الفصل الثاني عشر

النهاية

قلنا في الفصل الأول من هذا الكتاب: «إن الصعوبة الكبرى أننا في هذه الفترة أمام حادثين يرجع كل منهما إلى أسبابه وعوامله، ويتكلم عنهما بعض المؤرخين كأنهما حادث واحد متحد الأسباب والعوامل، هذان الحادثان هما: التطور الاجتماعي، ومقتل عثمان رضي الله عنه، وأسباب هذا لا تكفي لتعليل ذلك وليس من الحتم أن تؤدي إليه.»

ومقتل عثمان لا يوصف بأكثر من أنه «مشاغبة دهماء» لم تجد من يكبحها.

أما التطور الاجتماعي فلا بد من التفرقة في تعليله بين لغط الألسنة في حينه وبين البواعث الحقيقية التي عملت فيه عملها الفعال، ولم تعمل فيه بداهة بألسنة اللاغطين في ذلك الحين.

إنهم لغطوا يومئذ بسيادة قريش، ولغطوا بالأموال التي أغدقها ولاة الأمر على الأنصار والأشياع، ولغطوا بإيثار الصنائع وذوي القربى.

ولم يكن شيء من هذا اللغط علة للتطور الاجتماعي الذي بدأ بعد دعوة الإسلام وانتهى بقيام الدولة الأموية.

فالذين شغبوا على عثمان جاءوا من البصرة والكوفة ومصر ليبايعوا واحدًا من ثلاثة هم الزبير وطلحة وعلي، وكلهم من قريش.

ودولة بني أمية قامت بعد ذلك وهي دولة قرشية غالية في عصبيتها.

والذين ثاروا على بني أمية إنما ثاروا باسم بني هاشم وهم قرشيون، ومن بني هاشم قامت دولة العباسيين ودولة الفاطميين.

وبعد نحو مائة سنة من مقتل عثمان قام بالأمر في الأندلس «صقر قريش» عبد الرحمن بن معاوية بن هشام؛ فبايعه العرب والبربر لأنه من سلالة قرشية.

فلا يكفي أن يلغط بالنقمة على قريش سامرون في مجلس أو لاغطون في طريق؛ ليقال: إن التطور الاجتماعي أيام عثمان إنما كان مداره على الضجر من قريش والرغبة في الخلاص من سيادتها.

وقد غلا الأمويون في العصبية كما غَلَوا في كسب الأنصار والأشياع ببذل الأموال وإسناد الولايات؛ فوطدوا ملكهم وقهروا خصومهم، ولم يقتل منهم أحد من جراء ذلك كما قتل عثمان.

•••

كان خراج السواد في عهد معاوية خمسين مليون درهم، ومعها مثلها من هدايا النيروز والمهرجان؛ فاحتجنها لنفسه وأنفقها في سبيل سلطانه ودولته.

ووهب خراج مصر كلها لعمرو بن العاص؛ جزاء له على معاونته إياه، وهو كان يُربى على عشرة ملايين من الدراهم، وجعل عطاء الحسن والحسين مليوني درهم وكان عشرة آلاف درهم في عهد عمر بن الخطاب.

واقتفي يزيد آثار أبيه فسأل عبد الله بن جعفر حين قدم عليه: «كم عطاؤك؟» قال: «ألف ألف درهم.» قال: «قد أضعفناها لك.» فقال له عبد الله: «فداك أبي وأمي ما قلتها لأحد قبلك»؛ فضاعف عطاءه ثانية، ثم خرج عبد الله فقال جلساء يزيد له: «أتعطي رجلًا واحدًا أربعة آلاف ألف درهم؟» فقال لهم: «ويحكم! إني أعطيتها أهل المدينة أجمعين فما يده فيها إلا عارية!»

وهذه الهبات على عهد الدولة الأموية ربما بلغت في اليوم الواحد ما لم تبلغه هبات عثمان في سنوات، وأكثر هبات عثمان من خاصة ماله، وليس فيما وهبه من بيت المال عطاء واحد لم تكن له صلة بعمل من أعمال الفتح والجهاد.

فإذا كان الناس قد شغبوا على عثمان فلغطوا بسيادة قريش، أو لغطوا بالهبات والعطايا فليس هذا اللغط هو حقيقة البواعث والقوى التي عملت في التطور الاجتماعي وانتهت بقيام الدولة الأموية على دعائم من سيادة قريش وتقريب الأنصار والأشياع.

إنما تطور المجتمع الإسلامي بعد أيام الدعوة النبوية؛ لأن الدعوة النبوية قد رفعت مجتمعها إلى الأوج الذي لا تقوى النفوس البشرية على مداومة البقاء فيه، ولو لم تتغير أحوال المعيشة بإقبال الدنيا واتساع الفتوح، فإذا اتفق على النفس البشرية عسر البقاء في ذلك الأوج وفتنة المعيشة معًا؛ فلا بد من تطور المجتمع حالًا بعد حال.

وقد يسمى هذا التطور انقلابًا من قبيل الترخُّص في التعبير، أما حقيقته فهي نقيض الانقلاب: حقيقته أنه رد فعل للانقلاب العظيم الذي طرأ على حياة الأمة العربية من أثر الدعوة النبوية؛ فارتفعت مع تلك الدعوة شأوًا لا طاقة للنفوس البشرية بالدوام عليه، وثَابَت إلى طبيعتها بعد سكون تلك الوثبة، وغنمت منها القيم الجديدة التي دخلت في تقدير الرعاة والرعايا وحسبت في موازين الأخلاق والآداب، فأما دوام الغيرة الروحانية سنوات وأجيالًا على قوة واحدة فذلك ما ليس فيه مطمع لطامع، وليس له سابقة ولا لاحقة من وقائع التاريخ.

هذا التطور الاجتماعي هو أحد الحادثين المختلفين اللذين يتلاقيان في سيرة عثمان، وفحواه التحول مع الزمن من وثبة النبوة إلى ثقة الخلافة إلى سلطة الملك، أيًّا كان القول في سيادة قريش وتوطيد الملك بالعصبية والهبات.

•••

أما الحادث الآخر فلا صفة له أكثر من صفة المشاغبات التي يجمح بها الدهماء، ولا اختلاف بينهما وبين المشاغبات التي تعمل فيها: الأغراض الصغيرة، والغرائز الهوجاء، والدعاوي الملفقة، والصيحات التي تقبل بغير تمحيص، وتنطلق على غير مقصد وعلى غير هداية.

وأساس البلاء كله البطر على الحقوق التي كسبوها من الإسلام ومنها حق خوَّلهم إياه عثمان، حين وفد الوفود، وندب طوائف منها للقائه في موسم الحج كل عام؛ لإبلاغه ما يشكونه من الولاة وما يطلبونه إليه، وقد رأينا أنهم استسهلوا الشكاية من العمال من أيام عمر، ثم زادها سهولة عليهم أنهم استطاعوا في عهد عثمان أن يقدحوا في انتخابهم ويشككوا الناس في كفايتهم للولاية لولا قرابتهم من الخليفة، وليس أدل على وَهْي الأسباب الحقيقية للشكوى من حاجتهم إلى نبش الماضي عن أسباب تثير الشعور ولا تستند إلى حجة غير المزاعم والأقاويل. ومن ذلك نبشهم عن سيئات عبد الله بن أبي السرح الذي ارتد في عهد الدعوة، ثم تاب وولاه عمر بعض ولاياته في مصر، فإنهم زعموا أن عثمان قد ولاه القيادة؛ لأنه أخوه في الرضاع، والصحيح أن عبد الله بن أبي السرح كان أكفى الكفاة في قيادته، وأنه انتصر حيث قاد جيشًا في البر أو في البحر، ومع الروم أو مع أهل إفريقية، وزعموا أن عثمان نفل مروان بن الحكم بخمس الغنائم التي أرسلها ابن أبي السرح من إفريقية، وهو غير صحيح، وإنما الصحيح أن ابن أبي السرح أخرج الخمس من الذهب وهو خمسمائة ألف دينار؛ فأنفذها إلى عثمان وبقي من الخمس أصناف من الأثاث والماشية يشق حملها إلى المدينة، فاشتراها مروان وبقيت من ثمنها بقية عنده فوهبها له عثمان يوم بشره بفتح إفريقية، والناس على وجل من أخبار الغارات عليها.

وكقصة ابن أبي السرح قصة الحكم بن العاص الذي رخص له عثمان في العودة إلى المدينة بعد أن نفاه النبي عليه السلام عنها، فإنما أبى النبي أن يساكنه في المدينة، ثم وعد عثمان أن يعفو عنه، ولا حرج من مقامه حيث لا مساكنة له عليه السلام بعد وفاته، فقد أذن له بالمقام في الطائف حيث لا يسكن معه وهي أحب في سكنها وأشهى.

ومن هذه الشكايات التي يبحث عنها الباحث، أنه ولى الوليد بن عقبة لقرابته، ثم اتهم بشرب الخمر وثبتت عليه التهمة. فأما أنه هو الذي ولاه فغير صحيح؛ لأنه كان مولى من قبل عمر، وأما أنه شرب الخمر فقد أقام عليه عثمان الحد وعزله، ولا يطلب من الإمام أكثر من ذلك.

ولاموه؛ لأنه لم يقتص من عبيد الله بن عمر لقتله الهرمزان المتهم بالتآمر على قتل أبيه، وأيا كان وجه العدل في هذه القضية لقد كان لوامه على قتل عبيد الله لو أنه أخذه بالهرمزان أكثر من عاذريه، فما كان أكثر من يقول يومئذ إن عمر قتل بالأمس وابنه يقتل اليوم، وقد كان عذر عثمان في ترك عبيد الله أنه دفع الفتنة، فأطلقه ولما يمض على قتل أبيه أيام، ودفع الفتنة ولا ريب حق من حقوق الإمام.

وذكروا أنه أبعد أناسًا من الصحابة عن مساكنهم أو عن أعمالهم، ولم يذكروا أنهم أغلظوا له في القول ولم يوقروه، وقد ضرب عمر بن الخطاب سعد بن أبي وقاص؛ لأنه لم يقف له في مجلس الخلافة، وقال له: «إنك أردت أن تقول: إنك لا تهاب الخلافة، فالخلافة تقول: إنها لا تهابك!» ولم يعرف عن إنسان أنه اعتذر لصحابي من الإساءة إليه كما اعتذر عثمان لابن مسعود إلى يوم وفاته، وهو غاية ما يستطيع.

•••

وإذا كان أساس البلوى كلها سهولة الشكوى، فيومئذ يظهر بالشكوى من كان حقه أن يتوارى بها من أصحاب التِّرات والذنوب، ولكن سماحة عثمان أطمعتهم في الظهور وسولت لمن شاء منهم أن يجترئ عليه مع الشاكين والمتذمرين، وأعجب العجب في هؤلاء قصته مع محمد بن أبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس قريب عثمان وربيبه في داره. فإن الناس قد ولعوا بالكلام على محاباة عثمان لأقربائه، وهذا واحد من أقرب الأقربين إليه أقام عليه الحد؛ لأنه أصاب شرابًا، ثم جاءه يطلب منه ولاية فأباها عليه، وقال له: لو كنت أهلًا لذلك لوليتك! فكان هذا زعيم الثائرين عليه في مصر ومعه نفر من ذوي قرباه.

ومنهم من عاقبه عثمان؛ لأنه كان يلعب بالنيرنجيات، ومن عاقبه لأنه تزوج بامرأة في عدتها، ومنهم من عزله كعمرو بن العاص، فكان أحكم من أن يجهر بالشغب عليه، ولكنه كان يدعوه جهرة إلى التوبة وهي دعوة أشبه ما تكون بالاتهام الصريح.

ومنهم من كان يزجره ولاة عثمان؛ لأنه كان يهذر في الدين بما لا يعلم، أو يهذر فيه بما يعلم أنه الباطل ويضمر من ورائه سوء النية، كعبد الله بن سبأ المشهور بابن السوداء، فقد أخرجه الولاة من بلد إلى بلد؛ لأنه كان يقول برجعة النبي إلى الدنيا وحلول روح الله في علي، وقد كان علي رضي الله عنه أشد على ابن السوداء هذا من عثمان وولاته.

وبين هؤلاء الشاغبين يُسمع النصح الصادق من رجل كأبي ذر يروعه البذخ والترف؛ فيدعو إلى التقوى والصلاح، وينعي على الذين يكنزون الذهب والفضة ويحبسونهما عن الخير والصدقة؛ فتحسب صيحته على عثمان ولا قِبَل لعثمان بتغيير الزمن وتبديل الأوان، وقد حذر منه قبل أوانه الصديق، ثم حذر منه الفاروق وجلة الصحابة الأكرمين. ولا شيء يجنى من تلك الصيحة إلا أن تملي للشاغبين في شغبهم، وهم لا يصدقون صدق أبي ذر ولا يتقون تقواه.

ولقد أُشير على عثمان بالضرب على أيدي الشاغبين، وكان عمرو بن العاص أول من قال له: إنه قد لان لهم في المقال، ولم يجزهم بما استحقوه من جزاء، ومن محنة الإمامة في ذلك الزمن أن يُلام الإمام على النقيضين: على الرأفة بالشاكين، وعلى أنه أغضبهم ولم يجبهم إلى ما سألوه.

•••

ولما جمع مجلسه للشورى كان مِن ناصحيه مَن أشار عليه بأن يشغل الناس بالجهاد؛ فلم يرضَ أن يكون الجهاد سياسة يحمي بها نفسه ويشغل بها الساخطين عليه.

وكان من ناصحيه من أشار عليه باتخاذ الحرس أو بالسفر إلى الشام؛ فلم يقبل هذا ولا ذاك.

وكان رأي علي أن يشتد في حساب الولاة، وأن يعزل منهم مَن نهج في الولاية منهجًا لم يكن يرضاه قبله الفاروق ولا الصديق، ولو فعل لعزل معاوية أول من عزل، ولكن ولاية معاوية في الشام كانت أقل الولايات شغبًا عليه.

وللسائل في أمثال هذه المآزق أن يسأل: «فعل عثمان هذا أو ذاك فسخطوا عليه، فهل يرضون عنه لو لم يفعل هذا وذاك؟!»

واليقين في رأينا أن الرضى عنه في أمثال ذلك المأزق مطمع لا يرام؛ لأن أساس البلاء كله سهولة الشكوى من الدهماء، ومتى سهلت الشكوى فالإعراض عنها محنة، واستجابتها محنتان؛ لأنها تغري بالشكوى من جديد، وتزيد البلاء بزيادة السهولة طمعًا في دوام الإصغاء.

وتُحْسَب على عثمان أخطاء وهنات جنت عليه، وساعدت من أراد أن يتجنَّى عليه بالحق وبالباطل، منها: توسعه في حقوق الإمامة، وتوسعه في معيشة الغنى بعد خليفتين كانا مثالًا في التقشف والرضى بالقليل، وقد توسع كذلك في تقريب ذوي قرابته واصطفائهم لأعماله وبطانته، ولم يردعهم أن يجبهوا كبار الصحابة من أمثال علي وعبد الرحمن بن عوف بسوء المظنة والتهمة الجائرة؛ فجعلوهم في حيرة من أمرهم: إن دخلوا في أمر الفتنة على عزم وقوة لم يأمنوا التهم، وإن تجنبوا الأمر كله عزلوا عثمان حتى يشعر الناس بعزلته، وقد ظن من ظن بعد تفاقم الشر أن عثمان إنما صرف من تطوعوا لحراسته في داره؛ لأنه لم يكن على طمأنينة من جانبهم، فتفرقوا وأحس الشاغبون حول الدار من تفرقهم كأنهم خاذلوه.

•••

ومن الإنصاف له أن يقال: إن تقصيره في حق نفسه كان أكبر من تقصيره في حق رعيته؛ فقد أفرط في المسالمة واغتفر ما لا يغتفر من العدوان عليه في حضرته، وتحرج غاية التحرج من البطش بمساعير الفتنة؛ لأنه لم يكن من الغرور بحيث يبرئ نفسه من تبعة سخطهم، ولم يكن من الأثرة بحيث يدرأ عن نفسه الخطر، وهو لا يبالي أكان على خطأ أم كان على صواب.

ولا نحسب نحن من أخطائه أنه أصر على الإمامة، وأبى أن ينزل عنها، وقال لمن أنذروه القتل إن هو لم يعتزل: إنه لا يخلع قميصًا ألبسه الله إياه، فقد عزا بعضهم هذا الإصرار إلى وصية النبي له في مرض وفاته، وعزاه بعضهم إلى يقينه من الموت ويأسه من جدوى الاعتزال على رعيته، وأيًّا ما كان باعثه على الإصرار فهو الباعث الذي لا يُعزى إلى الأثرة ولا يفسره إلا الإيثار في سبيل ما اعتقده واجبًا عليه، حتى الإيثار على الحياة.

ومن الفضول في سيرة تدور على «تحليل الشخصية» أن نطيل في سرد أحداث الفتنة التي انتهت بمقتله، وأن نحصر أسماء مَن تكاتبوا ومَن دعا منهم ومن أجاب، فكل ما رواه المؤرخون من هذه الأحداث يدل على مؤامرة مشتركة بين وفود الأمصار، عملت فيها الدعاية والاستثارة، وعملت فيها الشعوذة والضلالة المدبرة، ولم تكن قط في مصلحة رأس من رءوس الصحابة الكبار؛ فيميل الظن إلى اتهامه بالتدبير، فإن الفتنة التي يلغط فيها بالثورة على قريش لن تكون من تدبير القرشيين، وإن الفتنة التي يشعوذ بها أصحاب الضلالة ممن يزعمون أنهم من دعاة علي لن تفيد عليًّا عند المؤمنين، ولن يرضاها عليُّ لدينه ولا لدنياه.

إنما هو شعب غوغاء لا رأس له ولا قدم، ووجود التدبير وراء هذا الشغب الأعمى هو الذي يوحي إلى المؤرخ أن يدًا كانت تعمل فيه لمحض الشغب وإلى غير نتيجة؛ إلا أن يفسد الأمر على الدولة الإسلامية، وتحوم الشبهات من أجل هذا حول ابن السوداء ومن كانوا يستمعون إليه من شذاذ الأمصار الذين قيل فيهم: «لا ندري أعرب هم أم عجم ومسلمون هم أم مفسدون مدسوسون على الإسلام …»

ثم بلغ الكتاب أجله بقصة ذلك الكتاب الذي قيل: إنهم وجده مع غلام لعثمان يأمر فيه والي مصر أن ينكل بقادة الوفد الذي عاد من عند عثمان.

عاد وفد مصر من عند عثمان موعودًا بما يرضيه، ثم لم يلبث أن قفل ومعه كتاب مختوم بخاتم عثمان يأمر فيه بجلد «عبد الرحمن بن عديس، وعمرو بن الحمق، وعروة بن البياع، وحبسهم وحلق رءوسهم ولحاهم وصلب بعضهم …»

ولم يعد وفد مصر وحده، بل عاد معه وفد الكوفة ووفد البصرة وهم مفترقون في الطريق، ولم يفت عليًّا أن يسألهم عن هذا الملتقى العجيب، إن صحت قصة الكتاب!

•••

وحان المصرع الأليم الذي لا نحب أن نطيل النظر فيه، فإن تريثنا بعده هنيهة فإنما نتريث لنستخرج العزاء لبني الإنسان من الشر المركوز في طبيعة الإنسان.

لئن كان مصرع عثمان شرًّا مطبقًا، لقد كان كجميع الشرور، ينطوي على خير يبقى بعد زوال الغاشية في حياة فرد أو أفراد.

كان الخير فيه ذلك الحق الذي آمن به من لا يحسنونه، فأراهم أنهم أهل لحساب ولي الأمر وهو يبسط سلطانه من تخوم الصين إلى بحر الظلمات.

وكان الخير فيه ذلك الإيمان الصادق الذي صمد به شيخ في التسعين للكرب المحيق به وهو ظمآن محصور في داره بغير نصير، ولو شاء لكان له ألوف من النصراء يريقون البحار من الدماء، حيث عزت قطرة الماء.

•••

وإن وجبت كتابة السير، فأوجب ما يوجبها أن تكشف جانب الخير في أغوار النفس الإنسانية، لا قصيدة مديح كما يقال بل تحية صدق تمتحن بالنار والنور بين ظلمات الشرور. وهذه السيرة الرابعة من سير الخلفاء الراشدين لا نسميها بالعبقرية كما سمينا عبقرية عمر وعبقرية الإمام وعبقرية الصديق؛ لأننا لا نؤمن بالعبقرية لعثمان رضي الله عنه، ونؤمن في الحق أنه ذو النورين: نور اليقين، ونور الأريحية والخلق الأمين. ومن أبى عليه ميزانه أن يحابي في كلمة تستدعيها المجاراة لما سبقها من الكلمات لن ينظم قصائد المديح في محراب التاريخ، فحسب النفس البشرية أملًا أنها غنية بالحق عن قصائد المديح في هذا المحراب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤