصيدته بدعاءٍ يوجهه إلى ربة الشعر يستلهمها الوحي:

يا ربة الشعر أنشدينا:
كيف كان من الإنسان أول العصيان؟
ما تلكم الشجرة الحرام وما جناها؟

•••

فإياكِ أستعين على نشيدي العصيب،
الذي أعتزمُ ألا يلوى في تَحوامِه
حتى يحلِّق صاعدًا فوق سامق «أونيا»،
ينشد غايةً لم يحاولها قبلُ نثر ولا قصيد.

ثم يتجه الشاعر إلى المسيح:

وأنت يا ذا الروحُ إليك أنحو،
يا من يؤثر على جلاميد المعابد طهر القلب والتقوى،
فأْتني العلم إنك أنت العليم،
قد شهدتَ الوجود منذ فاتحة الوجود.

•••

اجْلُ يا ذا الروحُ قاتمي، وارفع وطيء دعائمي،
علِّي بهذا المقال الجليل أبلغ شأوًا،
فأكون للحكمة السرمدية ترجمانًا،
ولرحمة الله بالإنسان برهانًا
ألا حدثينا …
عن أبوينا الأولين: ماذا دعاهما …
أن يخرجا على «الباري» فيهويا، وأن يعصيا مشيئة الله
لمحظورٍ واحد؟
إنه «الأرقم» الرجيم ثارت غيلتُه
حقدًا وغِلًّا، فمكر بأم البشر.

•••

فقد دعاه الأملُ الطامع في العرش والملكوت
أن يثير في الجنة حربًا وقودها الغرور والفجور،
فخاب الرجاء، إذ طوَّح به الله ذو الجبروت،
فهوى من السماء يتَّقِدُ لهيبا …
وتردَّى في هاويةٍ ما لها من قرار، بها يأوي
مغلولًا بصمِّ السلاسل يصطلي النار جزاءً …
وفي قرارٍ مهواه تِسْعُ فضاوات
مما يذرع به الأناسي خطو الليل والنهار؛
تردَّى الأثيم هزيلًا بصحبة شيعته
يتقلَّب في حمأة الجحيم …

•••

ورأى ما حوله موحشًا قفرًا يبابا،
ورآه في جبٍّ مخيف التهبت جوانبه التهابًا،
كأنه أتون سحيقٍ مستعر، ناره لا تبعث النور.

•••

فهو ما ينفك يصلى عذابًا مقيمًا وطوفانًا من حميم،
تغذو لظاه شواظ تذكو أبدًا ولا تخبو،
فذلك مستقر العصاة كما أراده عدل الإله.

•••

وهنالك سرعان ما شهد الأثيم رفاق هُوِيِّه
… ورأى إلى جواره … «إبليس»،
فاتجه إليه كبير أعداء الله،
وهو من سمي في السماء منذ ذلك الحين «شيطانا».
وألقى عبارةً جريئة دوَّتْ في ذلك السكون الرهيب، فقال:
«أفأنت هو؟»
لئن كنتَ من وشجني به يومًا
تبادل العهد واجتماع الرأي والكلمة، واتحاد الأمل،

•••

فها هي ذي أواصر الشقاء توشج اليوم بيننا، فتوحِّدُ هُلْكنا،
أرأيت إلى أي هاويةٍ أوينا، ومن أي الذُّرى هوينا؟
ألا إن الله في غضبته، ساق الدليل على رجحان قوته …
ولكني على ذاك لست بنادم، وإن صبَّ علينا «الظافر» القادر
ما استطاع في صورته من صنوف العذاب،
فعزمي المصمم لن يحول، وإن حالَ مني رونق الإهاب.

•••

وماذا إن فاتنا النصر في حومة الوغى؟
فنحن بذاك لا نفقد كل شيء
وهل يكون هزيمًا من له هذا العزم الحديد،
والثأر السديد والمقت الذي لا يزول؟
ومن له هذا الجنان الذي لا يلين ولا يحول؟
فما كان أَخَسَّها ضعةً
لو أني جثوت له مسترحمًا وركعت ضارعًا!

•••

فلنثرها على عدوِّنا الألدِّ — بالقتل أو بالختل — حربًا عوانًا.

•••

فلم يلبث رفيقه الجريء أن أجاب:
مولاي! وأنت زعيم العديد من العُتاة مُتَوَّجين
قُدْتَ إلى الوغى تحت لوائك «السيروفيم» مدجَّجين.

•••

يا ويح نفسي أن ترى جليًّا هذا الخطب الرهيب،
الذي طَوَّحنا فأشجانا وهَزَمَنا فأردانا،
وأضاع منا الجنة، وهوينا به إلى هذا الحضيض!

•••

لم لا يكون الله قد أبقى على نفوسنا وقوانا،
فلم ينتقصها ليشتدَّ أذانًا ونضطلع بمرِّ العذاب،
لكي يرضي فينا غيظه الناقم،
أو ليأمرنا بما شاء من فادح الأعمال، فنستطيع الأداء؟
فقد أمسينا له — بحق النصر — عبيدًا أرقَّاء،
إن شاء أصلانا النار في قلب الجحيم،
وإن شاء سخَّرنا في اللج البهيم،
فإن أحسسنا بالقوة موفورةً، فأين في ذلك الغَنَاء؟
وهل أجدى علينا خلود البقاء إلا دوام الشقاء؟

وأخيرًا احتشد الملائكة الثائرون وتوسطهم الشيطان وخطب فيهم بعزمه على مقاتلة الله تعالى، فاجتمعوا يتداولون الرأي، فمنهم من يؤيد فكرة القتال ومنهم من يفنِّدها، وأخيرًا نهض إبليس — وهو الذي يتلو الشيطان في رفعة المقام — واقترح رأيًا كان قد سبقه إليه الشيطان، وهو أن يحاربوا الله في مخلوقه الجديد وهو الإنسان، وصادف الاقتراح قبولًا، لكن نشأت مشكلة وهي: مَنْ ذا الذي ينهض بعبء البحث عن العالم الجديد الذي فيه الإنسان، وعندئذٍ تطوَّع الشيطان نفسه أن يأخذ على نفسه هذه المهمة، وانفض اجتماع الملائكة الثائرين، وانصرف كلٌّ إلى سبيله، فهذا إلى رياضة، وذاك إلى قتال، وثالث إلى جدال، وأما الشيطان فقد شق بجناحيه الطريق إلى أبواب الجحيم التسعة، تحرسه «الخطيئة» وابنها الشائه وهو «الموت»، وفتحت «الخطيئة» أبواب الجحيم للشيطان فخرج منها طائرًا.

•••

هنا يتوجه الشاعر بالقول إلى «الضياء» ويرثي لعماه، ليتخذ من ذلك مقدمة ينتقل منها إلى صورة يصور فيها السماء ويصور حديثًا يدور بين «الأب» (الله) و«ابنه» (المسيح):

عليك سلام الله أيها الضياء الأقدس، يا أول ما أنجبت السماء!
أنت الذي تفجَّر من ذاتٍ ساطعةٍ فيضًا ساطعًا،
ومن يدري أي نبع سقاك؟ فقد كنت — يا ضوءُ —
قبل أن تكون الشمس وقبل أن تُرْفع السماء، ثم جاء أمر الله،
فكسوت يا ضوء — كأنك الثوب —
عالمًا نهض من الماء العميق،
عالمًا نشأ من العدم وخرج من عماء اللانهاية!
لكنك لم تَعُدْ إلى عيني اللتين تدوران عبثًا في المحاجر،
تبغيان منك شعاعًا نافذًا، لكن ليلهما بغير فجر!
كلما حال الحول عادت الفصول، والنهار
ليس إليَّ يعود، كلا ولا حلو البوادر التي تنبئ باقتراب المساء والصباح،
ولا يعود إليَّ رونق الربيع المزدهر ولا وَرْدُ الصيف،
ولا قطعان الأغنام والماشية ولا طلعة الإنسان الإلهية،
ففي مكان ذلك كله أرى قتامًا، والظلام السرمدي
يحيط بي فيباعد بيني وبين حياة الناس البهيجة.
ويرى الله الشيطان يدنو من العالم فيتنبأ «لابنه» بسقوط الإنسان، ثم يسأله: أين الحبُّ الذي يرضي العدالة الإلهية ويخلص الإنسان من زلَّته، فيجيب الابن:
احشرني في زمرة الإنسان، ففي سبيل الإنسان
أنزع نفسي عن صدرك، وسأرجئ — مختارًا —
هذا المجد الذي يتلو مجدك، وفي سبيل الإنسان سأموت
راضيًا، فدع «الموت» ينقضُّ عَلَيَّ بغضبته،
فلن أظل في هزيمتي أمدًا طويلًا.
وبينما الملائكة يرتلون ويسبِّحون اقترب الشيطان من العالم، وأبصر بالشمس والأرض والقمر، فدنا من الشمس، حيث التقى بأوريل وخاطبه قائلا:
… يا أسطع ملائكة السيرافيم،
نَبِّئْني: أين من هذه الأفلاك المشرقة
قد اتخذ الإنسان لنفسه مقامًا دائمًا؟
فأجابه أوريل:
تلك الأرض مقر الإنسان ومقامه، وذلك الضوء
نهاره، ولولاه لطمسه حالك الليل …
وهذا المكان الذي أشير إليه هو الفردوس،
هو موطن آدم، وتلك الظلال السامقة مسكنه.
سمع الشيطان جواب أوريل، فانحنى له إجلالًا، وانصرف.
ويمَّمَ شطر الأرض يملؤه النجاح المأمول، فلما دنا الشيطان من الفردوس استيقظ ضميره، وارتاع لهول الفعلة الشنعاء التي يُقْبل على اقترافها فصاح:
يا لشقوتي! أين أنفث من نفسي،
نقمةً ليست تُحَدُّ ويأسًا لا ينتهي!
فأينما حللتُ كان جحيمًا؛ لأني في نفسي جحيم.
ولما اقترب من الفردوس أثرت فيه روعة المكان وجماله، كما يحدث لمن يجتازون بسفنهم رأس الرجاء، ويتوغلون في المحيط، فتهب عليهم رياح من الشمال الشرقي تفوح بعطر التوابل الذي تحمله إذ تمر على جزيرة العرب المباركة، فيتلكئون ويتراخون في السير إذ تأخذهم نشوة الأريج الطائر مع الريح، فهكذا أنعش أريج الفردوس في الشيطان الذي أخذ يقلب النظر في صنوف الخلائق التي لم يكن له بها عهد، وأخيرًا وقعت عينه على الإنسان:
اثنان هما أنبل الخلائق صورة، مستقيمان ممشوقان،
… كأنهما على الجميع سيدان،
وعليهما جلال؛ إذ في طلعتَيهما الإلهيتَين،
أشرقت صورة الخالق المجيد …
أما الرجل ففيه التأمل وشدة البأس،
وأما هي ففيها الطراوة والرشاقة الحلوة الجذابة،
… هكذا مضى الزوجان يدًا في يد،
أجمل ما يكون الزوجان مذ عرف الحبُّ لقاء الزوجين،
فآدم خير الرجال منذ نسل الأبناء،
وحواء بين بناتها أجمل النساء.
فلما رأى الشيطان آدم وحواء في مثل ذاك الجلال والجمال يسيران، أخذته الدهشة للمرة الثانية، وأخذ يتلوَّن في صورٍ مختلفة من صنوف الحيوان، ودنا منهما لينصت إلى حديثهما، فعرف من آدم أن شيئًا واحدًا حرم عليهما في الجنة، وهو أن يأكلا من شجرة المعرفة، وسمع حواء وهي تقول لزوجها إنها شهدت صورتها معكوسة في الماء، فظنت أنها أجمل مخلوقات الله، بل أجمل من آدم.
… حتى أمسكت يدي بيدك الرقيقة،
فأذعنتُ، وعرفت منذ ذلك الحين،
كيف تعلو الرجولة برشاقتها وحكمتها على جمال النساء.
وأخذ الشيطان يجوس خلال الفردوس، وبينا هو كذلك إذا بأوريل يهبط على شعاعٍ من أشعة الشمس الغاربة لينذر جبريل — وهو على رأس الملائكة الحارسين — بأن مَلَكًا يثير الريبة بنظراته قد تسلل إلى الأرض، فوعده جبريل أن يكشف أمره قبل طلوع الفجر.
وأقبل المساء الساكن، وانتشر الشفق في لون الرماد،
فلفَّ كل الكائنات بثوبه الهادئ،
وساد الصمت، وأوى الحيوان والطير،
إلى معشوشب المخادع، فاستكنَّ الطير في أعشاشه،
وراح في نعاس، إلا البلبل اليقظان،
طفق يغرد طوال الليل أناشيد الغزل،
وأخذ آدم وحواء يتحدثان قبل أن يأويا إلى مخدعهما، فقالت حواء:
حلوة أنفاس الصباح، هذا الإِصباح ما أحلاه،
مع البواكير من فاتن الطير، وما أجمل الشمس،
أول ما نشرت — فوق هذه الأرض الحبيبة —
أشعتها الشرقية على العشب والشجر، والثمر والزهر،
وهي تتلألأ بقطرات النَّدى، ما أمتع عطر الأرض الخصيبة
بعد الرذاذ الرخي! وما أحلى قدوم
المساء الجميل! ثم ما أجمل الليل الساكن،
بطيره هذا الوقور، وهذا القمر الجميل،
وتلك اللآلئ السواطع في السماء، هذه الأنجم المحتشدة!
لكن لا أنفاسُ الصبح حين يصبح،
مفتونًا بسحر بواكير الطير، ولا الشمس حين تشرق،
على هذه الأرض الحبيبة، ولا العشبُ ولا الثمر ولا الزهر
وهي تتلألأ بالنَّدى، ولا الشَّذى بعد الرذاذ،
ولا المساء الجميل ولا الليل الساكن
بطيره هذا الوقور، ولا السير في ضياء القمر
أو في ضوء النجوم المتلألئ؛ حلوٌ بغيرك،
ولكن أين تضيء هذه الأفلاك طيلة الليل؟ ولمن
هذا المنظر الفاتن حين يأخذ الكرى بمعاقد الأجفان؟
فيجيبها آدم قائلًا:
لا بد لها أن تقطع أفلاكها حول الأرض،
وهي إذا لم تشهدها الأبصار في جوف الليل
فلا تضيء عبثًا، لا تظنِّي أنه بغير الأناسيِّ
يعوزُ السماء راءوها، وينقص الله حامدوه،
فألوف الملائكة تقطع الأرض سيرًا
في خفاء، حين نستيقظ وحين يأخذنا النعاس،
وكل هؤلاء يرون آيات الله ويحمدونه حمدًا لا ينقطع
إن أصبح صباح أو أمسى مساء …
ومضى آدم وحواء إلى حيث يقضيان الليل، فأرسل جبريل أعوانه ليتولوا الحراسة، وأمر «إثوريل» و«زيفون» أن يبحثا في أرجاء الفردوس عن الشيطان الهارب، فوجداه جالسًا على مقربةٍ من حواء يلون لها أحلامها بما يريد، فمدَّ «إثوريل» رمحه ومسَّه به مسًّا رفيقًا؛ ففزع الشيطان وارتدَّ إلى صورته، وسيق إلى جبريل الذي أخذ يجادله وكاد يقاتله، لولا أن تذكر الشيطان أنه لا يستطيع النصر في قتالٍ مكشوف، فلاذ بالفرار، وتفرقت معه ظلال الليل.
ولما استيقظ آدم في الصباح، رأى حواء قد احمرَّت خجلًا وحيرة، وقصَّتْ عليه أحلامها المخيفة، فسرَّى عنها كربها، ومضيا إلى مكانٍ من الأرض الفضاء، وأخذا يرتلان ترنيمة الحمد لله.
عندئذٍ أرسل الله روفائيل من السماء؛ لينذر آدم وحواء بالخطر الداهم، فأنبأهما نبأ عصيان الشيطان وسقوطه من السماء، وكيف أعد الشيطان عدته للثورة والقتال، وأمر جبريل وميكائيل أن يقودا جند السماء في وجه هذا الثائر، ونشب بين الفريقَين قتالٌ دام سجالًا، وفي اليوم الثالث أرسل الله المسيح في عربة ليقف القتال:
وحلَّ بينهم يحمل في يمناه
عشرة آلاف من قواصف الرعد، يرمي بها
إلى أَمام، فنزلت في نفوسهم منزل الطاعون،
وأخذتهم الدهشة فوقفوا لا يقاومون،
وطارت عنهم بسالتهم، وتهاوى كليلُ سلاحهم،
وفزعوا جازعين لهذا المنظر المخيف
فقذفوا بأنفسهم رءوسًا على أعقاب
من حافة السماء هُوِيًّا، وغضبة الله
تشتعل في إثرهم، وهم يهوون في هاويةٍ ما لها من قرار.
وأنذر روفائيل آدم بمثل هذا القضاء يصيب الإنسان لو اقترف جريرة العصيان.
ولما كان روفائيل في الفردوس لجأ الشيطان إلى التخفي، فاختفى سبع ليالٍ، كان خلالها يتشكل في هيئة الضباب فلا تراه الأبصار، ودخل في جوف الحيَّة؛ لأنها أنسب أداة للخداع.
وأقبل الصباح، وهمَّ آدم وحواء أن يعملا، فاقترحت حواء أن يبعد كلٌّ منهما عن الآخر أثناء قيامهما بالعمل؛ لأنهما إذ يقتربان يتبادلان النظرات والبسمات والأحاديث، فيدافع آدم عن وجوب «هذا اللقاء الحلو بين النظرات والبسمات»؛ لأنهما ما خلقا للعمل المُضني، إنما أريد لهما أن يعملا عملًا هينًا لذيذًا.
فإن تكوني قد مَلِلْتِ الإفراط في الحديث،
ففي وسعي أن أغيب عنك برهة قصيرة،
فقد تكون العزلة خير رفيق،
والاعتزال القصير يدعو إلى حلو اللقاء،
لكن شكًّا يساورني، فإني لأخشى
أن يلحق بك الضرُّ …
لكن حواء طمأنته بأنها لن تقع فريسةً لخداع العدو المتربص إن كان ثمة عدوٍّ متربص. وأجابها آدم بأنه يخشى عليها الإغراء، وأنهما لو سارا معًا كانا أكثر حذرًا وحيطة، فأبت حواء أن تُذعن ومضت وحدها، وما هي إلا أن صادفها الشيطان وحيدة، فوقف أمامها وقد تقمَّص الحيَّة، وأبدى لها من الإعجاب ما يبديه العابد نحو معبوده، وأخذ يخاطبها بلسان البشر: «يا أميرة هذا العالم الجميل! يا حواء الباهرة!» فسألت حواء: كيف أمكن للوحش أن ينطق بلسان الإنسان؟ فأجاب بأنها قدرة استمدها حين أكل ثمرة شجرةٍ معينة، فقد بثت فيه تلك الثمرة عقلًا مفكرًا، وحملته على عبادة حواء؛ لأنها «مليكة على الخلق»، فطلبت إليه حواء أن يدلَّها على مكان تلك الشجرة ذات الثمر العجيب، فأسرع بها إلى «الشجرة المحرمة»، ولما ساورتها الوساوس والمخاوف قال:
يا مليكة هذا الكون! لا تُلْقي بالًا
إلى ذاك الوعيد بالموت، لن تموتي.
وكيف تموتين؟ أبالثمرة تموتين؟ إنها تهبك الطريق
إلى العرفان؟ أيقتلك صاحب الوعيد؟ انظري إليَّ،
أنا الذي أَمْسَكَ بالثمرة وذاقها، ها أنا ذا أحيا،
بل علوت بحياتي عما أراد لي «القدر»؛
لأني لم أرضَ بما قسم لي فغامرت طامحًا،
أَيُغْلَقُ دون الإنسان ما انفتح للحيوان؟
أم هل يغضب الله حقدًا
على هذا العدوان الجميل؟
يستحيل على الله أن يصيبك بالأذى إن كان عادلا،
فيأَيَّتُها الإلهة البشرية أقدمي، كلي الثمرة ولا تحجمي!
ووقعت كلمات الشيطان من حواء موقع القبول، فأخذت تقول:
… يوم نأكل
هذه الثمرة الجميلة كتب علينا أن نموت!
أين الموت من هذه الحية؟ إنها أكلتها ولا تزال حيَّة،
وباتت ذات علم تتحدث وتفكر وتدرك،
وكانت بغير عقل حتى أكلت، ألنا وحدنا
خُلق الموت! أم حرامٌ علينا
هذا الغذاء العقلي، حلالٌ للحيوان؟
ها هنا شفاء الجميع، هذه الفاكهة المقدسة
جميلة في مرأى العين، وتستثير الذوق …
فماذا يمنعني أن أدنو منها لأطعم جسمي وعقلي معًا؟
… قالت هذا وامتدت إلى الثمرة يدها الرعناء،
واقتطفتها ثم أكلت …
وتاهت حواء عُجْبًا بنفسها أول الأمر، ثم أخذت تتساءل ماذا عسى أن يكون وقع ذلك النبأ على آدم؟ وقالت لنفسها لتخفف من ألمها:
ربما كنتُ الآن في مكانٍ خفيٍّ، إن السماء عالية
عالية! إنها قصيَّةٌ لا تَرَى على هذا البعد في وضوح
كلَّ شيء على الأرض، وربما كانت الشواغل
قد صرفت عن رقابتنا
«حارمنا» العظيم …
ولكن أي صورةٍ أبدو لآدم؟ أأنبئه
بما اعتراني من تغير؟
ماذا لو كان الله قد رآني،
فجاءني الموت تباعًا؟ إذن فمصيري إلى فناء،
ويزوَّج آدم من حواء غيري،
ويحيا معها في نعيم، أنا أموت!
وَيحي! لقد حزمتُ أمري إذن، لقد اعتزمتُ
أن يقاسمني نعيمي وشقوتي،
إني أحبه حبًّا يجعلني أحتمل الموت في صحبته،
وبغيره لا أطيق الحياة
… وآدم عندئذٍ
ينتظر عودتها في شوق، وضفر لها
إكليلًا من أحاسن الزهر ليزيِّن جدائلها.
لكن جاءت حواء، وعلم منها بعصيانها، فوقف واجمًا، وسقط من يده الإكليل الذي ضفره لحواء، ثم التفت إلى حواء، وأخذ يسري عنها:
قد لا تموتين …
فما أحسب أن الله، وهو الخالق الحكيم،
— رغم وعيده — سيعمل جادًّا على فنائنا،
ونحن زهرة خلقه …
وعلى أية حال فقد وصلْتُ مصيرك بمصيري،
واعتزمتُ أن أقاسي ما تقاسين من قضاء،
فلو دهمك الموت، كان الموت لي كالحياة.
وناولته حواء الفاكهة المغرية الجميلة، فلم يحجم عن أكلها، مع أنه يعلم وخيم العواقب، ولم يكن مخدوعًا كما كانت حواء، لكن كيف له أن يقاوم سحر المرأة؟ وسرعان ما أحسَّ كلاهما الندم على فعلته، واختفيا في الغابة، وتدثرا بأوراق الشجر، وأخذا يبكيان ويوجه أحدهما اللوم للآخر، فصاح آدم:
هلَّا أصْغيت لكلماتي ولبثت
معي — كما رجوتك — حين تمكنتْ
منك تلك الرغبة العجيبة في التجوال هذا الصباح المنكود!
فقالت حواء:
ولو بقيت أنت على رأيك ثابتًا
لما زللتُ ولا زللتَ معي.
وعاد ملائكة الحراسة إلى السماء ثقَالَ الخُطَا ليبلغوا فشلهم، فعلموا من الله أن القضاء محتوم، وأرسل «ابنه» إلى الأرض ليحاكم الزوجَين، ولينزل بهما العقاب لَعْنَتَيْن، هما العمل والموت، ومن ناحيةٍ أخرى اتخذ الشيطان «الخطيئة» و«الموت» مُعينَيْن له على الأرض.
وتاب آدم وحواء فاستجاب لهما الله، وأرسل إليهما ميكائيل ليعلن أن الموت لن يقع عليهما حتى يكملا التوبة، أما الفردوس فلن يعود لهما مقرًّا، فأخذت حواء تنظر إلى الفردوس بعينٍ باكية، واستسلم آدم لعبراته.
وآن أوان الخروج، فهبط آدم وحواء إلى الأرض، وأخذا يضربان في أرجائها يدًا في يدٍ يسيران بخطوٍ وئيد …

تلك خلاصة «الفردوس المفقود»، مما أخذ عليها أن الشاعر — أراد أو لم يرد — أن يكون بطله الشيطان لا آدم، وقد يكون ذلك صحيحًا في الجزأين الأوَّلين من الملحمة، اللذين اضطر فيهما الشاعر أن يجعل الشيطان شديد البأس، قوي العزيمة، ليهيئ الطريق للصراع العنيف المقبل، وليثير الإشفاق والخوف في نفس القارئ، حتى يزداد عطفه على أبوَيه الأوَّلين، ويزداد شكره لمن مهد له الخلاص، لكن لم يَفُت الشاعر بعد ذلك أن ينْقص من جبروت الشيطان شيئًا فشيئًا، حتى تضاءل وهَزُلَ في «الفردوس المردود». ألا تذكر حين كان الشيطان متنكرًا يُسِرُّ في أذن حواء وهي نائمة، كيف فزع حين لمسه «إثوريل» برمحه؟

«الإنسان» لا «الشيطان» هو بطل الملحمة، فهو يستدر عطف القارئ على الرغم من هزيمته، ثم تجيء بعد ذلك قصيدة «الفردوس المردود»، فينتصر فيها الإنسان الإلهي على مغريات الشيطان نصرًا حاسمًا.

وللشاعر عدا هذا كله قصيدةٌ رائعة عنوانها «شمشون الجبار»،١٤ هي أقرب إلى المأساة المسرحية منها إلى القصيدة، وهو يصور نفسه في شمشون، فقد عانى من النساء مثل ما عاناه شمشون، وكُفَّ بصره كما حدث لشمشون، ووقع أسير أعدائه كما وقع شمشون.
١  Gohn Milton.
٢  L’Allegro.
٣  Il Penseroso.
٤  Comus.
٥  Lycidas.
٦  راجع ما قُلناه في «المقنعات» عند الحديث على «بن جونسن».
٧  راجع هذه الأسطورة في تلخيصنا للأوذيسية في الجزء الأول من هذا الكتاب.
٨  راجع نشأة الشعر الريفي في الجزء الأول من هذا الكتاب صفحة ١٨٣ وما بعدها.
٩  المقصود بغصون الغار وأشجار الآس هو الشعر، ومجمل المعنى أنه يعتذر للشعر إذ يحاوله قبل أن تنضج فيه ملكته.
١٠  يشير إلى موت صديقه غرقًا.
١١  Mary Powell.
١٢  Areop Agitica وهذا العنوان مستمدٌّ من عنوان خطابٍ مكتوبٍ لخطيبٍ يوناني هو إيزوقراط، وجهه إلى مجلس أثينا الوطني، ووجه الشبه هو أن كليهما خطبةٌ مكتوبة يوجهها الخطيب إلى نواب الأمة، وإنما أطلقت على خطبة إيزوقراط هذا الاسم؛ لأن نواب أثينا كانوا يجتمعون على جبل اشتقت من اسمه هذه التسمية.
١٣  تزوج ملتن بعد موت هذه الزوجة من زوجةٍ ثالثة.
١٤  Samson Agonistes أجلت قصة شمشون في فصل الأدب العبري في الجزء الأول من هذا الكتاب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤