أنا في الانتظار

بمراجعتي لمعظم ما نكتبه نحن الكُتابَ العرب في صحفنا ومجلاتنا وكتبنا، لاحظتُ شيئًا فشيئًا، ثم بشكلٍ متعاظم أننا كُتَّاب «تحليلات» مثلنا بالضبط مثل محرري الأبواب الرياضية في الصحف اليومية، الذين فقَدوا القدرة والرغبة في اللعب، وآبوا إلى خط المراقبة أو «المقصورة» جالسين في تمام العظَمة والأبهة يُراقِبون الفِرَق اللاعبة والمتلاعبة، ثم يعود كلٌّ منهم إلى منزله، ويفتح «جراب» التحليلات وهات يا تحليل! وهذا هو بالضبط ما يحدث على جميع ساحاتنا، سواءٌ السياسية أو الثقافية أو الاجتماعية، أو حتى السلوك اليومي للمواطنين، تحليلات وتحليلات وتحليلات، ما أنزل بها الله من سلطان؛ وذلك لأنها في معظمها تحليلاتٌ شخصية، أو بالأصح انطباعات، وفِراسات، وتخمينات، وآراء في ألعابٍ فجَّة؛ لأنها ينقصها عاملٌ هامٌّ تمامًا، ألا وهو المعلومات.

كل كُتَّابنا، في السياسة بالذات إلا نفرٌ قليل جدًّا تَنقصهم المعلومات، وحتى هذا النفر القليل معلوماته كلها مستقاة من مصادرَ غربيةٍ أو في القليل النادر مصادرَ شرقية؛ إذ لا مصادر معلوماتٍ عربية موثوقًا بها موجودة على الساحة على وجه الإطلاق. وأقربُ مثل لهذا ما يَحدث في لبنان، مثلًا، نحن هنا في مصر، وهناك في الكويت، أو في المغرب نعتمد على المراسلين الأجانب في نقل أخبار ما يدور على الساحة اللبنانية بالصوت أو المقال أو الصورة، ونقرأ نحن هذا أو نراه، ثم نكتب على أوراقنا، وبناءً عليها — على المعلومات تلك — نُدبِّج التخمينات والتحليلات؛ وتكون النتيجة أننا نقول أشياءَ عامةً جدًّا؛ مثلًا نقول إن هناك مؤامرةً إسرائيليةً أمريكية لتقسيم لبنان إلى دويلات أو «كانتوناتٍ» طائفية تُحيط بالجزء الشمالي من إسرائيل، لتصبح إسرائيل الدولة أقوى «كانتون» بين كل تلك الكانتونات الصغيرة. والنظرية صحيحة، ما في ذلك شك، ولكن المشكلة، هل كَشْف هذا المخطط بمثل ذلك التحليل العام هو غايةُ المراد من رب العباد؟! وهل إذا كتبنا هذا في صحفنا، نكون قد قمنا بكل الكفاح القلَمي والقومي اللازم لإحباط هذا المخطط، أم نكون على أقصى تقدير قمنا بدورٍ كدور نُقَّاد كرة القدم حين يقولون: كانت خطة الأهلي لهزيمة الزمالك أن يجعل «غزل المحلة» يهزمه لينقص رصيد الزمالك نقطة؟!

ولن أذهب بعيدًا؛ فأنا شخصيًّا قد قلت في أسبوعياتٍ ماضية في «الرأي العام» إن الخطة الاستعمارية الكبرى لقتل فكرة العروبة والقومية العربية هي الإيقاع بين الفكرة القومية والإسلامية لكي يتناحر الإسلاميون والقوميون، والكل يعتقد أنه هو الذي على الحق المبين؛ لِيَكسب الاستعمارُ في النهاية اللعبة، دون أن تُراقَ له قطرة دم واحدة. قلتُ هذه الفكرةَ مستوحيًا إياها من مجريات الأمور في منطقتنا؛ فليس صدفةً أبدًا أن تَصير الوقيعة بين العراق المسلمة وإيران المسلمة، فالعراق لا يمثل العراق المسلمة فقط ولكن يمثل أيضًا الفكرة القومية العربية، بينما إيران تمثل الفكرة الإسلامية الشيعية ضمنًا، وليس هدفها أبدًا أن يتم ذبح الفلسطينيين المسلمين في مخيَّماتهم بأيدي حلفائهم من المسلمين الشيعة اللبنانيين، فالفلسطينيون يمثلون بؤرة الفكرة القومية التي اجتمعت حولها الشخصية القومية العربية، بينما «أمل» تمثل جيش التحرير الإسلامي اللبناني، الذي لا تهمه أبدًا الفكرة القومية العربية.

أقول: قلتُ هذا الكلامَ بِناءً على دلائلَ وعلاماتٍ ووقائع، ولكن أيضًا مجرد «تأمل» للحوادث الدائرة حولنا، وللأهداف التي «نقرأ» عنها من مصادر اليونيتدبرس والأسوشيتدبرس والإن بي سي ورويتر والفرانس برس، فلا يوجد صحفيٌّ عربيٌّ واحد، أو إذاعي أو تليفزيوني من موقع من المواقع الآنفة الذِّكر. كلهم صحفيون وإعلاميون غربيون، وكلها مصادر غربية، ولا صحفي واحد ذهب إلى السيد نبيه بري مثلًا وسأله: لماذا يحدث ما يحدث على أيدي قواته؟ وما هو رأيه في قضية الفلسطينيين عمومًا؟ وكيف يزعم أن إسرائيل هي العدو اللَّدود، ثم يقضي على الأعداء الألِدَّاء للإسرائيليين الذين هم الفلسطينيون؟ ذلك أن تلك الأسئلة بالذات، والإجابات عليها كانت هي الكفيلةَ بإعطائنا الوجهَ الآخر للمعلومات التي نحصل عليها من مصادرَ غربيةٍ دمًا ولحمًا واتجاهًا وسياسةً.

ولنأخذ مثلًا آخر؛ حكاية تهريب «الفلاشة» من السودان. إن أول مَن أذاع وأشاع الأخبار كانت مصادرَ إسرائيلية، زعمَت أن إسرائيل هي التي قامت بالعملية كلها، ولكن الأمريكان لم يُعجِبهم هذا الزعم، وقرأتُ — وأنا في أمريكا منذ شهرَين — تحقيقًا كبيرًا عن رجل مخابراتٍ أمريكية باعتبار أنه هو الذي دبَّر العملية كلَّها من ألِفها إلى يائها. وأعتقد أن هذه الأنباء لم تُذَع عبثًا ولا من قبيل التفاخر والتباهي، ولكن أومن شخصيًّا أنها أُذيعَت عن عمد؛ لأن نميري كان قد استنفد أغراضه بالنسبة لأمريكا وإسرائيل، وكان مطلوبًا خلعُه قبل أن تَستوليَ الجبهة الوطنية الشعبية على الحكم نهائيًّا، وهكذا تم الكشف عن العمَلية في وقتها المناسب تمامًا لأغراض إسرائيل وأمريكا، «ثم أيضًا تم بعد إتمام الصفقة وانتهاء المؤامرة!» والمثل الثالث الذي يحضرني أني كنتُ في زيارة للعراق، وكان ضمن البرنامج الذي طلبتُه أن أزور الجبهة، وكانت زميلتي في الزيارة صحفية بريطانية من الجارديان أو الأوبزيرفر؛ لستُ أذكر. ولن أنسى أبدًا جُرأةَ تلك الصحفية، بل وحتى طلبها أن تزور جبهة البصرة، حيث كان القتال حاميَ الوطيس أيام الاحتلال الإيراني لمنطقة المستنقَعات، وحين لم يُسمَح لها بهذا وزرنا الجبهة الوسطى، كانت حريصة على معرفة أدقِّ التفاصيل عن الجيش العراقي، بل كانت تسأل أسئلة تدعو أحيانًا للغضب؛ فسألَت مثلًا: هل الأسلاك الشائكة المقامة خلف خطوط القتال للجيش العراقي أُقيمَت بهدف منع القوات من الانسحاب لحظة المواجهة، أم لأي سبب أُقيمت؟ وسألَت مقاتلًا: كيف يُقاتِل في الخطوط الأمامية وهو يرتدي ساعة ذهبية قد تَلمع في الظلام؟ وآخرَ عن: كيف يرتدي هذا الخاتَم ذا الفصِّ الوهَّاج؟ وهل هذا مسموح به في الجيش؟ … إلى آخر تلك الأسئلة الدقيقة التي وضَح لي أن الهدف منها في النهاية أن تعرف إن كانت الجبهة الوسطى، أو حتى الجبهة كلها فعلًا، في حالة قتال مع إيران أم أنه قتال بالبلاغات الرسمية وحدها؟

•••

نعم أيها السادة، نحن نحيا في عصر المعلومات؛ الدول المتقدمة متقدمةٌ بما لديها من معلومات، والمتأخرة متأخرةٌ بمقدار ما ينقصها من معلومات، ولا بد أن تكون معلوماتٍ دقيقةً وصحيحة مائة في المائة؛ فعلى أساس تلك المعلومات تَبني تلك الدولُ سياساتها، وتضع خططها وتُناوِر مُناوئيها وأعوانها، وفي أحيان كثيرة تنجح في قهرهم، فماذا عن عالمنا العربي المهيب؟

إن معلوماتنا حتى عن أنفسنا ليست ناقصة فقط، ولكنها في معظم الأحيان غير موجودة، حتى تلك المعلومات البدائية تمامًا، مثل مستوى دخل الفرد في أية دولة عربية لا نعرفه ولا نبحثه، فنحن إنما «نتلقاه» من إحصائيات البنك الدولي أو الهيئات الأجنبية. إن معلوماتنا مثلًا عن التركيبات المختلفة للدول العربية، والعلاقات والمعاهدات، ومدى الاتصال التاريخي بين القبائل اليمنية مثلًا، وبين عرب الأندلس، ومدى الأيدي العاملة «الأجنبية العربية» في أي بلد عربي، ومستواها، ومشاكلها، وتأثير التفاعلات التي جرت في الأمة العربية كلها سلبًا وإيجابًا من جراء الحروب، والانتصارات المحدودة، والانهزامات غير المحدودة، معلومات لا نعرفها، وإن عرَفْناها فعن طريق الدراسات الغربية! إن معلوماتِ معظمنا الشخصيةَ عن حروب مَجيدة خاضَتْها أُمتنا كحرب السويس وهزيمة ٦٧ وانتصار ٧٣ والمؤامرة الأمريكية الإسرائيلية لإحداث الثغرة، التعاون الإسرائيلي الأمريكي أثناء الحرب وبعدها، حتى معلوماتنا عن أثر المقاطعة العربية البترولية على المجتمع الأوروبي والأمريكي، ومدى تأثير ذلك على سياسة الكتلة الغربية، ومعلوماتنا عن التركيبة الداخلية للنظام السوفييتي والعلاقات بين دول أوروبا الشرقية، معلوماتنا عما يحدث في أمريكا اللاتينية، حتى معلوماتنا عما حدث من كارثة اقتصادية في سوق المال الكويتية، بل حتى معلومات كل دولة عربية عن نفسها، ولا أقول عن شقيقاتها العربيات؛ معلومات جِدُّ ضئيلة، معظمها يَعتمد على الإشاعات والأقاويل والحوادث الفردية والأحاديث المروية، وليس على وثائقَ ثابتةٍ أو إحصائيات دقيقة أو معرفة سليمة بواقع الحال. وإذا قارَنَّا هذا بكم المعلومات الهائل الذي يمتلكه الغرب عنا، كمٌّ مُخيف من المعلومات وفي كافة الاتجاهات والمجالات، حتى إنني قابلتُ باحثة أمريكية في جامعة لوس أنجلوس انتهَت من بحث مكوَّن من حوالي أربعمائة صفحة عن وباء الملاريا الذي اجتاح صعيد مصر في عام ١٩٤٥م، وفشل الحكومة المصرية وحتى فشل الحكومة البريطانية التي كانت تحتلُّ مصر في ذلك الوقت في مقاومته، وهنا تدخلت الحكومة الأمريكية وساعدَت في مقاومة المرض، وكانت النتيجة إنشاءَ أول مؤسسة أمريكية عسكرية في مصر باسم «نامرو» تتبع الأسطول الأمريكي، مؤسسة لا تزال قائمة حتى الآن، وكان هذا أيضًا مصاحبًا لبداية اهتمام الأمريكان بمصر وبمنطقة الشرق الأوسط، سياسيًّا وعسكريًّا ثم في النهاية اقتصاديًّا بنجاحها في خلع النفوذ الإنجليزي الفرنسي الهولندي المسيطر على البترول في المنطقة. بحث خطير قابلَت من أجله أكثرَ من ثلاثمائة شخصية مصرية وأمريكية وإنجليزية، وحتى من أفراد العائلة المالكة المصرية، الذين لا يَزالون على قيد الحياة. قد تقول إن بحثًا كهذا لا معنى له، أو بالأصح لا معنى سياسيًّا أو علميًّا له، ولكن كم المعلومات البشرية والعِلمية والسياسية التي يحتويها هذا البحثُ — وقد اطلعتُ عليه — لا يُقدَّر بثَمن. بل هالني الأمر إلى درجة أن أحد كبار المسئولين عن جامعة لوس أنجلوس اقترح عليَّ أن نوصل مركز المعلومات في جامعة القاهرة بجامعة لوس أنجلوس عن طريق القمر الصناعي، بحيث تستطيع أن تَحصل مصرُ على أية معلومات عن أمريكا من هذا التواصل، ولكني قلت له بادئ ذي بدء إني أرفض الفكرة تمامًا؛ لأن كمَّ المعلومات التي تسوف تَحصل عليها أمريكا عنا ودرجة الاستفادة منها على وجه الدقة، درجة الاستفادة من تلك المعلومات ستبلغ ذروتها عندهم، بينما نحن لن نَملِك حِيال المعلومات التي سنحصل عليها منهم شيئًا؛ فليس لدينا مراكزُ لتحليل المعلومات، ولا استراتيجية معروفة للاستفادة منها. وبينما هنا تنسيق كامل بين أجهزة المعلومات الأمريكية والأوروبية «وكذلك الكتلة الشرقية»، فهناك مُقاطَعة كاملة لأجهزة المعلومات المحدودة التي تمتلكها بعضُ دولنا العربية؛ لأن كل دولة عربية إما في حرب مع أخرى، أو خائفة من حرب مع أخرى، أو تريد أن تنافس الأخرى في اقتناء المعلومات واحتكارها؛ ويكاد يكون التنسيق الوحيد الكائن بين الكتل العربية المختلفة هو التنسيق الموجود بين دول الخليج، ولكن صلة هذه الدولة المعلومية ببقية أنحاء الوطن العربي تكاد تكون مقطوعة أو مبتورة أو أحيانًا مغلوطة تمامًا.

إننا نعيش في مجتمع تكتلات لم يَعُد مجتمعَ دول منفردة أو قبائل متنافرة، أو حتى أوطان منفردة مستقلة، نحن نعيش عصر التكاتف والتعاون والعمل الجماعي المشترك بين كل كتلة من الدول متناسقةِ الأهداف والغايات، وبينما هذا يحدث في العالم لا نجد لدينا في العالم العربي إلا كتلة مع انسجامها الكامل في قوميتها وتكوينها النفسي ولُغتها ومَصالحها إلا أن التنافس بينها والتعارك يأخذ بالفعل شكلًا مرَضيًّا، يجعل الإنسان يلعن هذه الأوطان المعزولة، ويتمنى من أعماق قلبه أن يجتاحها ذات يوم طوفانٌ يَكسر هذه الحواجزَ التي تخنقنا وتُؤخِّرنا، بحيث نحيا العصر وروح العصر، العصر المبني على الحقائق والوقائع والمعلومات، والذي تُدبَّر فيه أمورها بِناءً على الإحصائيات والأرقام التي تحصل عليها بنفسها ولمصلحتها فقط، وليست تلك التي تَنقلها عن الغير الذي يُذيعها بالضرورة لمصلحة نفسِه، وحبذا لو لقيَت كلمتي تلك صدًى لدى أصدقائي وإخواني الكُتاب والمفكِّرين العرب؛ ليس في الكويت فقط، ولكن في الأمة العربية كلها.

وأنا في الانتظار

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤