الفصل الثالث عشر

عن الأزمات والنقاد

لقد وضح المعنى الكامل للعولمة تمام الوضوح في القرن الحادي والعشرين مع أول ركود اقتصادي عمَّ أنحاء العالم الأول؛ فقد شيد المموِّلون في أنحاء العالم بنية متهالكة من المشتقات المالية وصناديق التغطية القائمة على الرهون العقارية الأمريكية، وهو ما كشف مرة أخرى عن المزج السام بين احتمالات الربح والحكم السيئ اللذين أحدثا حالات الذعر المالي في الماضي. وحينما هوت أسعار المساكن عام ٢٠٠٧، سحبت معها الأوراق المالية الجديدة الوهمية؛ فأفلست شركات كبرى، وشحَّت الأموال، ووجد الملايين من مقترضي الرهن العقاري أنفسهم مدِينِينَ بأكثر ممَّا تساويه قيمة منازلهم. وسرعان ما تسرَّبت الاضطرابات إلى قلب النظام الرأسمالي؛ المركز المالي، حيث تحولت أزمة السيولة إلى أزمة إعسار. ونتيجة لعدم وجود فقاعة جديدة في الأفق لإلهاء الناس عن الأسس الاقتصادية، أسفرت هذه الجرعة القوية من الحقيقة عن دعوات لعودة الضوابط والتعاون الدولي من أجل احتواء الخسارة.

في بعض الأحيان يفعل حدث عابر ما فعلته قصيدة تنيسون «زهرة في جدار متشقق»، ويكشف عن ظاهرة أكبر. بعد سلسلة من الانهيارات المالية عام ٢٠٠٨، وحالة الذعر المالي في سوق الأسهم، وتجمُّد تدفُّق الائتمان، بدا خبرٌ قديم من كليفلاند أكثرَ منطقية؛ ففي عام ٢٠٠٢، عزَا المجلس البلدي للمدينة الازدياد في حالات حبس الرهن — أي الحكم بنزع ملكية المالك للشيء المرهون — إلى الممارسات الاستغلالية للإقراض مثل فرض رسوم عالية وغرامات على السداد المبكر بالإضافة إلى رفع مدفوعات الفائدة؛ فأصدر المجلس مرسومًا بوقفها. وفعلت مدينتا توليدو ودايتون الشيء نفسه؛ فدفع هذا بنوك ولاية أوهايو إلى اتخاذ ما يلزم، وطعنت على هذا المرسوم في المحكمة، وضغطت على السلطة التشريعية، التي مررت مضطرةً قانونًا بعدم قبول مثل هذه المراسيم. وتراجعت محكمة أوهايو العليا عن حكم إيجابي سابق وحظرت المراسيم. ومن ثَمَّ، تدخل مكتب مراقبة العملة في الولايات المتحدة وحكم بأنه حتى الولايات غير مسموح لها بتمرير قوانين تتعلق بالبنوك الوطنية.1 وهكذا تغلَّبت السلطة الوطنية وسلطة الدولة على الحصافة المحلية. ولم يكن هذا مثالًا وحيدًا على استعداد الهيئات التشريعية المتحيز لحماية الشركات من مراقبيها.

إن تاريخ الرأسمالية لا يعيد نفسه، لكنَّ الرأسماليين يكررون أفعالهم؛ فحقيقة أنه نادرًا ما يفاجأ أي أحد عندما تحدث أزمة — على الرغم من أن هناك قلة من الأشخاص حاولوا فعل أي شيء لمنع حدوثها — تشير إلى أن ثمة سمة تشجعها الرأسمالية؛ إنها سمة التفاؤل الذي ينكر الأمر الواقع. «روح» الرأسمالية هي روح البائع الذي ينضح بالثقة. وعندما لا يكون هناك من هو في موقع المسئولية، ويكون معظم المشاركين في بحث مستمر عن طرق جديدة (وسهلة إذا أمكن) لكسب المال، يصبح حدوث حالات الذعر المالي والأزمات والانهيارات أمرًا لا مفر منه. ولا شك في أن الناس في جميع أنحاء العالم سيسعون وراء الصفقات المربحة بعيدًا عن المناطق الخاضعة لرقابة القوانين. وعندما تفشل الصفقات الجيدة، تسارع الحكومات بإصلاح ما هو خطأ، وتكون نتائج ذلك متفاوتة.

قبل حلول الأزمة الاقتصادية العالمية في ٢٠٠٨-٢٠٠٩، كانت عثرات السوق قد صارت أكثر تواترًا وإيلامًا، بدءًا من انهيار عام ١٩٨٧، ثم أزمة السندات الرديئة في أواخر عقد الثمانينيات، والانخفاض في المدخرات وتجارة القروض عام ١٩٨٩، والركود الياباني، والأزمة المالية الآسيوية عام ١٩٩٧، والإفلاس شبه التام لصندوق «إدارة رأس المال طويل الأجل» عام ١٩٩٨، وانفجار فقاعة الدوت كوم في عام ٢٠٠٠، وانهيار شركتي إنرون وورلد كوم عام ٢٠٠١، ثم بلغت الأزمة ذروتها مع الخسائر المتزايدة جراء انهيار الأوراق المالية المبنية على الرهن العقاري عام ٢٠٠٨. ورغم أن تصاعد حالات حبس الرهن — ابتداء من عام ٢٠٠٧ — وضع حدًّا لنزوة الرهن العقاري عالي المخاطر، فقد زادت المشاكل تعقيدًا. كان كبر حجم مدَّخَرات الصين قد جعل الاقتراض رخيصًا؛ إذ كان الأمر يبدو وكأنَّ المستهلكين الأمريكيين قرروا أن يتركوا للصينيين مهمة الادخار بينما ينفقون هم بلا حساب. في الوقت نفسه، دفع انخفاض أسعار الفائدة مديري رأس المال للبحث عن سبل جديدة للحصول على فائدة أكبر على أموالهم، حتى لو اضطروا إلى ابتكار حيل بارعة لفعل ذلك.

بدأت الصدمة بانهيار بنك ليمان براذرز، لكن هذا الحدث لم يدفع حكومة الولايات المتحدة للتصرف. كان الارتباط الوثيق على نحوٍ لا يصدق بين مؤسسات العالم المالية — بحيث تغرق جميعها أو تنجو جميعها — قد أصبح واضحًا. تحركت الحكومة بسرعة لإنقاذ بنك بير ستيرنز، ثم شركتي التمويل العقاري التابعتين لها فاني ماي وفرايدي ماك، ثم الشركة الأمريكية الدولية للتأمين، بينما كانت تتفاوض مضطرَّة على بيع شركة ميريل لينش بسعر بخس لبنك أمريكا. تصرفت الحكومات في جميع أنحاء العالم أيضًا بسرعة، إن لم يكن بنوع من التخبط؛ وهو ما أحيا الأمل في أن الدروس المستفادة من الكساد الكبير في الثلاثينيات، ومن عقد الانكماش الياباني «الضائع» في التسعينيات، قد خلفت بقية من حكمة. وتجلى الجانب السلبي لعشرين سنة من العوائد المرتفعة على رأس المال بوضوح تام، وبدأ من نيويورك وانتشر إلى المراكز المالية الرئيسية في لندن وفرانكفورت وهونج كونج وطوكيو. وحينما صارت أيسلندا على شفا الإفلاس، صارت المؤسسات التي كانت قد استثمرت في السندات الأيسلندية ذات أسعار الفائدة المرتفعة هي الأكثر فقرًا.

أصبح المصرفيون — الذين كان حرصهم في عالم جي بي مورجان في القرن التاسع عشر قد هدَّأ من تطور السوق — يُرحبون بالمخاطرة وكأنهم مؤسسو شركة ناشئة في وادي السليكون. وبدءوا يتنافسون بعضهم مع بعض على أساس رسوم الخدمة إثر شعورهم بالإغراء إزاء إمكانية حدوث زيادة كبيرة في العائدات. وعلى عكس أسلافهم الذين موَّلوا بناء السكك الحديدية في القرن التاسع عشر، استثمروا في الأوراق المالية التي أوجدوها لعملائهم، ضاربين بالحرص عُرض الحائط في سبيل تقديم قروض بضمانات أقل من الأصول التي تعمل كحصى رصف الطرق لتحقق الاستقرار. وحلت الشركات محل الشراكات؛ مما سمح للمديرين التنفيذيين بخوض المزيد من المخاطر من دون تحمل مسئولية شخصية. ودعمهم إلى حد كبير في كل هذا إلغاء قانون جلاس ستيجال لعام ١٩٣٣ في عام ١٩٩٩، والذي كان يفصل بين البنوك التجارية وبنوك الاستثمار ويمنع البنوك التجارية من امتلاك أسهم شركات. كما ساعدت في ذلك أيضًا روح الازدهار التي سادت عقد التسعينيات.2

كان للأزمة المالية لعام ٢٠٠٨ سببان أساسيان. ظهر أول السببين في أواخر السبعينيات، عندما أثارت حالة من الركود اعتقادًا بأن المصلحة ستتحقق من القضاء على القوانين التي كانت تشكل إرثًا من فترة الكساد الكبير في الثلاثينيات؛ فقد بدأ الكُتَّاب يصوِّرون المشاريع الرأسمالية وكأنها جاليفر المقيد بسلاسل من آلاف الأقزام الصغار، ودعاة حماية البيئة، ومن هم مثلهم. وقال رجال الأعمال إن الاقتصاد يصبح قويًّا حينما يتمتع المشاركون فيه بحرية التصرف بحرية وبسرعة. كان عصر التحرر من القوانين هذا — المرتبط برئيسة الوزراء الإنجليزية مارجريت ثاتشر والرئيس الأمريكي رونالد ريجان — قد بلغ ذروته في الولايات المتحدة عام ١٩٩٩ بصدور قانون جرام ليتش بليلى لتحديث الخدمات المالية، الذي وقع عليه الرئيس بيل كلينتون رسميًّا.

كان هذا القانون بمثابة هدية للبنوك وشركات الوساطة المالية وشركات التأمين، والناجحين الطموحين بوجه عام؛ فقد سمح للمصارف بالاندماج مع شركات التأمين، وحرر البنوك الاستثمارية من كثير من القيود التي تطبق على المصارف التجارية العادية للودائع. ومنح القانون عملاء البنوك حماية لخصوصيتهم. والأهم بكثير أنه أزال الرقابة على الاستثمارات المقصورة على فئة معينة مثل سوق تريليونات الدولارات لمقايضة العجز عن سداد الائتمان، وهي وسيلة مخادعة استخدمها المستثمرون لتغطية رهاناتهم على مختلف الأوراق المالية. كانت هذه القوانين قد جرى وضعها لتقليل المخاطر لأقل حَدٍّ ودرئها، لكنها في الواقع شجعت المضاربين على التلاعب بالقوانين.

كانت مقايضات العجز الائتماني شكلًا من أشكال التأمين التي يتخذها المستثمرون تحسبًا لاحتمال انهيار استثماراتهم. لكنَّ آخرين أيضًا كانوا يتعاقدون على مقايضات عجز ائتماني عندما كانوا يعتقدون أن مؤسسةً ما سوف تفشل، حتى دون أن تكون لديهم استثمارات خاصة بهم. كان هذا الأمر إلى حَدٍّ كبير يشبه شراء بوليصة تأمين على منزل أحد الجيران نظرًا لأن عاداته المهملة في التدخين تشير إلى أن منزله سيتعرض للحريق عاجلًا أو آجلًا. ولما كانت المجموعة الأمريكية الدولية (إيه آي جي) شركة تأمين، فقد شهدت إقبالًا كبيرًا على العقود من جانب المستثمرين الذين يرغبون في تأمين استثماراتهم في الرهون العقارية المورَّقة. ورغم وجود المخططات الحاسوبية المتطورة القادرة على تقدير المخاطر، اندفعت هذه الشركة المحافظة في الأمواج المتلاطمة لالتزامات الديون المضمونة. وجاءت الخاتمة عام ٢٠٠٤، حين صوَّتت لجنة الأوراق المالية والبورصات بالإجماع على إعفاء أكبر البنوك الاستثمارية في أمريكا — تلك التي تملك أصولًا تزيد على خمسة مليارات دولار — من قانون يحد من حجم الديون التي يمكنها أن تقترضها.3 والجميع يعرف ما حدث بعد ذلك.
بينما كانت الهيئات التشريعية مشغولةً بتفكيك النظام الرقابي، كان قدر غير عادي من المال يتدفَّق في الأسواق العالمية. كانت الأصول المالية تشهد نموًّا بوتيرة أسرع من نمو النشاط الاقتصادي الحقيقي. ونتيجة لارتفاع معدلات الادِّخار بين مواطني الدول الآسيوية النامية، إلى جانب الجهود الحكومية هناك لتحفيز اقتصاداتها، انخفضت أسعار الفائدة إلى حَدٍّ كبير.4 كان عباقرة التمويل غير راضين عن أسعار الفائدة التي تتراوح بين ٢ إلى ٣٪ وبدءوا يفكرون في سبل لزيادة تلك الفائدة. وحينما حدثت طفرة في المساكن في الولايات المتحدة كانت هذه هي الفرصة التي كانوا يبحثون عنها. فابتدعوا مجموعة مشبوهة من الاستثمارات المالية الجديدة. وجرى تقسيم القروض العقارية البنكية وتحوَّلت إلى مشتقات مالية، وهو مصطلح يشير إلى الأصول التي تستمد قيمتها من أصول أخرى. وسرعان ما جرى تمرير هذه الرهون العقارية المورَّقة من البنوك التجارية إلى بنوك الاستثمار التي لا تخضع للقوانين مثل البنوك التجارية. ثم أعادت البنوك الاستثمارية تغليف هذه الرهون العقارية المورَّقة وباعتها إلى مستثمرين آخرين أو إلى بنوك أخرى. وكذلك اشترى الكثير من الأفراد والمؤسسات الأخرى هذه الرهون المورقة بحثًا عن أماكن ليُودعوا فيها أموالهم. وما إن باعت البنوك التجارية رهوناتها العقارية، كانت حرة في تسجيل رهون جديدة فيما أصبح مصدر أرباح هائلة للعالِمين بحقيقة الأمر. كانت أقساط الرهن العقاري الفعلية التي يدفعها أصحاب المنازل تحافظ على قيمة الأوراق المالية. لكن للأسف، هوَّن المصرفيون من حجم المخاطر التي ازدادت زيادة كبيرة بازدياد عدد الرهون العقارية وحالة الريبة. والأسوأ من ذلك أن إجراءات حبس الرهن عام ٢٠٠٩ كشفت عن إهمال واسع النطاق في حفظ السجلات، حينما لم تستطع بعض حالات حبس الرهن تقديم دليل على ملكية الرهن العقاري.

كانت الرهون العقارية تشكل مجالًا كبيرًا للرفعة المالية لأولئك الذين يعملون في السوق العقارية؛ فمثلًا إذا اشترى شخص ما منزلًا بقيمة مليون دولار بدفعة مبدئية قيمتها مائة ألف دولار، ثم باعه على الفور مقابل ١٫١ مليون دولار في سوق العقارات، يكون قد استرد الدفعة المبدئية التي دفعها بالإضافة إلى مائة ألف دولار أخرى، وبذلك يكون قد ضاعف حجم استثماره الأوَّلي. ويكون التمويل بالاستدانة متاحًا عندما تحصل على حق ملكية شيءٍ ما مقابل دفعة مالية جزئية من ثمنه تقوم بسدادها. لكن كي تنجح، لا بد أن يكون هناك تقدير للقيمة. وقد شهدت الولايات المتحدة ارتفاعًا كبيرًا في أسعار العقارات — إلى الضعف تقريبًا — في الفترة بين عامي ٢٠٠٠ و٢٠٠٦. وقد وصف رالف نادر القروض العقارية وصفًا ملائمًا باقتدار بأنها رأسمالية نوادي القمار؛ فقد بيَّنت الطريق إلى توريق أي شكل من أشكال الائتمان، من أقساط السيارات إلى بطاقات الائتمان.

ورغبة في استمرار أوقات الرخاء، بدأت المؤسسات المالية إصدار الرهون العقارية للأشخاص ذوي السجلات الائتمانية الخَطِرة أو لذوي الدخل غير الكافي لسداد أقساطهم. وأغرت البنوك وشركات الادِّخار والإقراض العملاءَ من خلال تخفيض الدفعة المبدئية أو إلغائها بالكامل. وازدهرت سوقٌ جديدة بالكامل للقروض التمويلية. وكذلك كانت ضغوط بنك الاحتياطي الفدرالي لخفض أسعار الفائدة تجعل القروض العقارية أكثر جاذبية. وقد روَّجت الإدارتان الديمقراطية والجمهورية على حدٍّ سواء لامتلاك المنازل باعتبارها سياسة عامة حصيفة؛ فأدت زيادة المشترين إلى ارتفاع أسعار المنازل أكثر وأكثر. ومع ازدياد حصول الأشخاص ذوي سجلات الائتمان الخطِرة على قروض الرهن العقاري عالية المخاطر، ازدادت المخاطرة زيادة هائلة. وخلال ذروة ازدهار سوق الإسكان، استغل كثير من أصحاب المنازل ارتفاع قيمة ملكيتهم كما لو كانت بنكًا. ولما كانوا يشتركون مع القطاع المالي في تفاؤله، فقد حصلوا على قروض بضمان منازلهم اعتمادًا على تزايد قيمة منازلهم. وبهذه القروض تمكَّنوا من دفع رسوم التعليم الجامعي للأبناء، وبدءِ نشاط تجاري، وشراء سيارات دفع رباعي، أو تزيين المنزل الجديد.

يمكن للعواقب غير المقصودة لقرارات فردية عقلانية تمامًا أن تعين في تفسير سبب انزلاق المراكز المالية في العالم إلى أدنى مستوياتها عام ٢٠٠٨؛ فحينما قرَّرت أسر آسيوية بعد الأزمة المالية التي مرَّت بها عام ١٩٩٧ توفير مبلغ محدد تقتطعه شهريًّا وتضعه في حساب منفصل ليكون متاحًا وقت الحاجة إليه، لم تكن تقصد بهذا تنشيط الاستهلاك الأمريكي في ظل انخفاض سعر الفائدة الناجم عن زيادة مدَّخراتهم. وحينما أقرَّت كلٌّ من الإدارتين الجمهورية والديمقراطية امتلاك المنازل باعتبار هذه سياسة اجتماعية حصيفة، لم تنويَا بذلك إطلاق سباق بين البنوك على إصدار الرهون العقارية عالية المخاطر بحيث تتمكن من توريقها من أجل المستثمرين المتعطشين. وحينما كان كبار المديرين التنفيذيين في البنوك الاستثمارية وصناديق التغطية يدفعون لألمع مسوقيهم مكافآت سخيَّة في نهاية السنة، كانوا يقصدون مكافأة الأداء المتفوق وتشجيعه. لكن ما كان غير مقصود بالمرة هو خلق منافسة نهِمة وحادة جدًّا بدرجة تُقصي الآراء المدروسة بعناية، أو تمنع النظر إلى الأمور من منظور أوسع يغطِّي النتائج بعيدة المدى، أو الاستماع إلى رأي الرافضين. لا يصلح مفهوم العواقب غير المقصودة للنماذج الرياضية التي يفضلها خبراء الاقتصاد، لكن كلما صارت السوق أكثر تحررًا، صارت المبادرات الفردية أوسع، وهو ما يستتبع عواقب غير مقصودة مترتبة على تصرُّفات الأفراد. وعندما تتلاقى العواقب غير المقصودة — كما حدث عام ٢٠٠٨ — يمكنها أن تخلق كوارث غير متوقعة.

إن خوض المخاطر جزء لا يتجزأ من الرأسمالية، لكنه يعمل في القطاع المالي على نحو يختلف عن عمله في مجال التكنولوجيا؛ فالبنوك — مثل المرافق — تقدم أقصى نفع عندما تكون موثوقة وفعالة. لكن الذي حدث أن المصرفيين صاروا يتزلفون للعملاء كما يفعل بائعو السيارات المستعملة. وتحول إعراضهم الفاتر عن المقترضين غير الحريصين إلى ترحيب حارٍّ بجميع القادمين. بطبيعة الحال، إذا لم تُقدِّم البنوك قروضًا إلى رواد الأعمال المخاطرين، فإن الرأسمالية ستعاني. لكنَّ تحقيقَ التوازن بين الاستقرار والابتكار لم يكن حليفَ البنوك في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين؛ إذ بدأت البنوك الاستثمارية تشتري الأوراق المالية القائمة على الأصول التي كانوا يبيعونها للآخرين، وكانت نتائج ذلك كارثية. يقول البعض إن استراتيجيات خوض المخاطرة تغيرت بالنسبة للمصرفيين حينما صارت مؤسساتهم تتعامل مع عامة الجمهور؛ ما أتاح لهم المراهنة على أموال الأشخاص الآخرين بدلًا من المراهنة على أموالهم الخاصة. كما أن مكافآت نهاية العام على الأداء دفعتهم لتوسيع نطاق عملياتهم، لكنها أصبحت مصدر نزاع كبير في المجال المصرفي العام بعدما صارت المؤسسات المالية تستجدي مساعدة الحكومة كي تتمكن من البقاء واقفة على قدميها. إن مَن لم يعملوا في وول ستريت يعتبرون الحصول على المكافآت التي تبلغ الملايين نوعًا من الفحش. ولم يكن يروق لهم منطق الخبراء الماليين الذي يذهب إلى أنه ينبغي لهم أن يحققوا ربحًا كبيرًا من كل ما يستطيعون بيعه لمصلحة شركتهم، أو أن «يأكلوا ما يصطادونه» كما يقول العاملون في هذا المجال. لكن هؤلاء ظلوا صامتين إزاء ما ينبغي القيام به عندما عادت الفريسة للحياة مجددًا وكشرت عن أنيابها ودفعت شركاتهم إلى شفير الإفلاس.

يمكننا أن نَصف هذا العالم بأنه عالم الاستثمار الافتراضي، الذي كان واقعه المادي سيلًا من الرسائل الإلكترونية الصادرة من نحو ٦٠ ألف طرف إلكتروني في جميع أنحاء العالم؛ فقد أتاح التقدُّم التكنولوجي زيادة حجم المعاملات المالية، لكن كان نوعًا من الخداع المزدوج، حينما شجع باعة الرهن العقاري الناس على اقتراض رهن عقاري لا يستطيعون سداده، وحينما تفاوضت الشركات المالية مع مديري صناديق معاشات التقاعد والبلديات كي تقنعهم بشراء أوراقها المالية المدعومة بالأصول دون أن تحيطهم بأي معلومات حول المخاطرة التي ينطوي عليها ذلك.

وخلال السنوات العشر الماضية، نمَت الخدمات المالية من نسبة ١١٪ إلى ٢٠٪ من ناتجنا القومي الإجمالي، لكن بعض الرجال والنساء المتعقِّلين استطاعوا ربح نسبة قدرها ١ : ٣٠ من الأموال التي استثمروها، ووزَّعوا المخاطرة — أي نوَّعوا استثماراتهم لتقليل حجم الخسارة حال حدوثها — دون أن يسعوا إليها. أما المستثمرون الجريئون حقًّا فيقدمون على عدة أشكال من التمويل بالاستدانة في حافظة استثمارية واحدة. لكن الأمر الأكثر ضررًا على الأمة على المدى البعيد أن علماء الفيزياء وعلماء الرياضيات وخبراء الكمبيوتر انسحبوا بعيدًا عن أعمالهم الأصلية للانضمام إلى فئة الخبراء الماليين ذوي الدخل المرتفع؛ فقد تحول ما لا يقل عن ٤٠٪ من خريجي كبرى الجامعات الأمريكية إلى العمل في مجال التمويل في السنوات الأولى من القرن الحادي والعشرين. ومع شيوع الدخل السنوي الذي يبلغ مليون دولار سنويًّا، شكلت وول ستريت دائرة ضيقة من الرابحين الصغار، حيث تذهب كل الحوافز لمن يخاطر أكثر، ولا تشجع المثبطات الإيجابية الحذَر أو حتى الأمانة.

كان أولئك الذين يعملون لدى لجنة الأوراق المالية والصرف يخشَون إثارة استياء قادة الشركات الكبرى التي يأملون أن يقوم قادتها هؤلاء بتوظيفهم فيها في وقت لاحق. وبالمثل لم تكن وكالات التصنيف الائتماني — مثل ستاندرد آند بورز وموديز — ميَّالة لخفض تصنيفات عملاء البنوك الذين يُفرطون في خوض المخاطر. والآن بات واضحًا أن الأشخاص الذين كانوا يتخذون قرارات تؤثر على اقتصادات عشرات الدول كانوا منعزلين في جماعة من الصفوة تجازف بالمخاطرة كما لو لم يكن هناك غدٌ آتٍ.5

والعامل غير المتوقِّع في هذا السيناريو نفسي ومتوطن ويتمثل في شعور الثقة الذي شجع الناس — الذين هم في هذه الحالة مستثمرو المؤسسات ومديرو صناديق التغطية — على شراء أوراق مالية جديدة مدعومة بأصول. من منظورنا الآن، يبدو لنا عدم تقديرهم حجم هذه المخاطرة أمرًا غريبًا؛ فعند حدوث الانتعاش، يدفع التفاؤل الناس لعدم التفكير إلى حَدٍّ كبير ويكون شعورًا معديًا. من ناحية أخرى، يمكن للشائعات والتصريحات العلنية الحمقاء أن تتسبب بسهولة في حدوث انخفاض حادٍّ في الثقة يكاد يكون مماثلًا لما تُسببه التقارير حول الأرباح المخيِّبة للآمال أو الاضطراب في الأسواق الأجنبية. وقد أنتجت هذه الاستجابات من جانب التجار والمستثمرين — سواء في حالة التفاؤل أو في حالة التشاؤم — درجة من المخاطرة انعكست على الاقتصاد العالمي بأسره نظرًا لسهولة وصول مستثمري العالم لهذه «الصفقات الرابحة». ويمكن أن نضيف أن الولايات المتحدة تستفيد من هذا العمى الانتقائي نتيجة لعدم اكتراث العالم بعجز أمريكا التجاري البالغ ٧٠٠ مليار دولار سنويًّا.

عندما تحول عالم الكيمياء فريدريك سودي — الحائز على جائزة نوبل في الكيمياء — إلى مجال الاقتصاد إبان الفقاعة الكبيرة في العشرينيات، أبدى بعض الملاحظات البارعة حول الديون؛ فالناس يشترون الديون (أي يُقرضون المال) لأنهم يريدون تحقيق المزيد من الثروة في المستقبل. والمشكلة هي أن لا أحد يعرف ما سيحدث في المستقبل. فإذا أقرضتُ مثلًا أحد المزارعين مبلغ ١٠٠ دولار على أمل أن أستردها ١١٠ دولارات عند حلول موسم الحصاد؛ فأنا أُعول في أملي هذا على الطقس الجيد وعدم هبوب موجة من أسراب الجراد على المحصول. لكن في الواقع، عندما يكون هناك من المطالبات على الثروة المستقبلية أكثر ممَّا يمكن الوفاء به فعلًا، يخسر البعض تلك الأرباح المستقبلية. فالسوق في الأوقات المستقبلية ليست متقلبة فحسب، بل مضطرة لأن تتغلب دائمًا على هذا الشعور بعدم اليقين.6 وفي حالة قروض الرهن العقاري المورق، تزايد عدد المطالبين أضعافًا مضاعفة.
في عام ٢٠٠٧، صوَّتت جمعية اللهجات الأمريكية لكلمة «الرهن العقاري» بصفتها كلمة العام؛7 فقد انتشرت مفردات التمويل العالمي خلال الانتعاش الناجم عن ارتفاع أسعار المساكن من وول ستريت إلى الصحف اليومية، حيث كان يمكنك أن ترى إشارات إلى: الرهن العقاري ذي سعر الفائدة المتغير، والتزامات الديون المضمونة، ومقايضات أسعار الفائدة، والأدوات الاستثمارية ذات الأغراض الخاصة! وفي العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، تضاعفت أعداد صناديق التغطية أكثر من خمس مرات، جاذبة المسئولين عن أموال معاشات التقاعد، والأوقاف الجامعية، والاستثمارات البلدية، وهي المؤسسات التي باتت تواجه معاناةً جرَّاء الانكماش. كان الأشخاص الذين يديرون صناديق التغطية والمشتقات المالية القائمة، والذين أنشَئوا خيار الرهن العقاري ذا الفائدة المتغيرة قد شيَّدوا بيتًا من أوراق الرهن العقاري. وكان نجاحهم المبدئي الناجم عن ارتفاع أسعار المنازل قد أدَّى إلى «زيادة ضخمة غير عقلانية» كان قد لاحظها في فقاعة سابقة الرئيسُ الأسبقُ للبنك الاحتياطي الفدرالي آلان جرينسبان، الذي كان في السابق يعارض الضوابط الحكومية. حتى وكالات التصنيف الائتماني تجاهلت تضارُب المصالح فيما بينها، ومنحت سندات الرهن العقاري درجات تصنيف عالية غير حقيقية. وهكذا تسبَّب أولئك المسئولون عن تقدير المخاطر في انهيار المنظومة.

وعندما بدأت أسعار المنازل في الانخفاض في أواخر عام ٢٠٠٧، انخفضت أيضًا الأوراق المالية التي تدعمها هذه المنازل. كان خفض التمويل بالاستدانة — أي دفع ثمن الأوراق المالية المشتراة على هامش — كالحية الرقطاء التي تقتل الفريسة بعصر عظامها؛ فقد عُصر الجميع في المجال المالي من المصرفيين إلى شركات التأمين إلى المستثمرين في صناديق التغطية، وعملائهم من المؤسسات والأفراد؛ فجفَّت السيولة وأصبح المال شحيحًا. حتى المقترضون من أجل أعمال مشروعة لم يعد باستطاعتهم الحصول على قروض. كانت الأمور بالغة السوء بدرجة جعلت بنكَا جولدمان ساكس ومورجان ستانلي يتوخيان الأمان في قدرٍ أكبر من التنظيم والتدقيق من خلال تحولهما إلى بنكين تجاريين، وتركَا مجال الخدمات المصرفية الاستثمارية الشبيه بالمياه المليئة بأسماك القرش. وبالطبع حصلا هما أيضًا على مساعدات حكومية ومصادر إقراض.

لكنَّ المموِّلين الذين كانوا ينشدون الحرية ليسوا المسئولين وحدهم عن أزمة عام ٢٠٠٨؛ فقد شارك في تفكيك منظومة القوانين التي كانت تراقب الشركات المالية مسئولون حكوميون، من أعضاء مجالس المدن إلى أعضاء في الكونجرس إلى رؤساء بلديات إلى رؤساء دول. حتى حكومة الولايات المتحدة تحوَّلت من حكَم محايد إلى حدٍّ ما في العلاقات الاقتصادية إلى مُدافع عن المصالح التجارية. كانت التغييرات التي طرأت على الحملات السياسية قد أدت إلى تشجيع التواطؤ بين قادة في مجالي السياسة والاقتصاد. فمع ظهور التليفزيون كأداة رئيسية للحملات الانتخابية قبل ٤٠ عامًا، نال المال — الذي لا سبيل لإغفاله أبدًا — أهمية جديدة؛ فتكاليف الدعاية التليفزيونية دفعت أصحاب المناصب والمعترضين عليهم إلى الارتماء في أحضان المصالح التجارية. ذات مرة، سُئل ويلي ساتون أشهر اللصوص العباقرة في السطو على البنوك: لماذا تُعاود نهب البنوك؟ فرَدَّ قائلًا: لأن المال موجود في البنوك. وهذا بالضبط هو السبب في أن المرشحين من كِلَا الحزبين ذهبوا إلى الأثرياء للحصول على مساهمات منهم.

إنه مزيج سامٌّ من الجشع والحاجة — الجشع من جانب مهندسي التمويل ذوي الطموحات العالية، والحاجة من جانب السياسيين لدفع ثمن حملاتهم التي باتت باهظة التكلفة — جعل ذوي المناصب يدينون بالفضل لرجال الأعمال الذين أرادوا التخلص من رقابة الحكومة. ومنحت أيديولوجية السوق الحرة التي تسيطر على المناقشات العامة غطاءً لمسئولي الحكومة. لكن بعد صدور قانون جرام ليتش بليلى، ظل بعض المشرِّعين يحاولون الحد من التجارة في المشتقات. وتوقَّعوا بالضبط التأثيرات المتتالية لأي تراجُع. واقترح النواب تدابير لمكافحة الإقراض الضار، تُمَاثِلُ التدابير التي صدرت في مدن ولاية أوهايو، لكن المدافعين عن حرية العمل التجاري قوضوا هذه الجهود. وحينما جرى تشويه سمعة القوانين — كما حدث في الثمانينيات — صارت حتى الهيئات التنظيمية التي لم تتعرض للنقد رعديدة ومهملة في ممارسة عملها.

كان المسئولون الإداريون والمشرعون الذين لا يشعرون بالندم إزاء ما حدث يدافعون عن تخفيف القوانين بحجة أن المصرفيين الأمريكيين كانوا ليأخذوا أموالهم إلى خارج البلاد ويبنوا إمبراطوريات من رهوناتهم العقارية المورقة في أي مكان آخر. وقد عملت المنافسة — التي هي إكسير الرأسمالية — بلا هوادة على تشجيع خوض المخاطرة. فحينما كان المصرفيون الحذرون يرون منافسيهم يتمادون في المخاطرة، كانوا يرغبون في تقليدهم. ولم يكُن إيقاف عجلة المكسب شيئًا مرغوبًا على الإطلاق. وبعد زوال الرقابة على البنوك، ارتفعت تجارتها في مقايضات عجز الائتمان ارتفاعًا هائلًا من ٩٠٠ مليار دولار عام ٢٠٠١ إلى ٦٢ تريليون دولار عام ٢٠٠٧. 8 وازداد حجم صناديق التغطية في عقد واحد من ٣٧٥ ألف دولار إلى تريليوني دولار عام ٢٠٠٨؛ ما جعل الخسائر تصل إلى تريليونات الدولارات. من الصعب استيعاب هذه الأرقام، لكن ليس من الصعب إدراك أبعاد المشكلة. أيضًا لا ينبغي إعفاء المستهلكين من اللوم، إن كان لنا أن نوجِّه اللوم؛ لأن الكثيرين من الأمريكيين كانوا يريدون الحصول على الائتمان السهل والرهن العقاري الرخيص.
كعادة المغرمين بالتقاضي، بدأ أصحاب المنازل يقاضون البنوك، ومقرِضي الرهن العقاري، وبنوك من وول ستريت، وبنوك صغيرة، وبنوك كبيرة، ومسئولي الإقراض في هذه البنوك نفسها. حتى الحكومات البلدية تورَّطت في شراء الأسهم ذات العائد المرتفع في الأوراق المالية المدعومة بالرهن العقاري، سواء الرهن العقاري عالي المخاطر أو الرهن العقاري العادي. وقام بعض من يعيشون في مناطق بعيدة مثل أستراليا بمقاضاة البنوك الاستثمارية لإخفائها مخاطر الأوراق المالية التي كانت تبيعها. وتأثرت شركة محترمة كجنرال إلكتريك — ذات النشاط الواسع في مجال الخدمات المالية — على نحو كبير جراء دعوى قضائية رفعتها ضدها إحدى شركات التأمين تتهمها باتباع معايير احتيالية. صحيح أن قرارات المحكمة العليا انحازت مؤخرًا لوول ستريت، لكن ذلك لن يوقف مسير الناس إلى مكاتب المحامين سعيًا للقصاص، إن لم يكن التعويض الكامل.9

لم تكن أسعار المساكن بحاجة لأن تتراجع كثيرًا قبل أن يجد العديد من أصحاب المنازل أنفسهم مدينِين بمبالغ على قروضهم العقارية تفوق قيمة منازلهم. فبحلول عام ٢٠٠٩، كان أكثر من ربع منازل الرهن العقاري — نحو ١٣ مليون عقار — قد انخفضت قيمتها السوقية عن قيمة قرض الرهن، وبلغ معدل تنفيذ حالات حبس الرهن العقاري ٥ آلاف حالة في اليوم الواحد، ووصلت خسائر المستثمرين إلى ٤٠٠ مليار دولار. ولما كانت الحكومة الأمريكية تعي أن الحكومة اليابانية لم تتصرف بسرعة كافية لوقف الخسائر التي ترتبت على الكساد الياباني عام ١٩٩٠، فقد كافحت لتتوصل إلى عملية التعافي ولتعجل عودة الثقة. في بادئ الأمر، عرض بنك الاحتياطي الفدرالي ووزارة الخزانة مائة مليار دولار «للأصول المتعثرة». لم يعد مصطلح «الإنقاذ المالي» مستساغًا لدى العامة بسبب ما يثيره في الذهن من أفكار عن مدى سوء حالة الاقتصاد؛ لذا بات الناس يتحدثون عن «تنشيط الاقتصاد»، ثم عن وعود التعافي الاقتصادي. نفذت الإدارة الأمريكية الجديدة برئاسة باراك أوباما أكبر برنامج أشغال عامة منذ الكساد الكبير. كانت كل الجهود الرسمية ترمي لإقناع المشاركين العاديين في السوق العادية أن المرحلة الأسوأ قد انتهت بالفعل، أو كما كانت الحملة الرئاسية لفرانكلين روزفلت عام ١٩٣٢ تنشد: «الأيام السعيدة عادت مرة أخرى.»

في تلك الأثناء، أدى تراجع صناعة السيارات الأمريكية الذي اختمر طويلًا إلى مطالبات بدفعات من أموال دافعي الضرائب؛ فقد نفدت أموال جنرال موتورز وكرايسلر، وكانت فورد تترنَّح على شفا الإفلاس. وكانت المشاكل المستعصية لشركات صناعة السيارات تتحدى إحدى القناعات القوية لدى الاقتصاديين، والتي تذهب إلى أننا نستطيع الاعتماد على عقلانية المشاركين في السوق. لكن الحرص المستنير على المصلحة الذاتية كان ينبغي له أن يهمس في آذان قادة ديترويت في السبعينيات بأن ثمة شيئًا ما خطأ عندما ظهرت سيارات هوندا ونيسان وتويوتا في أمريكا لأول مرة. طبعًا كان معظم الناس في ميشيجن «يشترون السيارات الأمريكية»؛ لذلك لم يروا تلك السيارات الجديدة الأنيقة تذرَع الطرقات السريعة لولايتي كاليفورنيا ونيويورك. ونظرًا لأن شركات السيارات الأمريكية كانت كبيرة بما يكفي للسيطرة على المنطقة بأكملها، استطاع كبار المديرين التنفيذيين لصناعة السيارات أن ينغمسوا في الأحلام، ويلبوا طلبات الأذواق قصيرة المدى على سيارات الدفع الرباعي التي تستهلك كميات هائلة من الوقود، بينما يصدرون تصاميمهم المبتكرة لصالات العرض في الخارج. في عام ١٩٨٩، سخر فيلم مايكل مور الشهير «روجر وأنا» من قِصر النظر المتعمد لروجر سميث الرئيس التنفيذي لشركة جنرال موتورز بعد تسريحه ٥٠ ألف عامل من عمال صناعة السيارات في مسقط رأس مور بمدينة فلينت. لا شك أنه كانت هناك تقارير دورية تفيد بتراجع حصة شركات السيارات الأمريكية في السوق. لكن الجهل المتعمد من هذا القبيل لم يكن من الممكن أن يستمر إلى الأبد. وحينما بدأت عواقبه تتوالى أخيرًا عام ٢٠٠٩، أفلست جنرال موتورز وكرايسلر.

من بين المتاعب التي واجهها رؤساء شركات جنرال موتورز وفورد وكرايسلر، التي يعمل فيها ٧٥٪ من عمال صناعة السيارات في البلاد البالغ عددهم نحو ٣٠٠ ألف عامل، التكاليف المتمثلة في رواتب هؤلاء العمال المتزايدة. وحينما ذهب العمال للإدلاء بشهادتهم أمام الكونجرس عام ٢٠٠٨، ذهب معهم رئيس الاتحاد الأمريكي لعمال صناعة السيارات. وهذا التشابك المزعج بين رعاية العمال الحاليين والمتقاعدين يتسم بالتناقض؛ لأن أسلافهم سبق أن عارضوا في الماضي تشريعًا وطنيًّا للتأمين الصحي؛ إذ كان من شأن القانون الذي جرى اقتراحه في الأربعينيات أن يمول الرعاية الشاملة من خلال إدارة الضمان الاجتماعي. لكن خوفًا من أن يقوض قانون كهذا ولاء العمال لمصانعهم، عمل قادة شركات السيارات في ديترويت ضد اتخاذ هذا الإجراء؛ ما دفع النقابات لأن تكافح بنجاح كي تكتسب فوائد لأعضائها على طاولة المفاوضات.10 إن عدم حصول العمال في المصانع الأمريكية التي تصنع سيارات هوندا وتويوتا على أجور مرتفعة وفوائد تضارع تلك التي يحصل عليها عمال مصانع ديترويت كان يثير حنق أعضاء الكونجرس ودوائرهم الانتخابية. في وقت سابق، ربما كان الجمهور ليتساءل: لماذا لم تكن أحوال هؤلاء العمال الآخرين تتحسن؟ لكن حلول ثلاثة عقود من الازدياد البطيء في الأجور ومن نجاح موظفين من ذوي الأجور المتدنية مثل موظفي وول مارت أحدثت تغييرًا هائلًا في تصورات الناس.

ولمواجهة هذه المواقف، نبَّهت القيادات العمالية للحاجة إلى إعادة بناء التضامن الذي كان موجودًا من قبلُ بين النقابات العمالية وعامة العمال. كان اتحاد العمال الأمريكي وكونجرس المنظَّمات الصناعية يهدفان لتمثيل ثلث قوة العمل الأمريكية، كما كان الحال في أوج ازدهارهما عام ١٩٥٠، وبدآ حملة لتوضيح كيف يمكن لحركة عمالية قوية أن تحفز الديمقراطية وتغذي التزامًا أخلاقيًّا بالأجور المعيشية وظروف العمل المقبولة في جميع أنحاء العالم. وكانت الحقائق الموجودة على أرض الواقع تدعم هذا؛ فبين عامي ١٩٧٨ و٢٠٠٨ ارتفعت رواتب رؤساء الشركات التنفيذيين ٢٧٥ مرة بينما ارتفعت أجور العمال العاديين ٣٥ مرة. ولم يكن رؤساء الشركات كرماء مع العاملين لديهم مثلما كان هنري فورد. وعلى الرغم من أن معدل الإنتاجية الأمريكية قد ارتفع منذ عام ٢٠٠٣، لم ترتفع الأجور بالمثل، وانخفضت الفوائد من حيث القيمة.

تدعم التنظيمات العمالية قانون الحريات النقابية الذي عارضه الجمهوريون وعرقلوا صدوره في مجلس الشيوخ عام ٢٠٠٧. كان هذا القانون ليحمي حق العمال في إقامة التنظيمات النقابية في مصانعهم بمجرد أن تُوقِّع غالبيتهم العظمى على بطاقات تعبِّر عن عزمها تشكيل نقابة. وتشير الإحصاءات إلى أن رُبع جميع أرباب العمل فَصَلوا من العمل ما لا يقل عن شخص جزاء مشاركته في التنظيم النقابي فصلًا غيرَ قانوني؛ ومن ثَمَّ تعتبر النقابات قانون الحريات النقابية ضروريًّا لتشكيل التنظيمات النقابية في المصانع الجديدة. وقد أدَّت التقارير حول جمود الأجور إلى جانب تزايد دخل العُشر الأعلى من نسبة ١٪ من متقاضي الأجور في أمريكا إلى جعل قطاع كبير من الجمهور يقف في صف النقابات العمالية. كان الخزي الذي اعترى نظرية إطلاق الحرية الاقتصادية خلال سنوات التحرُّر التي افتتحت القرن الحادي والعشرين يبشر بالخير على التنظيمات العمالية أيضًا، لكن سيتعين عليه أن يتعامل مع القوة المعارضة التي تشكلها أماكن العمل الرافضة للتنظيم النقابي علاوة على المعارضة الموحدة من جانب رجال الأعمال الأمريكيين.11
يبدو أن عدم التنبُّه للعلامات التي تُنبئ بوقوع كارثةٍ سمةٌ بشرية تتَّسم بها البلدان الرأسمالية وغير الرأسمالية على حدٍّ سواء. وقد بيَّن جاريد دايموند في دراسته «الانهيار» — والتي يبين فيها أسباب انهيار الأمم — أن المجتمعات الفاشلة تعتاد التشبث طويلًا بمنظوماتها القيمية الخاصة بعد أن تكون هذه المنظومات غير صالحة للتطبيق.12 ولعل هذا الإصرار على أن لدى السوق آلياتها التصحيحية الذاتية مثال ساطع على هذا الإخفاق البشري المألوف. لا شك أن هذا يبدو الآن كإصرار مَنْ يأمن غدر الأسد في عرينه. إذن هل يتعين على كل جيل أن يتعلم دروسه الخاصة؟ يبدو الأمر كذلك. لقد كانت الترتيبات المالية في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية تؤذِن ببدء ربع قرن من الازدهار واسع النطاق في أوطان الرأسمالية. وربما يمكن أن يتكرر ذلك مرة أخرى؛ فقد دعا كلٌّ من الرئيس الفرنسي ورئيس وزراء بريطانيا العظمى لعقد اتفاقية بريتون وودز للقرن الحادي والعشرين من أجل إعادة بناء الأسس المالية للاقتصاد العالمي. ومن الواضح أن الاتفاقات التي جرى التوصُّل إليها في نيو هامشير عام ١٩٤٤ تمثل بالنسبة لهم علامة على تقديرهما المشترك لقوة التعاون.

رغم أن مركز كارثة الرهن العقاري عالي المخاطر كان في الولايات المتحدة، فقد وصلت المتاعب التي كانت تضرب مركز الأعمال في مانهاتن سريعًا إلى المدن والبلدات في مختلف أنحاء البلاد، ناهيك عن المستثمرين الأجانب الذين شاركوا مع المؤسسات المالية الأمريكية المتهورة في خداع الناس. حتى وادي السليكون — أكثر المراكز الأمريكية للمشاريع التجارية مدعاة للفخر — لمس التأثير الهادر لأزمة الائتمان من خلال انخفاض الطلبيات على منتجات شركاته، وهذا ليس بالأمر الهين بالنظر إلى أن مبيعات أجهزة الكمبيوتر والبرمجيات تشكل نصف إنفاق رأس المال في الأعمال التجارية في الولايات المتحدة. وبالمثل شهد قطاع التكنولوجيا الذي عادةً ما يتمتع بوفرة رأس المال المغامر بعضًا من هذا التراجع أيضًا.

فحينما توقَّف عن الإنفاق الناسُ الذين اقترضوا قروضًا لا تتوافق مع ارتفاع قيمة منازلهم في الأيام المحمومة للطفرة العقارية، أدَّى ذلك إلى الإضرار بالمصدِّرين الكبار والصغار الذين يعولون على المستهلك الأمريكي المضمون. وشارك زعماء أمريكا اللاتينية — الذين كثيرًا ما انتقدوا العملاق الأمريكي الشمالي — في الشماتة بعض الشيء إلى أن رَأَوا الخطر يلوح في آفاق بلدانهم جرَّاء انهيار سوق الإسكان في الولايات المتحدة. لقد طال أذى هذا الانفجار المالي الجميعَ وكأنه شَرَك ملغوم يَعلق فتيله بالعابرين فوقه على حين غرة. لكن الهند — التي أنقذتها تقاليدها المصرفية المحافظة — نَجت نسبيًّا من هذه الكارثة. وقد أدت الهشاشة غير المتوقَّعة لهذه الأوراق المالية التي كانت البنوك الأمريكية تروِّجها في جميع أنحاء العالم إلى شعور قادة العديد من الاقتصادات الناشئة بالحنَق على المتسببين في هذه الكارثة.

مرَّت العولمة بعثرة أخرى مع أول مخطط بونزي ينفذ في جميع أنحاء العالم، والذي انكشف مع نهاية عام ٢٠٠٨. وهذا الخداع — الذي سُمي بهذا الاسم نسبة إلى تشارلز بونزي، المحتال سيئ السمعة الذي ذاع صيته في حقبة العشرينيات الصاخبة — يعتمد على إغراء المزيد من الناس بالاستثمار كي يسدد أرباح مَن اشترَوا الأسهم قبلهم في الشركة الوهمية. يصبح المساهمون بعد ذلك مروجين غير رسميين لاستثماراتهم المجزية مدعومين بما تؤتيه من أرباح قوية. وقد أقَرَّ برنارد مادوف — وهو أحد المموِّلين المحترمين في وول ستريت — أنه حصل بالحيلة على خمسين مليار دولار من عملائه، من خلال بيعهم أسهمًا في إحدى شركاته المنتشرة عبر قطاع واسع من العالم، بما في ذلك الولايات المتحدة وكندا وأوروبا ودول الشرق الأوسط والصين، قبل أن تنفد حيله.13 ولم تكترث لجنة الأوراق المالية والبورصات لمسئوليتها عن حدوث هذا؛ إذ رفضت التحقيق على الرغم من أن أحد الخبراء أبلغها مرارًا وتكرارًا أن مادوف محتال.

إن هيمنة قطاع الخدمات المالية خلال السنوات الخمس عشرة الماضية حالة كلاسيكية يمكن أن نشبهها بنملة تقود فيلًا؛ ففي بادئ الأمر كانت المؤسسات المالية قد أسست لتسهل إقامة المشاريع، لكن في نهاية القرن العشرين أصبحت هذه المؤسسات نفسها صاحبة رأس مال استثماري. وكانت أسواق الأوراق المالية — التي نشأت منذ أكثر من ٢٠٠ سنة مضت — قد قامت بدور الوساطة بين الشركات العامة والشركات المتداولة علنًا. وكانت في الماضي حكرًا على الأثرياء، لكنها الآن تخدم آلاف المؤسسات وملايين من صغار المستثمرين. البنوك أيضًا كانت تضخ الأموال لتمويل إنتاج السلع والخدمات؛ فاكتسبت سلطة في هذه الأمور. ففي القرن الحادي والعشرين، صار الممولون يتدخلون على نحو متزايد في شئون الشركات التي يتداولون أوراقها المالية ويتفاوضون حول قروضها. كان لهذا التحوُّل في السلطة من مديري الشركة إلى أصحاب الديون تأثير عميق على قرارات الشركات بسبب التركيز على تحقيق مكاسب فورية. وقد استفاد المساهمون من هذا — على المدى القصير على الأقل — بينما تحطم العديد من القيم المتعلقة بالشركات القوية.

إذا اختلفت أهداف الرأسمالية المالية كثيرًا عن أهداف المشاريع بوجه عام، فسيواجه الناس معاناة جراء ذلك، كما تبين بوضوح عام ٢٠٠٨. وحينما وقع اختيار الرئيس الأمريكي دوايت أيزنهاور على تشارلي ويلسون — الرئيس التنفيذي لشركة جنرال موتورز — ليكون وزيرًا للدفاع عام ١٩٣٥، تصدَّر ويلسون عناوين الصحف بقوله: «إن ما هو جيد بالنسبة لهذا البلد، جيد بالنسبة لشركة جنرال موتورز، والعكس بالعكس.» وقد قوبل بانتقاد حادٍّ بسبب هذا الرأي، الذي عبَّر عنه في الجلسة البرلمانية لسماع شهادته، لكن ما قاله كان منطقيًّا؛ ففي ذلك الوقت، كانت شركات صناعة السيارات في أمريكا تدفع لعمال صناعة السيارات أجورًا جيدة، وتجعل المستهلكين راضين عن سياراتهم التي اشترَوْها. وأدَّت الأرباح الهائلة التي أمكن تحقيقها من الرفع المالي الحاذق للمعاملات الورقية — مثل الرهون العقارية — إلى تصاعد جميع الحوافز على المدى القصير، مثلما حدث لرواتب رؤساء الشركات التنفيذيين السخية في السنوات الأولى من القرن الحادي والعشرين. في ضوء هذا ربما تخصِّص الشركات مكافآت للتنفيذيين في شكل حسابات ضمانات مجمَّدة يتعين دفعها بعد فترة من السنوات المزدهرة، لا بعد فترة وجيزة من الازدهار.

ويؤكِّد انهيار الرهن العقاري صعوبة إضفاء الاستقرار على الثورة العارمة للرأسمالية؛ لأن الماضي ليس دليلًا يُعتمد عليه للاستعداد للمستقبل. وقد علَّق بارني فرانك — رئيس لجنة الخدمات المالية — ساخرًا بأن موجة قروض الرهن العقاري كانت تشكل «تجربة طبيعية» لاختبار صحة النظريات المتعلِّقة بالتحرير الجذري للأسواق المالية.14 لقد ظهر للنور نظام مصرفي جديد بالكامل خارج شبكة الأمان التي وُضعت إبان فترة الكساد الكبير في سنوات الثلاثينيات. وخرجت تركيزات هائلة من رءوس الأموال من البنوك التجارية التقليدية التي تحتفظ بالودائع وتقرض البنوك الاستثمارية التي تقرض الأموال من خلال متاهة معقَّدة بحق من خطوط الائتمان. وهذا ليس شيئًا خارجًا عن المألوف؛ لأن سعي المستثمرين لوسائل جديدة لكسب المال — مفضلين أن تكون بمعزل عن الضوابط الحكومية — جزء لا يتجزأ من الرأسمالية.
ثم جاء وقت الحساب أخيرًا؛ ففي نهاية عام ٢٠٠٨ الصاخب، التقت في مدينة ساو باولو دول مجموعة العشرين، التي تأسست عام ١٩٩٩ كي تمنح الدول النامية مثل البرازيل والأرجنتين والمكسيك والهند والصين فرصة للتحدث إلى مجموعة الدول الصناعية الكبرى السبع التي تضمُّ ألمانيا وفرنسا وإيطاليا وكندا وبريطانيا العظمى واليابان والولايات المتحدة؛ حيث دعا وزراء مالية الاقتصادات الناشئة ومحافظو البنوك المركزية فيها إلى التعاون في مجال إعادة بناء الهيكل المالي العالمي. وشددوا على أن «بقية» الدول لم تعُد تقبل السماح للغرب بالاستمرار على هذا النحو غير المسئول. عقِب هذا اللقاء مباشرة عُقد اجتماع آخر في واشنطن، وفيه انطوى بروتوكول حفل العشاء الرسمي بالبيت الأبيض على ما ينمُّ عمَّا أحرزته الاقتصادات الناشئة من نجاح؛ فقد جلس لولا دا سيلفا رئيس البرازيل إلى يمين الرئيس بوش بينما جلس هو جينتاو رئيس الصين إلى يساره. مرة أخرى كانت الأمور تبشِّر — كما كانت من قبل عقب الحرب العالمية الثانية — بالتوصُّل إلى حلول دولية لعدم الاستقرار العالمي.15
لقد أعلنت ظاهرة العولمة الجديدة عن نفسها بطرق متنوعة، ربما من خلال مشهد امرأة عجوز محجَّبة في تركيا تستخدم الهاتف الخلوي، أو من الصور التليفزيونية التي تعرض رقص الشباب الإيراني على موسيقى الهيب هوب الأمريكية، أو من معرفة أن بعض أقحوانات الجيربيرا الرائعة تنمو في نيجيريا. لكن إدراك ترابطنا العالمي كان بالنسبة لأشخاص آخرين أكثر صدمة، وجاء في شكل إغلاق مصنع يعول مجتمعًا بأسره مثلما حدث في حالة شركة هيرشي في مدينة هيرشي بولاية بنسلفانيا. وبما أننا نقرأ هذا التاريخ الآن، بتنا نعلم أن التجارة العالمية بدأت جديًّا في القرن السادس عشر مع وصول التوابل من جزر الهند الشرقية والفضة من العالم الجديد. فلماذا إذن تستحق العولمة اهتمامنا الآن؟ لأن اتصالات العالم ومعاملاته ربطت بين حياتنا بطرق لم يكن من الممكن تصوُّرها حتى قبل خمسين عامًا. فقد أصبحت الحكومات أكثر انفتاحًا، وأصبحت حدودها أكثر سهولة للاختراق. لقد قال توماس فريدمان إن «العالم مسطح»، قاصدًا بذلك أن الناس والأموال والسلع تتحرك بحرية عبر سطح الكرة الأرضية المنبسط.16
تربط شبكة الإنترنت — التي تتفوق على البرق والهاتف تفوقًا كبيرًا — بين الأفراد والشركات والمؤسسات على الفور من خلال الرسائل والجداول والصور وجداول البيانات. وقد أدى اندماج الدول الآسيوية في الأسواق العالمية إلى إتاحة الواردات الرخيصة للمستهلكين في العالم. وربط هذا الاندماج أيضًا بين كل المنتجين والمستهلكين في أوقات صعود السوق الدولية وأوقات هبوطها. لكن لم يتطلب الأمر سوى حدوث الانهيار المالي لعام ٢٠٠٨ كي يتبين أن الولايات المتحدة (أو ألمانيا أو الصين) عندما تعطس، يصاب بقية العالم بالبرد. وقد أثار العقد الأول من القرن الحادي والعشرين الكثير من الجَلَبة حول التكامل العالمي، الذي عبر عنه إعلان من صفحتين نُشر في إحدى الصحف عن شركة آي بي إم. كان الإعلان الذي يعبِّر عن روح الارتباط العالمي التي تحدث عنها فريدمان يسهب في موضوع العالم الأكثر ذكاء، حيث توصل أجهزة الاستشعار الذكية رسائل إلى السيارات والأجهزة المنزلية والكاميرات والطرق وخطوط الأنابيب، وأماكن تربية الثروة الحيوانية وصنع الأدوية! وللتأكيد على هذا الارتباط، وصفت شركة آي بي إم «نهجها الشامل في الإدارة الذي يعزز فعالية الأعمال وكفاءتها، وفي نفس الوقت يسعى إلى الابتكار والمرونة والتكامل مع التكنولوجيا».17 لكن الذكاء والاتصالات ليسا كافيين وحدهما؛ فقد بيَّن الفشل المالي الذريع الذي حدث مؤخرًا أن الحكمة مطلوبة أيضًا.
يتحدث الاقتصاديون الآن عن شيء يُسمى الخطر الأخلاقي، وهو مصطلح يشير إلى المخاطر المترتبة على منح الناس محفزات خاطئة؛ فمن الخطر الأخلاقي أن تكفل الحكومة إنقاذ أي بنك لأن ذلك سيجعل المصرفيين يعوِّلون على ذلك فيما بعدُ ويخوضون مجازفات حمقاء إذا استشعروا أنهم لن يُضطروا لدفع ثمن مجازفاتهم تلك. وهذا يذكِّرنا بالخبير الذي قال: «إن الرأسمالية من دون الإفلاس كالمسيحية من دون جحيم.»18 فمن الواضح أن وجود وسيلة منهجية للحد من الخطيئة ضروري في الاقتصاد كما هو ضروري في الدين. وتشير عبارة «الخطر الأخلاقي» في حد ذاتها إلى أن المشاركين في السوق يدركون الآن أن للرأسمالية أساسًا ضروريًّا في المعايير الاجتماعية. وقد يقول الناس إن الفضيلة غاية في حَدِّ ذاتها، لكنَّ معظمنا يجد أن ذلك غير كافٍ؛ فنحن نفضل قضاء العطلات، لكننا نرغب في العمل لأننا مضطرون لأن نأكل، أو لأننا نتطلع إلى بلوغ مستوى معيشي أعلى.

وهكذا يوجد شيء من الانفصال بين ما تتطلبه السوق وما يريده المشاركون فيها. ونحن لم نَرَ هذا لزمن طويل لأننا كمجتمع كُنَّا ملتزمين بالمنفعة الأخلاقية للعمل الجاد. فلم تصبح أخلاقيات السعي وراء المتعة سائدة إلا في الآونة الأخيرة. وتلك هي المشكلة؛ فاقتصاد المشاريع الحرة يعتمد على المنافسة، والخيارات العقلانية، والمعلومات المعروفة على نطاق واسع، حتى وهو يكافئ الأشخاص الذين يحتكرون السوق، ويورطون غيرهم في صفقات حمقاء، ويستخدمون معلومات سرية لخدمة مصلحتهم الخاصة. ومن الممكن تمامًا أن يكون الخطر الأخلاقي الحقيقي اليوم هو أن الرأسمالية تقضي على آداب قديمة كان يلقنها الآباء والمعلمون حينما كان هناك توافُق في الآراء حول كيفية تنشِئة الأطفال على نحو يجعلهم يتحلون بالمسئولية. وإذا تلاشت تمامًا هذه المجموعة من القيم سنخسر القاعدة الأخلاقية للرأسمالية، التي تعتمد على تلبية الرجال والنساء التزاماتهم، وإدارتهم مواردهم بحكمة، وتقديرهم قيمة العمل الجاد، ومعاملتهم الآخرين بإنصاف.

كانت الكارثة المالية لعام ٢٠٠٨ قاسية بِمَا فيه الكفاية بحيث تعيد تأصيل الضوابط والشعور بالحذر لدى شاغلي المناصب. غيَّرت الكارثة أيضًا الحديث في الدول الرأسمالية، لكن بعد أن كاد الأوان يفوت. إن ما هو مطلوب بالإضافة إلى نظام مالي جديد هو إصلاح شامل للقوانين؛ فالرأسمالية لا تستطيع أن تفي بشكل طيب بوعدها بالتقدُّم والازدهار إلا إذا كان المشاركون فيها — كما فصَّل أحد الخبراء — يكفلون «نظامًا قانونيًّا فعالًا وسلطة قضائية أمينة، وقانون عقود نافذ المفعول، وخدمة عامة مجردة من أي غرض، ومسكًا عصريًّا للدفاتر، وسجلات ملكية دقيقة، ونظامًا رشيدًا لتحصيل الضرائب، ونظامًا تعليميًّا ناجحًا، وشرطة نظيفة، وساسة نظيفين، وشفافية في تمويل الحملات، ووسائل إعلام مسئولة، وشعورًا واسع النطاق بالمسئولية العامة».19 والرأسمالية تولِّد الثروة لدفع تكاليف هذه المنافع الاجتماعية. لكن المسألة الآن تتمثل فيما إذا كانت الإرادة السياسية اللازمة لكفالة هذه الظروف موجودة حقًّا.

ملخص ما سبق في تاريخ الرأسمالية

يمكن تبيُّن أصول عيوب الرأسمالية من خلال النظر في تاريخها، عندما انتقلت المعاملات التجارية من هامش المجتمعات الأرستقراطية قبيل العصر الحديث لتشكل مركز المجتمعات الحديثة. كانت المساومة قديمة قِدم التعامُل البشري، لكنها كانت دائمًا غائبة في ثنايا المجتمعات التي يديرها المحاربون بالأساس. وحينما اجتاز الأوروبيون الطرقَ ووصلوا إلى جزر الهند، وجدوا الموانئ الآسيوية الغريبة حيث يمكنهم شراء الحرير والتوابل. وحينما أبحروا في الاتجاه الآخر، واجهوا عالمًا جديدًا في قارتين تحويان عشرات الجزر الاستوائية. فنشأت تجارات مربحة؛ مما يدل على أن الأوروبيين كان لديهم بالفعل مدَّخرات كبيرة ليستثمروها في المشاريع في الخارج.

كانت المجتمعات الأرستقراطية التي تدعم الأنظمة الملكية الأوروبية في القرن السادس عشر تنظر للتجار نظرة ازدراء بسبب استغراقهم في كسب المال، لكنهم كانوا معجَبين بالتحدي المتمثل في توسيع نفوذ أوروبا وسلطتها. وكانوا مؤمنين بالتفاوت بين البشر إيمانًا راسخًا؛ فقلة من البشر هم من وُلدوا ليرأسوا البعثات الدبلوماسية، ويعملوا في خدمة القانون أو الكنيسة، ويقدموا المشورة للملوك، ويقودوا الجيوش، بينما الباقون يجمعون الأخشاب وينزحون المياه، فضلًا عن المزارعين والخدم الذين كانوا يعيشون حياة الكدح. ولما كان التجار فئة حضرية، فقد وقعوا في مكان ما بين هذه الفئات، يحظَوْن بالاحترام لمهارتهم ولأموالهم، لكن افتقارهم إلى الروابط العائلية المتميزة كان يدفع للحط من قدرهم.

في القرن السابع عشر بدأت المواقف تتغير — في إنجلترا على الأقل — بعد أن بدأ بيع الأشياء وشراؤها يصبح أكثر انتشارًا. وعندما خضع النظام الزراعي البدائي للتقنيات المحسنة بهدف زيادة المواد الغذائية، أدى ازدياد المحاصيل إلى انخفاض أسعار الغذاء. في الوقت نفسه، لم تعُد هناك حاجة لكثير من أبناء المزارعين في المزارع؛ فانتقلوا إلى الصناعات الريفية، أو غادروا ليتعلموا الحرف بالمدن أو يعززوا شبكات التوزيع في سوق إنجلترا الموحَّدة. وفي القرن الثامن عشر، نجحت التطبيقات العملية للمعارف العلمية في جعل بخار الماء يُستخدم في حفر المناجم، وتشغيل المصانع، ودفع القاطرات. كانت هذه التغيرات تتعارض مع الأعراف التي تشكل جزءًا لا يتجزأ من القوانين، والدين، والثقافة الشائعة لذلك الزمن. فكان أنصار التطورات الاقتصادية يسوِّقون الحجج لتبرير الممارسات الجديدة. وصوَّروا النظام الرأسمالي الأوَّلي على أنه نظام طبيعي وتحريري وتقدمي ومجزٍ. وما إن رسَّخ الرأسماليون الاعتقاد بهذا الرأي، كانوا قد وجهوا الضربة الأيديولوجية اللازمة لزعزعة المجتمعات الجامدة وقِيمها.

ظلَّت الندرة تميِّز المجتمعات الغربية في القرن الثامن عشر لأن عدد السكان بدأ ينمو في ثلاثينيات وأربعينيات ذلك القرن، ومع ذلك كان المشترون في المدن يجدون أشياء مبهجة ونافعة، من الخرائط وكتب الرحلات إلى المجوهرات والملابس المزينة بالأحجار الكريمة، والأطعمة الغريبة كالسكر والبن والكاكاو، وأدوات جديدة رائعة مثل النظارات والأدوات العلمية، وبوصلات الجيب؛ فبدأ الابتهاج من الابتكار البشري الذي كان قد صار جزءًا من روح الرأسمالية يسيطر على مخيلة الجمهور. ودخلت الخطاب العام مقارنات كريهة بين الغرب وبقية العالم.

بعد نهاية القرن السابع عشر، لم تعُد المجاعات تحدث في إنجلترا، وصارت أقل حدة في المناطق الأخرى في أوروبا الغربية. وفي عام ١٧٢٣، اختفى أيضًا الطاعون اللعين، الذي ظل يكرِّر اجتياحه لأوروبا بانتظام منذ انتشار الطاعون الأسود في القرن الرابع عشر. وبدأ الشعور بعدم الأمن على الحياة — الذي برر سيطرة سلطة الآباء والقضاة والملوك — يتلاشى ببطء. وارتفعت الدعوات التي تنادي بمزيد من المشاركة السياسية والتسامح الديني والتغيُّر الشخصي بعدما اكتسب المشاركون في السوق — أو انتزعوا — حرية التحرك خارج المتاهة المعقدة للأعراف الاجتماعية. وحلت الأهداف الفردية قصيرة الأجل محل المخاوف القديمة بشأن المستقبل. وحدد تراكم مثل هذه القرارات الأسعار والأجور دون أن يتحمل أي شخص مسئولية النتائج المترتبة عليها.

استمر الاحتفاء بالمخترعين مع تحوُّل التجارب الأولى على قوة البخار إلى ثورة في عمليات الإنتاج. لقد بدأ العصر الصناعي حقًّا في القرن التاسع عشر، واكتسب زخمًا بانتقاله من إنجلترا إلى فرنسا وألمانيا والولايات المتحدة. وبحلول نهاية القرن، حلَّت براعة الكهرباء محل سحر المحرك البخاري، وانضمت الكيمياء للفيزياء في خدمة الصناعة، وشجع المستثمرون المتحمسون البحثَ المستمرَّ عن اختراعات جديدة؛ الأمر الذي أدى بمرور الوقت لظهور البحث المنظم. وهذا كان يعني استمرار الخوض في خصائص العالم الطبيعي وعناصره، من خلال دراسة العلماء ردود الفعل إزاء الحرارة والبرودة والضغط والانضغاط والتوتر وقوة الجاذبية. فبث هذا العمل جودة مدهشة في العالم المادي حين بدأ يحل محل الروحانية القديمة. وصف البعض هذا بأنه تحرُّر للعالم من الوهم. وفي حين بدأ هذا الاستهداف المستمر للطبيعة بالأسئلة منذ ظهور الفلاسفة الطبيعيين، جاء المخترعون وراءهم مباشرة ليسوِّقوا اكتشافاتهم وينشروا أثرها.

تحوَّل العالم الاجتماعي الذي تركَّز حول تكرار مهامَّ سنوية في المواسم والأعياد إلى مجتمع يتميز بالتغيُّر المستمر؛ فقد اكتسب التغيُّر — الذي يعتبر دائمًا شيئًا مرهوبًا — خاصية ازدواج التأثير؛ إذ استطاع بالفعل أن يجلب التحسن، لكنه استطاع أيضًا أن يطمس أساليب عتيقة وراسخة للعيش في العالم. وتطلَّب استمرار نمو الاقتصاد أن يخوض الرجال والنساء المجازفات، ويفكروا تفكيرًا إبداعيًّا، ويتقبلوا التغييرات التي جعلت حياتهم مختلفة تمامًا عن حياة آبائهم. كانت أيضًا فكرة اكتساب الناس مواقعهم في المجتمع دون النظر إلى أصولهم العائلية من الأمور المستحدثة. وكان الحراك الطبقي الاجتماعي — الذي يبدو بالنسبة لنا مفهومًا عاديًّا للغاية — أمرًا مستهجنًا في مجتمع تمحور حول مكانات اجتماعية شملت الأرستقراطيين، والنبلاء، وعامة الشعب، والخدم، حيث كان الخاضعون أكثريَّةً والمستقلون أقلية.

لم يكُنْ من الممكن الحفاظ على الطموح الذي لعب دورًا أساسيًّا في حث الناس على أن يكونوا أكثر إنتاجية إلا من خلال وجود متسَع في الطبقات العليا من السُّلَّمِ الاجتماعي؛ ففي حين كانت المكانات الاجتماعية الموروثة تشجع الركود، كان السعي الدءوب يشجع الآمال في الارتقاء والمخاوف من انخفاض المكانة الاجتماعية. وبمجرد أن تحرَّر الرجال والنساء من النظام الزراعي القديم، تعلَّمُوا حرفًا يدوية مثل صناعة الأحذية، وعملوا في مجال البناء، وشكَّلوا الوشائج البشرية للتجارة، أو اجتُذبوا للعمل في المصانع. وظهرت طبقتان جديدتانِ لتحلَّا محل الطبقات القديمة: طبقة العمال وطبقة أرباب العمل. واختلف عمل المرء باستخدام يديه كثيرًا عن عمله باستخدام عقله. وعلى الرغم من أن هاتين المنزلتين كانتَا متاحتين أمام جميع الراغبين بينما لم تكُن المكانات القديمة كذلك، ظل للحراك الاجتماعي حدوده التي تحكمه. لكن ازداد الحراك الجغرافي مع عثور العاملين بالمزارع على فرص عمل في الصناعات الريفية، ثم بعد ذلك في المدن. أما الأشخاص الأكثر مغامرة فقد تركوا أوروبا كلها كي يجِدوا مكانًا — وربما يكوِّنوا ثروة — في جنوب أفريقيا وشمالها. وقد استفادت الرأسمالية استفادة هائلة من ارتباطها بالحرية السياسية، في الوقت الذي كانت تخلق فيه أشكالًا جديدة من السيطرة. صارت المصانع هي أماكن العمل، بدلًا من المنازل والمحال. واكتسب أولئك الذين يشيدون المصانع ويديرونها ويستثمرون فيها السلطة. ومع ذلك فقد آمنوا إيمانًا قويًّا بأيديولوجية الفردية، والنزعة الاستقلالية، وحقوق الإنسان التي صاحبت صعودهم إلى مواقع السيادة.

عضدت الأيديولوجية الرأسمالية مفهوم الطبيعة البشرية؛ فقد نظرت إلى الحقوق بوصفها حقوقًا عالميةً؛ ما جعل المحرومين يثورون للمطالبة بالتمتُّع بثمار عملهم وحرياتهم. لكن التقاليد القانونية الأوروبية كانت تميِّز تمييزًا صارخًا في الحقوق والامتيازات بين كُلٍّ من السادة والخدم. وحاول أرباب العمل أن يحافظوا على هذه المزايا القانونية القديمة، رغم أن العاملين لديهم كانوا يعتبرون أنفسهم أصحاب حقوق. وأصبح الاستهلاك المحلي أيضًا أكثر أهمية لاقتصادات الرأسمالية. ودار الصراع بين جانب العرض وجانب الطلب. كان المنتجون يريدون الإبقاء على انخفاض الأجور، وطول ساعات العمل عند صنع سلعهم، لكن عندما يحين وقت بيع هذه السلع، كانوا يحتاجون إلى الزبون الذي يتقاضى أجرًا مجزيًا ويرغب في التسوق.

أطلق احتمال تحقيق الثراء العِنان لجشعٍ نادرًا ما شوهد من قبلُ في المجتمع البشري. وكانت الثروة الكبيرة تتحقق من استيراد النباتات الاستوائية مثل التبغ والسكر والشاي والكاكاو لبيعها للمستهلِكين الأوروبيين ذوي القوة الشرائية والأذواق التي تميل للإدمان. وبدلًا من استيراد هذه المنتجات من الآسيويين والأفارقة، بنى الأوروبيون نظامًا زراعيًّا لاستزراع هذه المستجدات المرغوبة في أراضي العالم الجديد. ولا شك أن ما أتاح هذه التجارة هو شراء الأوروبيين ملايين العبيد من أفريقيا وشحنهم إلى جزر البحر الكاريبي وسواحل المحيط الأطلنطي في الأمريكتين. بدأ استغلال الأوروبيين للأشخاص المستضعفين بنظام العبودية في القرن السادس عشر، ثم تحول إلى استغلال استعماري يمارسه الأوروبيون ضد سكان البلدان البعيدة، لا سيما أفريقيا في القرن التاسع عشر. ثم انضمَّت ألمانيا وإيطاليا إلى إسبانيا والبرتغال وبريطانيا العظمى وفرنسا في إقامة الإمبراطوريات وتوجيه الاستثمارات الرأسمالية لتنمية «الموارد الطبيعية» في مستعمراتهم. لقد كان الرأسماليون ينزعون الطابع الإنساني من علاقاتهم مع الناس الذين يعيشون خارج قارة أوروبا، ويتعاملون مع عمال المستعمرات ومجتمعاتها كما يتعاملون مع عناصر الإنتاج العديدة.

رغم أن النزاعات الحربية في أوروبا كانت قديمة جدًّا، غيَّرت الثروة التي ولدتها الرأسمالية قواعد الصراع في القرن العشرين؛ إذ صارت البلدان قادرة على مواصلة القتال لسنوات. وحينما اندلعت الحرب عام ١٩١٤، لم يتوقَّع أحد هذه النتيجة؛ إذ كان معظم الناس يعتقدون أنها ستنتهي في غضون أشهر، لكنها استمرت أربع سنوات دامية. وبما أن المنافسة كانت في جزء منها على ممتلكات استعمارية، كانت المستعمرات البعيدة تُزج للدخول في الصراع. وبعد عقدين من الحرب العالمية الأولى، بدأت الحرب العالمية الثانية. ربما ما من اختلاف يمكن أن يفوق ذلك الاختلاف بين الشعور بالإنجاز الذي ساد في مطلع القرن العشرين، والشعور باليأس الذي ساد بعدما انتهت الحرب العالمية الثانية بانفجار الطاقة الذرية الشرسة عام ١٩٤٥.

حلَّ عام ١٩٠٠ بأعاجيب شملت السيارات، والطاقة الكهربائية، ومراكز المدن في هيئتها الجديدة التي تميَّزت بانتشار ناطحات السحاب. وازداد أمد العمر المتوقع، وقلَّصت تدابير الصحة العامة انتشار الأمراض الذي كان يهدم البنية السكانية من قبل. وبعد أربعة عقود، كانت الحرب قد قتلت الملايين من الرجال والنساء، وشردت ملايين آخرين من منازلهم، ودمَّرت بالكامل الآلاف والآلاف من أحياء المدن. ودخل الرجال والنساء — الذين كانوا في مقتبل أعمارهم وقت الحرب العالمية الأولى — مرحلةَ منتصف العمر وقد صقلتهم المحن؛ فقد عزَّزت هذه الأوقات الصعبة التفكير الجدي، وجعلت الدول الرأسمالية تعترف بعد الحرب العالمية الثانية بضرورة التعاون، وتؤسس نماذج لمنظمات دولية ذات مكانة دائمة.

عانت أوروبا تراجعًا تجاريًّا كبيرًا بين الحربين العالميتين، وقد جعل هذا التباطؤ المفاجئ في وتيرة الرأسمالية الخبراءَ في حالة صدمة، وأطلق عليه الكساد الكبير، مثلما كانت الحرب العالمية الأولى توصَف بأنها الحرب الكبرى. فقد سقطت عشرات الاقتصادات في حالة من الفوضى. ورغم الجهود المبذولة لتخفيف الخسائر في الوظائف والمدخرات، عجزت معظم السياسات الحكومية عن مواجهة الأزمة. ولم يعُدْ نشاط الرأسمالية مجددًا إلا مع النفقات الهائلة للحرب العالمية الثانية؛ الأمر الذي أثبت صحة نظرية جون ماينارد كينز. فقد قال كينز إن استثمارات القطاع الخاص وحدها لا تستطيع أن تخرج الاقتصادات من حالة الكساد. ومثلما حدث في حالة السبع سنوات السمان اللاتي تبعتهن سبع عجاف، تأرجحت الرأسمالية بين أوقات الرخاء والشدة، لكن مع قدرة أقل على التنبؤ بما سيحدُث فيما بعدُ. إنَّ الطلب المكبوت الذي ظهر بعد الحرب العالمية الثانية، والثروة الكبيرة التي كانت الولايات المتحدة على استعداد لإنفاقها لتساعد في انتعاش أوروبا الغربية ثم انتعاش اليابان بعد ذلك أدَّى إلى حلول عصر ذهبي دامَ ربع قرن. وبعد نحو ثلاثين سنة جلب مصدر جديد للركود نهايةً للازدهار الوافر الذي بدأ في فترة ما بعد الحرب.

في السبعينيات، بدأ الناس يتنبَّهون إلى الخسائر البيئية التي سبَّبَها تسارع مستويات استهلاك الوقود الحفري، وهي حقيقة دعمها ظهور قوة منظمة الأوبك، أو رابطة الدول المنتجة للنفط. كانت المنظمة تمارس نوعًا من السلطة الاحتكارية، وأعلنت عن ارتفاع كبير في أسعار النفط؛ مما أبرز عدة مشاكل أخرى في أوطان الرأسمالية. أبرز تلك المشاكل أنه للمرة الأولى لم يؤذِن ارتفاع الأسعار بحلول فترة من النمو، بل فترة من الكساد أو الركود أو — كما أصبح يطلق عليه — الركود التضخمي. وتراجعت حركة مساواة الأجور التي بدأت في فترة ما بعد الحرب، ثم تلت ذلك أربعة عقود طويلة من التفاوت بين الدخول المنخفضة والمرتفعة في الولايات المتحدة. وخسرت التنظيمات العمالية — التي استفادت من الكساد ثم من النمو في فترة ما بعد الحرب — شعبيتها في مخيلة الجماهير. وكسر الركود التضخُّمي أيضًا الإجماع على أن الحلول الكينزية تصلح لحل جميع مشاكل الرأسمالية، وازدادت قوة أرباب العمل مع تراجع قوة العمال.

ورغم أن الدول الرأسمالية كانت تستوعب هذه الحقائق المقلقة، تحركت الرأسمالية قُدمًا بأقصى سرعة معتمدة على سلسلة متوالية من التكنولوجيات الجديدة التي أذنت بحلول عصر الكمبيوتر والترانزستور والإنترنت. وهبَّت «رياح التدمير الخلاق المستمرة» التي تحدَّث عنها الاقتصادي شومبيتر مع ظهور جيل جديد من الأجهزة العبقرية. إن كل انكماش اقتصادي يمنح النقاد فرصة لأن يتصوَّروا أن نهاية الرأسمالية قد حانت، لكنهم يستهينون بقدرة الرأسمالية الخصبة على تشجيع الإبداع وتحويل النماذج الأولية المستحدثة إلى مشاريع كبيرة ناجحة.

الرأسمالية المعاصرة ومنتقدوها

قال جوردون جيكو — خصم البطل في فيلم «وول ستريت» — إنه لا يسعه إلا أن يصف «الجشع» بأنه «شيء طيب، وذلك لعدم وجود كلمة أفضل»، لكن قلة هم من يوافقون على هذا الرأي. وقد أشار آلان جرينسبان نفسه إلى مخاطر «الجشع المعدي» بينما كان يتحدث إلى الكونجرس عام ١٩٩٧ بصفته رئيسًا لمجلس إدارة بنك الاحتياطي الفدرالي. والجشع ليس الشيء الوحيد الذي يأخذه الناس على الرأسمالية؛ فقد وضعت قائمة صغيرة تتضمن اتهامات مثل التجاوب مع الفرص قصيرة الأجل وإهمال التأثيرات طويلة الأجل، وتوزيع السلطة من دون مسئولية، وإعلاء القيم المادية على القيم الروحية، والمتاجرة بالعلاقات الإنسانية، وتقييم القيم الاجتماعية بالنقود، وإفساد الديمقراطية، وزعزعة المجتمعات والمؤسسات والترتيبات القديمة، وإثابة العدوانية، و… أيضًا الجشع.20

ثَمَّةَ تَبِعتان رأسماليتان أخريان تلقيان ظلالًا كبيرة على المستقبل وهما: الفقر المستعصي والبيئة المتدهورة؛ فبينما كانت معظم اقتصادات العالم تنمو على نحو جيد، انتهت ستون سنة من الجهود التي بذلها العالم الأول لحفز الازدهار في العديد من بلدان العالم الثالث بخيبة أمل. ويعيد الخبراء الآن تنظيم صفوفهم مجددًا لاختبار بعض الأساليب الجديدة لإعادة إحياء الاقتصادات الراكدة وإنعاش الدول الفاشلة. وبالتفكير على نطاق أوسع، يعتقد البعض أن الوقت قد حان لتصحيح عيوب الرأسمالية بدلًا من توقُّع حدوث طفرة تكنولوجية أخرى تحوِّل الانتباه إلى أمر آخر. ويوجد جهد متعدد الجوانب ضمن جدول أعمال القرن الجديد يرمي لوقف التدمير البيئي الناجم عن قرن من النمو السكاني، وحرق الوقود الحفري، وتلويث المياه، ومختلف التعديات البشرية الأخرى على هذا الكوكب.

وينقسم نُقَّادُ الرأسمالية إلى ثلاث مجموعات؛ فهناك أولئك الذين يشعرون بالاستياء من السوقية والقبح اللذين يشجعهما السعي وراء الربح. وهم لا يحبون تخمة السلع والاهتمامات المادية التي تشغل إخوانهم البشر في العالم. وهذه الشكوى عادة ما تصدر من أعضاء ينتمون للنخبة الاجتماعية أو الأكاديمية. وهناك آخرون يحاربون الرأسمالية بسبب خطايَا العولمة التي وسعت نطاق طمع الدول الغنية على حساب الفقراء المستضعفين. والشركات متعددة الجنسيات هي العدو اللدود للحركة المناهضة للعولمة لأنها يُنظر إليها على أنها تعمل من دون أن تتحمل مسئولية اجتماعية أو إحساسًا باحتياجات الإنسان. ويصور النقاد الشركات متعددة الجنسيات على أنها أخطبوطات تتشبث مجساتها بأي مخطط يبشر بالربح، مهما كان مشبوهًا. وهناك فريق ثالث يريد أن يعمل في إطار الرأسمالية كي يجعل النظام أكثر انفتاحًا وأكثر عدالة، ومتجاوبًا مع الناس كما هو متجاوب مع الربح. هذه السمة الأخيرة تبدو أكثر السمات إثارة للاهتمام، لا لشيء إلا لأنها تشكل أكثر السمات فعالية في مكافحة الفقر وما يصاحبه من بؤس وظلم.

منذ منتصف السبعينيات، عملت التنمية في كوريا وتايوان والصين والهند على تخليص ٣٠٠ مليون شخص من براثن الفقر. وانتشل الملايين من الرجال والنساء الآخرين أنفسهم من براثن الفقر عن طريق الهجرة إلى أماكنَ أكثرَ ازدهارًا.21 على سبيل المثال، هناك نصف مليون مهاجر روماني يسدُّون الحاجة لعمالة الشبان في إيطاليا المسنَّة. وليست إيطاليا البلد الأوروبي الوحيد الذي يعاني من تراجع عدد السكان؛ ففرنسا وألمانيا وإسبانيا واليونان جميعها انخفضت نسب المواليد فيها إلى ما دون معدل الاستبدال.
في مناطق أخرى في حقول نفط الشرق الأوسط، يجتذب العمل بالبناء وبالخدمة في منازل مدينة مثل دبي العمالَ الذين يكون معظمهم من الشباب والرجال، من الهند والفلبين. وهناك سيل من المهاجرين من أفريقيا يشق طريقه عبر مدخل أوروبا في إسبانيا كل أسبوع. وتصل التحويلات التي يرسلها هؤلاء العمال المغتربون إلى أوطانهم لمئات المليارات، لكن كلفة الاغتراب عن الوطن باهظة للغاية. ربما لو لم تكُن وسائل الاتصالات العالمية أظهرت لهؤلاء الرجال والنساء كيف يعيش الناس في الغرب، لما اهتموا، لكنهم صاروا يعرفون بالفعل كيف يعيش الناس في الغرب ويريدون العيش مثلهم. لكن حتى في ظل غياب التحريض التليفزيوني، تدفق ٥١ مليون أوروبي و٢ مليون آسيوي على الأمريكتين في الفترة بين سبعينيات القرن التاسع عشر وثلاثينيات القرن العشرين، وهاجر ٤٩ مليون شخص من جنوب الصين والهند إلى جنوب شرق آسيا، وهاجر ٤٨ مليون روسي وصيني من أرض الوطن إلى آسيا الوسطى وسيبيريا ومنشوريا.22

مشكلة الفقر ومحللوها

على الرغم من أن «مليار القاع» — المليار شخص الذين يعيشون في أدنى مستويات الفقر العالمية — لم يبرحوا دراسة بول كولير التي نشرت في كتاب يحمل هذا العنوان، تتبادر هذه التسمية إلى الأذهان لتذكر بأولئك الذين يعانون الفقر. فمن بين ٦ مليارات نسمة ممن يعيشون اليوم على سطح الأرض، تعيش نسبة السدس منهم في الاقتصادات الرأسمالية المتقدمة، ويعيش ٤ مليارات إنسان في البلدان النامية، ويعيش المليار إنسان الباقون في البلدان التي تعثرت اقتصاداتها.23 وتشير بيانات البنك الدولي لعام ٢٠٠٥ إلى أن ١٫٤ مليار شخص يعيشون تحت خط الفقر، ويكسبون أقل من ١٫٢٥ دولار في اليوم. ولا يعيش مليار القاع اليوم في دول الأيام الخوالي المتخلفة في العالم الثالث، بل في بلدان معينة — عددها ٥٧ بلدًا في الواقع — لا تزال تحبو في الوقت الذي تعدو فيه دول العالم من حولها نحو التنمية حتى خلال أي موجة ركود تصيب العالم؛ فهي ليست دولًا مثل دول البريك (البرازيل وروسيا والهند والصين) التي حازت الاهتمام باعتبارها «الأسواق الناشئة». وإنما هي «دول فاشلة» بدأت تُعيي صبر أهل الخير، وتمتحن مخيلة منظمات الإغاثة. واليوم، تتجاوز الأموال التي يجري ضخها لمكافحة المرض الأموال التي يجري ضخها لتشجيع التحول الاقتصادي؛ ممَّا يدل على وجود يأس محقق إزاء التنمية.
إن السبعة والخمسين بلدًا العالقة في قاع الاقتصاد العالمي ليست كغيرها من البلدان في العالم؛ فهي مثقلة بأعباء استثنائية، ما يعني أن برامج المساعدات التقليدية لن تكون فعالة في حالتها. ويوضح كولير في دراسته التحليلية الدقيقة أن السبعة والخمسين بلدًا التي لم تحرز أي تقدم في اتجاه التنمية الاقتصادية ابتُليت بحكومات سيئة، وحروب أهلية، ومواقع جغرافية حبيسة، لا تطل على أي سواحل. ومما يثير الدهشة، أنها غنية بالموارد. وهذه المواصفات تعزز بعضها في كثير من الأحيان؛ فالثروات الطبيعية مثل النفط، أو العاج، أو الماس توفر في واقع الأمر لقادة هذه الدول موارد وفيرة للرشوة. ولا يحتاج قادة هذه الشعوب إلى خطب ودِّ شعوبهم لأنهم يملكون المال اللازم لسرقة الانتخابات أو شراء ذمم المعارضين.24
والحرب الأهلية شَرك آخر؛ إذ يقدر كولير أن الحرب الأهلية تتكلف في الأحوال العادية أربعة وستين مليار دولار، وهو يوصي بالتدخُّل العسكري في بلدان مثل أفغانستان والصومال لإنقاذهما من هذه الأزمة. وهو يرغب في أن توضح المنظمات التي ستتدخل نواياها من خلال ميثاق دولي، متحججًا بأن مثل هذه التدخلات يجب أن تستمر لما لا يقل عن عقد من الزمن من أجل وضع الأساس اللازم لحكومة سليمة. ولا يرى كولير أن كلًّا من التجارة أو المساعدات وحدها ستكون ذات فائدة كبيرة بالنسبة للدول الفاشلة؛ فهو يعتقد أن التغيير لا بد أن يبدأ من الداخل، لكن الإصلاحيين المحليين لن ينجحوا إلا بتلقيهم المساعدة من العالم الصناعي. ولا يعوِّل كولير على العولمة وحدها لأن الهند والصين صعَّبتا كثيرًا على من وصلوا متأخرين دخولَ السوق العالمية. وبصفة كولير مسئولًا سابقًا في البنك الدولي، فهو يعترف بسطوة الأعراف، ويحث على إعادة إحياء النقاش حول هذا الموضوع.25

وقد تأتي أفضل الأفكار التي تصلح للتصدي للفقر من أشخاص مثل محمد يونس، وهرناندو دي سوتو، وأمارتيا سِن، وفرانسيس مور، ووالدن بيلو، وراج باتيل، وبيتر بارنز، الذين يريدون تسخير قوى الرأسمالية بأساليب جديدة لتحسين حياة كل البشر. وهذا بالطبع ما كان ماركس يود تحقيقه: أن يبني على القاعدة الرأسمالية للثروة كي تتوفر الحياة الكريمة للمجتمع بأسره. لكنه فشل في توقُّع الخطر المترتب على ارتباط قوتي المجتمع الاقتصادية والسياسية من خلال امتلاك الدولة للممتلكات؛ إذ إن اندماج القوة هذا أسفر عن جمود البرامج، وخلق جهازًا حاكمًا لا يتأثر بالإرادة الشعبية. لكن القضية التي تناولها ماركس لا تزال باقية، وهي: كيف يمكن جعلُ الثروات التي تولِّدها الرأسمالية تزيد من فرص الحياة للجميع، بما في ذلك مليار القاع.

من الواضح أن ما يعوزه الفقراء هو السحر الذي يمارسه رأس المال أو حتى الوصول إلى رأس المال. هناك الآن بعض الأفكار الجديدة البارعة لتغيير هذا الوضع. وقد توصل محمد يونس لإحداها. كان يونس قد ولد في الهند البريطانية عام ١٩٤٠، وحصل على درجة الدكتوراه من جامعة فاندربيلت، حيث مارس التدريس لنحو ٣ سنوات من ١٩٦٩ إلى ١٩٧٢. ثم أغرته حركة بناء بنجلاديش المستقلة بالعودة إلى أرض الوطن، حيث بدأ يدرس علم الاقتصاد في جامعة شيتاجونج. لكن بعد سنتين داهمه الواقع متمثلًا في شكل كارثة وطنية؛ إذ حلت مجاعة رهيبة عصفت ببنجلاديش، ويذكر يونس أنه «كان من الصعب تدريس نظريات الاقتصاد الراقية في قاعات التدريس بالجامعة».26 كان قد اقتنع من احتكاكه بالقرويين المحيطين بالحرم الجامعي بأن الكثير من الفقراء يستطيعون انتشال أنفسهم من براثن الفقر المدقع فقط إذا حصلوا على القليل من المال. لكن في غياب الضمانات لم يكن يسعهم سوى أن يقترضوا من المرابين الذين حملوهم بفائدة دين تصل إلى ٣٠٪.

شاهد يونس النساء اللاتي كن يصنعن قطع الأثاث من الخيزران يدفعن هذه الفوائد الربوية المرتفعة ليتمكنَّ من شراء الخيزران إلى درجة لا تجعلهن يستطعن النهوض بأعباء المعيشة؛ ففكر في أن يقدِّم لهن قروضًا من دون ضمانات. وبدأ بمبلغ ٢٧ دولارًا من جيبه الخاص، وقدَّم مبالغ صغيرة إلى ٤٢ امرأة. ونجحت الفكرة، وسددت النسوة ديونهن بالإضافة إلى نسبة فائدة معقولة. ثم أسَّس يونس بنك جرامين (بنك القرية) عام ١٩٧٦ بقرض من الحكومة. وفي عام ١٩٨٣، أصبح البنك مستقلًّا. وامتد نطاق نشاط البنك من القرية إلى المقاطعة ثم إلى البلاد بأسرها. والبنك الآن ملك لمقترضيه، باستثناء نسبة ١٠٪ تملكها حكومة بنجلاديش. وبحلول عام ٢٠٠٧، صار البنك يُقرض مبالغ وصلت إلى ٦٫٣٨ مليار إلى ما يزيد على ٧ ملايين مقترِض؛ الأمر الذي ألهم مئات من مؤسسات الإقراض الصغيرة الأخرى في جميع أنحاء العالم.

كان بنك جرامين يتعامل مع النساء أكثر ممَّا يتعامل مع الرجال لأنهن كن أكثر استعدادًا لإنفاق دخولهن على أسرهن. وكان يونس يدرك أيضًا الحاجة إلى إنشاء شبكات دعم بين عملاء البنك؛ فكان البنك يفرض في عقود عملائه عقد اجتماعات أسبوعية إلزامية بحيث تجتمع مجموعات المقترضين الذين يعيشون بالقرب من بعضهم لمناقشة مشاريعهم وتبادل الأفكار. وكان المشاركون في هذه المجموعات يقومون أيضًا بدور ضامن مشترك للسداد؛ فصار سجل إقراض بنك جرامين مشرِّفًا ببلوغه معدلات سداد تتجاوز نسبة ٩٠٪. لكن اليساريين المتشددين عارضوا نشاط البنك باعتباره شكلًا من أشكال الاستدراج إلى الرأسمالية، وهدَّد رجال الدين المحافظون الإناث المقترضات بحرمانهن من مراسم الدفن الإسلامية. لكن لا شيء استطاع أن يوقف زخم هذا الجهد. وحينما فاز يونس بجائزة نوبل للسلام عام ٢٠٠٦، تبرَّع بنصف قيمتها التي تبلغ ١٫٤ مليون دولار لتأسيس شركة لصنع الأغذية عالية القيمة الغذائية ومنخفضة التكلفة للفقراء. وقد استطاع مشروع هاتف القرية الذي أطلقه بنك جرامين أن يوفر الهواتف الخلوية لمائتين وستين ألف قروي في خمسين ألف قرية، استفاد كثير منهم بهذه الهواتف بتأجيرها لإجراء المكالمات. وكذلك كانت هذه الهواتف تشكِّل نعمة لعمال اليومية في المناطق الحضرية؛ لأنهم باتوا يمكنهم الاتصال هاتفيًّا الآن بعملائهم المحتملين بدلًا من أن يضيعوا الوقت الثمين في التسكُّع في جميع أنحاء المدينة بحثًا عن عمل جديد.

في الوقت الحالي يوجد مئات من مؤسسات الإقراض الصغير التي تتعامل مع مائة مليون أسرة في جميع القارات. ويرغب بنك آي سي آي سي آي — أكبر البنوك الخاصة في الهند — أن ينقل التمويل الصغير إلى مستوى جديد من خلال التعاون مع الحكومة الهندية و١٠٠ منظمة شريكة أخرى. فعلى غرار ما فعله يونس، أقرض بنك آي سي آي سي آي ٦٠٠ مليون دولار إلى ٣ ملايين عميل. ويتمثَّل مشروعه القادم في ابتكار بطاقة هوية بيومترية تحوي ترميزًا للتصنيف الائتماني للشخص بحيث يتمكن من الحصول على الائتمان من أكشاك الإنترنت أو فروع البنك في كل مكان ببصمة إبهامه. في الوقت نفسه، تعاون يونس مع المكسيكي كارلوس سليم الحلو — أحد أقطاب مجال الاتصالات — لنشر الإقراض الصغير في المكسيك على نطاق واسع. وسليم الحلو — الذي يزاحم وارن بافيت وبيل جيتس على لقب أغنى شخص في العالم — هو أحد فاعلي الخير العظماء؛ فقد ضَخَّ الأموال في المؤسسات، لكن لأنه مالك محتكر للعديد من قطاعات الاقتصاد في المكسيك، فهو أيضًا جزء من مشكلة الفقر فيها. ويعمل لدى سليم الحلو ربع مليون رجل وامرأة. وكما فعل يونس، أعلن سليم الحرب على الفقر، وهو يحوِّل اهتمامه الآن إلى المساعدة في تمويل الصحة وبرامج التعليم في المكسيك. يقول سليم: «إن مهمَّتي الجديدة هي التركيز على التنمية وتوفير فرص العمل في أمريكا اللاتينية.» ويتساءل النقاد الآن ما إذا كان سليم ينوي دفع أجور للعمال تتناسب مع الأجور في بقية دول أمريكا الشمالية.27
يدرك يونس أن أحد أسس الفقر يكمن في القناعة المنتشرة بأنه شرٌّ لا بد منه، كالموت. ويقول: «أعتقد اعتقادًا جازمًا بأننا نستطيع أن نخلق عالمًا يخلو من الفقر إذا آمنَّا جميعًا بقدرتنا على ذلك.» ويضيف: «سيصبح متحف الفقر هو المكان الوحيد الذي سنتمكن من رؤية الفقر فيه.»28 يكافح المدافعون عن الفقراء نفس العقبات التي واجهها معارضو العبودية في القرن الثامن عشر: قبول شرٍّ ما لأنه قديم ومعتاد، فمن الصعب الشعور بالغضب إزاء وضع مثل الفقر الذي ظل موجودًا في جميع الأنحاء منذ آلاف السنين. وهذا الموقف الغالب كان ينطبق في الماضي على العبودية. ثم — على نحو مفاجئ — أثارت فكرة إلغائها مجموعة من المصلِحين الذين نجحوا في مكافحة التقبُّل العام للعبودية في غضون أقل من قرن من الزمان. وأظهرت السلطة التشريعية لولاية بنسلفانيا عام ١٧٨٠ أن نظامًا قانونيًّا قديمًا قِدم الكتاب المقدس من الممكن أن يبطله النظام الأساسي للتشريع. ثم حذت الولايات الشمالية حذوَ بنسلفانيا، وكان معظمها يجيز التحرير التدريجي من العبودية وفقًا لعمر الشخص المستعبد.

قال أبراهام لينكولن عشية الحرب الأهلية: «إن البيت المنقسم على نفسه لا يمكن أن يصمد.» لكن لينكولن نفسه اقتبس من الكتاب المقدس ما يقول إن الفقراء سيكونون «… معنا في كل حين». وبيَّنت نظرية توماس روبرت مالتوس الشهيرة حول النمو السكاني أن الفقر قدر محتوم على عدد كبير من الرجال والنساء. وقد تبيَّن أن اختراق ظلال الاستسلام هذه ليس سهلًا؛ فمنذ نحو قرنين من الزمان استنكر الثوري الإنجليزي ويليام كوبيت قسوة الأعمال التي ظلت تستخدم بالكامل العمال القنوعين والكادحين لكنها لم تدفع لهم من الأجور ما يكفي لإطعام عائلاتهم. واليوم، جذب فقراء العمال الذين تحدث عنهم كوبيت انتباه الناشطين الذين نجحوا في حمل أكثر من مائة مدينة في الولايات المتحدة على تمرير قرارات رسمية بشأن أجور عامليها والعاملين الذين يعملون لحساب الشركات بموجب عقود محلية.

ولد أمارتيا سِن — مثل يونس — فيما أصبحت فيما بعدُ بنجلاديش، لكنه هاجر إلى الهند بعد التقسيم الذي تم عام ١٩٤٧. وقد أمضى سِن سنوات رشده في التدريس بجامعتي كامبريدج وأكسفورد، والآن بجامعة هارفارد. وقد حصل على جائزة نوبل في الاقتصاد عام ١٩٩٨، وهو يشكل قوة أخلاقية وفكرية من العيار الثقيل في مجال مكافحة الفقر، أو بالتحديد، مكافحة الفهم الخاطئ للأسباب التي تؤدي للفقر وما يمكن أن يخفف من حدته. استغل سِن عمله العلمي الرياضي للغاية لتفتيح أفضل العقول في علم الاقتصاد على طرق جديدة للتفكير في الفقراء. ومثلما حدث مع يونس، أثرت مجاعة اجتاحت البنغال عام ١٩٤٣ في تفكيره تأثيرًا عميقًا. وبدراسة هذه الكارثة، اكتشف أن الناس لا يموتون جوعًا نتيجة لعدم توفُّر الطعام وإنما لأنهم لا يستطيعون شراءه؛ وذلك بسبب تدني الأجور وارتفاع معدلات البطالة والتوزيع القاصر.

مع مرور الوقت، قادت هذه التأملات سِن لتطوير مفهوم القدرات الاجتماعية، التي هي غاية في حد ذاتها، وليست مجرد عوامل للتنمية الاقتصادية. وهي تعدو كونها رأس مال اجتماعي؛ فهي تفتح آفاقًا أرحب. فالتعليم على سبيل المثال يمكن أن يعزز الإنتاجية، لكن ما هو أهم من ذلك أنه يمنح الناس منظورًا أوسع للاختيار من بين الخيارات. ويمكن أن تتضمن مثل هذه القدرات حرية المرأة في مناقشة مسألة منع الحمل؛ الأمر الذي يرى سِن أنه يزيد احتمالية توفير المجتمع للوسائل اللازمة لذلك.29 وتتمثل القوة الدافعة الأساسية لتعاليم سِن في اعتبار الحرية قوة إيجابية بدلًا من مناقشة الأمر على أنه إلغاء للقيود والضوابط. وهو يرى أن على الحكومات أن تتحمل المسئولية، كي تتأكد من أن مواطنيها قد طوروا قدراتهم. وقد غيَّر تأكيده الطريقة التي يتم من خلالها تقييم المنح والحرمان. وهو يقول إن كثيرًا من الفقراء يعانون بسبب فشل حكوماتهم في تلبية أهم احتياجاتهم الأساسية، وهذا الإهمال تقل احتمالية حدوثه أينما تحظى الحرية بالاحترام.

هرناندو دي سوتو هو محارب آخر في الحرب على الفقر، وهو خبير اقتصادي من بيرو يتمتع بعلاقات قوية مع الشركات المصرفية والهندسية الدولية، ويرأس حاليًّا معهد بيرو للحرية والديمقراطية. يركز المعهد على طريقة مختلفة لتمكين الفقراء تتمثل في: منحهم حقًّا قانونيًّا لحيازة الأرض التي يشغلونها والمعدات التي يُشغِّلونها. وقد جذب دي سوتو الانتباه إلى الاقتصادات غير الرسمية في جميع أنحاء العالم، حيث يزرع الناس الأرض، ويطوِّرون أماكن معيشتهم، ويمارسون الأعمال من دون أن يحوزوا حق ملكية لممتلكاتهم. وهذا يعني أنهم لا يستطيعون استخدام ممتلكاتهم كضمان لاقتراض القروض، على الرغم من أن الأرض قد تكون في حيازة أسرهم منذ عدة أجيال. ويرى دي سوتو أن الناس يختارون العمل في اقتصاد الظل لأن الحصول على تراخيص لممارسة الأعمال التجارية وامتلاك الأرض عادة ما يشكل مهمة شاقة ومكلفة. وقد تمكن دي سوتو من خلال معهده من القضاء على العشرات من قوانين التسجيل والترخيص التقييدية، ومساعدة أكثر من مليون شخص في بيرو، وما يقرب من نصف مليون شركة في اكتساب ملكية قانونية لممتلكاتها. وفي مصر، أحصى دي سوتو ٧٧ إجراء وضعتها ٣١ هيئة من مختلف هيئات القطاعين العام والخاص لا يمكن للمرء هناك أن يسجل حتى عقد إيجار للأرض قبل أن ينهيها. ونظرًا لأن دي سوتو يحظى بعلاقات طيبة مع البنك الدولي، فهو يرعى الآن حملات مماثلة ضد العراقيل البيروقراطية في السلفادور وتنزانيا ومصر.

وأفضل وسيلة لتوفير فرص لأطفال أكثر الناس فقرًا في أي مجتمع تتمثل في الاستثمار في المنافع العامة مثل المدارس الجيدة، والرعاية الصحية والحدائق، والهواء النظيف، والمياه غير الملوثة، والحماية الفعالة للشرطة، والفنون الشعبية. ولا يمكن معالجة بعض أوجه عدم المساواة في المجالات التي تنطوي على عدم العدالة إلَّا من خلال هذه الطريقة فقط. وهذا يتطلب المال، أو بالأحرى، إيرادات. لدى بيتر بارنز عدد من الأفكار العبقرية لجمع الأموال داخل النظام الرأسمالي. كان بارنز أحد مؤسسي شركة «إدارة الأصول عبر المسافات الطويلة»، وهي منظمة تجمع بين الاتصالات والجهود الإنسانية الليبرالية مثل تشجيع الزبائن على شراء الكتب القيمة، والتبرع للشئون البيئية، وتوجيه الرسائل الغاضبة إلى نواب الكونجرس. ويطرح بارنز في كتابه «الرأسمالية ٣٫٠» فكرة «المشتركات» أي الأشياء التي نتشارك ملكيتها جميعًا كالهواء والماء والنظام البيئي واللغات والثقافات. وهو يدلل على ضرورة إدراج العلوم والتكنولوجيا والترتيبات القانونية ضمن مفهومنا عن المشتركات. وهو يعتقد أنَّنا بحاجة لتنمية ثروتنا المشتركة لتحقيق التوازن بينها وبين الثروات الخاصة، ويشدد على أن ما نملكه جميعًا أكثر بكثير ممَّا ندرك، لأننا لا نفكر فيه، أو في قياسه، أو في استغلاله.

يتمثل أحد أهم أصولنا المشتركة في أداة تأسيس الشركات القانونية. إننا نملك هذه الأداة؛ فهيئتنا التشريعية تضع بنود عقود الشراكة، ومحاكمنا تفصل في قضايا الشركات. فلماذا لا نفرض قيمة إيجاريةً ما مقابل هذا الامتياز المهم؟ فرغم كل شيء، هذه الأداة تمكن الشركات من تقليص مسئوليتها، وخلق كيان جديد يتمتع بحقوق وامتيازات. ويقترح بارنز أيضًا إقامة مؤسسات جديدة لإدارة الممتلكات المشتركة، التي تدار الآن بإهمال من جانب مختلف الهيئات الحكومية، وتخضع لأهواء الإدارات المتعاقبة. ويشير بارنز إلى «صندوق ألاسكا الدائم» كمثال على ذلك، ليبين كيف جرى تحويل الثروة الهائلة الناتجة عن عقود الإيجار التي تمنحها الولايات لشركات النفط إلى شركة استثمارات عامة تؤتي أرباحًا سنوية توزَّع على كل المقيمين. وهو يرى أن هناك حاجة إلى زيادة شركات إدارة أراضي الدولة الموجودة بالفعل. ويتخيل بارنز — ذو الخيال الخصب — جمهورًا يعي كبر ثروته ويؤسس شركات لإدارة الهواء، ومياه الأمطار، وقطعان الجاموس، ورعاية الأطفال، وموجات الأثير. فمثل معظم الإصلاحات، يتطلب الإصلاح الذي يدعو له بارنز أن يخرج الناس على الطرق التقليدية للنظر إلى الأشياء. بعبارة أخرى، عليهم أن يبتكروا كما يفعل أصحاب المشاريع.30

لقد ألهمت الرغبة في إطعام الجياع في العالم فرانسيس مور لابي، ووالدن بيلو، وراج باتيل، الذين كتبوا جميعًا دراسات مهمة حول ما يشوب جهودنا من عيوب. وراج باتيل عالم اجتماع عمل لدى البنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية والأمم المتحدة، وهذه الخبرات هي التي جعلته ناقدًا صريحًا للمنظمات التي تدعم العولمة. أما فرانسيس مور لابي فقد حققت شهرة باعتبارها مؤلفة لكتاب «حمية لكوكب صغير» الذي بيع منه عدة ملايين من النسخ؛ ففي عام ١٩٧٥، أطلقت حملة «الغذاء أولًا» لتوعية الأمريكيين بأسباب الجوع في العالم. وأكدت — مثلما أكد سِن — أن سبب الجوع في العالم ليس نقص المواد الغذائية وإنما عدم قدرة الجياع على الوصول إلى المواد الغذائية الوفيرة الموجودة في العالم. وقارنت لابي — المدافعة التي لا تكلُّ عن الفقراء — بين «الديمقراطية ضيقة النطاق» التي تقتصر على مجرد التصويت وبين «الديمقراطية الفعالة» التي تُثريها الاختيارات الرشيدة التي يقوم بها المشاركون بشأن ما ينبغي شراؤه وكيفية العيش. أما والدن بيلو — وهو عالم اجتماع مثل باتيل — فقد أسس معهد «التركيز على جنوب الكرة الأرضية» وهو معهد بحوث سياسية يقع في بانكوك.

أثار الارتفاع الحادُّ في أسعار المواد الغذائية اهتمامًا بالبطاطس، التي تم اكتشاف مزاياها. وأعلنت الأمم المتحدة أن عام ٢٠٠٨ هو «عام البطاطس».31 إذ لم يرتفع سعرها كأسعار الحبوب والأرز لأنها سريعة التلف؛ ومن ثَمَّ لا تصلح للتصدير. ويفضلها سكان دول الغرب أكثر من سواهم، لكن خبراء الأغذية كانوا يحثون مزارعي العالم الفقراء على زراعتها. ومحاصيل البطاطس تنضج في عدد أقل من الأيام وبزراعة مساحات أقل من الأراضي وكميات أقل من الأسمدة. وقد ارتفع إنتاج الصين من البطاطس بنسبة ٥٠٪ بين عامي ٢٠٠٣ و٢٠٠٥. ولا بد أن دخول اثنين من أقوى الأعضاء إلى الاقتصاد العالمي حديثًا — هما الصين والهند — سيكافح احتمالات المجاعات، وهذا يعني أن التحدي المتمثل في توفير الغذاء للجوعى لن يغيب عن تفكيرهم، كما يحدث بسهولة مع من يتمتعون بالتغذية الجيدة.

لم يفلت هؤلاء المفكرون المبدعون من النقد؛ فمعارضو برنامج دي سوتو لمنح سندات ملكية أراضٍ للفقراء يقولون إن هذا الجهد يهدد حيازة الأرض بوجه عام، وربما يؤدي إلى طرد الفقراء الذين وضعوا أيديهم على أرضٍ إذا ما جاء من هم أكثر منهم فقرًا ليدعوا ملكيتهم للأرض ويسجلوها رسميًّا. ويعبر النقاد عن رثائهم لأن أعلى الفقراء قدرة (من حيث القدرة المادية) يستفيدون على حساب أقل الفقراء قدرة. ويمكن توجيه نفس الحجة لانتقاد مؤسسات الإقراض الصغير مثل بنك جرامين؛ فليس جميع النساء الفقيرات لديهن موهبة إدارة عملياتهن الخاصة حتى لو تم منحهن قروضًا معقولة. وهذا النقد يبعث على الانتباه إلى أن الرأسمالية نظام مكافآت. بمعنى أن الذين يبلون بلاء حسنًا في معاملات السوق هم من يتمكنون من تحقيق الازدهار. في المجتمعات التقليدية، ورِث الرجال والنساء مكاناتهم الاجتماعية، بينما الاقتصادات الموجَّهة — مثل الاتحاد السوفييتي السابق وأوروبا الشرقية والصين وكوبا — قدمت لشعوبها المساواة والضمانات التي تكفل مستوًى معيشي معين. لكن لم تنجح الاقتصادات التقليدية ولا الموجَّهة في خلق الثروة. بل عانت سنواتٍ من المجاعة، حتى في العصر الحديث، لكنها كانت تحترم بحق الاحتياجات الإنسانية المشتركة، وتضع ضوابط للسيطرة على المنافسة المستمرة فيما بين أبناء شعوبها.

في الواقع، توجد ظاهرة تسمى «الحنين إلى يوغوسلافيا» وهي تعبر عن التوق لأيام النظام الاشتراكي هناك، حيث أوقات الفراغ والمتعة والمساواة التي تمتع بها الناس في الماضي في دول البلقان في يوغوسلافيا السابقة قبل تفككها عام ١٩٨٩. ويفسر أحد اليوغوسلافيين الذين يعانون هذا الحنين حقيقة ذلك الشعور قائلًا: «في يوغوسلافيا، كان الناس سعداء بحياتهم. كان النظام يشجع الشعب على الخمول، فسواء كنت جيدًا أو سيئًا، ستظل تتقاضى راتبًا في كلتا الحالتين. أما الآن، فكل شيء يتمحور حول المال، وهذا ليس جيدًا بالنسبة لصغار الناس.»32 ولا شك أن أولئك المخلصين للغرب الرأسمالي سيصيحون قائلين: «ولكن ماذا عن مزايا التقدُّم الطبي، والجامعات الكبرى، والأجهزة التي توفر الجهد، والاتصالات العالمية السهلة، وأمد العمر الأطول، التي تحققت بالعمل الجاد وإرجاء المتعة؟» لقد ارتفع أمد العمر المتوقع في جميع أنحاء العالم من ٤٨ عامًا في منتصف القرن العشرين إلى ٦٦ عامًا عام ١٩٩٩، ولا يزال يواصل ارتفاعه! ومع ذلك، من اللطيف أن يتمتع المرء بكل هذه المزايا مع أساليب العيش المتراخي في الوقت نفسه.

أمارات تدل على الثورة الخضراء

ليست الثورة الخضراء جهودًا خيرية، لكنها تمتلك رؤًى في خططها للمستقبل؛ فقد أدى نهم الرأسمالية للموارد الطبيعية — لا سيما النفط — إلى ما لا يمكن تصوره: أن يجعل البشرُ جو كوكبهم غير صالح للعيش إلى الأبد. وهذه المشكلة من العمق بدرجة طالما صعَّبت تناولها على محمل الجد. لكن لحظة الحقيقة وذيوع الأمر حانت عندما فاز الفيلم الوثائقي الذي يتناول جهود ألبرت جور «حقيقة مزعجة» على جائزة الأوسكار، وحصل كتابه الذي يحمل نفس العنوان على جائزة بوليتزر، وكللت جهوده الشخصية بالحصول على جائزة نوبل للسلام عام ٢٠٠٧. فقد تبين أنه من الصعب قبول العواقب المزمنة لتدهور البيئة نتيجة للخوف من أن هذه المشكلة لا يمكن حلها كالمعتاد بواسطة تقنيات جديدة. أم هل يمكن أن تحل كذلك؟

على الرغم من أن المتشككين لا زالوا يقاومون فكرة الاحتباس الحراري، منح ارتفاع أسعار النفط في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين أصحاب رأس المال الاستثماري الدافع للمُضي قُدمًا على الصعيد التكنولوجي، لاكتشاف بدائل تحل محل النفط.33 وقد روَّج صندوق مجلس الدفاع عن الموارد الطبيعية إعلانات تبين أن «التصدي لظاهرة الاحتباس الحراري سيوجد برنامج تشغيل هائل الحجم». ويوجد على جدول أعمال مجلس الشيوخ الأمريكي قانون لحماية المناخ. وقد كان للروس السبق في اختراع السفن المدنية التي تعمل بالطاقة النووية مثل كاسحات الثلج في الدائرة القطبية الشمالية. ولعل الطاقة النووية — التي لم تغفلها فرنسا أبدًا — ستحظى بفرصة ثانية كي تحل محل النفط في أماكن أخرى من العالم أيضًا.
ولعل إعادة اكتشاف القوة البشرية يساعد في المعركة ضد البدانة؛ فالبلديات في أوروبا تقوم بشراء آلاف الدراجات وتنشرها في مدنها على نحو استراتيجي كي تشجع مواطنيها على استخدام الدراجات للانتقال من مكان لآخر. وتقاسم الدراجات الذي يحظى بشعبية قصوى في فرنسا وإسبانيا يربط بين التكنولوجيا القديمة والحديثة؛ إذ توجد بطاقات إلكترونية ودراجات محوسبة تسمح للمستخدمين باستخدام الدراجات وإعادتها لقاء دفع رسوم تسجل بسهولة في حساب بطاقاتهم الائتمانية.34 وتجد الصناعة الخضراء متسعًا رخيصًا لصنع الأجزاء المكوِّنة للآلات الهوائية والألواح الشمسية في المصانع المغلقة بمنطقة «الحزام الصدئ» في شمال الولايات المتحدة. وعمال البناء في ألمانيا يشيدون بالفعل المنازل التي لا تستخدم أي طاقة للتحكم في درجات الحرارة. ولا يزال رأس المال الاستثماري يتراكم استعدادًا للجولة القادمة من ابتكارات بدائل الوقود. وتسعى مصانع ديترويت بجد لصنع السيارات الكهربائية. وقد جعلت خطة الإنعاش والإصلاح الشاملة — التي وضعها الرئيس باراك أوباما — من تحقيق الاستقلال على مستوى الطاقة، أحدَ أهداف الولايات المتحدة. ولا شك أن التعديلات ستكون مؤلمة. لكن ازدياد الطاقة الاصطناعية ضروري للغاية إذا كنا نريد أن نقصر وجود مظاهر الفقر على المتاحف.

بعض الأفكار الختامية حول الرأسمالية

ليست الرأسمالية نظامًا موحدًا ومتناسقًا، على الرغم ممَّا توحي به كلمة «نظام»، وإنما هي مجموعة من الممارسات والمؤسسات التي تتيح لمليارات البشر تحقيق مصالحهم الاقتصادية في السوق. ولا توجد قوة دولية مشتركة ضخمة، لكن يوجد لاعبون كثيرون ومتنوعون في السوق، مع تباين التأثير الذي يُحدثه كلٌّ منهم. وتوجد ضمن المصالح المشروعة للجميع في السوق فرص أقل جاذبية لاستغلال الثغرات القانونية، وجهل المشترين، والمكاسب الفجائية. وبسبب هذه العوامل وغياب التنسيق المركزي لهذه السوق، قد يتسبب الرأسماليون في وقوع أضرار جسيمة، كما تبين من انهيار سوق الرهن العقاري عالي المخاطر، الذي لن يكون آخر حالات الذعر المالي؛ ففقاعة الدوت كوم، وفقاعة الإسكان سبقتهما فقاعة بحر الجنوب في القرن الثامن عشر، ومن قبلها فقاعة زهور التيوليب في القرن السابع عشر؛ لذا من الصعب أن نصدق أن هذا لن يتكرر ثانية.

يشير تاريخ الرأسمالية إلى أن الديمقراطية والرأسمالية ربما تكونان منفصلتين؛ لأنهما تولدان قيمًا غالبًا ما تكون متعارضة. فالديمقراطية تعني حكم الأغلبية من خلال انتخابات نظامية تنافسية، والديمقراطيَّتان الأوروبية والأمريكية تتضمنان حماية الحقوق المدنية والشخصية. بينما تشير الرأسمالية إلى استثمارات في العملية الإنتاجية التي قد تعتمد، أو لا تعتمد، على مشاركين يتمتعون بالتمكين السياسي. والرأسمالية سلوك أخلاقي، بينما الديمقراطية عامرة بالاهتمامات الأخلاقية بشأن الرفاهية العام وصواب رأي القادة. ونظرًا لأن نمو الرأسمالية يعتمد على الابتكار — والابتكار يزعزع الوضع الراهن — يخلق نظام السوق الحرة باستمرار مشاكل اجتماعية يتعين على الحكومة معالجتها. وحينئذٍ يصطدم خطاب «نحن الشعب» بخطاب «أنا الفرد». والرأسمالية تعتمد على براعة التكنولوجيا في الحفاظ على زخمها، لكن تطبيق تقنيات جديدة يتطلب الاستقرار من أجل تأمين العمالة والموارد والعملاء والحماية القانونية، وحتى السلام. إن الديمقراطية والرأسمالية تتماشيان معًا على نحو جيد، لكنهما غالبًا ما تبدوان مثل زوجين لا يطيق كلٌّ منهما أن يحيا مع الآخر، أو يحيا من دون الآخر.

والعلاقة المشحونة بقدر أكبر بكثير من التوتر هي العلاقة بين الرأسمالية والمساواة، لكن جذورها متضافرة؛ فقد انبثق مفهوم المساواة كقيمة اجتماعية رئيسية من عصر التنوير. وظهر جليًّا في العقود الأخيرة من القرن الثامن عشر من خلال الإعلان الأمريكي للاستقلال وشعار الثورة الفرنسية «الحرية والمساواة والإخاء». قبل ذلك، كان عدم المساواة الذي جعل البعض دوقات وجعل غيرهم حمالين يبدو طبيعيًّا كطلوع الشمس في كل صباح. والتفكير التنويري الذي قوض هذا القبول لعدم المساواة يدين بالكثير للرأسمالية، للرهبة التي أثارتها قدرة الإنسان على فهم قوى الطبيعة وتسخيرها لمصلحة الجميع. وكان الازدهار الذي لمَحه الفرنسيون عبر القنال في إنجلترا يمنح الأمل في أن المستقبل سوف يحمل فوائدَ، ملموسة وغير ملموسة، ولم تخطر من قبلُ ببال الرجال والنساء، ومن بين هذه الفوائد أن يُعاملوا على قدم المساواة. ظلت المساواة هدفًا ومثلًا أعلى أكثر منها حقيقية، لكنه هدف آخذ في التحقق.

إن عمر الزعامة الاقتصادية الأمريكية يبلغ الآن نحو ١٢٠ سنة؛ فمنذ منتصف ثمانينيات القرن التاسع عشر والولايات المتحدة تملك أكبر اقتصاد في العالم، وهو يمثل ٢٥٪ من مجمل الاقتصاد العالمي، باستثناء العقود التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، حينما بلغت حصتها في الاقتصاد العالمي ٥٠٪. ومن المرجح أن يظل حجم الاقتصاد الأمريكي ضعف حجم نظيره الصيني على مدى العقدين المقبلين. فعلى عكس المركزين الكبيرين الآخرين للثروة والحراك في أوروبا وشرق آسيا؛ تتمتع الولايات المتحدة باستقلال جغرافي إلى جانب مراكز أسواق نشطة تقع على سواحل تشرف على عالَمَي التجارة في كلٍّ من المحيط الأطلنطي والمحيط الهادي.35 وقد نجحت العولمة — التي روجت لها الولايات المتحدة طوال قرن على الأقل — نجاحًا مذهلًا في خلق العديد من المراكز من النفوذ والثروة. وربما نتيجة لهذه الرعاية، تعتبر جميع بلدان العالم زعامة أمريكا ضرورية لاستعادة القوة الدافعة التي تحفز ازدهارها الذي كان متزايدًا في يوم من الأيام. الأمريكيون أيضًا يتعلمون أن ما يفيد أي اقتصاد وطني يفيد أيضًا الاقتصاد العالمي، وهذا يشمل: المنافسة، والمشاريع التعاونية، وحرية الوصول للأسواق. ولا شيء يشجع النمو أكثر من أن يكون لديك جيران أغنياء، كما أشار آدم سميث في كتابه الكلاسيكي في القرن الثامن عشر «ثروة الأمم».

تحدَّث جيمس ماديسون — الرئيس الرابع للولايات المتحدة وصاحب الفكر الثاقب في القرن الثامن عشر، والذي عُرف بأبي الدستور الأمريكي — عن شيء آخر وثيق الصلة بعصرنا حينما حذَّر من أن تركيز السلطة في فرع واحد من فروع الحكومة هو بمثابة الاستبداد. وينطوي كامل هيكل دستور الولايات المتحدة على توازُن للقوى، علاوة على عمليات رصد إضافية للانتهاكات (تذكرون تلك المحاضرات في التربية المدنية حول «الضوابط والتوازنات»). وخطر التركيز يكون أكبر إذا كان الحوتان الكبيران في حياتنا — أي الحكومة والاقتصاد — يسعيان وراء نفس الفرائس (أو الأرباح). فعندما تعمل الحكومة يدًا بيد مع رجال الأعمال في البلاد، يمكنك أن تتأكد من أن آلية التصحيح الذاتي للسوق ستتعطل. وعندئذٍ ستكبت المنافسة وتتفشى المحسوبية ويحظى عدم الكفاءة بالحماية. وتتسبب العلاقات المالية بين المرشحين للمناصب العامة والمانحين الأغنياء — بما في ذلك النقابات العمالية — في حدوث مشاكل. وتحظى جماعات الضغط بفرصتها الذهبية في ظل تبادُل التبرعات مقابل المحسوبية. لكن على المدى البعيد، قد تؤدي حملة صغيرة لجمع التبرعات من الناخبين العاديين عبر شبكة الإنترنت إلى الحد من اعتماد السياسيين على التبرعات الضخمة. أما في المستقبل القريب، فربما يؤدِّي تلاقي النوايا الحسنة والاقتراب الوشيك للكوارث إلى إحياء بعضٍ من آليات السوق التنظيمية الذاتية. وهناك نظم ضبط جديدة أفضل على وشك الظهور في المستقبل القريب.

لقد طرح شومبيتر احتمالًا بأن الرأسمالية محكوم عليها بالانهيار بسبب نزوعها إلى تدمير المؤسسات التي تحميها.36 وفساد شركات الحسابات في حالة انهيار الرهن العقاري عام ٢٠٠٨ مثال على ذلك، وكذلك الطريقة التي تقوض التقلبات الاقتصادية من خلالها الأسر المستقرة اللازم وجودها لغرس الانضباط واحترام القانون، وهما الأمران اللذان لا غنى عنهما كي تعمل السوق على نحو جيد. لكن شومبيتر لم يأخذ في الاعتبار اختلاف التجارب التي يستفيد منها المشاركون في السوق عند اتخاذ القرارات؛ فقد اختلفت آراؤهم عندما كتب عام ١٩٤٢ عن آراء المشاركين في السوق الآن، أو عن تلك التي سيعتنقونها بعد نصف قرن آخر. إن الناس يتعلمون من أخطائهم. وليس هناك ما يدعو إلى الاعتقاد بأن المجتمعات لن تستمر في تعديل اقتصاداتها ومراقبتها سعيًا وراء تحقيق الأهداف المشتركة. إن الرأسمالية ثورة عارمة لا تهدأ، هذا صحيح، لكنها ليست ثورة هوجاء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤