تمهيد

في عام ١٩٢٥ وجدت في يدي مؤلَّفًا نفيسًا فذًّا في بابه في الأدب المصري القديم، ألَّفه الأستاذ «إرمان» شيخ علماء اللغة المصرية القديمة، وكنت أقرأ الكتاب في لذة وشغف، وأعطيه مزيدًا من وقتي وعنايتي، فاقتنعت بأنه كتاب مفيد، منقطع القرين في بابه، ووثبت إلى ذهني إذ ذاك فكرةُ ترجمتِه حتى أشرك معي أبناء مصر في فهم أدبهم المصري القديم وتذوقه، بعد أن قُدِّر له النشور مرة أخرى.

ولقد أخذَتْ هذه الفكرة تخط مجراها في خاطري، وتتشبع بها روحي، حتى استقرت واحتلت مكانها؛ فاصطحبت معي هذا الكتاب سنة ١٩٣١، وسافرت إلى أوروبا، واخترت بلدة «لوجانو» الهادئة ﺑ «سويسرا» مكانًا أستعين فيه بسحر الطبيعة ومفاتنها على إتمام ما قصدت إليه، ولقد أتممت ترجمة معظم الكتاب حينئذٍ، ولكن كثرة الأعمال حالت دون طبعه وإظهاره، فبقي هادئًا في مضجعه، قانعًا بركن صغير من مكتبتي، حتى أتى عام ١٩٤٠، فأخذت أوقظه مرة أخرى، وأنشره مرة وأطويه مرة، فأوحى ذلك إليَّ بفكرة جديدة، فلم تَعُدْ ترجمة الكتاب وحدها ترضيني، ولا التعليق عليها يطفئ رغبتي، بعد أن مضى عليها ذلك الزمن الطويل، وبعد أن مرت أحداث وَجَدَّتْ كشوفٌ غيَّرت بعض الحقائق القديمة، بل قلبت بعضها رأسًا على عقب، وبعد أن ظهرت مؤلَّفات لعلماء الآثار ذلَّلوا فيها بعض عقبات اللغة المصرية القديمة، ووضحوا كثيرًا من معالمها؛ فعقدتُ النية على الكتابة في الأدب المصري القديم، ومعالجة موضوعه على ضوء الأُسُس العلمية الحديثة، وتتبع كل لون من ألوانه، وإظهار خصائصه ومميزاته في العصور القديمة التي حصرت بحثي في دائرتها، وزادني اقتناعًا أن كتاب الأستاذ «ماكس بيبر» الذي وضعه عام ١٩٢٧ في هذا الموضوع كان مقتضبًا بسيطًا تنقصه النماذج الكثيرة التي هي مادة تاريخ الأدب وروحه، وأن كتاب الأستاذ «إرمان» السابق الذكر لم يكن إلا مختارات معروضة خالية من البحث والدرس والموازنة والنتيجة، هذا فضلًا عما ينقصه من البحوث الجديدة التي غيَّرت وجه الأدب المصري، وحتَّمت النظر إليه على ضوء جديد.

والباحث في الأدب المصري القديم يعاني من التعب وكد الذهن والحيرة ما لا يعانيه باحث في لغة من اللغات الحديثة في أي عصر من عصورها؛ فإنك إذا أردتَ أن تتحدث عن تاريخ الأدب العربي في العصر العباسي — مثلًا — جمعتَ ما وعته الكتب والحافظة من نماذج الأدب المختلفة، وأحطْتَ بشئون العرب السياسية والاجتماعية والإقليمية في هذا العصر، ثم سلطتَ على هذه العناصر شعاعات فكرك فاستخلصت منها أصولًا وأحكامًا صادقة تسوقها للناس قاطعًا بها، أو على الأقل مقتنعًا تمام الاقتناع بصحتها، وعندك الشواهد والأمثلة التي لا شك في معانيها أو مراميها، تقدِّمها بين يدي بحثك فتعزِّز بها رأيك، وتخرج بالنتيجة التي وصلت إليها عن عقيدة واقتناع. أما إذا تحدثت عن الأدب المصري القديم وجدت نماذجَ ناقصةً أو مبتورة أو مشوَّهة، وكلماتٍ غامضةَ الدلالة، وأساليبَ تدل على معانٍ قد دُثِرت مع عادات للقوم لا تعرفها — مما جعلنا نضطر إلى الإكثار من الهوامش — وجملًا مرصوصة فقدت كثيرًا من الروابط والصلات، وحروفًا ساكنة لا نستطيع بها أن نميِّز مواقع الكلمات الإعرابية إلا من سياق الكلام، أو أخذًا بغالب الظن، ولا نستطيع بها كذلك أن ننطق بالأعلام نطقًا صحيحًا يطابق الوضع الأصلي لها، ولذلك اختلف العلماء في ضبطها، اللهم إلا ما وصلنا منها عن طريق الإغريق مثل «إزيس» و«نفتيس». كل هذه العوائق تتعب الباحث، ولكنه يستطيع بشيء من الصبر والأناة أن يصل إلى حقائق محترمة عن هذا الأدب قد تكون نواة صالحة إلى آراء مقطوع بصحتها فيه.

ومما يدل على وعورة الطريق أن كثيرًا من علماء الآثار النابهين قد اختلفوا اختلافًا بيِّنًا في تراجمهم لآثار القوم الأدبية، ولكن الشقة بينهم أخذت تقترب في السنين الأخيرة بعض الشيء.

ولقد اضطررنا في بعض الأحيان، عندما تصادفنا جمل متبلبلة مضطربة، أن نتركها بدون ترجمة، أو نترجمها ونشفع الترجمة بما يناسب من علامة استفهام أو تعجب، ولو أنَّا انتظرنا حتى تسعفنا الكشوف والبحوث العلمية بما يرفع الحجاب عمَّا غلق علينا فهمه، لطال انتظارنا ولجَّ في الطول؛ لأننا ما زلنا على ما وصلنا إليه في منتصف الطريق الموصلة إلى معرفة دقائق هذه اللغة.

ولقد دعانا واجب الأمانة العلمية أن نعرض النماذج الأدبية القديمة كما وجدناها على ما في كثير منها من تفكُّك وهلهلة وركاكة؛ لأننا نريد أن نعطي القارئ صورةً صادقةً لأدب القوم وعقليتهم، وليس من الأمانة في شيء أن تعرضها وقد أعملت قلمك فيها بالتبديل أو التحوير أو الحذف أو التنميق؛ وهذا نفس ما اتَّبَعه علماء الفرنجة عندما ترجموا المتون المصرية، وعندما ترجموا قبلها التوراة والإنجيل عن العبرية؛ اقتناعًا منهم ومنَّا بأن هذه الطريقة هي التي تمكِّن القارئ من أن يتذوق الأدب كما أنتجه أبناؤه، فيستطيع أن يقف على حاله، ويعقد الموازنة بينه وبين غيره، فيخرج بالنتيجة التي تظهر له بعد هذا العرض الصادق.

أما ما عدا النماذج المصرية التي سقناها شواهدَ وأمثالًا على حال الأدب المصري؛ فقد كتبت بأسلوب أدبي يتفق مع الغرض من الكتاب، فلا تعقيد يشوِّه جماله، ولا إسفاف يهبط به عن مستواه، تلاحظ ذلك في بحوث الكتاب المختلفة في ملخصات قصصه ومعالجة موضوعاته.

ولا يفوتني أن أنبِّه القارئ إلى أن هذه المحاولة الجريئة التي قصدت منها إظهار تاريخ الأدب المصري، وأُسُسه التي بُنِي عليها، ومناحيه التي تفرَّع إليها، بُنِيت على ما جاء في المتون المصرية التي حل طلاسمها زملائي من علماء الآثار؛ على أني قد تأثَّرت بصفة خاصة بطريقة الأستاذ «إرمان»، وإن كنت قد خالفته وخالفت تلميذه الأستاذ «ماكس بيبر» في الطريقة التي اتبعتها، فاخترت أن أتتبع بالبحث كل صورة من صور الحياة الأدبية من أول نشأتها، وأسير معها في حبوتها ودروجها حتى أصل بها إلى نهايتها؛ واختارا تقسيم الأدب إلى عصور، ومعالجة جميع ألوانه في كل عصر.

فإذا كنتُ قد أصبت الهدف بما فعلت، فهذا ما أرجوه وأسعى إليه، وإنْ قصرت خطواتي عن الوصول إلى ما أريد، فقد أرشدْتُ إلى الطريق ليسير فيها مَن يريد، ويستعين بما غرسته في أرجائها من معالمَ تأخذ بيده، وتسير به إلى نهايتها.

ولقد قصرت بحثي على العصور المصرية البحتة التي لم يتأثر فيها الفكر أو اللغة بغيرهما من لغات الغزاة وأفكارهم، فلم أتعَدَّ في بحثي سنة ٥٢٥ق.م التي فتح فيها الفرس البلاد، فأخذَتِ الأفكار الأجنبية من وقتها تدبُّ في العقلية المصرية، وظهر ذلك التأثير واضحًا جليًّا في العصر الإغريقي الروماني الذي سادت فيه الوثائق الديموطيقية، وهي تكشف لنا عن عالم آخَر في الحياة المصرية، وسنفرد لها كتابًا خاصًّا إن شاء الله؛ لأنها تبتعد كثيرًا عن الطابع المصري المحض، كما أننا اكتفينا بالمرور سراعًا على بعض نواحي الأدب التي تحتل منزلة ثانوية بالنسبة لما تعرَّضنا له، كالأدب التاريخي مثلًا.

وإني أرجو مخلصًا أن يكون لهذا الكتاب ما قصدت إليه من إظهار العبقرية المصرية التي نهل من حياضها كلُّ العالمِ القديم؛ حتى يتأثَّرَ ناشئةُ البلاد خطواتِ أجدادهم، فيبنوا ما بنوا، ويعلوا البناءَ كما علوا به، أو يفرعوهم حتى يصلوا بالبناء إلى غايته، والله يرعاهم، ويسدد بالتوفيق خطاهم، لمجد مصر وسعادتها. كما أرجو أن يكون ظهوره بدءًا للتفكير الجدي في معالجة موضوع أدب مصر القومي في عهودها المختلفة، فيكون هذا الكتاب أولى الحلقات، وتتبعها رديفاتها — إن شاء الله.

وفي الختام أقدِّم خالص الشكر لحضرة الأستاذ «محمد النجار» المدرس بالمدرسة الإبراهيمية الثانوية، لما بذله من مجهود في مراجعة النسخة الخطية وقراءة التجارب أثناء الطبع، وكذلك أشكر لرجال مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر عنايتهم، مما سهَّلَ عليَّ إنجاز الكتاب في وقت وجيز، مع ما يراه القارئ من الإتقان.

سليم حسن
٢ سبتمبر سنة ١٩٤٥

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤