إعجاز الخالق الأول … الله سبحانه

طوال قراءتي للكتاب وثَمة آيةٌ قرآنية كريمة تدور في رأسي وتدور؛ إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ؛ ذلك أن العلم كلما تقدَّم بنا، وكلما تقدمنا فيه أدرَكْنا كم نجهل، وقد شبَّهتُه مرةً بأن التقدم العلمي مثلُه مثل أن تُضيء شمعة في غرفة كاملة الإظلام فلا تفعل الشمعة إلا أن تُرِيَك مقدارَ الكم الهائل من الظلام المستبقي أمامك، وهكذا كنتُ أقرأ الكتاب وكأنما أحج إلى حيث معجزةُ الخلق، معجزةُ تجميع الذرات في جزيئات، والجزيئات في مركَّبات جَمادية، فجأة يُعاد ترتيبها، وتَنشأ بينها علاقات، ويدب فيها شيء غريب اسمه الحياة. وعدتُ إلى النقاش العميق الذي دار بيني وبين الكاتب السويسري العظيم دورينمات حول العشوائية والحتمية، لا يمكن أن يكون هذا كله قد حدث بما يُشبِه الصدفة واللاهدف؛ فإن تأمُّل أبسط الكائنات الحية، البكتريا، تلك التي تعتبر «الخميرة» مستعمراتها الكبرى، يلهث علماء الأرض جميعهم ويتَنافسون، وجائزة نوبل تُلهِب ظهورهم، والإغراء المادي والأدبي يُقِضُّ مضاجعَهم فقط ليتعرفوا — مجرد أن يتعرفوا — على الطرق التي يقوم بها تبادل المواد داخل الخلية الحية.

وإذا كان الإنسان أرقى الكائنات الحية قد بدأ يمرُّ خياله وأصابعه ووعيه داخل الخلايا، ويغير من تركيبها؛ ليجعلها أكثرَ خصوبة، ويجعل النباتات أكثرَ وفرة في مَحاصيلها وأسرعَ في نُضجها، بل وليبتكر أنواعًا جديدة من الخَضْروات مثل البطاطم! «شكرًا للدكتور مستجير» على هذا التعريف؛ إذ إن هذا النبات يغل بطاطس تحت الأرض من جذوره، وطماطم فوق الأرض من سيقانه، إذا كان الإنسان نتيجةَ التقدم العلمي والتكنولوجي الخطير الذي حدث في السنوات الأخيرة، وبعد تأمله الطويل قد بدأ يُغيِّر من شكل ونوع الكائنات الحية الدنيا بل والراقية، ويستعملها في إثراء حياته، فليس هذا تدخلًا في عمل الخالق سبحانه، إنما هو إعمالٌ للقدرات التي وهبَها الله للإنسان، ومنها القدرات العقلية في تغيير شكل الأرض وما عليها، أو بمعنًى آخر هو «عبارة» عن نوع آخر، بل هو اقترابٌ من الله، وتبيُّنٌ لإعجازه، وانبهارٌ بصَنعته ربما أكثر بكثير من اقتراب مَن يُجعجِعون بالميكروفونات، ويَفرِضون وَصاياهم وآفاقهم المحدودة على الآخرين، لقد حدَث لي ما يُشبِه الزلزال التأملي والعقائدي، وأنا أرفع بصري عن الكتاب وأرنو إلى الكون الآخر، وكيف نُظِّم ثم أغوص في الكتاب لأرى الكون الأصغر، وكيف دُقِّق، وما بين الكونَين أنا الإنسان أنا المخلوق الوحيد على سطح الأرض المدرِك للكونَين، الواعي بالكونَين، المبهور بالكونَين، العابد لخالق الكونَين.

•••

إني أنصح وأرجو مَن يقرَءون هذه الكلمات بالذات من الطلاب الراسبين في القسم العلمي بالثانوية العامة، وبشكل عام من طلاب الكليات العِلمية وأولياء أمورهم بقراءة هذا الكتاب؛ فأولادنا يَدرُسون العلم عن «واجب» وليس عن «حُب»، وهذا الكتاب سيُحبِّبهم في العلم ويجعلهم يتفوقون فيه وينجحون. سيَنفُث فيهم الرغبة في الحياة وفي الطموح من جديد، سيَجعلهم يَعشقون المعرفة حتى لو دخَلوا كلية الزراعة، تلك الكليةَ التي كانت على أيامنا ذاتَ سمعة مَجيدة. الآن أصبحَت تستقر عند منحدر الهبوط في مجموع القَبول بالثانوية العامة، مع أن معظم العلماء الحاصلين على جائزة نوبل في السنوات الأخيرة كانوا مِن علماء النبات، بل إنني — وقُبَيل كتابة هذه الكلمات بقليل — وصلني من الدكتور أحمد شوقي حسن أستاذ الوراثة بكلية الزراعة بجامعة الزقازيق كُتيِّب عن الندوة التي أقامتها الجمعية المصرية للعلوم الوراثية عن الهندسة الوراثية، والتي اشترك فيها الدكتور محمد كامل رئيس أكاديمية البحث العلمي، ونخبة من أساتذة الزراعة والطب الأجلَّاء، والتي عُقِدَت بالمركز القومي للبحوث، ووضعَت تقريرًا استردَدتُ معه أنفاسي؛ فطوال قراءتي للكتاب وأنا أتساءل: أين نحن مِن هذا التقدم المذهل الذي يحدث في العالم؟ وجاء التقرير بَلسمًا وردَّ اعتبارٍ؛ فلقد أدهشني وجودُ هذه الطاقات العلمية الكبيرة التي تَعرف وتستطيع أن تُنشِئ معاملَ كاملة للهندسة الوراثية التي نحن — باعتبارنا بلدًا زراعيًّا — أشدُّ ما نكون في حاجة إليها، ولو حتى لإنتاج نوع من القطن يُقاوِم الدودة والآفات، ويوفر مليارات الجنيهات.

شكرًا للقائمين على الجمعية وعاقِدي الندوة؛ فلقد جعَلوني أعود أفخر بمِصريتي وانتمائي إلى العقل المصري المؤمن المبدِع مرة أخرى، أقول لمن يهمهم الأمر: إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ، ولم يَقُل سبحانه: الجهلاء، أو الذين يتخلَّوْن بإرادتهم عن نعمة العقل وإعماله في العلم وبالعلم من أجل البشرية أقصى درجات العبادة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤