الفصل التاسع

المبايعة

إذا لخصت سنة الصديق أو سنة الفاروق في تولية العهد بعدهما، كانت خلاصتها أنها إبراء للذمة أمام الله؛ درءًا للخلاف وحرصًا على الوحدة الإسلامية.

ولا بد من استحضار هذه الحقيقة لمنع كل شبهة، وتأويل كل قصد، ودفع كل فرية عند تعليل الطريقة التي اختارها كلاهما لتحقيق هذه البغية واختلفا فيها ظاهرًا، ولا اختلاف بينهما باطنًا فيما قصدا إليه.

فلا تدبير هناك ولا احتيال لغاية يرميان إليها غير تلك المصلحة أو تلك الوحدة، ومن ظن أن الصديق قد اختار عمر ليقصي عن الخلافة غيره، أو ظن أن عمر قد اختار جماعة الشورى ليرجح الكفة في جانب واحد منهم على سواه؛ فهو ينكر عليهما الإسلام ولا ينكر عليهما حسن النية أو حسن التدبير وحسب، فإن أحدًا يؤمن بأنه محاسب على نيته وعمله إذ يودع الدنيا ويستقبل الآخرة؛ لن يحتال ولن يدبر لهواه وهو يعلم أنه يغضب الله بما يفعل، ولو كان لأحدهما هوى في أحد لاختار أبو بكر من بني تيم، واختار عمر من بني عدي أو بني الخطاب، وما كان ينبغي لهما الهوى وهما في سطوة الدنيا وجاه الولاية، فكيف ينبغي لهما وهما مقبلان على الموت مؤمنان بحساب لا شك فيه؟!

لم يكن هناك نظامان دستوريان كما وهم بعض المحدثين، الذين أرادوا أن يعيِّنوا بلغة الدساتير العصرية نظامًا لتولية العهد في سابقة الصديق أو سابقة الفاروق، وإنما هما نظام واحد يتبعه كلاهما في موضع صاحبه، فما نحسب أن أبا بكر كان مسميًا أحدًا بعينه لو كان في موضع عمر، وما نحسب أن عمر كان محجمًا عن التسمية لو كان في موضع أبي بكر، وليس البحث عندهما أيُّ أولياء العهد أفضل وأحب إليهما، ولكنما البحث الذي يعنيهما ويشغلهما: أيهم أحب إلى المسلمين وأقْمَن أن يجمعهم على بيعة واحدة وكلمة متفقة، ولا يعقل أن أحدًا منهما كان يعلم في طويته أن ثمة وسيلة غير الوسيلة التي اختارها لتحقيق الوحدة المنشودة ثم يعدل عنها؛ ليأثم في حق ربه وحق دينه وحق رسوله وحق المسلمين كافة، تبرعًا منه بالإثم حيث لا حاجة ولا مصلحة ولا فرصة بعدها للندم والتوبة.

حضرت الوفاة أبا بكر، فسأل نفرًا من نخبة الصحابة عمن يتولى أمور المسلمين بعده، فذكروا عمر وأشار بعضهم إلى شدته، فقال لهم: إنه كان يشتد؛ لأنه يراني رقيقًا فإذا وكل إليه الأمر فلا خوف من شدته. وروى محمد بن سعد أن جماعة من الصحابة دخلوا عليه لما عزم على استخلاف عمر، فقال له قائلون منهم: «ما أنت قائل لربك إذا سألك عن استخلافك عمر علينا وقد ترى غلظته؟» فقال أبو بكر: «أجلسوني» ثم جلس فقال: «أبالله تخوفونني؟ خاب من تزود من أمركم بظلم، أقول: لأنني قد استخلفت عليهم خير أهلك. أبلغوا عني ما قلت لكم مَنْ وراءكم.»

ثم اضطجع وجاء عثمان بن عفان، فجعل يملي عليه: «اكتب بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما عهد أبو بكر في آخر عهده بالدنيا خارجًا منها، وعند أول عهده بالآخرة داخلًا فيها، حيث يؤمن الكافر، ويوقن الفاجر، ويصدق الكاذب، إني استخلفت بعدي عمر بن الخطاب فاسمعوا وأطيعوا، فإني لم آل الله ورسوله ودينه ونفسي وإياكم خيرًا، فإن عدل فذاك الظن به وعلمي فيه، وإن بدل فلكل امرئ ما اكتسب، والخيرَ أردت ولا علم لي بالغيب، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.»

وكان يملي وتدركه غشية، فلما قال: «استخلفت بعدي» ولم يذكر اسما أتم عثمان وصيته باسم عمر بن الخطاب. ثم أفاق أبو بكر فسأله: ماذا كتبت؟ فأعاد عليه العبارة كما زادها، فدعا له وبارك عليه، وقال له: «هكذا الظن بك، لو كتبت اسمك لكنت لها أهلًا.»

والقوم في معرض المحاسبة لأنفسهم أمام الأمانة العظمى لا يصطنعون زخارف المجاملات التي يتلهى بها طلاب الظرف ورواد الأندية في زماننا هذا وقبل زماننا، فما كان عمر ليتنحى عن الأمانة وقد اختير لها وهو يعلم أنه أقدر عليها؛ فإنه محاسب على إنكاره حقه كما يحاسب على إنكار حق غيره إذا اجتمعت له صفة الولاية دونه. فكان يتولى الخلافة وهو يقول: «لو علمت أن أحدًا أقوى على هذا الأمر مني، لكان أن أقدم فتضرب عنقي، أحبَّ إليَّ من أن ألِيَه.»

ثم حضرته الوفاة فلم يعهد في بادئ الأمر لأحد، ونقل إليه حديث الناس إذ يقولون: «إنه غير مستخلف، ولو كان له راعي إبل أو راعي غنم ثم ترك رعيته كان قد فرط في أمانته، فماذا يقول لله عز وجل إذا لقيه ولم يستخلف على عباده؟» فأصابته كآبة ثم نكس رأسه طويلًا، ثم رفعها وقال: «إن الله تعالى حافظ الدين، وأي ذلك أفعلُ فقد سن لي، إن لم أستخلف فإن رسول الله لم يستخلف وإن أستخلف فقد استخلف أبو بكر.»

وعاوده في هذا الحديث فجعل يسأل كأنما يسأل نفسه: «من أستخلف؟» وروى عمر بن ميمون الأودي أنه قال بعد ذلك: لو كان أبو عبيدة حيًّا لاستخلفته، وقلت لربي إن سألني: سمعت نبيك يقول: إنه أمين هذه الأمة، ولو كان سالم مولى أبي حذيفة حيًّا استخلفته وقلت لربي إن سألني: سمعت نبيك يقول: إن سالمًا شديد الحب لله تعالى.» فقال له المغيرة بن شعبة: «أدلك عليه؟ عبد الله بن عمر.» فنهره قائلًا: «قاتلك الله! والله ما أدرت الله بهذا. ويحك! كيف أستخلف رجلًا عجز عن طلاق امرأته؟! لا أرب لنا في أموركم، فما حمدتها فأرغب فيها لأحد من أهل بيتي، إن كان خيرًا فقد أصبنا منه، وإن كان شرًّا فقد صرف عنا. بحسب آل الخطاب أن يحاسب منهم رجل واحد ويسأل عن أمر أمة محمد. أما لقد جهدت نفسي وحرمت أهلي، فإن نجوت كفافًا لا وزر ولا أجر إني لسعيد …»

ثم قال: «انظر، فإن أستخلف فقد استخلف من هو خير مني، وإن أترك فقد ترك من هو خير مني، ولن يضيع الله دينه.»

وراجع نفسه وروجع في الاستخلاف مرة بعد مرة، فقال: «ما أردت أن أتحملها حيًّا وميتًا. عليكم هؤلاء الرهط الذين قال رسول الله : إنهم من أهل الجنة، وهم: علي، وعثمان، وعبد الرحمن، وسعد، والزبير، وطلحة؛ فليختاروا منهم رجلًا، فإذا ولوا منهم واليًا فأحسنوا مؤازرته وأعينوه.»

ثم دعا بهم فحضروا إلا طلحة كان غائبًا، فقال لهم: «إني نظرت فوجدتكم رؤساء الناس وقادتهم، ولا يكون هذا الأمر إلا فيكم، وقد قُبِض رسول الله وهو عنكم راضٍ، وإني لا أخاف الناس عليكم إن استقمتم، ولكني أخافكم فيما بينكم فيختلف الناس.»

ووضع رأسه وقد نزفه الدم، فتناجوا بينهم حتى ارتفعت أصواتهم، وقال عبد الله بن عمر: «سبحان الله! إن أمير المؤمنين لم يمت بعد!» فسمعه فانتبه، وقال: «أعرضوا عن هذا، فإذا مت فتشاوروا ثلاثة أيام، وليصل بالناس صهيب، ولا يأت اليوم الرابع إلا وعليكم أمير منكم، ويحضر عبد الله بن عمر مشيرًا ولا شيء له من الأمر، وطلحة شريككم في الأمر، فإن قدم في الأيام الثلاثة فأحضروه أمركم، وإن مضت الأيام الثلاثة فامضوا.»

والتفت سائلًا: «ومن لي بطلحة؟!» قال سعد بن أبي وقاص: «أنا لك به ولا يخالف إن شاء الله تعالى.»

وقال لأبي طلحة الأنصاري: «يا أبا طلحة، إن الله طالما أعز بكم الإسلام؛ فاختر خمسين رجلًا من الأنصار، فاستحث هؤلاء الرهط حتى يختاروا رجلًا منهم»، وقال لصهيب: «صلِّ بالناس ثلاثة أيام، وأدخل هؤلاء الرهط بيتًا وقم على رءوسهم، فإن اجتمع خمسة وأبي واحد فاشدخ رأسه بالسيف، وإن اتفق أربعة وأبي اثنان فاضرب رءوسهما، وإن رضي ثلاثة رجلًا وثلاثة رجلًا فحكموا عبد الله بن عمر، فإن لم يرضوا بحكم عبد الله بن عمر، فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف، واقتلوا الباقين إن رغبوا عما اجتمع فيه الناس.»

•••

على هذا الوجه أبرأ عمر ذمته من قضية الاستخلاف.

وعلى هذا الوجه نرى عقل رجل من أولئك الرجال الأفذاذ يعمل في تفصيلات هذه القضية التي واجهته بجميع عقدها ومخاطرها لأول مرة في حياته، وهو يفارق تلك الحياة: يقلبها على جميع الوجوه، ويفرض لها جميع النتائج، ويطرق أبوابها فيفتح منها ما ينبغي أن يفتح، ويغلق منها ما ينبغي أن يغلق، ويلاقي من جانب ما يخشاه من جانب، ويختار الرجال ثم يختار الخطط على كل احتمال من إحسان أو إساءة ومن وفاق أو شقاق، ويفعل ذلك في غمرات الموت بين صرعات الألم من جراحه القاتلة، ويعالج به أمرًا لم يعالج من قبل على هذا المثال أو على مثال غيره، وكأنما هو من خبراء الاختصاص في دساتير الحكم، درسها وتلقى دروسها من أساتذتها الذين سبقوه إلى تقريرها وتدوين وقائعها ومواقعها، وجلس ليوازن ويقابل، ويطابق ويوافق، ومن حوله الأعوان يلبون ما يطلب ويستدركون ما يفوت، وينتهون في سعة من الوقت إلى قرارهم وهم وادعون آمنون أن يصيبهم مكروه من مغبة ما قرروه.

ولو كان تفكيره لعذر يتكلم به أو لحجة يسكن إليها لقد كان حسبه أن يبرئ ذمته بالطمأنينة إلى الدين في حراسة الله، أو كان حسبه أن يبرئ ذمته بما جرى عليه الأمر في عهد رسول الله، ولكنه لا يلتمس عذرًا يقال وحسب، أو حجة تقنع وكفى، بل يسأل نفسه ويحاسبها على اختلاف الأمور بين عهد وعهد، وتباين الأعذار من حال إلى حال؛ فلا يدع من جوانب القضية شبهة يوردها من يحاسبه إلا أوردها لنفسه، كأنما هو حامل الميزان.

فمن سأل عن معجزات العقائد في كواكب السماء أو أطواد الأرض؛ فهذه معجزة المعجزات التي تأتي بها العقيدة في نفس الإنسان: تخرجه من جوف الصحراء كفؤًا لأعضل المعضلات بخلقه، وكفؤًا لها بعقله، وكفؤًا لها بعمله، ونمطًا من الشعور بالتبعات لا يُجارى، ونمطًا من القدرة على النهوض بها يطول الزمن بأبناء الحضارات قبل أن يبلغوه وقبل أن يعرفوه.

ومن آيات بعد النظر في سبر أغوار الرجل أنه جعل للترجيح بين أصحاب الشورى رجلين: هما عبد الله بن عمر، وعبد الرحمن بن عوف، فأما عبد الله بن عمر فهو الذي نحَّاه عن المشاركة في الخلافة، وأعده للترجيح بين المختلفين وليس له من الأمر شيء، وأما عبد الرحمن بن عوف فلم يلبث أن نحَّى نفسه ليقبل حكمه؛ فكان بحق أصلح المتشاورين لترجيح إحدى الكفتين.

ومن آيات بعد النظر في الاختيار وسبر الأغوار أنه أقام أبا طلحة الأنصاري على رأس خمسين ممن يختارهم لقمع الفتنة في مهدها إذا اختلف المتشاورون؛ فكان أبو طلحة عند ظنه حزمًا وتَقِيَّةً قال للقوم وقد تنازعوا الرأي: «لقد حسبتكم تتدافعونها ولا تتنافسونها»، ثم أقسم لا يمهلهم لحظة بعد الأيام الثلاثة، ثم هو صانع بهم ما أمر به أمير المؤمنين.

ومن آيات بعد النظر في الاختيار أنه اختار صهيبًا للصلاة بالناس، فهو الإمام الذي لا تخشى له دعوة من تقديمه للصلاة، ولا يأبى الناس أن يأتموا به وقد أمَّهم قبل ذاك.

ومن آيات بعد النظر في الاختيار وسبر الأغوار أنه اختار طلحة مع الستة وهو غائب من المدينة، أوما كان في الخمسة المقيمين بالمدينة غنى وكفاية؟ أوما كان لطلحة بديل من سائر الصحابة المقيمين؟ جواب ذلك عند التاريخ في نهاية عهد عثمان، وعند التاريخ في بداية عهد علي، وعند عمر قبل ذلك باثنتي عشرة سنة.

وآية الآيات دستوره في اختيار الستة دون سائر الصحابة من الأنصار والمهاجرين.

أتراه اختارهم جزافا كما شاء؟! ذلك دستور لا يلزم الناس جميعًا ولا حجة له عليهم فيه إذا سألوه عن فضل المختارين على غير المختارين؟

أتراه اختارهم من قبائل قريش؛ ليكون كل منهم نائبًا عن قبيلة منها أو متكلمًا باسم بيت من بيوتات الرئاسة فيها؟! تلك هي العصبية يحييها في أسوأ أوان لإحيائها، حيث تراد الوحدة والغيرة على العقيدة، ولا تراد العصبيات الجاهلية أو لا يراد الاعتراف بها إذا تيقظت على غير إرادة.

أتراه اختارهم من البدريين وذوي السوابق في الجهاد؟ لقد كان من هؤلاء عند وفاة عمر نفر غير قليل. لو جمعهم كلهم لكثروا، ولو فاضل بينهم؛ لما وضحت لهم أسباب المفاضلة، ومنهم من هو ذو فضل وليس بذي رئاسة تتبع، ومنهم من ذوي الفضل والرئاسة من لو اجتمعوا لاختل ميزان الترجيح وبطل معنى الاختيار.

فلا بد من اختيار ولا بد من دستور يثاب إليه في الاختيار، وكان الدستور الذي ثاب إليه عمر — حيث يعجل المرء عن الروية — غاية في الروية والدقة في الموازنة بين جميع الوجوه.

كان دستوره أن أصحاب الشورى هم الذين ذُكروا بأسمائهم في خطبة النبي عليه السلام بعد حجة الوداع، وهم الذين يتفق الناس على مَن يقع عليه الاختيار منهم؛ فتكون له حجته على أصحاب الشورى وتكون لهم حجتهم عليه.

وعمر يعلم أن طلحة كان يطمح إلى استخلافه بعد أبي بكر، وكلاهما من عشيرة واحدة وهي قبيلة تيم، فقال له أبو بكر: «أما والله لو وليتك لجعلت أنفك في قفاك، ورفعت نفسك فوق قدرها؛ حتى يكون الله هو الذي يضعها …»

وما كانت تخفي على عمر فضيلة في واحد من الستة ولا نقيصة، وما كان يغمط لهم فضلًا ولا يغضي على نقص، وأولهم عبد الرحمن بن عوف الذي أقامه بينهم مقام الحكم الذي يرجح بين العدلين، فقال له: إن إيمانه يرجح بنصف إيمان الأمة، وقال عنه لابن عمر: نعم المرء … ذكرت رجلًا صالحًا إلا أنه ضعيف، وهذا الأمر لا يصلح له إلا الشديد من غير عنف، اللين من غير ضعف، الجواد من غير سرف، الممسك من غير بخل.

ورأيه في الزبير أنه مؤمن الرضا كافر الغضب، وقد صارحه برأيه فيه فقال له: «لعلها لو أفضت إليك ظللت يومك تلاطم بالبطحاء على مد من شعير …»

ورأيه في سعد أنه أهل لها … فإن تولوه فهو أهل، وإلا فليستعن به الوالي فإني لم أعزله عن ضعف ولا خيانة، وكان يقول: «إذا روى سعد حديثًا فلا تسألوا عنه غيره لصدقه وأمانته.»

وكان يظن مع هذا أنه لا يليها «إلا أحد هذين الرجلين: عليٍّ وعثمان، فإن ولي عثمان فرجل فيه لين، وإن ولي عليٌّ ففيه دعابة وأحرى به أن يحملهم على الحق.»

وقال لعثمان: «كأني بك قد قلدتك قريش هذا الأمر لحبها إياك؛ فحملت بني معيط على رقاب الناس، وآثرتهم بالفيء.» وقال لعليٍّ مثل ذلك عن بني هاشم ولم يذكر الفيء، وإذا صح ما جاء في إحدى الروايات١ أنه قال لعثمان بعد مقالته الأولى: «فسارت إليك عصابة من ذؤبان العرب فذبحوك على فراشك ذبحا»، فإنها لمن نبوءاته التي جعلته من المحدَّثين، أي من الذين يُتَحدَّث إليهم بلسان الغيب، كما قال عنه النبي عليه السلام.

ولا خوف عليهم من الناس إذا اتفقوا كما قال لهم حين دعاهم للمشاورة وانتخاب واحد منهم للخلافة، فليس أسلم عاقبة ولا أصدق حجة من اتفاقهم على إسناد الخلافة إلى أحدهم، فإن اتفق أكثرهم فأبو طلحة مأمور بحسم الفتنة قبل أن تنجم والقضاء على المخالفة قبل أن يبرح مجلس الشورى، فإن لج الخلاف مع هذا وبعد هذا فلا حيلة فيه.

وقد روى الثقات حديث النبي عليه السلام حين عاد من حجة الوداع قبيل وفاته، فقال: «أيها الناس إن أبا بكر لم يسؤني قط فاعرفوا له ذلك، يا أيها الناس إني راضٍ عن: عمر، وعليٍّ، وعثمان، وطلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام، وسعد بن مالك، وعبد الرحمن بن عوف، والمهاجرين الأولين، فاعرفوا لهم ذلك …»

فحسب عمر أن يرتضي للمشاورة في أمر الخلافة من رضي النبي عليه السلام عنهم قبيل وفاته، وحسبه مع هذا أن يكون هؤلاء النفر الكرام المرضي عنهم هم ملتقى الآراء بين خاصة المسلمين وعامتهم، فلا يسمون خليفة إلا كان واحدًا من هؤلاء، ولا يحاول أحد في ذلك العصر أو في عصرنا هذا أن يزيد عليهم علمًا من أعلام الإسلام يومئذ إلا اعترضه مانع أو كان مستنده إلى سبب غير جامع، فقد كان العباس بن عبد المطلب حيًّا في ذلك الحين فلم يدخل في أصحاب الشورى، وقال ابن جرير الطبري في تعليل ذلك: «أنه — أي عمر — إنما جعلها في أهل السبق من البدريين والعباس لم يكن مهاجرًا ولا سابقًا ولا بدريًّا …»

ولكن الواقع أن العباس لم يذكر في خطبة الوداع، ولم يكن من المرشحين للخلافة مع وجود علي، وهو نفسه قد تقدم لمبايعة علي ثم أشار عليه ألا يدخل في جماعة الشورى فليس في استثنائه تعسف من عمر، وإنما التعسف أن يختاره لسبب ولا يختار معه كل من يشاركونه في هذا السبب، وذلك هو الاستثناء الذي لا يغني شيئًا ولا يطاع بسند شامل براء من التحكم والجزاف.

•••

ولقد علمنا فيما علمناه وألممنا به آنفا من آراء المعقبين على خطة الصديق وخطة الفاروق، أن بعضهم ود لو كان الفاروق قد نهج على منهاج سلفه في اختيار خلفه، وأنهم عابوا عليه أن يكل إلى الستة أن يتشاوروا في انتخاب واحد منهم؛ لأنهم تولوا هذه المهمة فدَاخَل كلًّا منهم الأمل في الخلافة والإيمان بصلاحه لولايتها، فانفتح بينهم باب التنافس وتطرقت إليهم نوازع الشقاق في هذا الباب.

ومعاوية بن أبي سفيان كان على رأس القائلين بهذا الرأي وهو نفسه حجة على نقيضه؛ لأنه قد اشرأب إلى الخلافة وتصدى للمبايعة بها، وليس هو من الستة ولا من كان يطمع في إسنادها إليه بوصية من الفاروق لو اختار الفاروق أن يعهد بعده لخليفة يسميه باسمه، وقد نادى معاوية بولاية العهد لابنه يزيد وبويع عليها طوعًا أو كرهًا لم يحسم بذلك خلافًا بين المسلمين عامة ولا بين بني أمية أو أبناء بيت أبي سفيان.

وما نحسب أن عمر كان يؤمن بترجيح واحد من الستة على الآخرين وإجماع المسلمين على مثل رأيه فيه، وأنه قادر على رد المخالفين له إلى الإجماع إن كان من الناس من يخالفه قبل المبايعة، وليس البحث في هذا المقام عن فضل العلم أو فضل البأس والفروسية، فربما قل الخلاف على صاحب الفضل فيهما بين أصحاب الشورى ورؤساء المهاجرين والأنصار كافة، وإنما البحث فيمن يجمع الناس إلى حكمه وفضله، وهو بحث لازم لا غنى عن المشاورة يومئذ فيه، ولو استغنى عنه أحد لاستغنى عنه عمر ولم يبال إن كان يحكم برأيه في ولاية العهد على يقين.

ولا ريب أنه حصر المرشحين بعده للخلافة؛ فأحسن حصرهم ولم يدع واحدًا منهم خارجًا من زمرتهم، فهم مرشحون لها عند أنفسهم وعند أنصارهم قبل أن يندبهم للمشاورة فيها، فإن صارت إلى واحد منهم باتفاقهم كان هذا ألزم لهم وأوجب؛ لتحرجهم من الخروج على مَن ولي الأمر باختيارهم، وكان أوجب لتحرجهم كذلك من الخروج على مشيئة عمر التي أملاها ورتب لها نتائجها.

كان ولي الأمر في ذلك المجتمع الوليد كفؤًا لأمانة الخلافة إلى النفس الأخير من أنفاس حياته المباركة؛ فأوصى وصيته المحكمة التي نظر فيها نظرته الشاملة، ولم يدع فيها بقية لنظرة ثانية، ولكن الوصايا مهما يبلغ من إحكامها وإلزامها لا تنفذ بغير منفذين يقدرون على تنفيذها ويصدقون النية فيه، فلو لم يكن أصحاب الشورى وقائد الجند وإمام الصلاة في الأيام الثلاثة أهلًا لأمانتهم؛ لما أغناهم حزم الخليفة الراحل شيئًا في تلك المهمة المعجلة التي يوشك أن يفسدها كل خطأ في القيام عليها وكل تأخير عن موعدها، وقد أدى الخليفة واجبه وبقي واجب المنفذين الذين ائتمنهم على الأمة بعد حياته، فمن حقهم على التاريخ أن يسجل لهم أداءهم لواجبهم وتصريفهم لأمانتهم على أتم الوجوه الميسرة لهم في تلك المهمة المحرجة … وفي زمرتهم قبل غيرها بعض محرجاتها، بل أعضل محرجاتها.

تنافسوا بينهم ولا جرم أقل من منصب الخلافة في الدنيا والدين يتنافس عليه المتنافسون، ومن المروءة أن يستشرف المرء إلى مقام الفاضل ويأبى لدينه ودنياه مقام المفضول، فإن لم يكن تنافسهم على مكانة عالية فهو تنافس يربئون به عن مظنة التخلف والقصور.

ثم ألهم أحدهم أول حل للمشكل تتبعه لا محالة سائر الحلول: واحد ينزع نفسه منها باختياره وينوب عن سائرهم في التوفيق بين المختلفين.

سبقهم إلى هذا الحل عبد الرحمن بن عوف، ولم يسبقهم إليه نزولًا بقدره عن أقدارهم، بل نزولًا به عن قدر الصديق والفاروق، فقد علم أن الرضى عن خليفة بعد هذين مطمع بعيد، ولم يشأ أن ينزل بنفسه منزلًا لا يُرضى له ولا يرتضيه.

ولم يخطر له أن يخلع نفسه بادئ ذي بدء قبل أن يرى منهم من عساه يصنع مثل صنيعه، فإن كان منهم من يخلع نفسه على أن يختار غيره فقد ضاقت بينهم شقة الخلاف، وإن لم يكن؛ فلينظر بعد ذلك فيما يلي خطوته الأولى من خطوات.

قال: «أيكم يخرج منها نفسه ويتقلدها على أن يوليها أفضلكم؟» فلم يجبه أحد فقال: «فأنا أنخلع منها»، ثم تقدم إلى الخطوة التالية فلم يخطئها، ووصل منها إلى حصر الخلافة في واحد من اثنين: علي وعثمان.

لقي كلًّا منهما فأراه أنه يعلم حجته ودعواه، قال لعليٍّ: «تقول يا أبا الحسن إني أحق من حضر بهذا الأمر لقرابتك وسابقتك وحسن أثرك في الدين، ولم تبعد في نفسك، ولكن أرأيت لو صرف هذا الأمر عنك فلم تحضر، من كنت ترى من هؤلاء الرهط أحق به؟» قال: «عثمان».

ولقي عثمان فقال: «إنك تقول: شيخ من بني عبد مناف، وصهر رسول الله وابن عمته، ولي سابقة وفضل، فأين يصرف هذا الأمر عني؟! لكن لو لم تحضر، فأي هؤلاء الرهط تراه أحق؟» فقال: «علي»!

وتختلف الروايات فيمن اختاره الزبير وسعد، ولكن الراجح منها أنهما ذكرا عثمان بشرط ولم يقطعا برأي في إيثار عليٍّ عليه.

فلما انحصر الترجيح بين عثمان وعليٍّ؛ خرج يسأل من يلقاه من غير أصحاب الشورى؛ فيذكر له بعضهم عثمان وبعضهم عليًّا، ويزيد المختارون لعثمان على المختارين لعليّ، وهو أمر لا غرابة فيه مع المعهود من طبائع الناس، وأنهم لا يجنحون إلى العظمة النابغة جنوحهم إلى الطيبة والسلامة، ولا ينفسون على الشيوخ ما ينفسونه على الفتيان والكهول.

كل أولئك وأبو طلحة الأنصاري رئيس الجند ينذرهم ويقسم لهم «بالذي ذهب بنفس عمر» لا يزيدنهم على الأيام الثلاثة، ثم يجلس في بيته فينظر ماذا يصنعون، وينفذ الأمر فيمن خالف وأصر على الخلاف.

•••

ولئن كان عمر موفقًا في اختيار كل لعمله لقد كان اختياره لأبي طلحة أوفق ما في هذا التوفيق. إنه الرجل الذي آخى النبي عليه السلام بينه وبين أبي عبيدة بن الجراح أولى الناس في رأي عمر بالخلافة لو عاش، وهو البطل الذي ثبت في وقعة أحد يوم انهزم أشجع الشجعان، ولزم النبي في ذلك اليوم المشهود يقف بينه وبين السهام والسيوف، ويتطاول بصدره ليدفع عنه ضربات المشركين الذين عرفوه وتعمدوه؛ ليصيبوا الدعوة في مقتلها إذا أصابوه، وشهد أبو طلحة وقعة حنين فبارز عشرين خصمًا وصرعهم وصاح صيحته التي كان عليه السلام يقول: «إنها في الجيش خير من مائة رجل»، ولم يكن يبالي الموت وهو في سعة من دنياه، ولم يعرف غير الجد فيما يعمل أو يقول.

وقد أوفى بأمانته في أيام الشورى، فلم يدعهم حتى فرغوا من عملهم في صبيحة اليوم الثالث، وكان فيه فصل الخطاب.

في تلك الليلة أتى عبد الرحمن بن عوف منزل المسور بن مخرمة، فأيقظه وأرسله يدعو الزبير وسعدًا، ثم بدأ بالزبير فقال له: «خل بني عبد مناف وهذا الأمر» قال الزبير: «نصيي لعلي»، ثم قال لسعد: «اجعل نصيبك لي فنحن كلالة» أي: أبناء عم من بعيد، وكلاهما من بني زهرة. فقال سعد: «إن اخترت نفسك فنعم، وإن اخترت عثمان فعليٌّ أحب لي.» ثم قال: «أيها الرجل بايع لنفسك وأرحنا وارفع رءوسنا»؛ فاعتذر عبد الرحمن لأنه خلع نفسه منها، وأعاد عليه مقالته: أنه لا يقوم مقام أبي بكر وعمر أحد بعدهما ويرضى الناس عنه.

ثم كان عليٌّ وعثمان آخر من دعاهم في تلك الليلة: دعا عليًّا فناجاه طويلًا، ثم دعا عثمان فناجاه إلى صلاة الصبح، ويظن أنه سأل كلًّا منهما عما ينويه إذا ولي الخلافة، وعن وصية عمر بعمال الولايات أن يتركوا في ولاياتهم عامًا بعد وفاته، ثم يصنع الخليفة ما بدا له من إقرار أو عزل على حسب أحوالهم وأحوال ولاياتهم، وأنه سأل كلًّا منهما عن سياسته عامة وخاصة في شئون: الأفياء والأرزاق والأجناد والسرايا والمغازي وسائر ما يتولاه من أمور الخلافة، ولا يقطع أحد بما دار بين عبد الرحمن وبين كل من عليٍّ وعثمان على حدة، وأغلب الظن أن الذين ذكروا شيئًا من هذا إنما ذكروه مستنبطين، ولم يذكروه نقلًا عن عبد الرحمن أو عن عليٍّ وعثمان. قال عبد الله بن عمر: من أخبرك أنه يعلم ما كلم به عبد الرحمن بن عوف عليًّا وعثمان، فقد قال بغير علم.

وحانت صلاة الصبح فصلوا في المسجد، وجمع عبد الرحمن رهط الشورى، وبعث إلى من كان بالمدينة من أهل السابقة والفضل من الأنصار وأمراء الأجناد فاجتمعوا حتى التج المسجد بأهله، وقام عبد الرحمن فقال: «أيها الناس، إن أهل الأمصار قد أحبوا أن يلحقوا بأمصارهم وقد علموا من أميرهم»؛ فصاح به سعيد بن زيد أحد ذوي السابقة الأولى في الجهاد: «إنا نراك أهلًا لها.» قال عبد الرحمن: «أشيروا عَليَّ بغير هذا.» قال عمار بن ياسر: «إن أردت ألا يختلف المسلمون فبايع عليًّا.» وقال المقداد بن الأسود: «صدق عمار. إن بايعت عليًّا، قلنا: سمعنا وأطعنا.» وإذا بعبد الله بن أبي السرح يناديه: «تبايع عثمان فلا تختلف قريش.» ويثني عبد الله بن أبي ربيعة فيقول: «صدق، إن بايعت عثمان قلنا: سمعنا وأطعنا.» فتنابز عمار وابن أبي السرح، واختلط القول بين بني هاشم وبني أمية، فعاد عمار يقول: «أيها الناس، إن الله عز وجل أكرمنا بنبيه وأعزنا بدينه، فأنى تصرفون هذا الأمر عن أهل بيت نبيكم؟» وبادره رجل من آل مخزوم شاتمًا: «لقد عدوت طورك يا ابن سمية. وما أنت وتأمير قريش لأنفسها؟»

وضاق سعد بن أبي وقاص صدرًا بهذه المنابذة وهذا الصخب فصاح بعبد الرحمن: «يا عبد الرحمن افرغ قبل أن يفتتن الناس.»

ولا ندري هل تعمد عبد الرحمن هذا التمهل قبل إعلان البيعة، أو أنه سكت حين اعترضه المعترضون باللجاج والمنابذة، فالغالب من تصرفه في أمر الشورى أنه كان يخطو الخطوة، ثم يتبعها ما بعدها بحساب وأناة، وآخر ما كان من ذلك أنه أرجأ محادثة الاثنين اللذين انحصرت فيهما الأقوال حتى كانا آخر من تحدث إليه، وأنه لما دعاهما دعا عليًّا ثم ثنى بعثمان.

فإن كان قد تمهل في المسجد على عمد فقد أحسن الروية؛ لأنه سكت حتى أيقن الحاضرون بما رأوه وما سمعوه أن الفتنة موشكة أن تكشر عن نابها إن لم ينته الناس من مبايعة خليفتهم تلك الساعة! هذا يذكر اتفاق قريش، وهذا يشترط، وهذا يقابل شرطه بمثله، وهذا يتكلم عن بني هاشم، وهذا يتكلم عن بني أمية. فلما صاح سعد صيحته بعبد الرحمن: افرغ يا عبد الرحمن قبل أن يفتتن الناس، كان صوته في تلك اللحظة كأنما هو صوت المسجد كله يتكلم بلسان واحد.

وأسرع عبد الرحمن فقال: «إني قد نظرت وشاورت؛ فلا تجعلن أيها الرهط على أنفسكم سبيلًا.» ودعا عليًّا وقال: «عليك عهد الله وميثاقه لتعملن بكتاب الله وسنة رسوله وسيرة الخليفتين من بعده.» فقال: «أرجو أن أفعل وأعمل بمبلغ علمي مع اجتهاد رأيي.» ودعا عثمان فقال له كذلك: «عليك عهد الله وميثاقه لتعملن بكتاب الله وسنة رسوله وسيرة الخليفتين من بعده.» فقال: «نعم.»

فرفع عبد الرحمن رأسه إلى سقف المسجد ويده في يد عثمان فقال: «اللهم اسمع واشهد … أني قد جعلت ما في رقبتي من ذلك في رقبة عثمان.» ثم بايعه بالخلافة، وبايعه بعده المهاجرون والأنصار.

وجاء في بعض أخبار ذلك اليوم أن عبد الرحمن بن عوف لما بايعه؛ ازدحم الناس عليه يبايعونه حتى غشوه عند المنبر، فقعد عبد الرحمن مقعد النبي صلوات الله عليه، وأقعد عثمان على الدرجة الثانية فجعل الناس يبايعونه، وأبطأ عليٌّ فقال عبد الرحمن: فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَىٰ نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (الفتح: ١٠). فرجع عليٌّ يشق الناس حتى بايع وهو يقول: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَىٰ مَا تَصِفُونَ (يوسف: ١٨).

وقد بايع رهط الشورى عثمان في المسجد ما عدا طلحة، فإنه كان غائبًا فقدم بعد ذلك وعلم بالبيعة فسأل: «أكل قريش راضٍ به؟» ثم قال له عثمان حين ذهب إليه: «أنت على رأس أمرك … إن أبيت رددتها.» قال طلحة: «أتردها؟» قال: «نعم» … فسأله: «أكل الناس بايعوك؟» قال: «نعم» قال: «قد رضيت، لا أرغب عما قد اجتمعوا عليه.»

ولا نلتفت هنا إلى زوائد الأقاويل عما خدع عليًّا وعمن خدعه؛ فإن ما أجملناه هنا من شتى الروايات هو الأشبه والأمثل بهم أجمعين.

ولكننا نلم بطرف من تلك الأقاويل حيث يزعم بعض الرواة أن عليًّا بايع وهو يقول جهرة: «خدعة وأي خدعة»، وأنه يعني بذلك أن عمرو بن العاص خدعه فانخدع، وأن ابن العاص لقيه في ليالي الشورى، فألقى في روعه أن «عبد الرحمن بن عوف رجل مجتهد، وأنك إن أعطيته شرطه، زهد فيك … ولكن تقبل على الجهد والطاقة»، ويزعم أصحاب هذه القصة أيضًا أن ابن العاص لقي عثمان، فقال له: «إن عبد الرحمن رجل مجتهد، وليس والله يبايعك إلا بالعزيمة» أي وفاقًا لشرطه، فاقبل منه عزيمته يبايعك عليها.

فهذه القصة وما هو من قبيلها ضرب من ضروب المخترعات المألوفة ممن يحبون أن يسندوا كل شيء إلى دهاء الدهاة وخديعة المخدوعين، فما كان عليٌّ بالذي يعتقد أن عمرو بن العاص يتآمر معه على عبد الرحمن وعثمان، وما كان عثمان بالذي يتلقى سر عبد الرحمن من عمرو بن العاص، وما تخطر هذه الخواطر إلا على بال الذين يتعشقون بطولة الدهاء؛ فيضعون عمرو بن العاص بحيث يعرف سر عبد الرحمن، ويعرف الشرط الذي سيعرض به الخلافة على عليٍّ وعثمان، ويجعل هذا يقول: «نعم» ويجعل ذاك يقول «لا» كما يشاء.

والأشبه والأمثل بهم جميعًا أن يكون عبد الرحمن بن عوف وغيره يشترطون ذلك الشرط بعينه على من يقبل أمانة الخلافة في تلك الآونة، وأن عليًّا وعثمان يقولان ما قالاه في جوابه، ولا حاجة إلى دهاء ولا إيحاء من النصحاء والوسطاء.

•••

إن حكم الحال أصدق من حكم المقال في جميع الأخبار، وهو كذلك على التخصيص في أخبار هذه المبايعة، إن لم يكن في رواية الأقوال والحوادث ففي رواية الشعور الذي كان يخامر الصدور ويتجمع فيها منذ زمن بعيد: شعور بحال لا تدوم، وخوف من تغيير وتبديل، واجتهاد في منع التغيير والتبديل أو في اجتناب الضرر منهما جهد المستطاع.

ومن الأحاديث التي رويت عن النبي صلوات الله عليه أن الخلافة ثلاثون سنة، ثم هي بعد ذلك ملك عضوض.

ومن كلام أبي بكر في معارض شتى أن الدنيا موشكة أن تغير من النفوس مالًا يحمد تغييره، ومن كلام عمر وعمله في أيامه جميعًا ما ينم على حذر كهذا أو أشد من خطر الدنيا على نفوس الأقطاب الكبار فضلًا عن الدهماء وسواد الدنيا.

وكانت لهذا الشعور أحيان يشتد فيها ويغلب على الناس عامة؛ حتى كأنه بديهة حاضرة لا تحتاج إلى تفكير، ومن هذه الأحيان فترات التوجس والترقب بين عهد وعهد منذ أيام النبي عليه السلام: بين وفاة النبي وقيام أبي بكر، وبين وفاة أبي بكر وقيام عمر، وبين وفاة عمر خاصة وقيام عثمان.

ولما حدثت فتنة الردة في أوائل عهد أبي بكر دهش الناس ولم يدهشوا: دهشوا لأنهم فوجئوا، ولم يدهشوا لأنهم — وقد وقع الذي وقع — لم يستغربوه، ولم يستكثروا حدوثه بعد صدمة كتلك الصدمة الهائلة، وبعد غياب صاحب الدعوة ومتعهدها وصاحب المنزلة التي لا تدانيها فيهم منزلة، ثم أصبح التوجس والترقب ديدنًا لهم في كل فترة من قبيلها، فتساءلوا بعد موت أبي بكر: ماذا عسى أن يكون بعد هذا الخليفة الرفيق الرقيق؟! ولعله تساؤل لم يعنتهم كثيرًا ولم يطل بهم أجله غير قليل؛ إذ كان أبو بكر لا يبرم أمرًا بغير مشورة عمر، وكانت سياسة الشيخين سياسة واحدة تلين معهما تارة وتشد تارة أخرى، فلما أشفق الناس بعد وفاة أبي بكر لم يشفقوا من تبديل سنة مرعية أو خروج على جادة متبعة، ولكنهم أشفقوا من شدة فيها وصرامة في حمل الناس عليها، ثم ذهب عمر بغتة والناس يستعظمون الخطوب ويلمسون بوادر التغير من بعيد ومن قريب، فعادوا إلى ديدنهم في أمثال هذه الفترة، وخيل إليهم أن كل أمر جائز، وكل خطر متوقع خلال هذه النقلة مما علموه إلى ما يجهلونه ويوجسون منه ويترقبونه.

وفي كل كلمة بدرت، وكل وصاة قيلت في هذه الفترة، إعراب مقصود أو غير مقصود عن هذا الشعور الغالب الذي بلغ أقصاه يومذاك: شعور بحالة يُخشى ألا تدوم، وخوف من تغير لا يُدرى كيف يُتقى.

عمر يوصي ببقاء الولاة عامًا، ويتوقع الفواجع من الأثرة والإيثار، ويريد «من يحمل الأمة على الحق»، ومن يشتد في غير عنف ويلين في غير ضعف. وعبد الرحمن يعلم أنه لا رضى عن أحد بعد الصديق والفاروق، ولا طمأنينة للناس إلا أن يطمئنوا إلى سيرة كالسيرة الأولى، وهم لا يعلمون من أين يأتي التبدل والانحراف.

إن تقرير هذه الحالة النفسية أهم من إحصاء مئات الحوادث والأقوال التي انحدرت إلينا من تلك الفترة؛ لأن الحوادث والأقوال لا تُفهم بغير فهم تلك الحالة النفسية، ولعل تلك الحالة في كثير من الأحيان هي مبعث الحوادث وأقوال القائلين فيها، فما كان أحد يعيب سياسة عثمان مخلصًا أو غير مخلص إلا كان الحذر من تبديل السنن ونقص السوابق حجة له يسوقها في خطابه للخليفة أو خطابه للخاصة والعامة من رعيته، وأصبح حضور هذا الحذر في الأذهان من دواعي المبالغة في تعظيم المخالفات وخلقها من غير شيء على نية حسنة عند بعضهم وعلى نية سيئة عند الأكثرين؛ لأنها نغمة العصر التي تفتح الآذان، وتتأهب الآذان لاستماعها في كل مكان.

وأهم من ذلك أن عثمان على رأس المسلمين قد ساوره ذلك الشعور، وداخلته تلك الحالة النفسية وجثمت في سريرته؛ حتى تمكن منه التسليم والاستسلام لما هو كائن لا محالة، فكان يقول لمحدثيه كما يقول في خطبه: إن ما تبتلى به هذه الأمة قدر واقع لا يدفع، وإن فتنة الدنيا طغت على النفوس طغيانها الذي لا تجدي فيه الحيلة أو المحاولة. وذلك كله مما نلمسه في استسلامه آخر أيامه، وتركه المحاولة أو عدوله عنها بعد المضي فيها، ونلمسه كذلك في شكه واسترابته في صدق العاملين وتعويله من أجل ذلك على أقربائه وخاصة ذويه عسى أن يصدقوه في رعاية السنن والمواثيق.

وتظهر تلك الحالة النفسية من خطبه الأولى كما تظهر من خطبه الأخيرة، فلما بايعه أصحاب الشورى خرج فيهم وهو أشدهم كآبة حتى أتى منبر رسول الله وقام يخطب الناس فأرتج عليه، وجاء في كلام من روى خبر الإرتجاج عليه أنه قال يومئذ: «أيها الناس، إن أول مَركبٍ صعب، وإن بعد اليوم أيامًا، وإن أعش تأتكم الخطبة على وجهها، وما كنا خطباء وسيعلمنا الله …»

مقام أدل من المقال، يدل على كثير.

وأول ما يدل عليه أنه لا تدبير ثمة ولا تحضير، فلو كان عثمان على علم باختياره للخلافة لما أعياه أن يعد لهذا المقام كفايته من المقال البليغ، ولكنها قد جاءته وهو لا يستبعد أن تفوته، ولا يزال يخشى في ذات نفسه أمام الله أن يتعجلها بالتحضير والتدبير، وأن يطوي في سره منها ما لم يكن له أن يبديه في العلانية.

ثم خطب فاتفقت الأقوال أو كادت على نصوص خطبه الأولى، وكان مدارها على: فتنة الدنيا، والوعد باتباع السنن واجتناب البدع، وتهدئة النفوس من قِبَل ما تخافه، ولا تخاف خطرًا أكبر من خطره.

قال في خطبته الأولى: «إنكم في دار قلعة، وفي بقية أعمار؛ فبادروا آجالكم بخير ما تقدرون عليه. فلقد أتيتم، صبحتم أو مسيتم، ألا وإن الدنيا طويت على الغرور، فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور. اعتبروا بمن مضى، ثم جدوا ولا تغفلوا فإنه لا يغفل عنكم. أين أبناء الدنيا وإخوانها الذين أثاروها وعمروها ومُتِّعوا بها طويلًا؟ ألم تلفظهم؟! ارموا بالدنيا حيث رمى الله بها …»

وقال في أوائل خطبه: «… إني قد حملت وقد قبلت، ألا وإني متبع ولست بمبتدع. ألا وإن لكم عليَّ بعد كتاب الله عز وجل وسنة نبيه ثلاثًا: اتباع من كان قبلي فيما اجتمعتم عليه وسننتم، وسن سنة أهل الخير فيما لم تسنوا عن ملأ، والكف عنكم إلا فيما استوجبتم. ألا وإن الدنيا خضرة قد شهيت إلى الناس ومال إليها كثير منهم؛ فلا تركنوا إلى الدنيا ولا تثقوا بها فإنها ليست بثقة، واعلموا أنها غير تاركة إلا من تركها …»

إن أقرب الأخبار إلى الصدق ما تهم بأن تنفيه؛ فيحمي صدقه بآية من دواعيه قبل النفس وقبل الواقع، وكل ما كان خليقًا أن يحدث عند مبايعة الخليفة الثالث قد حدث على وجهه الذي يطابق الواقع والمتوقع، وفي هذه الخطبة مطابقة لما يتطلبه الموقف من المعدات والعهود، وفيها زيادة وعد «بالكف عن الناس إلا فيما استوجبوه»، ولعلها الزيادة التي أتت في أوانها بعد ما تململ منها القوم من صلابة عمر ومنعه إياهم أن ينساحوا في الدنيا خوفًا عليهم منها وخوفًا منهم عليها.

أما المكائد التي أبدعتها أوهام المتوهمين فقد يبطلها قبل كل شيء أنها ليست بمكائد تعمل عملًا ينفع من يكيدها.

ومن هذه المكائد ما يخيل إلينا أن مخترعيها وضعوا حين وضعوها «قصة مسرحية» يعطون كل بطل من أبطالها دوره في الكلام ودوره في الدخول والانصراف، ومنها ما يخيل إلينا أن أصحاب الشورى كانوا عصبة محضرة مستعدة على مصارحة بينها لحرمان هذا واجتباء ذاك، وإحدى هذه الخيالات خيالة المستشرقين الذين توهموا أن أصحاب الشورى خصوا عثمان باختيارهم؛ لأنه شيخ يدلف إلى منيته فكلهم يطمع فيها بعد موته، أفحدث حقًّا أنهم خصوه وعرفوا يقينًا قبل أن يبايعه عبد الرحمن من سيكون مختاره ومجتباه؟!

وفي مكيدة أخرى من هذه المكائد التي «يمسرحها» المخترعون لها أن اختيار عثمان قرر الملك لبني أمية على نية مبيتة، فهل هي مسرحية يكتبها التاريخ نسخة بعد نسخة، ويريد هنا غير ما يريد هناك؟!

ولماذا تطمع القبائل أن تتداول الخلافة بعد خليفة من بني أمية، وهم أقدر على احتجانها وأرغب في الاستئثار بها بعد مآلها إليهم في صدر الإسلام؟!

كل هاتيك حيل مسرحية توضع لها أدوارها وأعمالها حسب منهاج التأليف. وأولاها بالشك فيه ما لاح عليه الإحكام والتوفيق بين الأدوار والأعمال، وأولاها بالقبول ما ليس وراءه تحضير ينتظم كما ينتظم التحضير في المسرحيات: شيء يراد وشيء لا يراد، ويعالجه فيستطيعه تارة ويعيي به تارة؛ فينقلب على غير ما تعمده وانتحاه.

وعلى هذا النحو المطبوع آلت الخلافة إلى عثمان.

١  رواها الجاحظ وابن أبي الحديد مسندة إلى ابن عباس.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤