مقال الشيخ محمد بن بليهد

بسم الله الرحمن الرحيم

الحديث على ذكر عكاظ والعثور على موضعه بعد اندراسه في أوائل القرن الثاني، وقد أكثر أهل المعاجم من ذكره، وأهل كتب التاريخ على اختلافٍ بينهم في رواياتهم، ولم يهتدوا إلى موضعه، وقد كشفنا مكانه بالروايات الصادقة التي وقفنا عليها ورأينا ما ذُكِر هناك:

موضعه يبعد عن مطار الحوية مسافة اثني عشر كيلًا للسيارات تقريبًا من الجهة الشرقية، غربي موضع ذلك السوق مجمع الواديين: وادي شرب ووادي الأخيضر، شرقيه ماء يقال له المبعوث. فالعجب من اندراس هذه السوق، وهي من أعظم أسواق العرب في الجاهلية، وفي أول الإسلام تنتابها الناس من كل ناحية، فلما كانت سنة ١٢٩ من الهجرة، وظهرت الخوارج الحرورية مع المختار بن عوف بمكة، نهب هذه السوق، فما زالت يقلص ظلها شهرًا بعد شهر، وعامًا بعد عام حتى اندرس اسمها، وعمي عن الأبصار رسمها. وكانت أهل المعاجم إذا أتت على ذكر عكاظ تقول هي على مرحلتين من مكة وعلى مرحلة من الطائف، وكثر التضارب والاختلاف في تحديدها، فمنهم من قال إنها السيل الصغير، ومنهم من قال إنها السيل الكبير أو قريب منه؛ وكل هذه الأقاويل خطأ لأنها لم يستند أهلها على شيء يثبت ذلك. والتحديد الصحيح الذي عن معرفة ويقين ما ذكرته في أول هذه العبرة الذي غربيه مجمع الواديين وشرقيه الماء المسمى المبعوث، فمن أراد أن يقف برجله ويرى بعينه الآثار الدارسة والأطلال البالية، فليذهب إلى هناك، فإنا لم نذكر تحديد هذه السوق إلا مستندين على خمسة أسانيد صحيحة:

  • أحدها: ما ذكره أحمد الرداعي اليماني في أرجوزة له رسم فيها طريق مكة، من صنعاء إلى مكة، وهو قاصد الحج، ولن نذكر من هذه الأرجوزة إلا ما دعت الحاجة إليه، وقد ذكرها الهمداني في آخر كتابه المسمى جزيرة العرب.
  • الثاني: ما ذكره عرَّام بن الأصبغ السلمي.
  • الثالث: ما ذكره الأصمعي في معجم البلدان على ذكر عكاظ.
  • الرابع: ما ذكره سعيد الأفغاني في كتابه المسمى بأيام العرب، لما مر على ذكر أيام الفجار وهي تنشأ في سوق عكاظ، وهي بين كنانة وقريش وبطونها، وبين قيس عيلان وبطونها، وذكر مواضع المعارك، فكلها بعكاظ ومحيطة به.
  • الخامس: ما ذكره الكميت بن زيد الأسدي، وهو بيت واحد في قصائده الهاشميات، وسنعود إلى الأسانيد الخمسة التي أشرنا إليها:
    • «الأول»: ما ذكره الرداعي في أرجوزته وهو يخاطب راحلته:
      قلت لها في مطلخم طاخ
      لدى مناخ أيَّما مناخ
      يا ناق هَمَّ الشهر بانسلاخ
      فأزمعي بالجد للتراخي
      كأم أفراخ إلى أفراخ
      عن ذي طوى ذي الحمض والسباخ
      وأوقح ذي المنهل الوضاح
      قاربة للورد من كلاخ

      انظر أيها القارئ: إن الشاعر خرج من أوقح ووصل إلى كلاخ، وكلاخ وأوقح واديان معروفان بهذه الأسماء إلى هذا العهد، ثم اندفع وهو يخاطب راحلته فقال:

      قلت لها سيري بلا توان
      سيري بمفضال على الإخوان
      ليس بفحاش ولا منَّان
      وكل صلت ثابت الجنان
      يا هند لو أبصرت عن عيان
      قلائصًا يوضعن في جلدان

      وجلدان: موضع لم يتغير اسمه بين كلاخ وعكاظ، وهناك هضبة منفردة عن الجبال تسميها العرب إلى هذا العهد حلات جلدان.

      انظر أيها القارئ: إن الشاعر الآن عند الحلات، ثم اندفع يتغنى وهو قريب من عكاظ فقال:

      فقلت لما ثاب لي احتفاظي
      والقلب فيه شبه الشواظ
      سل الهوى عن قلبك المغتاظ
      والعيس تطوي الأرض بالمظاظ
      مشفقة من زاجر كظاظ
      مسهلة في الأرض من عكاظ

      الآن هو في عكاظ، انظر أيها القارئ كلامه لما خرج من عكاظ:

      فانجردت بالرفق العصائب
      عيدية مفعَمة المناكب
      بكل خف مستدير الجانب
      وحيث خطَّ الميلَ كفُّ الكاتب
      تاركة قران للمناكب
      وشَرِبًا في جنح ليل واقب

      انظر أيها القارئ كلام الرداعي تاركًا شَرِبًا، وهو الوادي الذي يفيض على عكاظ في جنح الليل، ثم قال: «تاركة قران للمناقب»، وقران هو الوادي الذي تنعرج منه سكة عشيرة قبيل أن تطلع على السيل الصغير باقٍ بهذا الاسم إلى هذا العهد يسمى قران، و«المناقب» معلوم أنها الريعان التي تقع بين السيل الكبير والسيل الصغير. هذا الاستناد الذي ذكرناه عن أحمد الرداعي.

    • «الثاني»: ما ذكره عرَّام بن الأصبغ في كتابه المسمى «جبال تهامة والحجاز ومحالها»، قال لما مر على ذكر عكاظ: «وهو في أرض مستوية ليس بها جبال، وإذا كنت في عكاظ طلعت عليك الشمس على حَرَّة سوداء، وبه عبيلات بيض تطيف بها العرب في جاهليتهم ينحرون عندها» انتهى. فإني رأيت الأرض المستوية التي ليس بها جبال بعيني، ورأيت الحرة السوداء، ورأيت العبيلات البيض وأنا في صحبة صاحب السمو الملكي الأمير فيصل بن عبد العزيز لما آب من قنصه، وما اشتبه علينا شيء منها.
    • «الثالث»: الذي عن الأصمعي في معجم البلدان، لما مر ياقوت على ذكر عكاظ، وكثر الروايات به فأصحها وأقربها للصواب قوله: قال الأصمعي: عكاظ نخل في وادٍ، بينه وبين الطائف ليلة، وبينه وبين مكة ثلاث ليالٍ، وبه كانت تقام سوق العرب بموضع منه يقال له الأثيدا، وبه كانت أيام الفجار، وكانت هناك صخور يطوفون بها ويحجون إليها.
    • «الرابع»: ما ذكره سعيد الأفغاني في كتابه المسمى أيام العرب، لما مر على أيام الفجار ذكر منها ثلاثة تسمى يوم العبلاء ويوم الحريرة ويوم شرب. واسمعْ عبارته حين قال على يوم العبلاء: عاد الأحياء المذكورون من هؤلاء وأولئك، فالتقوا من قابل في اليوم الثالث من أيام عكاظ بالعبلاء إلى جنب عكاظ، فاقتتلوا على التعبية التي تقدمت، فكان هذا اليوم لهوازن على قريش وكنانة، فأصيبت قريش وقُتِل أحد صناديدها العوام بن خويلد والد الزبير بن العوام، قتله مرة بن معتب الثقفي، وقال في ذلك شاعر من ثقيف يفتخر بقتله لما له من الخطر والشرف في قومه:
      منا الذي ترك العوَّام منجدلًا
      ينتابه الطير لحمًا بين أحجار

      وفي هذا يقول شاعر هذه الحروب من هوازن، وهو خداش بن زهير:

      ألم يبلغهمُ أنا جدعنا
      لدى العبلاء خندف بالقياد
      ضربناهم ببطن عكاظ حتى
      تولوا طالعين من النجاد
      قال في هذه العبارة لما ذكر المعركة (بالعبلاء إلى جنب عكاظ) وهو الصحيح، تقع في جنوبي عكاظ تسمى اليوم العبلا١ يملكها قوم من عدوان. وكان عامر بن الظرب العدواني من حكام العرب في الجاهلية في عكاظ، ويمكن أن هذه القطعة وما فيها من الآبار والمزارع من ممتلكاته، وأن الباقين فيها إلى يومنا هذا من ذريته، وهو قبل مبعث رسول الله بثلاثمائة سنة تقريبًا. وانظر كلام خداش بن زهير حين قال: «ضربناهم ببطن عكاظ حتى»، ثم قال على ذكر يوم شرب: ثم التقوا على رأس الحول في اليوم الثالث من أيام عكاظ بشرب، وشرب من عكاظ. انظر أيها القارئ إلى عبارة صاحب هذا الكتاب قال: وشرب من عكاظ، وهي معركة عظيمة هزمت قريش فيها هوازن. وقال أمية بن الأشكر الكناني:
      ألا سائل هوازن يوم لاقوا
      فوارس من كنانة معلمينا
      لدى شرب وقد جاشوا وجشنا
      فأوعب بالنفير بنو أبينا

      وقال أيضًا:

      قومي اللَّذو بعكاظ طيَّروا شررًا
      من رأس قومك ضربًا بالمصاقيل
      انظر كلام أمية بن الأشكر لما ذكر معركة شرب، ذكرها في نفس عكاظ، والصحيح أن عكاظًا فيضه شرب، وقال على يوم الحريرة وهو آخر أيامهم: ثم التقوا على رأس الحول بالحريرة، وهي حرة إلى جنب عكاظ. هذه رواية صاحب أيام العرب، وهذه الحريرة هي التي ذكرها عرَّام٢ بن الأصبغ السلمي التي تطلع عليها الشمس إذا كنت في عكاظ، وفي هذه المعركة انهزمت قريش، فقالت شعراء هوازن في هذه المعركة قصائد كثيرة منها هذا البيت:
      لقد بلوتم فأبلاكم بلاؤهمُ
      يوم الحريرة ضربًا غير مكذوب
    • «الخامس»: وهو بيت الكميت بن زيد في الهاشميات حين قال في قصيدة له طويلة:
      أهل الحنيفة فاسأل عن منازلهم
      بالمسجدين وملقى الرحل من شرب

      قال مصنف هذه الأحرف: قرأت هذه القصيدة التي منها هذا البيت على الشيخ إبراهيم بن صالح بن عيسى، ونحن ببلدة أشيقر، وهو رجل علَّامة في جميع الفنون وبالأخص تاريخ العرب وأنسابهم وديارهم وتنقلاتهم، فلما مررت على هذا البيت أشكل عليَّ منه ملقى الرحل من شرب، فسألته عن ملقى الرحل من شرب، فقال لي: إن هذا الشاعر لما ذكر بني هاشم ومكارمهم قال اسأل عن مكارمهم أهل مكة وأهل المدينة وملقى الرحل من شرب، يعني سوق عكاظ، فقلت له: شرب هو اسم لسوق عكاظ؟ قال: شرب وادٍ قريب الطائف ينصب من الغرب إلى جهة الشرق، وعنده وادٍ يقال له وادي الأخيضر ينصب من الغرب إلى جهة الشرق، فعكاظ مجمع الواديين. فقلت له: من أين أخذت هذا التحديد الواضح؟ قال: وجدته في كتاب من مكتبة بالبصرة — هو أحسن من معجم البلدان — عن ذكر نجد وجبالها ومياهها. فقلت له: هذا الكتاب طبع أم خط؟ فقال لي: إنه خط. انتهى.

وقد أوردنا على تحديد عكاظ الدلائل الواضحة التي لا تلتبس على أحد، والذي أضل قسمًا من أهل الأدب وقال إن عكاظًا قريب مكة، واستدل بقول خداش بن زهير:

يا شدة قد شددنا غير كاذبة
على سَخينة لولا الليل والحرم
ولَّوا شلالًا وعظم الخيل لاحقة
كما تخب إلى أعطانها النعم

وهي قصيدة طويلة، وهي حجة من استدل بهذا البيت أن عكاظًا قريب مكة، وهو لا يعلم أين موضع المعركة التي ذُكِر هذا البيت من أجلها، فإني أعلمها وأعلم السبب الذي جرها، وأعلم موضع المعركة، كانت في بطن نخلة بين الزيمة والبهيتة؛ فأما السبب الذي من أجله نشأت وهي أول أيام الفجار: لما اجتمعت العرب في عكاظ، وكان عروة الرحال سيد وازن قد أجار لطيمة النعمان بن المنذر التي يبعثها إلى عكاظ في كل عام تباع فيه — واللطيمةُ إبلٌ تحمل الطيب والبَزَّ وطرائف من تجارة الحيرة — فلما انتصف في طريقه تبعه البراض الكناني فقتله قريب النقرة، ثم بعث رجلًا إلى حرب بن أمية وهو سيد قريش في ذلك الوقت يخبره أنه قتل عروة سيد هوازن، وقال له ستجده في عكاظ، وأخبره سرًّا ولا تعلم بك هوازن، ففعل الرجل وأخبر حربًا، فاستشار حرب رؤساء قريش وبني كنانة واتفق رأيهم على أن ينصرفوا إلى مكة ولا يحضروا عكاظًا في هذا العام، ويعتذروا للقيسية بعذر عند خروجهم، ففعلوا، فبعد مضي يوم وليلة علمت القيسية بمقتل عروة، وكان سيد قيس عيلان في ذلك الوقت عامر بن مالك الذي يقال له ملاعب الأسنة، فنهض بقيس عيلان ولحقوا قريشًا وكنانة، فدارت المعركة بينهم في بطن نخلة، وانهزمت قريش ومن معها، فقال خداش بن زهير هذا البيت، وظن من سمعه أن المعركة في عكاظ، وقد أُفرِد لهذه المعركة يوم من أيام العرب فسمي يوم نخلة، وهو يعد من أيام الفجار؛ لأنه في الأشهر الحرم، فلم تُسَمَّ الفجار إلا أنهم فجروا في الأشهر الحرم، فإن الأيام الباقية غير هذا اليوم التي يقال لها الفجار فهي تنشأ في سوق عكاظ، وتدور المعركة إلى أي جهة منه، فتسمى المعركة باسم تلك الجهة، كيوم العبلاء ويوم شرب ويوم الحريرة كلها في عكاظ. وجميع ما ذكرناه عن تحديد عكاظ حاضره بأيدينا.

والحرب امتدت بين قريش وبين القيسيَّة خمس سنوات، كل سنة تدور معركة بين الفريقين، أولها يوم نخلة. الثاني: يوم شمطة، وقال هو موضع في عكاظ. الثالث: يوم العبلاء. الرابع: يوم شرب. الخامس: يوم الحريرة. انتهى.

قد اطَّلعت على مصادر كتاب أيام العرب والأسانيد التي اعتمد عليها، فوجدتها من أعظم الكتب وأصحها لغرض المصنف، منها: الإكليل، والأمالي، والأزمنة والأمكنة، وأساس البلاغة، والأغاني، وتاج العروس، وتاريخ الطبري، وتاريخ العرب قبل الإسلام، وتاريخ الذهبي، وسبائك الذهب، وسيرة ابن هشام، والعقد الفريد، وصبح الأعشى، وصحيح مسلم، وصفة جزيرة العرب، وعيون الأخبار، وطبقات ابن سعد، وتاريخ الأدب العربي، وتاريخ التمدن الإسلامي، وتاريخ اليهود في بلاد العرب، ورياض الصالحين، وخزانة الأدب، وصحيح البخاري، وفتح الباري لابن حجر، والكامل لابن الأثير، والكامل للمبرد، ولسان العرب، ومجمع الأمثال للميداني، ومسالك الأبصار في ممالك الأمصار، ومعجم البلدان لياقوت، ومعجم ما استعجم للبكري، والنهاية لابن الأثير، ونهاية الأدب للنويري.

فلم نذكر من هذه المصادر إلا قريب ثلث ما ذكره مصنِّف الكتاب، واكتفينا بما ذكرنا، وعلى الله الاعتماد، وصلى الله على رسوله وسلم.

المملوك
محمد بليهد

هوامش

(١) العبلا: هي أكمة بيضاء، ويليها في الجهة الجنوبية منها موضع يقال له العُبَيلا بالتصغير.
(٢) في معجم البكري أن الحريرة بجنب عكاظ مما يلي مهب جنوبها، فهي غير التي ذكرها عرَّام — عزام.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤