الفصل الرابع

تعقيب على الأسواق والطبيعة البشرية

بدأت شركة الهند الشرقية تستورد منسوجات القطن والجنهام الزاهية في نهاية القرن السابع عشر، وبعد أن ظل الرجال والنساء الإنجليز لأجيال وأجيال يرتدون المنسوجات الثقيلة كالصوف والكتان، تحمسوا لفرصة لارتداء المنسوجات الخفيفة الزاهية هذه. كانت ردة فعلهم هذه مباغِتة للمراقبين، بدرجة جعلت بعضًا منهم يبالغ في الإشادة بفائدة الرغبات المادية. فقد كتب أحدهم: «حاجات العقل بلا حدود، والإنسان طموح بالفطرة، وكلما سما عقله، ازدادت حواسه رقة وقدرة على الإمتاع.» وهنا يمضي كاتب هذه الكلمات في ربط هذه الحواس المستثارة بميل إلى العمل بجد أكبر بغية نيل القدرة على الإنفاق أكثر. لقد نشأ أحد المكونات الهامة لانتصار الرأسمالية على النظام التقليدي من حمل الناس على تغيير رأيهم بشأن القيم الأساسية. لقد كان عالمهم مدعومًا بمجموعة مترابطة من الأفكار التي كانت ترسم كيفية سير الأمور في عالم تشوبه الندرة. كان توزيع المديح والاستنكار — في الأغاني والمواعظ والأمثال القديمة — يبقي الناس كُلًّا في موضعه المناسب. ونظرًا لأننا نتعلم القواعد الاجتماعية خلال مرحلة نمونا؛ فإننا نادرًا ما نعيد النظر فيها بعدما نكبر. وتشكل دراسة كيفية عمل هذه القواعد دائرة اختصاص علماء الاجتماع وعلماء النفس، لكن لا يمكن إغفالها عند رصد تاريخ الرأسمالية؛ لأن الرأسمالية قامت على اختلاف تصرفات الناس التي تنوعت بين خوض المجازفات، وتأييد التجديد، والابتكار. وتلخص صرعة المنسوجات القطنية هذا التحول إلى أسلوب جديد للعيش في العالم.

بُني المجتمع التقليدي على أساس المراتب الاجتماعية، وهي أوضاع دائمة في البنية الاجتماعية، كأوضاع النبلاء أو أوضاع العامة مثلًا. وقد ظهرت الطبقات الاجتماعية مع الرأسمالية، وتشير إلى مجموعات تمايزت على أساس امتلاك الثروة أو عدمه، وعلى أساس علاقة هذه المجموعات بالاقتصاد. كانت روح العمل الحر والمغامرة تتعارض مع الأعراف الاجتماعية التقليدية تعارضًا واضحًا ومعقدًا؛ فعلى سبيل المثال، في المجتمع المعاصر، يشكل التطلع إلى التمتع بحياة أكثر ثراءً أحدَ المحفِّزات الرئيسة للابتكار في الاقتصاد، بينما كان التسلسل الهرمي للأوضاع الاجتماعية الموروثة يعترض سبيل كل من يرنو إلى الارتقاء في المجتمع. كانت الأوضاع الاجتماعية موروثة ولا تمت لجدارة المرء بأية صلة. وكان الانهماك في كسب الأموال يثير استياء النبلاء الذين كانوا يعتبرون هذه الطموحات وضيعة؛ فالنبلاء لم يكافحوا، ولم يَكن أحد يهرع للقيام بالمهام الحياتية سوى الخدم. لكن الطبقات الاجتماعية تحددت على أساس العمل؛ فصار يوجد مَن يستخدِمون آخرين، ومن يُستخدَمون من قِبل آخرين. وفي الولايات المتحدة اليوم، يكاد الجميع يعتبرون أنفسهم من الطبقة الوسطى. في الماضي كانت الطبقة الوسطى — أو البرجوازية — هي تلك التي تشير إلى التجار الأثرياء والأطباء والمحامين الذين لا يؤدون الأعمال اليدوية، لكنهم في الوقت نفسه ليسوا جزءًا من طبقة الأرستقراطيين أو النبلاء.

سيغير الناس سلوكياتهم — من دون إكراه — حينما يدركون السبب وراء ضرورة فعلهم ذلك. وسيحدث هذا ببطء؛ فعادة ما يستغرق الأمر انقضاء جيلٍ أو جيلين إلى أن ينشأ جيل يحمل أفكارًا جديدة. والسبب الرئيسي في أن المجتمعات تتغير ببطء هو أنه لا بد من دمج المستجدات في أشكال الثقافة، وهذه مهمة التعبير والحوار؛ أعني بذلك أن الناس بحاجة لأن تتعرف على الابتكارات، وتقيم أثرها، وتبحث عن معنى لحياتها، وأن تحدد كيف ستتأثر جوانب أخرى من مجتمعها. وقد قدم أنصار اقتصاد العمل الحر تفسيرات لتبسيط أنواع التحوُّلات الاجتماعية التي يسعون لإحداثها. وغالبًا ما يتحدث أكثر المشاركين في التغيير أولًا، وبعد ذلك يُدلي المفوَّهون الأكثر بلاغة في المجتمع بدَلوهم. ورغم أن هذا يبدو بديهيًّا، فإن القليل فقط من التأريخات عن نشأة الرأسمالية تناول تلك المهمة الجوهرية المتمثلة في تنمية القيم الداعمة للنظام الجديد، وكأن الناس يظنون أنه بما أن الاقتصادات تتعلق بالمسائل المادية؛ فإن القوى المادية وحدها هي التي تؤثر فيها، بينما حقيقة الأمر أن الاقتصادات تتضمن بشرًا، والبشر لا يفعلون أي شيء دون أن تكون ثمة فكرة ما في رءوسهم.

وقبل أن تتغير المؤسسات، يتعين على مؤيدي السياسات ومعارضيها أن يتدارسوا إيجابيات البدائل وسلبياتها على غرار ما فعله القس لي والقس مور في حالة نظام التسييجات؛ فالقيم الرأسمالية لم يكن من الممكن فرضُها من جانب السلطة، لأن ميزة اقتصاد العمل الحر الجديد كانت المبادرة الفردية. فهؤلاء الأشخاص المجهولون هم الذين اتخذوا القرارات الحاسمة بمفردهم. أما الفقراء فكان من الممكن قسرهم على أي شيء باستغلال حاجتهم للغذاء والمأوى. ومع ذلك، منح النظام هؤلاء أيضًا مزيدًا من الحرية لاختيار مكان عملهم وطبيعته. لقد اكتسبت مفردات مثل «جديد» و«محسن» و«فائدة» زخمًا في نفس الوقت الذي كان فيه التداعي الواضح للنماذج القديمة للمعيشة والعمل يثير صيحات الغضب والاستنكار. لكن الذين تمتَّعوا بمكانة سامية اختلفوا حول الاختيار بين القبول بالإصلاحات أو التمسك بالأساليب القديمة. وقد أصبحت قوة الإقناع سلاحًا جبارًا في صراع الرؤى العالمية الذي نشأ فيما بعد.

خطاب اقتصادي جديد

خلال القرنين اللذين تشكل فيهما اقتصاد السوق الإنجليزي كانت الصحافة نابضة بالحياة، وقد كانت تتغذَّى في المقام الأول على نزاعات القرن السابع عشر الدينية والدستورية. وحينما ظهرت بوادر إمكانات صنع الثروة، بدأ المعاصرون يبحثون عن تفسيرات، ورأوا أنَّه من السهل نشر أفكارهم حول ما كان يحدث للاقتصاد التقليدي، وغالبًا ما كانوا يكتبون ليبرروا اهتمامهم الاستثنائي بالموضوع بأنهم مشاركون فاعلون في السوق. لكن بعض المحللين كانوا «أقلامًا مأجورة» يدافعون عن قضية شركات التجارة الخارجية، أو المصنعين المحليين. أما دعاة الأخلاق فغالبًا ما كانوا يكتبون ليتأسفوا على الأنانية الأثيمة للأفراد الذين هزءوا من القواعد القديمة التي وُضعت لحماية الفقراء. وعلى عكس ما توقع كل من راقب السوق تقريبًا، كانت استجابة كثير من الرجال والنساء — لكن ليس جميعهم — للفرص الجديدة استجابة إيجابية. إن هذه القدرة على التفكير لأنفسهم والتصرف وفقًا لما تُمليه مصلحتهم الشخصية فاجأت مَن يعلوهم مكانة في المجتمع؛ نظرًا لأنه لطالما افتُرض أن الفلاحين البسطاء أو تجار البلدات الصغيرة لا يملكون المخيلة التي تمكنهم من التصرف خارج القواعد المقررة.

بدأ الانسحاب البطيء لعالم الندرة، حيث كانت عمالة البلاد ومواردها مكرَّسة للتناوب بين الاستهلاك عامًا، والإنتاج في العام الذي يليه. لكن ظلت هناك معاناة واسعة النطاق من شدائد كثرت أنواعها. فقد كتب أحد الخبراء الموقَّرين في نهاية القرن السابع عشر مخمنًا أن ما يقرب من نصف سكان إنجلترا في حاجة للإعانة لكي يتمكنوا من إكمال عامهم؛ مما يجعلهم معتمدين على نظام المعونات المدعوم بالحصيلة الضريبية للبلاد.1 إلا أن هذا النظام لم يأتِ بنتائج محمودة على الإطلاق؛ لأن المعونات سهلت على أرباب العمل المجدِّدين طرد عمالهم طالما أن الحكومات المحلية تكفل وسائل لتوفير سبل العيش لكل محتاج.
وسرعان ما نشر أولئك الذين يراقبون ظاهرة التنمية الاقتصادية الوليدة توصيفات تبيِّن كيف تصرَّف الناس في تعاملاتهم السوقية، وبدءوا يصفون الرجال والنساء بأنهم يملكون نزوعًا فطريًّا نحو الإنتاج والبيع والشراء؛ ممَّا يدفع إلى توسع السوق. هذه الملاحظات المنتشرة في الكتيبات وكتب الإرشادات والنشرات والمجلدات التي كتب كثيرًا منها نجومُ الكتاب مثل جون لوك وإسحاق نيوتن ودانييل ديفو، اجتمعت على جاذبية جني الثروة في نظر الجميع. لكن مبادرات الأشخاص العاديين، التي تمثلت في غمر الحقول بغية استباق موسم زراعة الربيع أو حمل الجبن المطبوخ في المنزل لبيعه في السوق البعيدة، كانت أهم عناصر هذا الاتجاه. ولم يعد هذا يبدو سلوكًا غريبًا؛ بل عُدَّ التفاعل في التعاملات التجارية قدرة بشرية مكتشفة حديثًا، حتى إن مراقبًا متعقلًا للمشهد البشري مثل جون لوك أطلق العِنان لتصوراته عن المستقبل حين كتب أن كل مهام العالم يمكن إنجازها بسهولة في نصف يوم، فقط إذا عمل جميع البشر.2
استتبعت كل نصيحة بشأن أسعار الصرف والأجور والإيجارات وأرصدة الحسابات نظريات جديدة حول كيفية استجابة الرجال والنساء للاختيار. بدأ المراقبون لإيقاعات الاقتصاد النابض بالحياة في إنجلترا ينظرون إلى المشاركين بوصفهم يحسبون التكاليف ويقدرون الفوائد، وذلك بدلًا من العفوية التي كانت تميزهم سابقًا. وبعد انقضاء عقود عدة حفلت بهذه الملاحظات، توصَّل الكثير من المعلقين إلى اعتقاد راجح بأن هناك استجابة موحَّدة من جانب المتعاملين في السوق. لقد أمكن الاعتماد على الناس لأنهم يضعون مصالحهم في الاعتبار. وبحلول منتصف القرن الثامن عشر، علَّق صامويل جونسون بعفوية قائلًا: «قليلة هي المناحي التي يوظف فيها المرء جهده، على نحو تلقائي، في شيء غير اكتساب المال.»3 في ذلك الوقت كانت شرارة تحوُّل ثقافي حاسم قد اندلعت في العالم.

في نهاية القرن الثامن عشر، وجد الجهد الفكري الذي بُذل لفهم ظاهرة الرأسمالية نسخته الخاصة من كبير الفلاسفة أرسطو بظهور الباحث الاقتصادي آدم سميث الذي صدر مؤلفه «بحث في طبيعة ثروة الأمم وأسبابها» عام ١٧٧٦. قدم سميث شرحًا مفصلًا تفصيلًا بارعًا لأسباب الثروة الفريدة التي تمتعت بها بريطانيا العظمى. من هذه الأسباب ما حدث عام ١٧٠٧ (حينما أدى الاندماج بين اسكتلندا وإنجلترا تحت مظلة قوانين الاتحاد إلى ميلاد المملكة المتحدة أو بريطانيا العظمى)؛ وبناء على المفهوم الجديد للبشر ككائنات تسعى سعيًا أكيدًا وراءَ مصلحتها الخاصة، دافع سميث عن نظام «الحرية الطبيعية» لأنه كان يعتقد أن «اليد الخفية» للسوق من شأنها أن تعمل على نحو أفضل إذا ما تحررت من معظم القوانين.

وفي ظل قلة فرص الاختيار من بين البدائل، بَدَا الرجال والنساء متقلِّبين ومتسرعين ومنساقين وراء أهوائهم، بل إنهم أيضًا بَدَوا غارقين في الخطيئة من وجهة نظر العقيدة المسيحية. وفي وجود تصوُّر كهذا للطبيعة البشرية، كان تركهم للتصرف في مواردهم كيفما طاب لهم ضربًا من الجنون. دعم آدم سميث وصاياه بالحقائق الجديدة حول كيفية تصرُّف الناس في التعاملات السوقية. لكن حتى سميث نفسه بدَا غير مدرِك أن أسلافه المباشرين طوَّروا المفاهيم حول الطبيعة البشرية تطويرًا جذريًّا أثناء مراقبتهم اقتصاد السوق الجديد. ومن ثَمَّ كانت الأفكار موجودة بالفعل منذ وقت كافٍ بحيث اعتبرها آدم سميث من المسلَّمَات. والأهم من ذلك أن هذه التوكيدات الجديدة اكتسبت مكانة الحقائق الجامعة، وهو ما أكده المفكر الأيرلندي إدموند بيرك حين كتب لسميث قائلًا: «إن نظريةً كنظريتك قامت على أساس طبيعة الإنسان، التي ستبقى ثابتة لا تتغير، ستظل صحيحة، بينما النظريات التي تقوم على أساس آرائه التي دائمًا ما تتغير، سيطويها النسيان، بل لا بد أن يطويها النسيان.»4 يا لها من فكرة محبَّبة أن نفكر في طبيعة بشرية ثابتة لا تتغير.

في إنجلترا، كان كل ذلك يجري علنًا في ميدان الحياة العامة، حيث كانت الكتيبات تُكتب والخطب تُلقى والأحاديث تُتداول والنزاعات تُعلَن وتحظى بجانب كبير من اهتمام المواطنين. صارت البلاد على درجة عالية من التجانس خلال القرن السابع عشر؛ فقد كانت تحت حكم ملك واحد، وتتحدث لغة واحدة، وتتبع كنيسة واحدة مُعترَفًا بها، وتتمتع بنظام قضائي موحَّد وصحافة نشطة. حتى الفلاحون والحرفيون انتقلوا إلى أوساط أوسع بعد نشوء سوق قومية موحدة. وكانت مدينة لندن نفسها أفضل تعبير عن وحدة إنجلترا؛ إذ كانت تضم ما يزيد على نصف مليون نسمة عام ١٦٩٠، مما جعلها أكبر مدن أوروبا قاطبة، ولا تزال إلى اليوم تواصل نموها بسرعة. لقد كان نحو ١٠٪ من مجمل الإنجليز البالغ عددهم خمسة ملايين نسمة يعيشون في لندن.

يتسم نموذج النمو في لندن ببعض السمات الشيقة. ففي ظل ارتفاع معدل الوفيات، تطلَّب استمرار ثبات معدل النمو هجرة ما لا يقل عن ثمانية آلاف وافد سنويًّا. ونظرًا لأن نقل مكان المعيشة غالبًا ما يبلغ أعلى نسبة بين غير المتزوجين، يمكننا أن نفترض أن غالبية الرجال والنساء الذين قدموا إلى لندن من مدن وقرى وضيعات وبلدات أخرى كانوا من فئة الشباب. كان لهذا الحراك الذي عَمَّ عاصمة إنجلترا تأثير على شتى أنحاء البلاد. ووفق إحصاء أحد الباحثين؛ فإن ما يزيد على سدس مواطني إنجلترا سبق لهم العيش في لندن في فترة ما من حياتهم. وقد عمل الاحتكاك بلندن بوصفها مقر الحكومة ومحل المشاريع ومركز الخلطة الاجتماعية العامة على نشر الأفكار وتهذيب الأذواق وحفز الرغبات.5

لعل النقاش حول التحول الاقتصادي كان ليبقى شأنًا من شئون النخبة لولا اندلاع الحرب الأهلية بما صاحَبَها من معارك دينية شرسة وسعت نطاق القراء والمتناظرين؛ إذ أنتجت الانقسامات الدينية في القرنين السادس عشر والسابع عشر مجموعة كبيرة ومتنوعة من المؤلفين، وبدأ الإنجليز يعتادون التعارض العلني. وكحال مجتمعات أوروبية أخرى، كان هناك نظام رقابي على المؤلَّفات، لكنه اختلف في أنه كان نادرًا ما يوضع موضع التنفيذ الجدي. ولم تكُنِ المؤلفات الاقتصادية تحديدًا خاضعة لأي رقابة، لكن المهم أنه كان هناك الكثير من الكُتَّاب، بل والمزيد من القراء المعتادين على الاشتراك في النقاشات العامة. علاوة على أن انتشار التعارض السياسي في القرن السابع عشر منح إنجلترا نظامًا ملكيًّا دستوريًّا، وجعل جميع المواطنين الإنجليز يكتسبون ضمانات مهمة لأشخاصهم وممتلكاتهم في أول قانون للحقوق صدر عام ١٦٨٩، ثم سُمح بإبطال قانون الترخيص الذي كانت المطبوعات تراقَب بموجبه، وتأسس بنك إنجلترا. أدى الحدث الأول إلى تشجيع انتشار الأفكار، وأدى الحدث الثاني إلى انتشار الأموال، وكِلَا الحدثين حفزَا الابتكار. وثمة أمرٌ آخرُ لا يقل أهمية هو أن وجود طبقة أرستقراطية جديدة تتبنى موقفًا تقدميًّا واضحًا إزاء التنمية الاقتصادية عزَّز قوتها.

لقد خرجت إنجلترا من «قرن الثورة» بمكتَسَبات اقتصادية وسياسية مهمة. ففي مطلع القرن كان هناك ملك يعتقد أن لديه «حقًّا إلهيًّا» في الحكم، وبحلول نهاية القرن كانت هناك ترتيبات دستورية رسخت السيادة في توازن للقوى بين الملك والبرلمان. وعلى الرغم من أن الطبقة الأرستقراطية كانت تتوق للاستقرار؛ فإنها لم تستطع كبح الموجة القوية المناهِضَة للحكم الاستبدادي التي كانت قد تغلغلت في الثقافة الشعبية. فقد تقلصت مهابة السلطة بدرجة كبيرة خلال العقود الثلاثة السابقة لذلك العقد. وحسبنا فقط أن نتأمل هذه المجموعة من المستجدات: ملك لم يعتلِ عرشَه إلا بمنح رعاياه وثيقة حقوق، وطبقة أرستقراطية أظهر أفرادها اهتمامًا قويًّا بالتجارة، ورواد أعمال وسَّعوا ميدان المشاريع التجارية، وشباب انتقلوا إلى أنحاء البلاد بسلاسة، ورأس مال اكتسب نشاطًا بفضل التفاعل الاجتماعي المتواصل. إنني لا أعني باستعراضي هذه المستجدات الإشادةَ بالإنجليز، بل جُلُّ ما أعنيه أن أوضح وضع البيئة الاجتماعية اللازمة لتمكين أصحاب رأس مال من إزاحة نظام اجتماعي راسخ وموقر.

امتحنَتْ حداثة كل هذه المستجدات قدرة الناس على إدراك القوة الخفية في حياتهم. لكن الإشارات إلى النقاشات المتَّقِدة حول التجارة والأموال في إنجلترا لا تظهر إلا على نحو غير مباشر في معظم الدراسات التي تناولت الرأسمالية. فعلى سبيل المثال، في المقارنات بين إنجلترا والصين، نادرًا ما يولي الباحثون أي اهتمام بالنقاشات العلنية التي حفزها التحول الاقتصادي في إنجلترا القرن السابع عشر. في هولندا، حظيت حرية التعبير بالتشجيع، حتى إن الكتب التي طبعت هناك فاق عددها عدد الكتب التي طبعت في إنجلترا، لكن المطبوعات الهولندية التي تتعلق بالمواضيع الاقتصادية كانت قليلة العدد وغالبًا ما كانت تصدرها الحكومة. أما في بقية أوروبا فقد خنقت الرقابة القوية ظهور جمهور قارئ ومتحدِّث. لقد عم الخوف من الفوضى كل البلدان.

لم يَكن صخب العمل التجاري المدفوع بالربح متناغمًا مع نبرة التركيز الأرستقراطي على ارتقاء الذوق والترفيه، أو ما أطلق عليه إدموند بيرك: «نعمة الحياة المجانية». فالأخلاقيات الأرستقراطية التي هيمنت على المجتمعات الأوروبية — بل على المجتمعات في جميع أنحاء العالم — بدت قاسية فَظة في مقاومتها العنيفة. ولم يكن نابليون بونابرت يجامل إنجلترا في مطلع القرن التاسع عشر عندما وصفها بأنها «دولة أصحاب المحال التجارية»، لكن جعل الرأسمالية مقبولة، أو يمكن احتمالها، بالنسبة للشعب تطلَّب مدافعين يمتازون بمهارة الإقناع. ولم يتمكن أي مؤيدين للعمل التجاري الحر من السعي وراء نصرة قضيتهم سعيًا دءوبًا وعلنيًّا سوى في إنجلترا. علاوة على أن ازدياد حركة التجارة أثارَ نقاشًا جماهيريًّا أدى إلى ظهور أساليب جديدة لتصور الاقتصاد. كانت الآثار المترتبة على هذه النقاشات الإنجليزية حول الاقتصاد فكرية وأخلاقية. صحيح أنها كانت مرتبطة بالفهم والتحليل والانتقادات والحجج، لكنها أيضًا دفعت المتنازعين وجمهورهم إلى إعادة النظر في القيم الأساسية.

دفعت المصلحة الشخصية معظم الكُتَّابِ إلى الإمساك بأقلامهم، وأدت التغيرات في الحياة الاقتصادية إلى زعزعة أوضاع الكثير من الناس؛ فأسرع كل من خسر من جرائها بالشكوى من التجديدات، بينما كتب المجدِّدون الناجحون يوضحون كيف ينتظر أن تعود المستجدات بالخير على البلاد. كانت المؤلَّفَات التي كتبها المصنعون تدور حول أساليب ضبط الموظفين، وعينت الشركات التجارية — شركة الهند الشرقية الإنجليزية تحديدًا — مؤلفين مهمتهم الدفاع عن الممارسات التي كانت تتعارض مع الحكمة التقليدية، كتصدير سبائك المعادن النفيسة. وأصدر المصلحون الزراعيون الكتب الإرشادية. ودعا من اشتركوا في أنواع جديدة من التجارة إلى تحرير النشاط الاقتصادي في نشراتهم. ودخل قليل من الساسة إلى المعترك؛ الأمر الذي أضاف مزيدًا من الثقل لما كان يجري. لقد أدى هذا الاختبار الجدي والمتواصل للمشاريع الحرة إلى إعادة صياغة المفاهيم المتعلقة بالمسائل الاقتصادية. كانت هذه العوامل محيِّرة بدرجة يتعذر معها قياسها، لكنها كانت بالغة الحسم في تحديد ما إذا كانت المؤسسات الإنجليزية حقًّا في طريقها للتأقلُم بسلاسة مع حراك الرأسمالية أم لا. أما الكتاب الاقتصاديون فقد تعيَّن عليهم وضع أخلاقيات جديدة فيما يتعلق بتأليب الخاصة ضد العامة، وإثارة الأمور الشخصية مقابل الأمور الأخلاقية.

تقدير مسئولية أرباب العمل تجاه مستخدميهم

في عام ١٩٩٤ عقد البنك الدولي اجتماعه السنوي في مدريد. وقتئذٍ، أرسل أشهر الشخصيات الإذاعية الإسبانية، إينياكي جابيلوندو — في لفتة جامحة بعض الشيء — مراسلًا صحفيًّا لاستطلاع آراء الرجال والنساء الذين كانوا يقفون خارج إحدى الكنائس في انتظار عشاء الكريسماس المجاني في تجمُّع خبراء الاقتصاد ورجال المال في مدينتهم، فما كان منهم إلا أن قابلوا السؤال الافتتاحي الذي طرحه المراسل بالضحكات الساخرة. وحينما أقنعهم بحرصه البالغ على معرفة آرائهم وجديته في ذلك، بادر هؤلاء المحتاجون للطعام المجاني بالإدلاء بآرائهم بشغف غامر حول الحاجات الاقتصادية للبلاد. لم يكن من المستغرب إجماعهم على أن الشركات ينبغي أن تنفق بعض أرباحها على توفير وظائف لهم ولأمثالهم ممن لا يسعفهم حظهم، وأنها إذا لم تفعل ذلك طواعية، فينبغي على الحكومة أن تتدخل لمدِّ يَدِ العون لأولئك الذين عوَّلوا على خطط الأعمال ومشاريع الأغنياء في الحصول على قوت يومهم.6

لقد وضع هؤلاء المساكين الإسبان إصبعهم — دون أن يدركوا ذلك — على إحدى أقدم المسائل الخلافية في تاريخ الرأسمالية: هل من مسئولية على أرباب العمل تجاه مستخدميهم بعد أن تنتفي إمكانية الاستفادة من عملهم؟ وهل ينبغي أن يملكوا حرية طردهم من العمل «كأصدقاء الأيام الهنيئة» حالما تتلاشى الحاجة إلى ما كانوا يقدمونه؟ ظل هذا السؤال يطفو بشكل أو بآخر — أحد أشكاله في الوقت الحالي هو «التعهيد»؛ أي الاستعانة بخدمات العمالة من بلد آﺧر بعقود مؤقتة ﻧظرًا لرخص التكاليف — على السطح، واعترضت عليها المبادرات الاقتصادية في بادئ الأمر، ثم قدمت قوانين بالية صيغت بحيث تجعل أرباب العمل حماة لمن يعملون لديهم. بالنسبة للملوك، كانت المشكلة مستعصية على نحو استثنائي؛ لأن الملوك كانوا ينظرون إلى جميع رعاياهم باعتبارهم مرتبين في تسلسل هرمي من الاعتماد المتبادل داخل كومنولث موكول إليهم.

حظيت هذه القضية باهتمام متواصل في عشرينيات القرن السابع عشر، حينما عانى صانعو الثياب الإنجليز آثار إغراقٍ عَمَّ أسواق الأقمشة في أوروبا. كان توسع صادرات الصوف الإنجليزية في العقود السابقة قد أوجد وظائف لعدد متزايد من العائلات؛ فصار أولئك يمثلون فئة جديدة من العمال الذين نشأت وظائفهم جرَّاء انتعاش التجارة الدولية. رأى صانعو الثياب بالبديهة أنه من الأفضل التوقف عن صناعة المزيد من الثياب إلى أن تتوازن السوق مجددًا، وهذا أثار فزع المعاصرين. كان الناس معتادين على العواقب الوخيمة التي تنجم عن الطقس السيئ، إلا أن المحنة الناجمة عن موجات ركود السوق بدت مختلفة، رغم أن المعاناة واحدة في الحالتين. لكن ما كان يمكن أن يحتمله الناس من الطبيعة بدا غير محتمل حين نجم عن خيار اتخذه رب العمل. من وجهة نظر المسئولين المكلَّفين بحفظ النظام، أدت ردة الفعل الأنانية تجاه المجتمع من جانب أرباب العمل إلى تقويض الالتزام الأخلاقي للموسرين تجاه رعاية المرضى والضعفاء والفقراء. أما صانعو الثياب فكانوا يرون أن تقليص النفقات في ذلك الوقت هو أكثر الخيارات حكمة للتعامل مع الأمر رغبة في صيانة رأس مالهم؛ إذ لو أنهم أنفقوا رأسمالهم حينئذٍ في وجوه الإحسان، فلن يتبقى ما يمكن استثماره حين تعود السوق لحالة التوازن. في بادئ الأمر، كانت ردة فعل الحكومة الملكية إيجابية حيال طلب الفقراء الحماية، وظلت على التزامها المعهود بجعل الاهتمامات الخاصة تأتي في مرتبة تالية على مصلحة المجتمع ككل.

لم تنتهِ هذه المسألة عند هذا الحد؛ فقد أثار تراجع تجاري حدث في أوائل القرن السابع عشر الجدل من جديد، وأدى إلى نتائج مختلفة. في تلك المرة، تزامن الإغراق مع موجات نقص في العملة وتقلب في أسعار الصرف ممَّا أغرق البلاد في الركود. وتدهورت الأمور إلى حد دفع الملك إلى تعيين لجنة من التجار لدراسة الوضع، ونشرت هذه اللجنة تقاريرها في وقت لاحق. أدت درجة تدهور التجارة إلى البحث فيما وراء المخاوف المحلية أو المسببات البسيطة. وعلى عكس ما كان متوقعًا، رفضت الحكومة الإنجليزية تقييد نشاط صانعي الثياب. كانت هذه هي أكثر النتائج المترتبة على هذا الجدل ديمومة؛ فمنذ ذلك الحين فصاعدًا لم يَعُد الملك ولا مستشاروه يفكرون في الرجوع إلى اقتصاد أكثر خضوعًا لقيود النظام بهدف منع الاضطرابات الاجتماعية التي تنجم عن تناوب دورات الازدهار والركود في التجارة الدولية.7
تمخض الجدل عن عمل رائع من أعمال الفكر الاقتصادي من تأليف توماس مون، أحد الشخصيات الهامة في شركة الهند الشرقية الإنجليزية. تحرر مون من التفكير في الاقتصاد باعتباره نظامًا خاضعًا لتوجيهات القادة السياسيين من أجل خدمة الأغراض الاجتماعية، وقد ذهب إلى أنه ما من شيء يمكن أن تفعله السلطات الإنجليزية من شأنه أن يعيد الازدهار؛ لأن البيع والشراء أو إرسال العملات للخارج كان يجري تبعًا لمعاملات التجار الفرديين، لا للقرارات الحكومية الرسمية. وقدم مون نموذجًا للتجارة كنظام مترابط من التعاملات الموضوعية والمستقلة إلى حد بعيد. وقال إن إنجلترا تستطيع الحصول على المزيد من عملات النقد فقط إذا تجاوزت مبيعاتها مشترياتها، وأبدع في التوكيد على هذا الأمر حين قال: «فلْيَفعل الصراف البسيط أسوأ ما يتراءى له، ولْيُمارس الأمراء الظلم، ولْيَبتز المحامون ما استطاعوا ذلك، ولْيَلتهم المرابون ما شاءوا من الربا، ولْيُسرف المبذرون كيفما شاءوا … فالثروة الكبرى لا تأتي إلى أية دولة مستقلة أو تغادرها إلا وفقًا لأداء التجارة الخارجية من حيث تجاوزها حد التوازن أو عجزها عن بلوغه.» ثم أردف بمزيد من التوكيد الجريء: «وهذا يجب أن يحدث لأنه ضرورة ينبغي أن تتغلب على كل أشكال المقاومة.»8 إننا معتادون على الوثوق في قوانين اقتصادية صارمة، لكن في عام ١٦٢١ — حين كتب مون ما كتب — كان يروج لفكرة أن الاقتصاد لا يخضع لسيطرة سيادة الدولة؛ ومن ثَمَّ ليس قابلًا للانصياع للحاجات الاجتماعية.

أسهمت كتابات مون في زيادة شعبية نظرية الميزان التجاري، أو ما يطلق عليها الفكرة المركنتلية التي تذهب إلى أن ثروة البلاد تأتي من زيادة ما تبيعه على ما تشتريه. في الواقع، كان مون يؤكد على النقطة الأكثر أهمية التي تقضي بأن الأموال تابعة تبعية عمياء لتبادل السلع من خلال القنوات غير المباشرة التي وُجدت بفعل استقرار الأرصدة التجارية في التجارة الدولية. لكنه لم يهدف إلى توضيح فوائد الميزان التجاري الإيجابي بل إلى تحطيم المفهوم الأبوي الذي يرى أنه من الممكن علاج الكساد من خلال الضوابط الرسمية لأسعار الصرف. وظل الهدف المركنتلي — الذي طرحه مجموعة متنوعة من المعلقين — لتحقيق ميزان تجاري إيجابي لصيقًا بالنقاشات الاقتصادية، على الرغم من افتضاح مغالطاته الجوهرية مرارًا وتكرارًا. وقد حظي الاهتمام البالغ بالميزان التجاري لإنجلترا — أي عدم تجاوز مشترياتها مبيعاتها — والذي جاء كاستجابة سياسية في المقام الأول، بدعم كل من استفاد من السيطرة على الاستهلاك المحلي.

كانت شركة الهند الشرقية تنتعش نتيجة للإنفاق داخل الوطن وكانت تؤيد زيادة الأجور بغية تعزيز القوة الشرائية للمواطنين، لكن المصنعين كانوا حريصين على التصدير ورغبوا في بقاء الأجور منخفضة كي تظل أسعار سلعهم منخفضة وتنافسية، وكان الافتراض المركنتلي الرئيس يذهب إلى أن التنافس على ثروة العالم لعبة صفرية النتيجة، وأن الثراء القومي يتأتى من الحصول على نصيب أكبر من كعكة الثروة العالمية. وظل المركنتليون أيضًا يُولُون النقود مكانة مميزة على الرغم من وضوح قابلية التبادل بين السلع والنقود. ودائمًا ما يعاود أي شكل من أشكال الفكر المركنتلي الظهور في النقاش العلني في أوقات غياب الأمن القومي وغياب الاستقرار الاقتصادي، ولا يزال ذلك يحدث حتى اليوم.

عُدَّ خرق جدار السياسة الأبوية في عشرينيات القرن السابع عشر بفعل ضربات الواقعية الاقتصادية لحظة هامة في تاريخ الرأسمالية. فقد أشار ذلك إلى أن رجال التجارة بات بمقدورهم إقناع من يفوقونهم في المكانة الاجتماعية — أو الأرستقراطيين الذين كانوا ضمن مجلس شورى الملك — بحكمة وصواب توصياتهم. وقد أوجد المستشارون ومؤلِّفو الكتيبات مضمارًا عامًّا وعلنيًّا للنقاش حول المسائل الاقتصادية. ربما لم نكن لنحتاج إلى التوكيد على أهمية مثل هذا التعاون بين رواد الأعمال وأفراد من نخبة ملاك الأراضي لولا وجود مثالين مختلفين في إسبانيا والبرتغال؛ فقد كانت كل محاولة من التجار والحرفيين الإسبان لتحدي الامتيازات الممنوحة للأرستقراطيين تقابل من جانب الملك الإسباني ونبلائه بخشونة وصرامة؛ وهذا يمثل أحد الفروق الأخرى الحاسمة بين إنجلترا وبقية دول أوروبا.

عاصر مون الفيلسوف الشهير فرانسيس بيكون الذي غالبًا ما يُعزى الفضل إليه في دفع الفلسفة الطبيعية الإنجليزية في القرن السابع عشر نحو علم الملاحظة والتحليل. كان بيكون أحد أشد المؤمنين بالحقائق بوصفها المعلِّم الأول، ونصح معاصريه بأن يدرسوا الطبيعة، ويختبروا أفكارهم، وبهذا سوف يتعلمون؛ لأن الطبيعة تحمي أسرارها. كان أبغض الأمور لبيكون هو الرأي — أو ما قد نطلق عليه اليوم الأيديولوجية — فهو يرى أن الرأي لا يشجع أي شيء سوى النقاشات الساخنة، لا السعي وراء معرفة الحقيقة. وكان المنهج التجريبي قد اكتسب رسوخًا أكثر فأكثر في المخيلة الأوروبية، بدءًا من فكرة جاليليو عن الكون وصولًا إلى تجارب روبرت بويل على الغازات وتجارب إسحاق نيوتن على الجاذبية؛ مما أدى إلى تراجع التكهنات والتخمينات بشأن ما كان يظن أنها مسائل كونية كبرى لا يمكن سبر أغوارها. وشجعت هذه التطورات الفلسفية الإقبال على تطوير الفرضيات الاقتصادية القابلة للاختبار.

نقاشات حول الربا

إذا تحدثنا على أساس أكثر عملية، سنرى أن وصول رأس المال إلى أيدي الناس الذين يعرفون كيفية استثماره أدَّى إلى ظهور تحدٍّ كبير لمن روجوا للتنمية الاقتصادية. كان إقراض المال مقابل السداد بفائدة مالية يتعارض مع تعاليم الكتاب المقدس الذي يحرم الربا؛ وهو ما جعل المنطق الديني المتجذِّر يعرقل حرية استخدام المال. اعتمد النقاد المعارضون للتوسع التجاري بشدة على الرؤية الاجتماعية الراسخة في «العهد القديم»، حيث يعتبر المال عقيمًا ولا يمكن إقراضه انتظارًا لكسب فائدة مقابل ذلك. بالنسبة لليهود، كانت شرائع الأسفار الخمسة تحض بوضوح على الأخوة العبرانية بين اليهود.

وتنفي الآيات الشهيرة الواردة في الربا شرعية إقراض الأموال مقابل فائدة نفيًا باتًّا، على غرار: «لَا تُقْرِضْ أَخَاكَ بِرِبًا، رِبَا فِضَّةٍ، أَوْ رِبَا طَعَامٍ، أَوْ رِبَا شَيْءٍ مَا مِمَّا يُقْرَضُ بِرِبًا: لِلْأَجْنَبِيِّ تُقْرِضُ بِرِبًا، وَلكِنْ لأَخِيكَ لَا تُقْرِضْ بِرِبًا.» كان الفرض الوارد في سفر التثنية بتحريم الربا جزءًا من نظام أخلاقي ميز بوضوح بين السلوك المقبول تجاه بقية أفراد مجتمع المرء من ناحية، وتجاه الغرباء من ناحية أخرى. ونظرًا لعدم قدرة خصوم التوسع التجاري على انتقاد التعاملات التجارية لأنها كانت تجري في الخفاء بعيدًا عن الرأي العام، فقد تشبثوا بقوةٍ بالالتزام الخيري الذي يُلزم الأغنياء بالإحسان إلى الفقراء، ورددوا آيات الكتاب المقدس التي تؤكد على أن البشر بعضهم لبعض إخوة.

أكدت الكنيسة الكاثوليكية على أن مجيء المسيح قد محا التمييز بين الإنسان وأخيه الإنسان. أو كما يصف أحد الكُتَّاب قائلًا إن المسيح نقل الإنسانية «من الأخوة القبلية إلى الغيرية الشاملة».9 ومع ذلك، صارت قوانين الأخوة العبرانية جزءًا من قانون كنسي يعبر عن موقف الكنيسة ضد الاقتصاد التجاري الحر. لكن كما هو الحال في أي تحريم، كان تنفيذ الحكم الشرعي يعتمد على وضوح طبيعة الخطيئة نفسها. بيد أن التطورات التجارية التي كانت جارية في قلب أوروبا الكاثوليكية في القرنين الرابع عشر والخامس عشر عملت على تآكُل العديد من الفروق التي كانت تفصل الممارسات الربوية عن غيرها من الممارسات غير الربوية. علاوة على أن المراوغات المبتكرة من جانب التجار والتحايل الشرعي من جانب رجال الدين المؤيدين جعلَا تحريم الفوائد شريعة يصعب وضعها موضع التنفيذ.10
ابتعد باحثو اللاهوت البروتستانتيون — من مارتن لوثر إلى جون كالفن — عن سياسة فرض الشريعة اليهودية كقوانين مدنية وضعية، مفضلين الاعتماد على التعاليم الروحية المسيحية. لم يكن الربا محرَّمًا في جميع الحالات، وكان الإحسان والقاعدة الذهبية (أحب لأخيك ما تحب لنفسك) هما اللذان يوجِّهان المسيحيين. أما المشرِّعون الإنجليز فقد تفاوتت قوانينهم بين فترة وأخرى. ففي عام ١٤٨٨ نص قانون يحظر الربا على أن جميع أشكال الربا ستُستأصل، وأن كل من سيُقرض الأموال بفائدة سيعاقب بمصادرة نصف أصل المبلغ الذي أقرضه، بينما نصت القوانين التي صدرت إبان عهدَيْ هنري الثامن وإليزابيث على فرض سقف فائدة تبلغ نسبته ١٠٪، خُفضت فيما بعد إلى ٨٪ إبَّان عهد الملك جيمس. وفي عام ١٦٥٢ انخفضت نسبة الحد الأقصى المسموح به إلى ٦٪، حيث ظلت ثابتة عند هذا الحد على مدى بقية سنوات القرن. وعلى النقيض من ذلك، ظلت جميع أشكال التعامل الربوي مُحرمةً في العالم الإسلامي، الأمر الذي أدى إلى ظهور العديد من أنماط التحايل والتهرب هناك، لكن ترتبت نتيجة غير مقصودة على قبول التعاملات الربوية؛ ألا وهي الشفافية في إدارة الحسابات؛ إذ لم يعد هناك الكثير لإخفائه.11

جعل دعاة الأخلاق الربا رمزًا لجميع الممارسات الكريهة في عالم التجارة، والتي شملت السعي وراء تحقيق المكاسب الخاصة، وتكديس الثروات، وخوض المساومات الخطرة، وسوء الاستغلال الذي يصيب كل من يخونه الحظ من المتنافسين. بينما وجد المحافظون الاجتماعيون والدينيون في قضية الربا وسيلة لفضح مخاطر اقتصاد السوق. ولم يكن السبب في مناهضة مسألة الربا يقتصر على أن مثل هذا السعي العقلاني وراء الربح يتعارض مع تعاليم البر والإحسان، بل إنَّ الربا تجاهل أيضًا المشيئة الإلهية من خلال تبني الاعتماد المطلق على النفس. وهكذا، كان يوجد تعارض جوهري بين الدين من جهة والأنشطة التجارية المدفوعة بالسعي وراء الربح من جهة أخرى. وفي القرن السابع عشر، عندما بات تأثير السوق أكثر انتشارًا، ظلت مسألة الربا تجتذب النيران المعادية من جانب كل من يناهضون الأنانية والروح المادية لصاحب العمل الحر، سواء أكان تاجرًا أو صاحب أرض أو مزارعًا أو صانعًا. حتى إن جانبًا كبيرًا من أدب القرنين الخامس عشر والسادس عشر بشأن الربا كان يركز على حقيقة أن المال لا يمكنه كسب المزيد من المال، لكن التغيرات الاقتصادية التي حدثت أضعفت هذا الاتجاه الهجومي؛ إذ تبين أن المال — باعتباره رأس مال — مثمر للغاية، علاوة على أن زيادة الإنتاجية التي أعقبت الاستثمارات في مجالي الزراعة والصناعة سوَّغت للكثيرين أخذ الفائدة الربوية، لكن هذا تطلب اتجاهًا جديدًا من الجدل والنقاش.

في غمرة كل هذا الجدل العلني، كان نموذج لنظام السوق يتشكل، وقد حفز الهولنديون ظهوره؛ فقد حث الحسد والاندهاش المراقبين الإنجليز ودفعهم لمحاولة تصور الكيفية التي يحققون بها ذلك النجاح الباهر الذي أحرزته هولندا. فطوال القرن السابع عشر، كان الهولنديون يصطادون أطنانًا من أسماك الرنجة من المياه التي تشرف عليها الشواطئ الإنجليزية، ويملكون أضخم أسطول تجاري في أوروبا، وتجتذب بنوكهم الذهب الإسباني، ويقترضون بأقل معدل فائدة، ويتفوَّقون على كل الوافدين الآخرين في التجارة مع بلدان بحر البلطيق والبحر المتوسط وجزر الهند الغربية. بدا الازدهار الهولندي — كالأرض الهولندية — وكأنه ناشئ من العدم، من لا شيء. فضلًا عن أن المقارنة التي لا مفر منها بينها وبين إسبانيا — التي كانت تمتلك مناجم الذهب والفضة وباتت وقتئذ على شفا الإفلاس — لم تزد أُحجيَّة النجاح الهولندي إلا غموضًا.

كانت قصة هولندا أشبه بحكاية خيالية معكوسة. كان أبطال حكايات القرون الوسطى الذين يعثرون بالضرورة على جِرَارٍ من الذهب أو يحوزون الكنوز من خلال الأعمال البطولية ينتقلون من حياة الأسمال البالية إلى حياة الثروات. وكان سحرة الجن، والعرَّابات الخياليات، والمردة المحبوسون هم واهبو الكنوز والثروات الكبرى. وكانت المآثر الإسبانية في العالم الجديد تتماشى كليًّا مع هذا الطابع التقليدي الأسطوري؛ فقد استولى الغزاة الإسبان على المناجم الأسطورية لحضارتي الإنكا والأزتك بفضل براعتهم العسكرية. حتى انتصارات البرتغاليين التي كانت أقل بريقًا من انتصارات الإسبان، كانت متوافقة مع صورة العثور على «الكنز» لتحقيق الثراء؛ فاجتراؤهم على المغامرة في عباب المحيطات المجهولة، جعلهم يشقون بشجاعة طرقًا بحرية لبلوغ ثروات المشرق.

أما الهولنديون — على النقيض من ذلك — فقد صنعوا ثروتهم بأكثر الطرق واقعية؛ فما من هالة من الذهب أو الفضة، ولا أخشاب عطرية، أو أحجار نادرة أو توابل عطرية أو أقمشة فاخرة لازمت نجاحاتهم المبكرة، بل مخرت سفنهم السريعة التي تميزت بقاعها العريض عُباب مياه بحر الشمال في دورة لا نهائية لتوزيع المواد الخام الأوروبية. وانطلاقًا من هذه الأرضية العادية، حوَّل شعب الأراضي المنخفضة المجتهد مدنه إلى مراكز تجارية عالمية ضخمة. وبات الهولنديون مثالا يُحاكى. لكن المحاكاة لم تكن أمرًا سهلًا؛ لأن اقتصاد السوق لم يكن شيئًا مفردًا، بل مزيج معقد من الأنشطة البشرية التي يبدو أنها تدعم بعضها.

كانت أولى خطوات التفكير الاقتصادي تتمثل في عزل المتغيرات الرئيسية — مثل القيمة والربح والأسعار المختلفة — عن الأنشطة الاجتماعية التي كانت هذه المتغيرات مشمولة فيها. وهذه أكثر خطوات التحليل صعوبة؛ لأنها تقتضي مِنَّا ألا نتشتت بفعل التفاصيل الحيوية للواقع. علاوة على أن رجال القرن السابع عشر ونساءه كانوا معتادين على التفكير في المجتمع ككل — كالملك ومملكته مثلًا — لا على التفكير في الأجزاء التي كانت تتفاعل داخل هذا المجتمع. ويمكن أن ينسب الفضل إلى الهولنديين في دفع المفكرين الإنجليز نحو التحليل.

أخذ المعلقون الإنجليز — تحت تأثير خليط فريد من الغيرة والإعجاب — يضاهون قضاياهم المتعلقة بالسوق بالنموذج الهولندي منذ العقد الأول للقرن السابع عشر وحتى العقد الأخير منه. وقد شكل هذا وسيلة لمراقبة البيع والشراء والإنتاج والإقراض وتبادل السلع، بمعزل عن الاعتبارات الشخصية والسياسية التي كانت في كثير من الأحيان تحجب الجانب الاقتصادي البحت لهذه الفعاليات. وفي بعض الأحيان، كانت مجرد الإشارة إلى الهولنديين كفيلة بتغيير سياسة إنجليزية. فمثلًا، في عام ١٦٦٣ عندما ألغى البرلمان حظر تصدير العملات الأجنبية — كان هذا تقييدًا يعكس الهدف المركنتلي المتمثل في زيادة ما تملكه البلاد من الذهب والفضة — كان سماح الهولنديين بدخول النقد إلى بلادهم وخروجه منها بحُرية دون أن يُسفر ذلك عن أي ضرر، سببًا في اقتناع أعضاء البرلمان الإنجليزي بإلغاء ذلك الحظر.

ألهمت الإنجازات الهولندية بعض الإنجليز الذين كانوا متحمِّسين للتنظيم التجاري الصحيح. وفي الوقت نفسه دفعت أولئك الذين كانوا يميلون أكثر إلى المضاربة للبحث عن المنبع السري لاقتصاد السوق الجديد. وأدى تحليل الاقتصاد الهولندي إلى تشجيع وضع نموذج مثالي للسوق، وتحفيز إدراك القوى غير المرئية العاملة بداخلها. ومع اتساع السوق، حلت أسعار موحدة ومعروفة محل المساومة المباشرة بين البائع والمشتري، والتي كانت تجري في السوق المحلية. وكحال الجاذبية (التي فسَّرها نيوتن في عام ١٦٨٧)، كان الطلب الكلي يمثل قوة تُمارَس عن بُعد تتحرك عبر فراغ. وفي ظل ابتعاد المستهلكين النهائيين أكثر فأكثر عن المنتجين، باتت الخطوات التي تربط الإنتاج والاستهلاك أكثر غموضًا وأكثر حاجة إلى التوضيح، إلا أن شيوع التجارة الخارجية في الاقتصاد الهولندي جعل هذه الصلات في متناول البحث.

لكن المثال الهولندي حوى تناقضات لافتة للنظر بين المظهر والواقع فيما يتعلق بالاختلافات بين التوقعات المبنية على حقائق ثابتة وبين ما حدث بالفعل. فمن دون وجود المناجم، كيف تمكن الهولنديون من امتلاك الكثير من عملات النقد؟ وفي ظل قلة مواردهم الطبيعية اللازمة للتصدير، كيف تمكنوا من احتكار إنتاج بلدان أخرى؟ وكيف كان الهولنديون يتمتعون بأسعار فائدة منخفضة وأسعار أراضٍ مرتفعة؟ وكيف أمكن الإبقاء على الأجور مرتفعة رغم تزايد عدد السكان؟ وكيف تأتَّى لارتفاع الأسعار والازدهار على نطاق واسع أن يحدُثَا في وقت واحد في بلاد الأراضي المنخفضة؟ لقد كان الهولنديون طوال العقود الوسطى للقرن السابع عشر منافسين مرهوبين من جانب التجار الإنجليز، فضلًا عن أنهم كانوا يشكلون مصادر لبيانات أولية لا تقدر بثمن.

بنهاية تلك الحقبة كانت الافتراضات الأساسية بشأن علاقات السوق قد دخلت إلى الخطاب العام على نحو ترك أثرًا حاسمًا في كل الفكر الاجتماعي اللاحق. وباتت الحقائق المنفردة عن البيع والسداد، والتوظيف والكسب، والإنتاج والبيع، محاكة ضمن نسيج نموذج اقتصادي واحد معرض للنقد والطعن والتعديل. وقد لعب الاقتناع بأن هناك نظام يمكن تحديده دورًا محوريًّا في الجهود الرامية إلى تحليل علاقات السوق، لكن ذلك النظام لم يكن نظامًا سياسيًّا يُفرض من جانب حاكم، وإنما تنظيم نابع من اتساق سلوك الرجال والنساء في تعاملاتهم السوقية.

حين أنكر المحللون سيطرة السلطة السيادية على التجارة لم يقصدوا بذلك أن تكون القرارات الفردية في السوق جزافية أو شخصية، بل كانوا يبحثون عن علاقات سببية تتصل بهذا الموضوع، مفترضين وجود تجانس ووحدة تعمل على جميع المستويات. وهذا أدى بدوره إلى الاعتقاد بأن الفوضوية (الأناركية) ليست البديل الحتمي عن السيطرة من الخارج. وخلت المناقشات من ذلك الوصف القديم الموجود في الأدب عن الطبيعة المتهورة للبشر، وحل محله وصف المشاركين في السوق بأنهم أفراد حريصون على المصلحة الشخصية ويقظون وعقلانيون. وحملت الكلمات القديمة معانيَ جديدة، حتى إنك إذا بحثت عن معاني كلمات مثل: مهنة Career، ومدير Manager، وخبرة Expertise، وفائدة Interest، وفرد Individual في قاموس أكسفورد للغة الإنجليزية، الذي يرصد التغييرات التي طرأت على معاني الكلمات عبر القرون، فستكتشف أن كلمة Career كانت تعني في القرن التاسع عشر سباقات خيل، وأن كلمة Individual لم تكن تعني «فرد» قبل القرن السابع عشر.

انضم أعضاء من شركات الهند الشرقية إلى قائمة المتجادلين كي يدافعوا عن ممارسات شركاتهم فيما يتعلَّق بتصدير العملات المسكوكة، وهو الأمر الذي ظل موضع شبهة طالما ظل الناس يعتبرون مخزون العملات النقدية من الذهب والفضة هو الشكل الوحيد للثروة. ضربت الشركة خير مثال على كيفية كسب الأموال عن طريق تحدي العرف السائد؛ إذ ما من نشاط حقق أرباحًا تجاوزت ما حققته رحلاتها الأولى — التي عادت بمكسب ٢٠٠٪ — إلا نشاط القرصنة. فيما بعدُ، ظلت الشركة تحقق مبالغ سنوية تجاوزت نسبتها ٢٠٪ طوال القرن التالي. ولما كان زبائنها في الشرق زاهدين في كثير مما كان الأوروبيون يبيعونه، كانت سفن الشركة تأخذ معها العملات لسداد ثمن مشترياتها من السلع.

كان توضيح حقيقة الأموال أحد الأهداف الفكرية لمؤلَّفات توماس مون. لكن هذه لم تكن مهمة سهلة؛ لأنها كانت تتعارض مع غريزة ادِّخار قوية؛ فهزأت مؤلفاته من الاعتقاد السائد بأن كل غاية التجارة الخارجية تتمثل في تكديس سبائك الذهب والفضة. لكن كيف يمكن أن تستفيد إنجلترا من تخفيض مخزونها من الذهب والفضة؟ وإذا كان الاستهلاك المحلي ينتقص من مخزون رأس المال الإنجليزي، فكيف إذن يكون أمر كهذا في مصلحة المملكة؟ من الأفضل في هذه الحالة بيع البضائع الإنجليزية للأجانب مقابل أخذ ذهبهم. كان هذا الخيار ليعتبر منطقيًّا في ظل عهد الندرة الذي دام طويلًا. وبالنظر إلى نماذج الاستهلاك التقليدية، ربما كان من الأرجح تفضيل خيَار ادِّخار الأموال على خيار الإنفاق؛ فقد كان النبلاء والأرستقراطيون مسرفين، بينما كان الفقراء ينفقون بالكاد لسد رمقهم والبقاء على قيد الحياة. وكلا النموذجين لا يسهم في ازدياد ثراء المملكة. لكن بعد ظهور مستهلِكين جدد يُقبلون على شراء سلع جديدة، بات من الممكن تحقيق الأرباح داخل الوطن. تتصف النقود والسلع بأنها «مِثْلية»؛ أي إن أيًّا منهما يمكن أن يحل محل الآخر في التداول؛ ففي بعض الأحيان كان الناس يحتاجون إلى النقود، وفي أحيان أخرى يحتاجون إلى المنتجات، ولم تكن المجتمعات تختلف عن بعضها في ذلك الأمر.

كان التفسير القائم على نظرية الميزان التجاري كي يوضح كيف تنمو الدول الغنية قد أبرز دور الإنتاج لكنه تجاهل دور الاستهلاك. إلا أن هذا التفسير دُحض حينما أظهرت الروح الجامحة للموضة قدرتها على تغيير السلوكيات؛ فقد أحدثت شركة الهند الشرقية هوسًا عامًّا بالمنسوجات القطنية المطبوعة حينما بدأت استيراد الأقطان الهندية الرخيصة. وبحلول عام ١٦٩٠ كان الإقبال على أقمشة القطن والموسلين قد بلغ نسبًا مرتفعة. فما بدأ في شكل استخدام مغمور للمنسوجات القطنية في حياكة بطانات البذلات مهَّد الطريق لظهور هوس بالستائر و«المفروشات» والشراشف والمنسوجات الجدارية والقمصان والفساتين النسائية.12 وكانت تسميات المنسوجات الجديدة تكشف عن أصولها؛ فنسيج «الكاليكوت» القطني كان يأتي من مدينة كلكتا بالهند، وقماش «الشنتز» يعني باللغة الهندية القماش المطبوع المرقش، والقماش الذي يدعى «سير ساكر» يعني بالفارسية القماش المقلم، و«الجنهام» تعني القماش المخطط بلغة الملايو. وبعد مرور أجيال لم ترتدِ سوى الصوف والكتان، أقبل الجمهور الإنجليزي مبهورًا على ألوان الأقمشة الجديدة وتصميماتها وخاماتها. والأهم من ذلك أن هوى الأقمشة الجديدة سرى سريعًا إلى بقية درجات السلم الاجتماعي، فألقى على الرجال والنساء العاملين ضوءًا جديدًا مبرِزًا أهميتهم كزبائن. لكن هنا طفت أزمة أخرى؛ لأن شراء الناس الأقطان يعني أنهم سيقلصون مشترياتهم من الصوف والكتان، اللذين يشكلان عصب صناعة الأقمشة في إنجلترا. وحينما أرسلت شركة الهند الشرقية حرفيين لكي يعلموا صناع المنسوجات الهندية كيفية تصميم أنماط تناسب الأذواق الإنجليزية، كان تجار وصناع الأقمشة الإنجليزية يسعون إلى حمل الحكومة على حظر استيراد معظم المنسوجات الهندية، ونجحوا في ذلك إلى حدٍّ ما.
بدا واضحًا لكل العيون كيف صارت المنسوجات القطنية الزاهية تزين أجساد الخادمات مثلما تزين أجساد سيداتهن أيضًا. وتحت تأثير موجة أذواق الاستهلاك الجديدة، أنفق الناس المزيد، وكانوا لا يعدمون الوسيلة لذلك. وفجأة لاحت الأهمية التجارية للسوق المحلية في الأفق، وباتت مرونة الطلب — كما يسميها خبراء الاقتصاد — واضحة، وصار ينظر إلى التقليد وحب الترف والتباهي، أو مجرد الميل إلى اقتناء الأشياء الجميلة، على أنها دوافع بشرية إيجابية — على الأقل بالنسبة للاقتصاد — لأنها دفعت الناس لأن يعملوا أكثر كي ينفقوا أكثر. ونتيجة لإقبال الشباب على الصرعات، وبالنظر إلى أعدادهم المتزايدة في لندن، عمل استهلاكهم على تشجيع اتجاهات جديدة كانت على وشك بلوغ أوج ازدهارها مع اندلاع الثورة الصناعية.13 كان هذا الظهور المذهل للأذواق الاستهلاكية الجديدة هو الذي قدح شرارة نقاش إيجابي حول دور الاستهلاك في التنمية الاقتصادية. ردًّا على ذلك، لم يتوانَ صُنَّاعُ الأقمشة عن استحضار نظرية الميزان التجاري القديمة بفكرتها عن ثروة العالم كلعبة صفرية النتائج، وسياسات «إفقار الجار» الخاصة بها، وأبرزوا الاختلاف بين تفضيلات المستهلكين الفرديين وبين مصلحة الاقتصاد بوجه عام.
كتب أحد المراقبين المسرفين في التعبير عن عواطفهم تعبيرًا عن رأيه في الإقبال الجديد على القطن الهندي، فقال: «إن حاجات الإنسان تزداد بزيادة رغباته التي تصبو إلى كل شيء نادر يمكن أن يرضي حواسه، ويزين جسده، ويمنيه باليسر واللذة وأبهة الحياة.» بينما اعتقد أحد مؤلفي الكتيبات الآخرين — من الذين كانوا مختلفين مع الساخطين على رواج وسائل الترف المستوردة كقماش الكاليكوس الذي تجلبه شركة الهند الشرقية — أن هذه السلع الكمالية ليست مصدرًا للخطيئة، وإنما «بواعث حقيقية على الفضيلة والبسالة وارتقاء العقل، فضلًا عن كونها مكافآت منصفة للصناعة.»14 وبدأت تعاليم الكتاب المقدس المناهضة لحب الترف تتوارى وراء موجة التحمس العلماني الدنيوي للتنمية الاقتصادية.
تَصدَّر المدافعون عن شركة الهند الشرقية المشهد بتفسيرات توضح لماذا يسهم الاستهلاك المحلي في إفادة الأمة، على عكس التفكير المركنتلي البحت الذي يدعو إلى الادخار داخل الوطن والبيع في الخارج. فقالوا: «إن المهماز الرئيسي الذي يحفز التجارة [يهوى الكتاب الإنجليز استخدام الاستعارات المجازية المستمدة من عالم ركوب الخيل] — أو بالأحرى يحفز الصناعة والابتكار — هو الشهوة المتقدة للبشر، التي لا يترددون في تحمل المشقة من أجل إشباعها. وهكذا يجتهدون في العمل، في حين ما من شيء آخر يمكن أن يدفعهم إلى ذلك. ولو كان البشر يقنعون بمجرد إشباع حاجاتهم الضرورية لتعين علينا العيش في عالم يسوده الفقر.»15 كان دعاة التجارة الحرة في طليعة من روَّج لهذه الآراء؛ فتدعيمها كان يؤذِن ببزوغ قدرة رجال الأعمال على كسب المال من العمال إذا ما تمكنوا من تغيير عاداتهم وحملهم على كسب المزيد من خلال العمل على نحو أكثر انتظامًا. وكان هذا النوع من التفاؤل يتعارض كليًّا مع طبيعة أفكار الطبقة العليا التقليدية عن الناس العاديين وعن عاداتهم السيئة. لكن مقاومة هذه الافتراضات كانت إلى حد كبير تصب في مصلحة شركة الهند الشرقية التي كانت تصدر الذهب والفضة وتستورد السلع للاستهلاك المحلي.

قد يبدو التشجيع على الإنفاق وكأنه كان شكلًا مبكرًا من أشكال لغة المبالغة التي ترددها وكالات الإعلان المعاصرة، لكنه كان رسالة تشير إلى ارتباط قوي بين الرغبة والتنظيم. فعندما كان الرجال والنساء يرغبون في شيءٍ ما بما فيه الكفاية، كانوا يعملون بجد للحصول عليه. وهذه الفكرة قادت بعض الكُتَّاب إلى استنتاج أن الأجور عندما تكون أعلى، سيتمكن الفقراء من إنفاق المزيد على الملابس والمفروشات، ومن ثَمَّ سيزيدون استهلاكهم من السلع التي يصنعونها تحديدًا. كانت هذه الملاحظات توحي بأن الاستهلاك قد يشكل في حقيقة الأمر وقودًا للتنمية الاقتصادية، وهذه فكرة ثورية بحق بالنسبة لذلك الزمن. لقد تكبَّر أعضاء النخبة الاجتماعية على الفقراء لفترة طويلة جدًّا؛ لذا فقد عارضوا هذه التأكيدات حول قدرتهم المكتشفة حديثًا على تحفيز الاقتصاد. لكن رغم كل شيء، كان الاعتقاد بأن الرجال والنساء العاديين متمردون وكسولون وخشنون يبرر الرقابة الاجتماعية على الطبقات الدنيا من جانب علية القوم في المجتمع.

في واقع الأمر، كان الرجال والنساء الإنجليز عام ١٧٠٠ يحصلون على أجور أعلى بكثير مما كان يحصل عليه العمال في بقية بلدان أوروبا وبقية أنحاء العالم. وكانوا أيضًا يتمتعون بتغذية أفضل؛ فقد أظهرت دراسة أجريت على متوسط كمية السعرات الحرارية التي كان يتناولها الأوروبيون في القرن الثامن عشر أن إنجلترا وحدها كانت قادرة على إطعام ٨٠٪ من سكانها ما يكفي من الغذاء لاستخدامهم في يوم عمل كامل.16 ولم تجانب الدقة المعاصرين في ذلك الزمن حينما وصفوا مشهدًا متحضرًا لشعب يحظى بتغذية جيدة، وواجهات متاجر ضخمة، وأيام عمل صاخبة تغدو وتروح. كانت إنجلترا تحوي طبقة عاملة كبيرة ومتزايدة وقادرة على شراء الأواني الخزفية الجديدة، وقماش الكاليكوس القطني، وسكاكين المائدة، والصور المطبوعة الرخيصة التي باتت متاحة لهم. عملت هذه المجموعة الكبيرة من المستهلكين المحليين على تغذية توسُّع إنجلترا التجاري وثقافتها المادية المدروسة بعناية والمعتمِدة على السوق.
أسس الرجال العاديون البنية التحتية اللازمة لسوق وطنية، وربطت التجارة الخارجية هذه التجارة الداخلية بتجارة عالمية متنامية. وظهرت أمور جديدة مثل الارتباطات الجديدة بالأشياء المادية، والابتهاج المتَّقِد جرَّاء المستجدات، ومباهج العلاقات الاجتماعية الحضرية، وجميعها كانت تنم عن ارتباط عميق مع العالم المادي جعل الإنفاق يبدو أكثر فائدة للاقتصاد من توفير النفقات. وارتفع متوسط الأجور لأن الرجال والنساء كانوا يهجرون عمل المَزارع ذا الأجور المنخفضة. علاوة على أنهم كانوا يعملون عددًا أكبر من الساعات أسبوعيًّا؛ مما يدل على وجود طلب على عمالتهم. وانخفض عدد عطلات الاحتفالات انخفاضًا ملحوظًا، وخضع يوم الإثنين الذي كان يطلق عليه من باب الدعابة (الإثنين المقدس) — والذي كان في الماضي اليوم المفضل لدى الرجال العاملين، والمخصص لتعافيهم من آثار سُكر عطلة نهاية الأسبوع — للرغبة في زيادة الأجور.17 وبذلك ارتفع متوسط عدد أيام العمل السنوية خلال القرن الثامن عشر من ٢٥٠ يومًا إلى ٣٠٠ يوم.

أثارت شعبية الأقطان الهندية رخيصة الثمن قلق مُصنِّعي الصوف الذين كانوا يستخدمون نظرية الميزان التجاري لتفسير ضرر إنفاق النقود الإنجليزية في شراء الأقمشة الهندية المنقوشة. كانوا قد ركنوا طويلًا إلى تصوير الاقتصاد على أنه نوع من أنواع الشركات التجارية المساهمة الضخمة التي كانت تعمل على نحو تعاوني من أجل تخزين مئونة من الذهب والفضة. وحينما خرج تضارب المصالح بين المُصنِّعين والتجار إلى العلن، تحسنت جودة التحليل، وسخر عدد كبير من مؤلفي الكتيبات من غباء المفاهيم المركنتلية، وأشار المدافعون عن شركة الهند الشرقية إلى أن أي قانون يقيد شراء المواطنين الإنجليز السلع المحلية من شأنه أن يجبرهم على دفع ما هو أكثر من اللازم لتلبية احتياجاتهم. وكانت فكرة وجود حقوق للمستهلكين فكرة مستحدثة تمامًا، تتعارض مع الحكمة التقليدية. وما لبث البعض أن غيروا مفهومهم عن الاقتصاد وبدءوا ينظرون إليه باعتباره تجمُّعًا للحريصين على مصالحهم الشخصية من الرجال والنساء، منتجين ومستهلكين على حدٍّ سواء. ورغم أن هذه التعليقات مألوفة بالنسبة لنا، فإنها كانت ثورية للغاية وقتئذٍ لأنها كانت تقوِّض القناعة الأرستقراطية بوجود هوَّةٍ هائلة لا يمكن عبورها بين الناس العاديين والأرستقراطيين.

أثارت الفكرة التي تذهب إلى أن الرجال والنساء حيوانات ذات شهوات لا حدود لها وقادرة على دفع الاقتصاد إلى مستويات جديدة من الازدهار مخيلةَ العشرات من الكتاب، لكنهم كانوا أصحاب مشاريع، ليسوا دعاة أخلاق. إن الافتراض القائل بأن ثروة الأمم بدأت بتحفيز الرغبات لا بتنظيم الإنتاج يحرم القوانين الاجتماعية المفروضة من أحد الأسس المنطقية المؤيدة لها. وما إن صارت الدعوة إلى تحرير التجارة مشفوعة بتفسير جديد للنمو الاقتصادي حتى واجهت الحكمة الاقتصادية القديمة التي تدعو لإدارة التجارة بحذر لضمان السيطرة على ارتفاع الأسعار تحديات عظيمة، وذلك قبل قرن من ظهور تفسير آدم سميث الذي يوضح السبب في أن الحرية أفضل من التحكم في الشئون الاقتصادية.

كشفت ردود الفعل الشعبية إزاء الموضة أن بعض الطلب كان قابلًا للزيادة والنقصان. وبما أن الطلب كذلك فالنمو والازدهار يتطلبان إيلاءَ اهتمام بأذواق الناس ورغباتهم. وصار حتى الشخص المبذِّر يُحمد لتبذيره؛ لأنه بذلك يُحسِن إلى المجتمع. وحتى إن أفلس هو شخصيًّا، فقد قدمت نفقاته عونًا لآخرين، الأمر الذي لا يمكن أن يقال في حق الشخص البخيل. وتبعًا للأذواق الجديدة شرع الكُتَّاب في استكشاف الدوافع الإنسانية التي تنظم الإنفاق الشخصي، واكتشفوا وجود حراكٍ بشريٍّ وآلية سوق تقوضان الرؤية المركنتلية الجامدة التي تركز على ادِّخار سبائك الذهب والفضة. وكتب المروجون للتجارة الحرة بحماس شديد عن ملذات التسوق تمشيًا مع المنطق القائل: «كلما كان الشراء أكثر، جلب ذلك بهجة أكبر.» لكن تجب الإشارة إلى أنه على عكس الشخصيات المتهورة التي حفلت بها مسرحيات شكسبير، كان على المستهلكين الإنجليز ترويض أنفسهم على العمل الجاد كي يتمكنوا من إشباع رغباتهم. ومن ثَمَّ حَلَّ السعي إلى إشباع الرغبة مَحلَّ الحاجة إلى ضبط النفس والحرص، وبهذه الطرق المتعددة تمكنت الرأسمالية من التغلُّب على الأخلاقيات الاجتماعية العتيقة.

في نهاية القرن الثامن عشر بدأ الكُتَّابُ يتحدثون عن الطبيعة البشرية، وكان مصطلحًا حديث الصياغة في ذلك الوقت. قال أحد المعلِّقين: «كل شخص — من الفلاح إلى الملك — هو تاجر.» كان هذا ترقيةً اجتماعية، وليس مساواة اجتماعية؛ إذ أضفت عادات الإنفاق الجديدة على الطبقة العاملة قدرًا من الأهمية، طالما أُنكِرَت عليهم. كان المجتمع معتادًا على مكافأة الناس بحسب الأهلية والمكانة الموروثة. وكان قبول — أو حتى استحسان — مكافآت السوق يعني اتباع نظام موضوعي يعمل من خلال الأفعال الجماعية لمشاركين فرديين. كان الأمر سيستغرق وقتًا طويلًا قبل أن يرضخ الإيمان القديم بالتمايُز الطبيعي للالتزام بالمساواة، لكن الخطوات الأولى لذلك كانت تُتخذ في نهاية القرن السابع عشر.

أزمة في العملة الإنجليزية

حدثت طفرة أخرى في التفكير الإنجليزي بشأن الاقتصاد نتيجة لحدوث أزمة في النقود. فمن بين كل العناصر المستجدة في عالم المشاريع والتبادل الجديد، ما من عنصر أحدث صداعًا أكثر من الأموال. تعج كلمة الأموال بالكثير من المعاني المختلفة؛ فدائمًا ما كانت الأموال هي مخزون الثروة، وفي ذلك الوقت أصبحت بمنزلة مادة التزليق اللازمة لإتمام تبادلات السوق التي تجري عن بعد. والأموال أيضًا هي النقود السائلة، وسيلة الإشباع الفوري. وكانت الأموال تُعَد أموالًا جيدة إذا كانت من ذهب وفضة مَسكوكَين في شكل عملات قانونية مرخَّصة تحمل ضمان الملك لكميتها ونقائها.

إن التفكير في مسألة الأموال قد يسبب الدوار. على سبيل المثال: من المحير الأخذ في الاعتبار أن قيمة الذهب والفضة كانت تختلف بعد أن يجري تحويلهما إلى عملات نقدية معدنية. ففي إنجلترا كانت نسبة السك — أي القيمة الاسمية لكمية معينة من الفضة — منخفضة للغاية، ومن ثَمَّ كانت قيمة الفضة تبخس حين يجري تحويلها إلى عملات نقدية؛ مما خلق دافعًا لصهر الفضة وتصديرها إلى أوروبا بغية الحصول على سعر أعلى ببيعها في شكل سبائك. ولم يكن تصدير العملة الإنجليزية ممارسة مشروعة، بل تكاد تكون إجرامية، لكنه كان معروفًا وشائعًا على نطاق واسع. وقد أحدث التصدير نقصًا في العملات. حدث هذا في توقيت سيئ؛ لأن الحكومة كانت تخوض حربًا ضد فرنسا وكانت بحاجة لإرسال شحنات منتظمة من الأموال إلى أوروبا من أجل دفع أجور الجند وشراء المؤن لحلفاء إنجلترا.

شجَّع ارتفاع سعر الفضة التي كانت تباع في الخارج قدرًا أكبر من الاحتيال؛ إذ اكتشف بعضٌ مِمَّن اعتادوا أن يضربوا بالقوانين عُرض الحائط أنهم يستطيعون قطع حواف الشلنات الفضية المطروقة، ثم صهر هذه الحواف المقطوعة، وإرسال الفضة الناتجة عن ذلك إلى الخارج لبيعها، وفي الوقت نفسه ينفقون الشلنات الفضية الناقصة. والغريب أن العملات النقدية مقطوعة الحواف انتشرت بسهولة انتشار الشلنات الكاملة، وهذا لم يكن مفهومًا. ومع ازدياد حدة النقص، تركز الاهتمام على آلية النقود نفسها. فكيف كان لأداة التبادل غير المأمونة هذه أن تُدخر إن لم تكن مفهومة في المقام الأول؟

في عام ١٦٩٥ تناول وزراء الملك المشكلتين التوأمتين لنقص العملات وغش الشلنات الفضية بقطع حوافها، وابتغَوا النصيحة من وزير الخزانة الذي أعد تقريرًا يشكل نموذجًا للتحليل المالي. أخبرهم الوزير أنه طالما كانت قيمة الفضة كسبائك تفوق قيمتها كعملات، فلن يكون هناك معنى لتحويل الفضة إلى عملات؛ لأن الأمر سيكون بمنزلة جلب دجاجة قيمتها جنيه واحد إلى المتجر لتحويلها إلى عبوة من أجزاء الدجاج قيمتها نصف جنيه. وبدلًا من ذلك سيحدث العكس: سيجري صهر العملات وشحنها إلى الخارج في شكل سبائك، على الرغم من أن ذلك مخالف للقانون. وطرحت مشكلة العملات مقطوعة الحواف معضلة مختلفة؛ فبعد مرور عقود من ممارسة قطع حواف العملات، باتت العملات نفسها تحوي كمية من الفضة أقل بكثير عن كميتها المفروضة، لكن من شأن عملية إعادة سك هذه العملات أن تمنحها حوافَّ محززة غير مقطوعة؛ لذلك أوصى وزير الخزانة بإعادة سَكِّ جميع العملات التي كان يجري تداولها في إنجلترا بحيث تصبح أقل من قيمتها بمقدار ٢٥٪؛ وبهذا تعبر عن القيمة الحقيقية لمعظم الشلنات المتداولة في ذلك الوقت.

أبرزت أزمة النقود حقيقتين مفاجئتين: أن قيمة صرف النقود لم تكن تعتمد كليًّا على محتواها من الفضة، وأن قيمة صرف الفضة كانت تختلف تبعًا لشكلها؛ عملة أو سبيكة. ولأن النقاشات حول آلية النقود عادة ما تؤدِّي للإصابة بالملل، سأنتقل من نسب السك والقيم الاسمية إلى المعركة السياسية التي عجل بوقوعها نقص العملة. ظل لأصحاب الأراضي من النبلاء والأرستقراطيين رأيٌ يؤخَذُ به داخل الطبقة الحاكمة في إنجلترا، وأرادوا تحاشي أي تخفيض في قيمة العملة؛ لأن العملات الجديدة ذات القيمة الأقل من شأنها أن تؤدي إلى بعض التضخم، الأمر الذي سيعود بالنفع على مستأجري أراضيهم الذين يسددون لهم الإيجارات، لا عليهم هم. وإدراكًا منهم لذلك الأمر، كانوا يبتغون مزيدًا من المشورة حول خيار إعادة السك.

لجئوا إلى الفيلسوف العظيم جون لوك، الذي كان يبدي اهتمامًا بالمواضيع الاقتصادية، لا سيما حين كانت تمس الشئون السياسية. رفض لوك فكر وزير الخزانة، وأصر على أن للفضة قيمة طبيعية ليس بمقدور الملوك ولا المشرِّعين تغييرها، وقال: إن هناك مصدرًا واحدًا فقط للقيمة في العملة النقدية المعدنية، وإن هذا المصدر هو محتواها من الفضة، وإن أي تغيير في قيمة العملة لن يكون سوى تدليس عديم الجدوى؛ فالشلنات لم تكن سوى فضة في صورة أخرى، والعملات الفضية لم تكن تساوي سوى القيمة الحقيقية للفضة التي تحتويها، ولم يكن بمقدور الملك إيجاد قيمة أخرى لها من خلال تحويلها إلى عملة نقدية. كان لوك مخطئًا، لكنه كان واثقًا، كعادة الفلاسفة دائمًا.

يدرك من هم على دراية بفلسفة لوك السياسية أنه كان غير موضوعي في هذا النقاش. ففي تفسيره لكيفية تشكيل الناس الحكومات، كان قد أكَّد على أن استخدام الأموال نشأ في دولة الطبيعة. ولأن الناس أكسبت الذهب والفضة قيمة وهمية، أصبحَا مفيدين باعتبارهما مخزونًا للقيمة؛ مما يعني أن المِلكية نشأت قبل نشوء الحكومة، وهذه نقطة رئيسية في حجته التي تنادي بالحد من سلطة الحكومة. أما المال — الآلية الأساسية في مجال التجارة — فقد نشأ على نحو طبيعي ولم يعتمد على سلطة أحد. ولا يمكن أن تكون العملات الفضية أكثر قيمة من السبائك الفضية أو أقل قيمة منها لأن الحاكم لا يملك سلطة تعزيز قيمة أي شيء طبيعي. والناس حين أوجدوا الحكومة، فعلوا ذلك بغية حماية حياتهم وحريتهم وممتلكاتهم، وفضلوا الحكومة باعتبارها وسيلة مريحة للقيام بذلك. لقد قدم لوك للإنجليز نظرية طبيعية للالتزامات السياسية قائمة على وصف غير دقيق لآلية النقود.

انضم أكثر من ثلاثمائة من مؤلفي الكتيبات — من ضمنهم إسحاق نيوتن ودانييل ديفو — إلى النقاش الذي أعقب ذلك حول فكرة إعادة السك المقترحة. كانت هذه المسألة تدور حول ما إذا كان ينبغي إعادة سك العملات مقطوعة الحواف مع الإبقاء على نفس محتوى الفضة الرسمي أو مع تخفيض قيمتها لتتناسب مع الانخفاض الذي جرى عليها جراء قطع حوافها بالإزميل. وفي ظل الانقسام الشديد بين المتعارضين، نقلوا مفهوم النقود إلى مستوى جديد من التعقيد. وبدأ معارضو لوك — الذين كان معظمهم من التجار وأصحاب المشاريع — بالحقائق الموجودة على أرض الواقع، كما كانت بالضبط. فقد كان سك الفضة في شكل عملات يضيف قيمة، كما تبين حينما قبِل الناس بالعملات مقطوعة الحواف بنفس سهولة قبولهم العملات السليمة. والملك الذي كان يصدر العملة بموجب سلطته كان قد أضاف قيمة خارجية إلى القيمة الحقيقية الذاتية للفضة بتحويلها إلى عملات قانونية.

من المنطلق العملي لا الفلسفي تحرر عدد كبير من هؤلاء الكُتَّابِ من موقف جون لوك المتشدد دون دليل، وقبلوا بتعريف النقود على أنها وسيلة للتبادل يمكن فصلها عن المعادن النفيسة، وقلبوا تفسير المسبب والنتيجة الذي كان قد طرحه لوك حول نشوء النقود؛ إذ قالوا إن منفعة امتلاك وسيلة للتبادل شجعت استخدام الذهب والفضة، وما من قيمة وهمية تجعل الذهب والفضة عنصرين مفيدين بوصفهما عملة متداولة؛ فالنقود تحمل قيمة لأنها نافعة، لا لأن البشر في دولة الطبيعة قد منحوها قيمة وهمية. وقد هزأ أحد الكتاب من لوك لادِّعائه بأن «الحكومة لا تمتلك قدرة في مجال السياسة تزيد على قدرتها فيما يتعلق بالمسائل الطبيعية».18 وقد أصاب كَبِد الحقيقة؛ فجون لوك كان يقول إن قدرة الحكومة على التأثير على قيمة النقود لا تزيد على قدرتها على وقف عاصفة ممطرة. لكن لوك لم يكن بأي حال آخر فيلسوف يزعم أن العلاقات الاقتصادية طبيعية لا سياسية.
أشار نقاد آخرون — في محاولة لاستنباط مزيد من الاستنتاجات الجدلية — إلى أن لوك «يمُدُّ عنايته لتشمل الدائنين وملاك الأراضي، دون النظر إلى المستأجرين أو المدينين، والرجال الذين اقترضوا — على مدى الأربع أو الخمس سنوات الأخيرة — آلافًا من الجنيهات مقطوعة الحواف، وأنه يرى أن ما من شيء غير عقلاني أو مجحف في إرغامهم على سداد ديون كهذه مجددًا بالنقود الكاملة التي قد تزن ضعف وزن العملات الناقصة».19 إن هذا البيان الواضح للمصالح التي تنطوي عليها هذه الحالة جذب الانتباه إلى اختلاف التأثير الناجم عن التضخُّم على من يملكون النقود وعلى من يعتمدون عليهم للعيش. وكان هذا الاتهام — الذي جرى التعبير عنه بهذه العلنية — يهدد بتقويض نفاذ بصيرة مستشاري الملك فيما يتعلق بحكمهم على الأمور بنزاهة لما فيه مصلحة الجميع.

وعلى الرغم من أن حجة جون لوك كانت أسوأ الحجج في هذا الجدل، فقد كان لها التأثير الأكبر. وعندما اتخذ البرلمان إجراء في نهاية المطاف، قرر جمع العملات الناقصة وإعادة سكها وفقًا لقيمتها المعيارية الأصلية. وتحققت الكارثة التي تنبأ بها معارضو لوك تحققًا كاملًا. فالعملات التي أعيد سكها لم توفر للإنجليز عملة جيدة، وسرعان ما جرى صهر الكثير منها وإرساله للخارج في شكل سبائك. وأدى تنصيف عدد العملات الفضية المتداولة في السوق إلى حدوث انكماش اقتصادي حاد، وكان مُلَّاك الأراضي والدائنون هم من حصدوا المكاسب. وتسبب نقص النقود في ضغط استثنائي لا سيما على الفقراء الذين قاموا بأعمال شغب في بضع مدن، بل إن الحكومة نفسها واجهت صعوبة في سداد أجور جنودها.

إن رواج العملات الفضية الناقصة اعتمادًا على قيمتها الاسمية رغم نقصان رُبع محتواها أو نصفه من الفضة أوحى بإمكانية استخدام أشياء أخرى كنقود. فبما أن مكانة النقود باعتبارها عملة قانونية هي أهم ما يؤخذ في الحسبان؛ فمن ثَمَّ ينبغي أن يكون من الممكن إيجاد بدائل للاستعاضة عن الذهب والفضة. وبدأ الكُتَّاب في الترويج لمشاريع مختلفة لزيادة العملة من خلال إصدار أوراق من البنوك العقارية.

التنمية الاقتصادية في ظل عهد إنجليزي جديد

في عام ١٦٨٩ اعتلى عرش إنجلترا الملكة ماري وزوجها الهولندي الملك ويليام، وهو الحدث الذي عجل بنشوب أولى حروب عديدة ضد فرنسا. كان للأحقاد التي أشعلت هذه الحروب تأثير اقتصادي أدى إلى تراجع في التجارة الأوروبية وارتفاع في التعريفات الجمركية. وكان على الملك الجديد أن يقبل بتحديد امتيازاته، علاوة على ما هو أسوأ من ذلك — أو ما هو أفضل من وجهة نظر الشعب — من حيث تقاسم السلطة منذ ذلك الوقت فصاعدًا مع البرلمان. وفي خطوة واحدة قلَّص الإنجليز السلطة المركزية وركزوها في السيادة الجديدة؛ الملكية الدستورية. بشَّر كِلَا هذين الإنجازين بالخير للأعمال التجارية؛ فبعد خمس سنوات، أسس البرلمان بنك إنجلترا، وهو مؤسسة شبه عامة لتلقي عائدات الضرائب، وإقراض الحكومة، وإصدار كمبيالات يمكن تداولها كعملة.

كان تحصيل الضرائب في معظم البلدان الأوروبية عملية مساومة مطولة بين الحكومات المركزية ومختلف المحافظات أو الولايات أو المقاطعات التي تشملها، وكانت الملكيات تنفق دخلها وفقًا لما تراه مناسبًا. وفي أعقاب الثورة الإنجليزية المجيدة، طبقت النسب الموحدة عبر أنحاء البلاد، وبات البرلمان يراقب كيف ينفق الملك عائدات الضرائب؛ وأدت الشفافية الجديدة في تحصيل الضرائب وإعداد الميزانية إلى تعزيز اليقين والقابلية للتنبؤ، وكلاهما مهم للأعمال التجارية. غالبًا ما يؤكد الحديث عن الأسواق الحرة خوض المجازفات، الذي يشكل أمرًا لا بد منه. لكن المستثمرين يحرصون على حماية رأس المال ومستعدون تقريبًا لفعل أي شيء في سبيل تلافي المجازفات. وفي إنجلترا فعل النظام الملكي الدستوري والبنك الوطني كلا الأمرين. وفي عام ١٧١٢ أسس البرلمان خدمة بريد وطنية، وبحلول عام ١٧١٥، باتت الإحصاءات التجارية متاحة لتوجيه عملية رسم السياسات.

ثم أسس المُضارِب الاسكتلندي الجريء جون لو أول بنك في فرنسا واستخدم تلك المنشأة لجمع الأموال بغرض تطوير جزء من ولاية لويزيانا الفرنسية. أطلق على البنك اسم شركة مسيسيبي، وأصدر أوراقًا مصرفية من أجل تطوير آلاف الفدادين المربعة في العالم الجديد. وأدت ثقة الحكومة في جون لو إلى حصوله على امتيازات سك العملة وتحصيل الإيرادات. وكاد الناس يقومون بأعمال شغب جراء تهافتهم على شراء أسهم في شركته، لكنه لم يعرف الوقت المناسب الذي ينبغي التوقف فيه عن إصدار هذه الأسهم؛ فقد أسفرت زيادة المعروض منها عن حدوث إفلاس مذهل، وتحولت شركة مسيسيبي إلى فقاعة مسيسيبي، وهو مصطلح جديد لوصف التضخم المفاجئ وما يعادله من انكماش مفاجئ يحدث لشيء ذي قيمة، سواء أكان نوعًا معينًا من الاستثمار، أو زهور التيوليب، أو العقارات.

عَرَف لُو كيف يخلب لب الناس بفرص تحقيق الثروات في المستقبل. ظهرت نجاحات أخرى كالتي حققها لو في عشرينيات القرن الثامن عشر على نحو متكرر في تاريخ الرأسمالية، لافتة النظر إلى المكون السيكولوجي لحافز الربح. في فرنسا، تحولت قصة لو التحذيرية إلى قصة تحذيرية مبالغ فيها؛ فلم تسمح الحكومة بتداول النقود الورقية على مدى سبعين عامًا أخرى بعد ما حدث. وحتى في إنجلترا، أدت أزمة لو إلى إثارة حفيظة الناس إزاء النقود الورقية واستخدامها كمحفز اقتصادي. وتبلور معتقَدٌ جديد؛ كان الفيلسوف ديفيد هيوم يؤكد أن المعروض من المال لا علاقة له بالازدهار الذي يعتمد على الأشياء الحقيقية في الاقتصاد، كالمحلات التجارية والمخازن والمصانع، وأن أي زيادة في النقود لن تسفر إلا عن حدوث تضخم. بات هذا هو الموقف الأكاديمي التقليدي طوال القرن التاسع عشر، وعبر عنه ديفيد ريكاردو بوضوح، وورد ذكره في كتابات جون ستيوارت مِل الرائعة.20
في الواقع، وضع الهولنديون أول نظام مصرفي حديث، وقد كانت له الريادة في عملية إصدار الكمبيالات المدعومة بالذهب الموجود في خزانة البنك المصدر، وأسسوا أيضًا أول بورصة وأوجدوا طريقة لإقراض الأموال بضمان العقارات، فيما يُعَد أول أشكال الرهن العقاري الموجود في وقتنا الحالي. إلا أنهم لم يضعوا نظامًا ضريبيًّا مركزيًّا سوى مع مطلع القرن التاسع عشر، حينما أصبح لهولندا ملك. لكن حتى في ذلك الحين لم يكن باستطاعتهم مراجعة ميزانية ملكهم الجديد. أما في فرنسا فقد كانت الأمور أكثر تعقيدًا؛ حيث كان على النظام الملكي الحاكم أن يتفاوض مع المقاطعات القوية من أجل تحديد النِّسب الضريبية، وفي الوقت نفسه كانت الإعفاءات الضريبية الفرنسية تغطي مقاطعات بأكملها بالإضافة إلى معظم النبلاء؛ فوقع عبء الضرائب على كاهل الفقراء الذين أدى فقر حالهم إلى قلة العائدات؛ ومن ثَمَّ أسفر عدم النجاح في جمع ما يكفي من العائدات إلى إعاقة أعمال الحكومة.21
أصبح بنك إنجلترا أهم المؤسسات المالية في القرن الثامن عشر. وكان الممولون البريطانيون يقرضون حكومتهم عن طيب خاطر؛ ثقة منهم في قدرتها على سداد القروض نتيجة للشفافية في التصريح بعائدات الضرائب التي تحصل عليها. كانت إدارة الدَّين العام تقضي بأن يكون مديرو بنك إنجلترا على علم بتفاصيل اقتراض الحكومة وإيراداتها من الضرائب. وبالاعتماد على هذا الوعي كان من السهل الإبقاء على أسعار الفائدة منخفضة من خلال تقييم المخاطر. ولعل هذه الحقائق — أكثر من أي حقائق أخرى — هي التي جعلت انتصار بريطانيا العظمى ممكنًا في معظم الحروب الأوروبية في القرن الثامن عشر (باستثناء الثورة الأمريكية). كان بنك إنجلترا يعمل على استقرار أسواق رأس المال، التي كانت تلعب دورًا متزايد الأهمية في ظل ازدياد كلفة المشاريع التجارية. كان مبلغ الضرائب الذي تفرضه الحكومة البريطانية على الفرد الإنجليزي يفوق ما كان يُفرض على الفرد في أي بلد أوروبي آخر، لكن الشعب كان يحصل على ما يوازي الأموال التي دفعها في الضرائب من خلال الخدمات والاستقرار. حتى البحرية الملكية كانت تعمل يدًا بيدٍ مع الشركات البريطانية؛ إذ كانت حمايتها ترافق أساطيل التبغ والسكر إلى أرض الوطن.22
تمخضت النقاشات التي جرت في نهاية ذلك القرن عن شعور قوي بأن عناصر أي اقتصاد قابلة للتداول وسائلةٌ، وهذا يتناقض تمامًا مع الجمود الذي طالما كان مرغوبًا. ففي بعض الأحيان كان امتلاك النقود أفضل من امتلاك البضائع، وفي أحيان أخرى كان العكس هو الصحيح. وقد أوضح أحد مؤلفي الكتيبات أن الاستثمارات في الأراضي والتجارة تميل نحو نوع من التوازن بسبب «التحول الذي يحدث في كثير من الأحيان؛ فالرجل الذي يملك المال اليوم هو الرجل الذي سيملك الأرض في الغد، والرجل الذي يملك الأرض اليوم سيغدو الرجل الذي يملك المال في الغد؛ إذ إن كل رجل وفقًا لمشاعره إزاء الأشياء يحول ممتلكاته ويوجهها وفق ما يتراءى أنه سيكون أكثر الاتجاهات نفعًا له».23 في الواقع، كان امتلاك الأرض في إنجلترا ينطوي على مكانة اجتماعية لم تكن تمنح أبدًا «لرجل المال»، لكن هذا المؤلف نقل بدقة التقدير الجديد الذي بات يُكِنه الإنجليز للنفعية في المسائل التجارية.

ما عاد الناس في إنجلترا يفكرون في السوق باعتبارها مكانًا للمساومة المباشرة بين البائع والمشتري، وشرعوا يتحدثون عنها ككيان خفي يحتوي آلاف التعاملات. وعلى مدار القرن، بلغت الكتابات عن الأسعار والطلب والسياسات التجارية درجة من الحنكة مثيرة للإعجاب، وفقدت النقود والمواد الغذائية والأراضي مكانتها الخاصة، وباتت تماثل بعضها بالرجوع إلى الأسعار والقيم. وقد عملت الفكرة القائلة باشتراك البشر كافة في الطريقة التي يجرون بها معاملاتهم التجارية على دحض المعتقد السائد القاضي بعدم المساواة الطبيعية. بيد أن استسلام حماة الأخلاق والأوضاع الاجتماعية المستتبة للأفكار الشائعة عن تشابه شركاء السوق استغرق وقتًا، لكن الكُتَّاب الاقتصاديين كانوا قد مهدوا بالفعل للغزو القادم للمنطق التجاري. ما من أحد كان يرمي إلى تغيير قيم المجتمع، بل حدث ذلك من خلال عملية الاستجابة للتجارب الجديدة، علاوة على أن خبرة الإنجليز في التحليل الاقتصادي منحتهم ميزة لم تكن لدى الهولنديين ولا الفرنسيين، الذين هم أقرب منافسيهم في جني الثروة. بالإضافة إلى أن النظام القديم لم يقابَل بالرفض من الناحية الفكرية في أي مكان آخر مثلما حدث ذلك بالكامل في إنجلترا. كان هناك نقاش نظري محدود حول السوق في هولندا، وركز المفكرون الاقتصاديون في فرنسا على تطوير السياسات الحكومية المالية والنقدية بدلًا من ترك مصالح العمل التجاري تفرض كلمتها.

فكر اقتصادي جديد

منذ أواخر القرن السابع عشر كان المراقب العام الشهير للملك لويس الرابع عشر، جان بابتيست كولبير، قد جعل الحكومة الفرنسية جزءًا لا يتجزأ من خطة للعمل التجاري. هذا شجع بفعالية تكنولوجيات جديدة، وأسس هياكل إدارية للتعامل مع الصناعة والعمل، وقدم النصح بوجه عام بشأن كيفية تعزيز الأرباح التي لم تجلب دومًا نتائج سعيدة. وبعد مرور جيلين، ألهمت الضرورة الجذرية لتحسين قدرة فرنسا على إطعام شعبها مجموعة جديدة من الاقتصاديين من ذوي العلاقات الوثيقة بالملك؛ فكان هؤلاء المحللون الذين اتخذوا اسم «الفيزيوقراطية» بمعنى سيادة الطبيعة، يمنحون الزراعة منزلة خاصة تقارب منزلة المسائل الروحية، وأكدوا أن كل القيم نشأت من الأرض؛ ومن ثم ينبغي أن تقع جميع الضرائب على هذا الأساس الاقتصادي.

ربما ما من حالة تبين مدى الترابط الوثيق بين النظريات والوقائع الاجتماعية كالحالة الفرنسية؛ فقد نجح الإنجليز في إنتاج الوفرة بينما كانوا في الواقع يحررون الفلاحين من القيود القانونية. أما الفيزيوقراطيون المثقلون بالنظام الملكي المطلق، فقد اعتقدوا بأن ما من سلطة سوى سلطة الملك قادرة على توجيه البلاد نحو فعل الأمور الضرورية لبلوغ التنمية الاقتصادية التي حققتها إنجلترا، أكبر منافسة لهم. وبخلاف كولبير، أراد الفيزيوقراطيون مزيدًا من الحرية للفلاحين والتجار والمصنعين، لكن كانت إعانات الحكومة التي كانت تُحصل من موظفين عموميين أمثالهم ضرورية لمساعدة شركاء السوق على إعانة أنفسهم.24
ورغم أن حمل نظام ملكي يحتضر على إصلاح قطاع الزراعة في البلاد كان جهدًا مهولًا، واصل الفيزيوقراطيون سعيهم إلى ذلك. وكانوا — في كتيباتهم العديدة — يحثون على تحويل الاستثمارات من القطاعين الصناعي والتجاري إلى قطاع الزراعة.25 وبفضل ملاحظتهم للأرباح التي تحققها بريطانيا العظمى من التجارة الحرة في الحبوب، دعوا إلى التجارة الحرة، بالإضافة إلى الدعوة لفرض ضريبة موحدة. وفي سبعينيات القرن الثامن عشر، حينما أصبح البارون تورجوت هو الوزير الأول للملك، عمد إلى تحرير السوق المحلية للحبوب رسميًّا، لكن الطبيعة لم تقف في صف تورجوت؛ فقد أدت المحاصيل السيئة إلى تقويض مجهوداته ولعبت دورًا خدم خصومه الكثيرين. وفي نهاية المطاف، بلغ الفيزيوقراطيون من قلة العدد والضعف والإسراف في التنظير — على الرغم من كثرة أصدقائهم الذين يشغلون مكانات سامية — ما أعجزهم عن التغلُّب على المقاومة المؤسسية لكافة أشكال التغيير في فرنسا ذات النظام العتيق.

إذا تأملنا الموقف من منظورنا الحالي يمكننا أن نرى أن الفيزيوقراطيين كانوا يحاولون أن يقيموا — بالأمر — ما سبق أن حقَّقَه رواد الأعمال الإنجليز لأنفسهم حين استفادوا من التراخي في تطبيق القانون من أجل إقامة علاقات تجارية محلية داخل السوق الوطنية. لكن المغزى هنا هو ما يهم؛ فقد قام الأفراد المقدامون بدور الابتكار في إنجلترا سواء حينما كانوا يطورون المزارعين ومُلَّاك الأراضي، أو مديري الشركات التجارية المساهمة، أو التجار الدخلاء، أو بائعي الجبن، أو المقرِضين المحترفين. لكن لم تكُن لديهم رؤية أوسع، وكانوا يخفقون في كثير من الأحيان بقدر ما يصيبون أهدافهم المرجوة. فقد استغرق تشكيل العملية المُثلى في كثير من الأحيان عدة أجيال من المحاولة والخطأ. لكن المشاريع الاقتصادية الإنجليزية لم تنجح فحسب في تحقيق نتائج مثيرة للإعجاب، بل الأهم من ذلك أنها نجحت أيضًا في إلقاء الضوء على الفوائد الاجتماعية غير المتوقعة التي تنتج عن السماح للرجال والنساء باتخاذ الخيارات التي تحقق مصلحتهم الشخصية.

وعلى الرغم من الوتيرة البطيئة لنشأة الرأسمالية؛ فإنها كانت في الواقع أكثر ديمومة لأنها علَّمَت الناس العاديين وغيَّرتهم أثناء انتشارها. أما التغيير الذي تفرضه السلطة فيكون مرهونًا بحاكم أو بمجموعة من الحكام. فقد يرى أولئك الذين يتمتعون بالسلطة السياسية مصالح أخرى أو قد لا يتفق من يخلفونهم معهم في أهدافهم، مثلما حدث في حالة إمبراطور أسرة مينج الذي أرسل القائد زينج هي لاستكشاف الساحل الشرقي لأفريقيا. إلى جانب هذه النقطة، من الجدير أن أضيف أنه بمجرد ظهور الرأسمالية كنظام اقتصادي سائد، اكتسب الرأسماليون أيضًا سلطة بوصفهم فئة جديدة من رجال الأعمال الذين يستخدمون سلطتهم لقمع الاضطرابات العمالية، لكنهم لم يَمسُّوا القوانين القديمة التي كانت تحكم علاقة الأسياد بالعبيد، وتلحق ضررًا بالغًا بالعمال، فضلًا عن القوانين التي جعلت المنظمات العمالية شركاء في مؤامرات إجرامية. وهكذا لم تَقضِ الرأسمالية على الطبقات العليا المستبدة، بل غيرت فحسب الأساس الذي كانت تقوم عليه. وباتت سلالم الحراك الاجتماعي أكثر انتشارًا في المشهد، لكن كانت المعاناة من نصيب من لا يملكون رأس المال مثلما كانت في السابق من نصيب من لا يتمتعون بمكانة اجتماعية موروثة.

في إنجلترا، عاود المذهب المركنتلي الظهور في القرن الثامن عشر، لكن فعليًّا، كانت معظم الشركات قد أفلتت من القيود القانونية. لكن أنصار المذهب المركنتلي استفادوا من المنافسات الدولية الشرسة للقرن الثامن عشر في المطالبة بفرض رسوم جمركية مرتفعة على الواردات من أجل تعزيز موقف الصناعات الوطنية، علاوة على ما يمكن أن يصاحب ذلك من مساعدة المصنِّعين من خلال استخدام ارتفاع الأسعار في الحد من كمية المشتريات من السلع الأجنبية التي عادة ما توصَفُ بأنها من الكماليات. ربما كانت هذه الحملة الشرسة هي التي دفعت العالِم بفقه اللغة صامويل جونسون إلى التعقيب بأن الوطنية هي الملاذ الأخير للأوغاد! ربما كان المركنتليون يهزون رءوسهم إنكارًا لقدرة الرجل والمرأة الساعيين إلى مصالحهما الشخصية على تحقيق النظام في السوق، لكنهم لم يحرزوا نجاحًا كبيرًا في إقناع الآخرين بذلك.

كان بإمكان الطبقة العليا المحافِظَة إبطاء معدل التغيير، وكان بإمكان الفقراء المطالبة بمزيد من التشريعات المتعلقة بالأنشطة الخيرية، لكن المشاريع الخاصة هي التي أحدثت دفعة التحرك. وعندما كانت أسعار المواد الغذائية ترتفع — كما يحدث كلما وقعت خسارة في الحصاد — كان يدور الكثير من الحديث عن كومنولث يحظى فيه الضعفاء بأولوية أولى. لكن في نهاية الأمر، لاح الانفراج طويل الأمد في شكل التقنيات الزراعية المحسنة، إلا أن القوانين التي تجرِّم الاحتكار والاستحواذ ظلت موجودة في كتب القانون حتى نهاية القرن الثامن عشر، لكنها آلت إلى البطلان بعد أن بات مسوِّقو المحاصيل الغذائية يتصرفون كما يحلو لهم تقريبًا في المحاصيل الوافرة التي تعلموا إنتاجها.

اتسمت تطورات فكرية معينة بالأهمية الشديدة في بداية التغير الاقتصادي ثم باتت أقل أهمية بعد أن ترسخت الرأسمالية. وتعد اليابان مثالًا على هذا. ففي عام ٢٠٠٦ اعتمدت اليابان للمرة الأولى نظام هيئة المحلَّفين، وكانت فكرة مشاركة من لا يمتهنون القانون في النظام القضائي تتعارض تعارضًا بالغًا مع الانحياز المتجذِّر ضد التشكيك في المرجعيات إلى حَدٍّ جعل الحكومة مضطرَّةً لإطلاق حملة علاقات عامة ضخمة بغية تعليم الرجال والنساء كيفية التصرف عند التواجد ضمن هيئة محلَّفين. لكن قلة فقط من اليابانيين كانوا مستعدين للتشكيك في آراء الآخرين أو التصريح بآرائهم الخاصة على الملأ، وهذان هما صميم عمل مداولات المحلَّفين. قد لا يبدو أن هذه السمات الثقافية تعوق التقدم الاقتصادي، لكنها يمكن أن تعوقه في بداياته. وعلى النقيض من ذلك، في نهاية القرن السابع عشر، كان الرجال والنساء الإنجليز قد اعتادوا الجعجعة والنقاشات العامة حول كل شيء بدءًا من الخلاص إلى سوء طباع الفقراء. وقد تبين أن التشكيك في المرجعيات كان ضروريًّا كي تحوز المستجدات القبول. وبمجرد أن تصير الممارسات الرأسمالية معمولًا بها بحيث يراها الجميع، قد تعتمدها السلطات، كما فعلت اليابان في أواخر القرن التاسع عشر؛ فقد تبين لهم أن الإصلاح الأوَّلي للمؤسسات الاقتصادية عمل صاخب وفوضوي ومثير للجدل، فما من أحد كان يعرف ما يجري بالضبط. ومن ثم فإن تقليد منتج مكتمل قد يكون أمرًا منظمًا، بل ومن الممكن التنبؤ بنتائجه.

بالإضافة إلى الانفتاح الفكري، لعبت خاصية الثقة — التي يصعب نيلُها — دورًا حاسمًا في السنوات الأولى للرأسمالية. ولعل جميع من درسوا التجارة في أطوارها الأولى للتوسع قد عقبوا على مدى صعوبة تحوُّل التجار إلى إيلاء ثقتهم بالوكلاء والعملاء في المناطق البعيدة؛ إذ إن إرسال بضاعتهم وأموالهم عبر الشبكات التجارية المعقَّدة كان في كثير من الأحيان يبدو كرهان على يانصيب. لذلك كان من المعتاد أن يرسل التجار الأوروبيون أبناءهم وأبناء عمومتهم وأصهارهم كي يكونوا وكلاء عنهم في جزيرة تينيريفي أو باتافيا أو بورت أو برينس لإدارة مصالح العائلة. وكان لإنجلترا بعض المميزات الواضحة فيما يتعلق بوضع أساس للثقة لأنها كانت تضم كتلة سكانية متجانسة إلى حد كبير يربو عددها على الستة ملايين نسمة. وفي حين كان الناس في مختلف المناطق يتحدثون لغات محلية، كانت اللغة الإنجليزية لغة دولية مشتركة، علاوة على أن مختلف النزاعات المذهبية بين البروتستانتيين بعضهم وبعض، وبين البروتستانتيين والكاثوليك كانت قد اختفت بدرجة كبيرة وامتثلت جميعها لكنيسة إنجلترا بنهاية القرن السابع عشر. وصارت الدوريات تحمل الأخبار من منطقة إلى أخرى. وكان الملك والبرلمان — وهذا يعني الملك بالإضافة إلى أعضاء مجلسي اللوردات والعموم — يعبران عن الأمة بأسرها. وتزايد لجوء الناس إلى المحكمة في النزاعات على الملكية خلال القرن الثامن عشر. لقد كان الإنجليز شعبًا شكسًا مولعًا بالتقاضي، لكنهم كانوا يثقون في مؤسساتهم للفصل بعدالة فيما يتعلق بمصالحهم.

كانت الحرب الأهلية الإنجليزية قد زرعت الانقسام بين صفوف النخبة، لكن حين اعتلى العرش الملك ويليام والملكة ماري، تولى جيل جديد أكثر نزوعًا نحو النفعية مقاليد البلاد. ورغم أن القوانين الإنجليزية طالما حمت الممتلكات، باتت وثيقة إعلان «حقوق الإنجليز» لعام ١٦٨٩ شعار المواطنين الإنجليز فضلًا عن المستوطنين منهم في مستعمرات أمريكا الشمالية. وبينما كانت الطبقة العليا تؤيِّد القوانين الصارمة التي تحارب الجرائم ضد الممتلكات، وكان الرعايا الكاثوليك والمعارضون يُستبعدون من تولي المناصب، كان الرجال والنساء الإنجليز يختلطون بحُرية أكبر عابرين حواجز الطبقة والمكانة الاجتماعية على نحو يفوق اختلاط أقرانهم في أيٍّ من البلاد الأخرى، علاوة على أن تبادل الآراء من خلال المواد المطبوعة امتص الكثير من سم الصراع وأتاح نشوء توافق حول الدين والاقتصاد والتوازن الدستوري بين الملك والبرلمان. لقد وفَّرَت هذه الأشياء جميعها أسسًا عميقة للثقة، وصار الإنجليز يتشاركون نفس الكبرياء ونفس الأهواء، وبطريقةٍ ما علمتهم هذه القناعات المشتركة أن يثقوا بالأجانب.

اكتسبت دراسة الاقتصاد — بوصفه فرعًا من فروع المعرفة — تماسكًا واضحًا بظهور رائعة آدم سميث «ثروة الأمم»، وعلى مدى القرنين التاسع عشر والعشرين، صارت دراسة الاقتصاد مهنة، شأنها في ذلك شأن دراسات مجتمعية أخرى. واكتسبت مادة الاقتصاد ما يكفي من الدقة لوضع نظريتيها الرئيستين في الحساب والإحصاءات العشوائية. لكنني أشك بشدة في هذه الدقة حين تُطبق على ما هو أكبر من معدل فردي أو مقياس واحد؛ فاقتصاد أي بلد جزء لا يتجزأ من ثقافتها التي تشمل خليطًا من الصفات التي تؤثر في الحياة الجماعية. و«تؤثر» هي الكلمة المناسبة هنا؛ لأن ثقافة الحياة اليومية مؤلَّفة من أمور مفعمة بالحياة كالأحاسيس والقناعات والتوقعات والمكاره والمحرمات والملذات السرية والتصرُّفات المخلة والأعراف وأنماط التهذيب. ومن ثَمَّ لا يمكن لمثل هذه الفوضى أن توضع في معادلة رياضية. وبينما تحمل تنبؤات العلوم الاجتماعية بوجه عام التحذيرَ بأنها تظل صحيحة ما دامت «جميع العوامل الأخرى ثابتة»، نادرًا ما تظل العوامل الأخرى ثابتة في الواقع.

لا يعتقد كثير من الباحثين أن الرأسمالية وُجدت قبل أن يظهر تركُّز رأس المال في المنشآت الصناعية بطبقاتها العاملة؛ أي إن مصطلح الرأسمالية بالنسبة لهم مرادف لعملية التصنيع. ويرى آخرون أن الرأسمالية قديمة قدم الحضارة الأولى، عندما بدأ الرجال والنساء يخزنون الثروة من أجل بعض المشاريع المستقبلية. وأنا أعتقد أن الرأسمالية بدأت عندما صارت استثمارات القطاع الخاص تحفز الاقتصاد، وعندما اكتسب رجال الأعمال ومؤيدوهم القدرة على إخضاع المؤسسات السياسية والاجتماعية لمطالبهم. في حالة إنجلترا، حدث هذا في نهاية القرن السابع عشر. فقد بات الذين يروجون لاقتصاد السوق يحظون بتأييد كبير من خلال خطاب عام حول كيفية تحقيق الأمم الثراء؛ فصارت أشياء كبراعة الإبداع، والعمل المنضبط، والتجريب المدفوع بالتعليم؛ جميعها جزءًا من أخلاقيات جديدة. ورغم أن هذه الطرق الجديدة للنظر إلى عالم العمل كانت قد تعايشت لفترة طويلة مع القيم القديمة التي شددت على أهمية المكانة، وعدم التغير، والالتزامات المجتمعية؛ فإن القيم المثلى لحفز الإنتاجية صار لها الهيمنة في نهاية المطاف. وبينما كان من الممكن أن يطمح الشبان الموهوبون في الماضي أن يكونوا من رجال الدين، أو حتى من رجال الحاشية، صارت وظائف المجالات الصناعية والمالية وتجارة التجزئة والتجارة الخارجية موضع إغراء مع حلول القرن الثامن عشر.

لا يمكن أن توجد الرأسمالية — التي تختلف عن الممارسات الرأسمالية المقصورة على فئة بعينها — دون أن توجد ثقافة رأسمالية. ولا يمكن أن توجد ثقافة رأسمالية إلا حينما يجري الطعن في صحة الأنماط الرئيسة للمجتمع التقليدي والتغلُّب عليها. لكن يجب التأكيد على أن عادات التنظيم الاجتماعي النَّزَّاع نحو التقليدية لا تنقرض بهيمنة الرأسمالية، رغم أن هذه النقطة كثيرًا ما لا تنال التأكيد الكافي. إنما تعيد هذه العادات حشدَ صفوفها لاستئناف القتال مجددًا تحت راية قادة جدد وفي سبيل أهداف جديدة؛ ومن ثَمَّ يجب أن يحتوي أي طرح لتاريخ الرأسمالية على ما يصاحبه من تاريخ للكفاح ضد الرأسمالية، والذي يُطرح في بعض الأحيان تحت مسمى نظرية جديدة، لكنه في كثير من الأحيان يكون مجرد إعادة تسمية لقيم كانت مهيمنة قبل القرن الثامن عشر.

وبينما أصف بقدر كبير من التفصيل كيف حل النظام الرأسمالي محل نظام قائم يحظى بالتوقير، أودُّ أن أشدد على صعوبة مثل هذا التطور؛ فأنا أريد القراء أن يقاوموا إغراء النظر إلى ظهور الرأسمالية في المشهد التاريخي وكأنه أمر حتمي؛ لأن هذا غير صحيح. ولعل عدد المجتمعات التي لم تُعدِّل من توجهاتها أو عملياتها على النحو الذي تستلزمه إقامة اقتصاد صناعي يعزز صحة هذه النقطة. تستطيع المؤسسات الاجتماعية، كالأسرة والعقيدة وأيٍّ من أنواع النظم السياسية — استبدادية أو فوضوية — أن تمارس تأثيرًا مستقلًّا هائلًا على القرارات الاقتصادية. وقد كان الجدل في الغرب وسيلة للتحدث عن العلاقات الاقتصادية التي افترضت أن التقدم الاقتصادي حتمي، وأن الرأسمالية قوة لا سبيل لصدها، لكن النماذج المختلفة للتنمية خلال القرون الأربعة الماضية تشير إلى أن بعض المجتمعات التقليدية قد حازت القوة التي مكَّنتها من كبح التغيرات التي تهدد طريقة معيشتها. علاوة على أن اختلاف أنماط النُّظُم في العالم اليوم — حتى ضمن الاقتصادات الرأسمالية — يبعث على توخي الحذر من الحديث عن المسلَّمات والتماثلات التي قد تظهر في العالم الطبيعي لكنها نادرًا ما تظهر في المجال الاجتماعي.

في الواقع، لم تكن الرأسمالية قط مجرد نظام اقتصادي؛ بل إنها مست كل جانب من جوانب الحياة، وتأثرت هي نفسها بكل منظومة أو هوية شكلت المشاركين فيها. خلقت الرأسمالية نظامًا ثقافيًّا جديدًا، وحفزت أذواقًا جديدة، وقدمت مفردات جديدة كليًّا لمناقشة تأثير المشاريع الخاصة على رفاهية المجتمع ككل. ومع مرور الوقت، فقدت الأساليب التقليدية للعمل والتفكير قوتها المسيطرة، وتحولت إلى خيارات تخضع للاختيار باعتبارها مسائل تتعلق بالذوق. وتشكلت روح جماعية مختلفة، لكنها لم تجعل الناس أكثر تحررًا بقدر ما حولت الحرية الاقتصادية والحقوق الفردية إلى قيم أساسية. وما إن باتت قدرة الرأسمالية المدهشة على توليد الثروة ظاهرة للعيان حتى رغبت معظم البلدان — على الأقل في الغرب — في تبنيها. فعندما ظهرت الرأسمالية في القرن الثامن عشر في إنجلترا، كان من السهل نسبيًّا على بلدان أخرى أن تحاكي الابتكارات الإنجليزية. واستطاعت هذه البلدان أيضًا أن تميز بين ما كانت ترغب في محاكاته، وما كانت تعده كريهًا في هذا الحراك؛ فلم تكن الرأسمالية الفرنسية مماثلة للرأسمالية الإنجليزية الأصلية، ولم تكن الرأسمالية الألمانية مطابقة لنسخة الرأسمالية الفرنسية من هذا النظام الاقتصادي المثمر والتي عُدلت بما يتوافق مع أساليب الفرنسيين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤