كنا عربًا ولن نبقى عربًا!

حسنٌ جدًّا.

اختطفَت إسرائيل طائرةً ليبية، تُقلُّ مسئولين سوريِّين، وأرغمَتْها بالقوة على الهبوط في إسرائيل، وسِيقَ رُكابها مُغمَضي الأعين كالأسرى مُهانين مُذَلِّين، واستُجْوِبوا وكأنهم متهَمون مجرِمون، ثم «أفرجَت» إسرائيل عنهم، وتركَتهم يرجعون لدمشق.

وقد يتهمني القارئ بأني أعبث، ولكن غضبي مما حدث دفعني لنوبةٍ غريبة من الضحك!

أجل، ظللتُ أضحك وأضحك حتى دمعت عيناي.

وكان سبب ضحكي هو موقِفَنا نحن كدول عربية، وموقفَ أمريكا وإسرائيل؛ فقبل عدة أسابيع اختطفَت أمريكا طائرةً مدَنيةً مصريةً أخرى، وأرغمتها على الهبوط في قاعدة حلف الأطلنطي، واختطفَت ركابها الفلسطينيِّين، ولولا موقفُ رئيس الوزراء الإيطالي كرايسكي العنيد لربما حاكمَتهم أمريكا على الأرض الإيطالية، وحكمَت بإعدامهم.

ومناورات الأسطول الأمريكي وتَحرُّشه بليبيا في خليج سرْت لا تزال قائمة على قدَم وساق.

وأمريكا أكبر زَبون في سوق البترول بالاتفاق مع عميلتها مسز تاتشر هوت بسعر برميل بترول بحر الشمال إلى عشَرة دولارات؛ لتضرب دول الأوبك بالذات، أي السعودية والكويت ودول الخليج.

ضرب، ضرب، ضرب.

لا تُفرِّق فيه أمريكا أو إسرائيل بين دول يُسمُّونها متطرفة كليبيا وسوريا، ودول يسمونها معتدلة كالسعودية والكويت، ودول متهَمة بكامب ديفيدها كمصر؛ فالجميع عرب «أولاد …» (على حد تعبير السفير الأمريكي في القاهرة) لا بد أن يُضرَبوا ضرب غرائب الإبل.

هي الحرب إذن يا سادتَنا العرب الأفاضل.

الحرب الحقيقية التي لا هزل فيها تُشِنُّها إسرائيل وأمريكا في وضَح النهار، ولا تُفرق فيها بين عربي وعربي؛ فالعرب جميعًا لا بد أن يُسحَقوا تمامًا؛ لتتسيَّد إسرائيل ومعها أمريكا المنطقة تمامًا، وتحكمها حكمًا مباشرًا لا مجال للشك فيه.

وفعلًا، الحادث إلى الآن، وما سوف يحدث، أثبتَ وسيُثبِت للعرب أنفسِهم، معتدلين ومتطرِّفين، أنصار مفاوضات أو أنصار حرب، أن إسرائيل وأمريكا قد أصبحَتا «تحكمان»، أجَل، تحكمان كل الدول العربية، أقول مرة أخرى: كل الدول العربية!

ليس حكمًا كالحكم البريطاني أو الفرنسي يأتي بجيوشه الجرارة، ويحتل مصر أو العراق أو الجزائر، ويخسر من أجل هذا إنفاقًا على جيوش احتلاله وإضعافًا لقُواه.

وإنما هو حكم يعتبر آخِرَ صيحة في مجال الاحتلال والاستعمار.

حكم يعتمد على نقطة ارتكاز أرضية في إسرائيل، ونقطة ارتكاز أمريكية عائمة في البحر المتوسط، ومن النقطتَين تمتد السِّياط تَضرِب العربَ جميعًا؛ عسكريًّا، واقتصاديًّا، وسياسيًّا، وثقافيًّا، ضربًا لا هوادة فيه.

نعم!

أعداؤنا يدركون أننا كلنا عرب «أولاد …» ولكننا وحْدَنا الذين عرَّفنا أنفسَنا تعريفاتٍ ما أنزل الله بها من سلطان، وخلَقْنا لأنفسنا الفُرقةَ بيننا، من أو الصراع حول البوليزاريو بين المغرب والجزائر، إلى الصراع بين مصر وليبيا؛ حول ماذا؟ لستُ أدري والله! فليس بين ليبيا ومصر أيةُ مشكلةٍ حدودية أو تنازُعات إقليمية، إنما هو النزاع من أجل النزاع، والمشاكسة من أجل المشاكسة، إلى قصم ظهر أسعار البترول، إلى ضرب العراق بسوريا، وسوريا بالعراق، ولبنان بسوريا، والشيعة بالدُّروز، مع أننا كلنا عرب «أولاد …» في نظر أعدائنا.

ولقد ضحكتُ طويلًا كما ذكَرْت لأن ما يعرفه أعداؤنا عنا هو الحقيقة، بينما ما نعرفه نحن عن أنفسنا هو الخيال المريض العبيط، الذي يُصوِّر لكل دولةٍ عربية أن عدوتها رقم واحد هي تلك الدولة العربية الأخرى، وهات يا عراك واشتباك وتبادل القذائف الصاروخية واللسانية! أرأيتم أعجب من هذا منظرًا يدعو إلى الضحك؟!

أعداؤنا يعرفون أننا نُكوِّن وحدةً سياسيةً اقتصادية، وحتى عسكريةً واحدة، ونحن فقط الذين نَرفض الاعترافَ بهذه الحقيقة، وتتقاتل كلُّ دولة عربية، وكأنها وحدها هي كل العرب، أو قائدة العرب، وكأن عدوها هو هذا الطرَف العربي الآخَر أو ذاك، حتى داخل الدولة الواحدة نفسِها. ونتيجةً لمعرفة العدو لهذه الحقيقة فهو في الوقت الذي يُشِيع فيه الفُرقةَ بيننا، ويؤجِّج نيران الأحقاد العِرقية والقبَلية والعقائدية يوحِّد بيننا تمامًا حين يَضرب، ويُوجِعنا بضربه، بينما بعضُنا لا يزال وبثقةٍ شديدة يتحدث عن «السلام» في الشرق الأوسط، وعن حل المشاكل المعلَّقة بين إسرائيل و«جيرانها» العرب.

وحين يتحدَّثون عن هذا يَقصِدون بالطبع القضية الفلسطينية.

وهذا نوعٌ آخرُ من خداع النفس.

فلم تَعُد، ولا كانت، القضيةُ الفلسطينية قضيةً فلسطينية فقط، إنما هي دائمًا القضية العربية الكبرى، وإذا كانت فلسطين قد اغْتِيلَت أولًا، وبقينا نَنْعاها إلى الآن، فقد ظللنا نفعل هذا ونحن غير دارين أن موجة الاغتيال قد امتدَّت واكتسحَت الساحة، وعمَّت كلَّ البلاد العربية بطريقة أو بأخرى.

لم تعد المسألة فلسطين، إنما أصبحَت كلنا، ليس فقط مستهدفين وإنما قلتُ تَحكمنا إسرائيل، أتسمعون هذا يا حكامنا؟ إسرائيل تحكمكم وتحكمنا رغمًا عنا وعنكم، بدعمٍ رهيب من أكبرِ قوة استعمارية ظهرت على سطح الأرض؛ الولايات المتحدة الأمريكية.

حسنٌ جدًّا.

ماذا أنتم فاعلون إذن يا سادتنا الحكام المحكومين؟

أنتم قد عجزتم حتى الآن عن عقد مؤتمر، مجرد مؤتمر قمة ناجح، وحتى لو انعقد المؤتمر، واتُّخِذَت فيه قرارات كما حدث في فاس، فإنكم تتوجَّهون إلى البيت الأبيض والبنتاجون، تُقدِّمون له ولها عريضة مطالبكم، وما تكادون تُولُّون ظهوركم حتى يَقذفوا بها في أقرب سلة مهملات.

ذلك أن البيت الأبيض والبنتاجون وإسرائيل لا يَعرفون إلا منطق القوة الغاشمة وحدها.

وحين قال عبد الناصر كلمته المشهورة: «ما أُخِذ بالقوة لا يُسترَد إلا بالقوة.» لم يكن يُطلِق صيحةَ إنشاء أجوف، وإنما كان قد أدرك بتَجرِبته مع الأمريكان والإسرائيليين هذه الحقيقةَ البسيطة في الصراع الدولي والوطني، الحق للأقوى، والضعيف يظل مظلومًا مهما استغاث «بالرأي العام العالمي … أي رأيٍ عامٍّ عالمي هذا الذي تستغيثون به واليهود والأمريكان يسيطرون إعلاميًّا تمامًا على نصف الكرة الأرضية التي تُسمُّونها الرأي العامَّ العالمي؟» مهما استغاث بالرأي العام العالمي، ومهما استغاث بمجلس الأمن الذي تُشير له أمريكا بأصبعها قائلة: فيتو!

إنكم يا سادتنا الحكام تَهزلون أمام عدوٍّ لن يرحمَكم أبدًا.

وتهزلون أمام شعوب لن تَرحمكم هي الأخرى؛ فلِصَبرها على العدو وعليكم حدود، وقد بلَغ صبرُها مداه.

وأقولها صريحةً واضحة: إنه ما لم يَقُم الحكام العرب بصُنع شيءٍ قوي وملموس، يقفون به في وجه هذا العدوان الصارخ، فإني لا أضمن أبدًا أن تنقلب أنظمة الحكم الحاليَّة، وتأتيَ الشعوب بحكامٍ جددٍ آخرين يَدفعون عنها هذا الأذى والجحيم.

افعلوا شيئًا، أو اذهبوا.

اغضبوا حتى …

أو كفُّوا عن الحديث عن مشكلة الشرق الأوسط، وكأنها نظرية من نظريات فيثاغورث الرياضية، تتطلَّب حلًّا من الجبر أو الهندسة أو حساب المثلثات.

إسرائيل تحاربنا بجِديةٍ كاملة وبشراسة.

ونحن نَهْذي بخطرفةٍ كاملة وبانهزامٍ مسحوق.

ولا يمكن لوضعٍ كهذا أن يستمر.

فشعوبنا تغلي بالسخط، وتعتبر أن مَواقفكم المتخاذلة تلك هي لصالح إسرائيل أولًا وأخيرًا، فهل أنتم حكامنا أم أعداؤنا؟

هل أنتم معنا، أم معهم؟

هل تخافونهم أكثرَ مما تخافون منا، وكأننا بلا حول ولا قوة؟!

لا …

إن الشعوب العربية في قمة مدِّها الثوري، وأنتم وحدكم في قمة الخوف على كراسيكم التي ستَذهب إذا ظللتم ساكتين، وربما إذا تحركتم وفعَلتم شيئًا يطفئ الحريق المندلع في قلب كل عربي، ربما لو فعلتم هذا لثبَتَت الكراسيُّ تحت مقاعدكم.

أما بهذه الطريقة فاسمَعوا جيدًا: ستذهبون، ستذهبون.

فلا يُعقَل أن يركع مائة وعشرون مليون عربي أمام بضع فصائلَ همجيةٍ غزَت شرقنا العربي ورَكِبَته، وتريد أن تركب فوق أعناقه إلى الأبد.

وليسمح لي القراء أن أتوقف هنا؛ فالحقيقة أني مللت الكتابة ومللت الكلام؛ إذ حتى الكتابة نفسها أصبحَت لا تَعني أمام هذا الموقف الرهيب الخطير شيئًا.

ويكفي أني، بصعوبةٍ بالغة، قد استطعت أن أستنطق قلمًا يَغلي، حتى حبره، بالغضب، وليس الغضبُ من إسرائيل أو غيرها؛ فحربهم ضدنا يَقومون بها بجِدية وذكاء وخُبث وكل سلاح! إني غاضبٌ منا نحن، حاكِمين ومحكومين، غاضب على أنفسنا غضبًا من ذلك النوع الذي يُخرِس الألسُن والأقلام، ولا يُنفَّس عنه إلا بالفعل، الفعل القوي العاجل.

وغاضب أكثر لأني أعرف أن حكامنا لن يفعلوا بالمرة شيئًا.

ولهذا تَختنق الكلماتُ الآن في قلمي، حتى تجفَّ، وأَطويَ الصفحة. لماذا يا إلهي سلَّطتَ علينا — وأحيانًا مِن داخلنا — مَن لا يخافك ولا يرحمنا يا أرحم الراحمين؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤