الفصل الخامس

بين الجاهلية والإسلام

نشأ عثمان بن عفان في أسرة أموية تنتمي إلى أمية جد أبيه، وعند أمية يكثر الخلاف على سلسلة النسب بين أسرته والنسابين؛ فلا تتفق الأقوال المتضاربة على قول حاسم.

يقول المقريزي في رسالة النزاع والتخاصم فيما بين بني أمية وبني هاشم: «وقد كانت المنافرة لا تزال بين بني هاشم وبني عبد شمس؛ بحيث إنه يقال: إن هاشمًا وعبد شمس ولدا توءمين فخرج عبد شمس في الولادة قبل هاشم، وقد لصقت أصبع أحدهما بجبهة الآخر، فلما نزعت دُمِيَ المكان فقيل سيكون بينهما أو بين ولديهما دم، فكان كذلك.

ويقال: إن عبد شمس وهاشم كانا يوم ولدا في بطن واحد، كانت جباههما ملصقة بعضها ببعض ففُرِّق بين جباههما بالسيف، فقال بعض العرب: ألا فرق ذلك بالدرهم؟ فإنه لا يزال السيف بينهم وبين أولادهم إلى الأبد.»

وأمية هو في تاريخ الأسرة ابن عبد شمس أحد التوءمين أو الأخوين، ولكن بعض النسابين يقول: إنه ربيب عبد شمس، وإنه ابن جارية رومية وصلت إلى الحجاز مع ركب سفينة جنحت إلى الشاطئ، ويفسرون بذلك أبياتًا منسوبة إلى أبي طالب يقول فيها:

قديمًا أبوهم كان عبدًا لجدنا
بني أُمَّة شهلاء جاش بها البحر
ويفسرون به أيضًا قول الإمام علي لمعاوية في بعض كتبه: «ليس المهاجر كطليق، ولا الصريح كاللصيق.» وجاء في ابن هشام أن عقبة بن ذكوان بن أمية صاح حين أمر النبي بقتله: «أأُقْتَل من بين قريش؟» فقال عمر بن الخطاب: «حَنَّ قدْحٌ١ ليس منها»، وهو مثل يضرب للقدح الدخيل في الميسر، وروى ابن هشام أيضًا أن النبي عليه السلام قال حينئذ: «إنما أنت يهودي من أهل صفورية» ويقال في تفسير الحديث: إن الأمة التي ولدت أباه كانت ليهودي من أهل صفورية، ويقال غير ذلك مما يعسر الفصل فيه.

ولكنه من الراجح الذي ينتهي به التاريخ إلى دور التحقيق أن التبني وتدعيم العصبية به معهودان في هذه الأسرة على نحو لم يذكر له مثيل في الأسر الجاهلية الكبيرة، ومما رواه الأصفهاني وابن أبي الحديد أن معاوية قال لدغفل النسابة: «أرأيت أمية؟»

قال: «نعم» قال: «كيف رأيته؟» قال: «رأيته رجلًا قصيرًا ضريرًا يقوده عبده ذكوان.» قال معاوية: «ذلك ابنه أبو عمرو.» قال دغفل: «ذلك شيء تقولونه أنتم، أما قريش فلم تكن تعرف إلا أنه عبده.»

•••

وفي التاريخ الثابت بعد الإسلام أن أبا سفيان استلحق زيادًا الذي كان يُسمَّى بزياد بن أبيه أو بزياد بن سمية، وكان معاوية يغضب على مَنْ ينكر هذا الاستلحاق، فقال يزيد بن مفرغ يخاطبه:

أتغضبُ أن يُقال أَبُوك عف
وترضى أن يقال أبُوك زانِ
فأقسم إن رحمك من زياد
كرحم الفيل من ولد الأتانِ

وروى البلاذري من أخبار هذا الاستلحاق أن عثمان بن محمد بن أبي سفيان ولي المدينة بعد عمرو بن سعيد، فعَرَّض في خطبته بسلفه وكان هذا حاضرًا في المسجد؛ فنهض مغضبًا وقال فيما قال لعثمان حفيد أبي سفيان: «إنني لا يستنكر شبهي ولا أُدعى لغير أبي.»

ويزيد المقريزي على ما تقدم من خبره أن أمية «صنع في الجاهلية شيئًا لم يصنعه أحد من العرب: زوج ابنه أبا عمرو امرأته في حياته.»

قال المقريزي: «والمقتيون٢ في الإسلام هم الذين أولدوا نساء آبائهم واستنكحوهن من بعد موتهم، وأما أن يتزوجها في حياته ويبني عليها وهو يراه فإن هذا لم يكن قط، وأمية قد جاوز هذا المعنى ولم يرضَ بهذا المقدار حتى نزل عنها له وزوجها منه.»

ثم قال المقريزي: «وأبو معيط بن أبي عمرو بن أمية قد زاد في المقت درجتين.»

وندع ما جاء في أنساب الأشراف وفي شرح نهج البلاغة من سائر هذه الأخبار عن استلحاق الأبناء، فإن الحرص على تدعيم العصبية ظاهر في هذه الأسرة مما ثبت من أخبارها فلا حاجة إلى الإسهاب فيه.

•••

وكانت المنافرة شديدة بين أمية وهاشم على أيام الدعوة المحمدية، يحفظ لنا الرواة أخبارًا كثيرة منها، قديمة وحديثة، فمن أحدثها قبل الدعوة الإسلامية أن حرب بن أمية وعبد المطلب بن هاشم تنافرا إلى حكم من بني عدي القرشيين هو نُفيل جد الفاروق، فقال نفيل لحرب: «أتنافر رجلًا هو أطول منك قامة، وأعظم منك هامة، وأوسم منك وسامة، وأقل منك لامة، وأكثر منك ولدًا، وأجزل منك صفدًا، وأطول منك مذودًا:٣
أبوك مُعاهد وأبوه عفٌّ
وذادَ الفيلَ عن بلد حرامِ»

يشير إلى تعرض أمية للنساء، ومنهن امرأة من بني زهرة راودها فتصدى له بعض قومها، وأوشكت أن تكون من جراء هذا الخلاف فتنة بين قبائل قريش.

وأقدم من هذه المنافرة منافرة أخرى بين هاشم وأمية تكلف فيها أمية أن يصنع صنيع هاشم، وكان هاشم — واسمه عمرو — قد غلب عليه لقب هاشم؛ لأنه تكفل بإطعام المعوزين من أهل مكة وجيرتها عام المجاعة، فكان يهشم الثريد لهم وينحر الإبل ويتعهد الفقراء، وفيه يقول شاعرهم:

عمرو الذي هشَمَ الثريدَ لقومه
وِرجالُ مكة مُسنتُون عِجافُ

فأراد أمية أن ينافسه في الشرف ومحبة الناس إياه فعجز عن هذه المنزلة، فدعاه إلى المنافرة كعادتهم، واحتكما إلى كاهن خزاعة بعُسْفان على خمسين ناقة تُنحر بمكة، وجلاء عشر سنين من جوار الحرم، فقال الكاهن سجعًا على أسلوب الكهان والمحكمين جميعًا يومئذ: «والقمر الباهر والكوكب الزاهر، والغمام الماطر، وما بالجو من طائر، وما اهتدى بعلم مسافر، من منجد وغائر، لقد سبق هاشم إلى المآثر، أول منه وآخر، وأبو همهمة بذلك خابر.»

وأبو همهمة الذي أشار إليه الكاهن هو حبيب بن عامر الذي خرج مع أمَية، وينتهي نسبه إلى فهر بن مالك، وكأنما أراد الكاهن بذكره أن يذكره بما في النسب الأول والآخر من سر هو به خبير.

قال الرواة: فأخذ هاشم الإبل فنحرها وأطعم لحمها من حضر، وخرج أمية إلى الشام فأقام بها عشر سنين.

ويكاد التنافس بين العشيرتين أن يشمل كل مطلب من مطالب الحياة فشمل الفروسية، ووسامة الذرية، كما شمل الرئاسة، ومفاخر السيادة.

•••

تنافس أمية وعبد المطلب على سباق للخيل، وتراهنا على أن تُحَزَّ ناصية المسبوق سنة ويغرم عددًا اختلفوا فيه من العبيد والإماء والإبل، فسبق فرس عبد المطلب فرس أمية، ودان أمية بسيادته عليه سنة، وينقل ابن أبي الحديد في شرحه لنهج البلاغة كلمة لعبد الله بن جعفر في محضر معاوية جبه٤ بها يزيد وهو يفاخره فقال: «أتفاخرني بحرب الذي أجرناه، أم بأمية الذي ملكناه، أم بعبد شمس الذي كفلناه؟!»

ويقول الكلبي في أبناء عبد المطلب: «كانوا إذا طافوا بالبيت يأخذون البصر»، ورآهم عامر بن مالك فقال: «بهؤلاء تمنع مكة». وغير هذه الصفة تقال في أبناء حرب؛ فلا يتصدى لنقضها أحد من الأمويين المتقدمين.

ونحسب أن المنافسة بين العشيرتين كانت ضربة لازب؛ لأن الاختلاف بينهما أعمق غورًا من الاختلاف على الرئاسة ومناصب الشرف فيما اصطلح عليه عرف الجاهلية: كان اختلافًا في الخلق والطبيعة، وكان بنو هاشم على ما ثبت من الروايات المتقدمة أقرب إلى الأخلاق المثالية الدينية، وبنو أمية أقرب إلى الأخلاق العملية الدنيوية، وقد يتردد المؤرخ في قبول بعض الروايات المتقدمة على علاتها، ولكنه لا يحتاج إلى المشكوك فيه من تلك المرويات؛ ليعلم هذا الفارق الواضح من خلائق العشيرتين فيما أُثِرَ عنهم قبل الإسلام وبعد الإسلام، ففي حلف الفضول قام بنو هاشم بالأمر، وقام به معهم بنو أسد وبنو زهرة وبنو تيم، وتخلى عنه عبد شمس فلم يشتركوا فيه. وحلف الفضول هذا هو الذي قال عنه النبي عليه السلام: «لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلف الفضول … أما لو دُعِيْتُ به اليوم لأجبت، وما أحب أن لي به حُمْر النَّعَم وأني نقضته.»

وخلاصة قصته أن رجلًا يمانيًّا قدم مكة ببضاعة، فاشتراها رجل فلواه بحقه وأبى أن يرد إليه بضاعته، فقام في الحجر أو في مكان على شرف وصاح يستغيث، وكان من أجل ذلك أن تعاهد أناس من بني هاشم وأحلافهم ألا يظلم بمكة غريب ولا قريب ولا حر ولا عبد؛ إلا كانوا معه حتى يأخذوا له بحقه من أنفسهم ومن غيرهم، وعمدوا إلى ماء من زمزم فجعلوه في جفنة وبعثوا به إلى البيت فغسلت به أركانه وشربوه.

وقد أبى الأمويون وبنو عبد شمس عامة على أحد منهم أن يدخل هذا الحلف، فكان أحدهم عتبة بن ربيعة يقول: «لو أن رجلًا وحده خرج من قومه؛ لخرجت من عبد شمس حتى أدخل حلف الفضول.»

وإن طبيعتين يفصلهما هذا الفاصل من ذوات النفوس، لا جرم تتنافران وإن ضمهما بلد واحد، وإنهما في البلد الواحد لأخلق بالتنافر من المتباعدين.

هذه العجالة عما كان من المنافرة بين بني هاشم وبني أمية في الجاهلية تدخل في سيرة عثمان من مداخل شتى، وقلَّ أن يمر بنا مبحث في عمل من أعماله أو أخلاقه إلا كانت به عودة إلى تلك المنافرة.

فمنها نفهم أن فضل عثمان في إسلامه لا يدانيه فضل أحد من السابقين المعدودين إلى الإسلام؛ إذ لم يكن منهم من أقامت أسرته بينها وبين النبي هذه الحواجز العريقة من المنافسة والملاحاة، وكلهم كان بينهم وبين الإسلام ما كان بين القديم عامة والجديد خاصة، ولم تبلغ عداوتهم أن تكون من عصبية اللحم والدم، أو عصبية البيت كما كانت عداوة الأمويين للهاشميين، وليست هذه العداوة في الجاهلية بالشيء الهين ولا بالعقبة المذللة، فقد رأينا رجلًا من بني عبد شمس كان يتمنى أن يشهد حلف الفضول، فحماه أن يفعل ذلك خشية الخروج على قومه ببدعة لم يقبلوها ولم يشتركوا فيها، وهذا مع ما هو واضح من الفارق بين دعوة كحلف الفضول لا تنقض دينًا ولا تغير عبادة ولا تميز أحدًا من الداخلين فيها بشرف أو سيادة، وبين دعوة كالدعوة المحمدية: تحطم كل صنم، وتبدل كل عبادة، وتثبت لبيت عبد المطلب شرفًا لا يسمو إليه شرف بين الناس كافة، فضلًا عن قريش وأمة العرب بكل من تشتمل عليه.

وما تقدم من شواجر النزاع بين أمية وهاشم كافٍ لإبانة عن فضل عثمان في سبقه مع السابقين إلى قبول الدعوة المحمدية. إلا أن هذا الذي تقدم لم يكن شيئًا إلى جانب الشر الذي قوبل به النبي في بيت عثمان نفسه وبين عمومته وقرابته من جملة الأمويين.

فالحكم بن العاص — عم عثمان — كان يتصدى للنبي، ويشتمه ويمشي وراءه يحكيه في مشيته، ويخلج بأنفه وفمه، فقيل: إنه عليه السلام التفت إليه وهو بهذه الحالة فلزمه ذلك الاختلاج، وقال فيه عبد الرحمن بن حسان وهو يهجو مروان ابنه:

إن اللعين أباك فارْمُ عظامه
إن تَرْم ترم مُخلِّجًا مجنونا
يُضحى خَميص البطن مِنْ عمل التقى
ويظل مِنْ عمل الخبيث بطينا

وقد لبث على دِخلة نفسه بعد إسلامه عام الفتح خوفًا من القتل، فكان يتطلع على النبي في داره، فرآه مرة فقال: «من عَذِيرى من هذا الوَزَغَة!» ثم أمر ألا يساكنه بالمدينة، فأُخْرِج مع بنيه إلى الطائف لا يدخل المدينة ما أقام فيها عليه السلام.

ومنهم عقبة بن أبي معيط الذي كان يتربص بالنبي حتى يسجد في صلاته فيلقي على رأسه سلا الشاء أو يطأ على عنقه الشريفة، كما قال النبي في يوم بدر: «إنه وطئ على عنقي وأنا ساجد، فما رفعت حتى ظننت أن عيني قد سقطتا.» وكان أحد الأسرى الذين قتلوا ببدر لشدة ما ابتلى به المسلمون من أذاهم قبل الهجرة، وفي بيت عقبة هذا أقام عثمان زمنًا؛ لأنه تزوج من أمه بعد موت أبيه في صباه.

وتصدى للنبي عليه السلام كثيرون غير هذين من قرابة عثمان وخاصة أهله، ولم يدخل في الإسلام أحد من بني أمية قبله مع هذه العداوة في أسرته كلها وفي خاصة قرابته منها، فله من فضل هذه السابقة ما ليس لأحد السابقين إلى قبول الدعوة المحمدية.

ولما أسلم رضي الله عنه أخذه عمه الحكم، فأوثقه رباطًا وعذبه، وأقسم لا يخلينه أو يدع ما هو فيه؛ فأقسم لا يدعنه أبدًا، وصبر على العذاب حتى يئس منه عمه فأخلاه.

ورُوِيَ في سبب إسلامه أن أبا بكر شرح له قواعد الإسلام وهداية الدين الجديد وأنس منه خشوعًا وتفكيرًا؛ فقال له: «ويحك يا عثمان، والله إنك لرجل حازم، ما يخفى عليك الحق من الباطل. ما هذه الأوثان التي تعبدها وقومك؟ أليست حجارة لا تسمع ولا تبصر ولا تضر ولا تنفع؟» فراجع نفسه وقال: «بلى، والله إنها لكذلك»؛ فدعاه أبو بكر إلى لقاء النبي ولقيه، فقال له عليه السلام: «يا عثمان، أجب الله إلى جنته.» قال عثمان: «فو الله ما ملكت حين سمعت قوله أن أسلمت وشهدت أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدًا عبده ورسوله، ثم لم ألبث أن تزوجت رقية.»

ومن المتواتر أن عثمان كانت له خالة اسمها سعدي بنت كُرَيز تتكهن وتتعبد، ونقل عنها أنها هنأته بإسلامه وزواجه، فقالت:

هدى الله عثمان الصفي بقوله
فأرشَده والله يهدي إلى الحق
فبايعَ بالرأي السديد محمدًا
وكان ابن أروىَ لا يصد عن الصدق
وأنكحه المبعوث خيرَ بناتهِ
فكان كبدرِ مازجَ الشمس في الأفق
وينقل عنها غير ذلك أنها كانت طرقت٥ وتكهنت عند قومها، فلما رأته بعد قيام النبي بالدعوة قالت:
أبْشِر وحُييت ثلاثًا تَترى
أتاك خيرٌ وَوُقِيتَ شرًّا
أنكحتَ والله حصانًا زَهرًا٦
وأنت بكر ولقيت بكرًا
وافيتها بنت عظيم قدرًا
بنت نبيٍ قَد أشَاد ذِكرًا

قال عثمان: «فعجبت من كلامها وسألتها: يا خالة، ما تقولين؟!» قالت: «يا عثمان، لك الجمال ولك اللسان، هذا نبي معه البرهان، أرسله بحقه الدَّيان، فاتبعه واهجر الأوثان.» واستزادها قائلًا: «يا خالة، إنك لتذكرين شيئًا ما وقع ذكره في بلدنا فأبينيه لي.» قالت: «محمد بن عبد الله رسول من عند الله، جاء بتنزيل الله يدعو إلى الحق والهدى.»

ويقال: إن عثمان إنما ذهب إلى أبي بكر بعد ما سمعه من خالته، فرآه أبو بكر مفكرًا فسأله، وجرى بينهما بعد ذلك ما تقدم من النصيحة والاستجابة على ما اتفقت به الروايات.

ونحن نسقط من حسابنا ما رُوِي من كلام الكاهنة؛ لأنه ضعيف السند لا يبقى منه إلا أن خالة لعثمان كانت تتكهن وتتعبد، وأن مسألة الدين في بيته كانت شغلًا شاغلًا لمن يأخذه على العصبية والعناد أو يأخذه على العبادة والتقوى، فما نظن أن رجلًا في الثلاثين — وهي سنه عند إسلامه — كان يعصى آله جميعًا، ويطيع شيخة عقامًا لو لم يكن في ضميره باعث مطاع إلى الإيمان بالدين الجديد.

وفي وسعنا أن نتخيل غضب قومه الأقربين من إسلامه، فقد كان كأشد غضب لحق مسلمًا من قومه المقيمين على الجاهلية، ولكنه مع هذا لم يمنع أناسًا منهم أن يلوذوا به خوفًا على أنفسهم بعد هزيمتهم، ولم يمنع أن يتشفع لهم عند النبي وصحبه ويسأله العفو عنهم، وكذلك نرى أن تاريخ أمية في الجاهلية يحضرنا عند تقدير فضل عثمان في إسلامه، ويحضرنا عند تقدير أعذاره وعلل أعماله التي أُخذت عليه بعد ولايته الخلافة؛ فقد كان لتدعيم العصبية وتأليبها شأن قديم في تاريخ هذه الأسرة ألجأها إلى استلحاق الأبناء من الموالي، وإلى تزويج البنين من زوجات آبائهم أو الموالي من زوجات أوليائهم، ولا ندري على التحقيق بم نعلل هذه العادة التي انفردوا بها أو كادوا، إلا أنها قد تعلل بأن القوم لم يكونوا من الخمول بحيث يسكنون إلى خمولهم، ولم يكونوا من العزة الراسخة بحيث يطمئنون إلى عزتهم، وأنهم — وإن لم يعقموا — لم تشتهر عنهم غزارة الذرية في الجاهلية، ولا في الإسلام، وهذه سلسلة ولاية العهد أوشكت أن تنقطع في كل بيت من بيوتهم ولي الخلافة بعد قيام الدولة الأموية، وربما انقرض البيت في جيل أو جيلين وبقي معاصروه من غيرهم عدة أجيال.

وقد انتهت المفاخرة بعد الإسلام بين المسلمين من بني أمية وبين بني عبد المطلب، فما من أُموي مسلم كان يتعالى إلى مطاولة آل النبي بالنسب من جانب آبائه عليه السلام خاصة، ولكنهم مع هذا — ولا استثناء لأصدقهم إسلامًا كعثمان وصحابة النبي — قد كانوا يودون لو سمعوا عن أمية كلما سمعوا عن هاشم وبنيه. وتقدم أن معاوية سأل دغفلًا النَّسابة عن أمية بعد سؤاله عن عبد المطلب، وابن أبي الحديد يروي مثل هذا عن عثمان في أيام خلافته، وأنه رضي الله عنه تمنى رجلًا يحدثه عن الملوك وسير الماضين؛ فذكروا له رجلًا بحضرموت، فكان مما سأله عنه: أرأيت عبد المطلب؟ قال: «نعم، رأيت رجلًا قعدًا أبيض طوالًا مقرون الحاجبين بين عينيه غرة يقال إن فيها بركة، وأن فيه بركة.» فعاد يسأله: «أفرأيت أمية؟» قال: «نعم، رأيت رجلًا آدم دميمًا قصيرًا أعمى يقال: إنه نكد. وإن فيه نكدًا.» قال عثمان: «حسبك من شر سماعه وصرف الرجل.»

ولا ينبغي أن ينسى العذر حيث يذكر الفضل للرجل من سوابق آله وذويه.

١  القدح: السهم.
٢  المقت: نكاح كان في أيام الجاهلية، وهو زواج الرجل من امرأة أبيه.
٣  مذودًا: لسانًا.
٤  جبه: أي رده وضرب جبهته.
٥  تتكهن وتضرب بالحصى، والطراق هم المتكهنون.
٦  حصانًا: عفيفة، الزهراء: ذات الوجه الأبيض.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤