الفصل الخامس

وجها الرأسمالية في القرن الثامن عشر

كانت هناك مصانع في الحقول قبل أن تظهر المصانع المسقوفة. وكما هي حال النفط في القرن العشرين، لم يكن بالإمكان إنتاج السكر سوى في مناطق قليلة مميزة؛ كالبرازيل وجزر الكاريبي. وكالنفط أيضًا، كان السكر يحظى بالطلب في كل مكان؛ فدفع إغراء الأرباح التي تأتي من زراعة هذه السلعة الثمينة منافسي إسبانيا الأوروبيين إلى الأجزاء الاستوائية من العالم الجديد، حيث طوروا نوعًا كثيفًا من الزراعة، مستخدمين عمالة العبيد. وعلى مدى ثلاثين عامًا، شُحن أحد عشر مليون أفريقي على متن السفن كالماشية إلى نصف الكرة الأرضية الغربي. وعلى الرغم من أن إنجلترا هيمنت على التجارة إبان أوج ازدهارها في القرن الثامن عشر، شاركت فرنسا والبرتغال وإسبانيا والدنمارك وهولندا في الاتجار بالبشر. وهذا هو وجه الرأسمالية القبيح الذي ازداد قبحًا من خلال التبريرات السطحية التي قدَّمها الأوروبيون ليبرروا سخرة الرجال حتى الموت. يقولون إن النفاق هو الإجلال الذي تظهره الرذيلة للفضيلة. وفي هذه الحالة، خلف النفاق إرثًا مريرًا. ولتلطيف حدة وخز الضمير إزاء هذا الظلم العظيم، عقد الأوروبيون مقارنات عنصرية بغيضة مدت في عمر العبودية لما يزيد على القرن.

تزامن الفصل الأكثر إشراقًا — بل والأكثر إثارة للدهشة — في تاريخ الرأسمالية مع الأيام القاسية لمزارع السكر. بدأ ذلك في القرن الثامن عشر، حين اكتشف سلسلة من الرجال البارعين كيف يمكن جعل القوى الطبيعية تدفع، وتضخ، وترفع، وتدير، وتبرم، وتصهر، وتطحن كل أنواع الأشياء. لم يكن هناك أي تفكير في استيراد العبيد إلى بريطانيا العظمى، لكن أجور العمال المرتفعة مثلت حافزًا رائعًا دفع لإيجاد مصادر بديلة للطاقة.

وهذا أعطى دفعة للمخترعين الذين بدءوا ملحمة تكنولوجية لم يَزِدها مرور الزمن إلا تسارعُا. وبناء على تجارب القرن السابع عشر العلمية فيما يتعلق بالهيدروليات (علم السوائل المتحركة) والهيدروستاتيكا (علم توازن السوائل)، صمَّم هؤلاء المهندسون الرواد عبيدًا آليين، أو آلات استطاعت استغلال الطاقة. وعززت الحسابات العبقرية لإسحاق نيوتن — حول كيفية عمل الجاذبية على إبقاء الكواكب في أماكنها — احترامًا جديدًا للعقل البشري. وكما كتب شاعر القرن الثامن عشر ألكسندر بوب:

كانت الطبيعة وقوانينها مخبوءة في ظلمة الليل،
فقال الرب: ليكن نيوتن! فانبلج النور!

ثم أثبت توماس نيوكمن، وريتشارد أركرايت، وجيمس واط أن بإمكان أشخاص عاديين اقتباس الشرارة الأولى من نيوتن وبناء محركات تستطيع أن تعمل بجهد يفوق بكثير جهد البشر وحيواناتهم.

قد لا تبدو هاتان الظاهرتان — المزارع الأمريكية التي اعتمدت على عمالة العبيد، والبراعة الميكانيكية المتمثلة في ضخ الماء وصهر المعادن وتزويد مصانع النسيج بالطاقة — مترابطتين؛ فضلًا عن أننا بالطبع نكره ربط العبودية بإنجازات نظام قام على مشاريع حرة، لكن لا بد من الاعتراف بأنهما استجابتان توأمتان لمارد الرأسمالية الذي هرب من مصباح التقاليد إبان القرن السابع عشر؛ فكلٌّ منهما تمثل خروجًا جذريًّا على الممارسات السابقة. فعلى مستوى الزراعة مثلًا، لطالما كان زرع المواد الغذائية هو مهمة الفلاحين في كل البلدان، وكان عمل الفلاحين شاقًّا ومذلًّا، ومع ذلك قامت العائلات التي كانت مغروسة في العادات القروية بمهام متنوعة تتعلق بزراعة المواد الغذائية وتجهيزها. أما مزارع السكر فكانت ظاهرة جديدة خلت من التقاليد القروية، واستخدمت العمال الذين سيقوا من أوطانهم ليعملوا كالآليين، في ظل أنظمة ذات طابع عسكري؛ كي يزرعوا محصولًا جديدًا واحدًا.

لقد غيَّر اكتشاف طاقة الوقود الحفري للأبد علاقة البشر ببيئتهم الطبيعية. لم تكن مَلَكة الابتكار شيئًا جديدًا، لكن قوة البخار كانت كذلك؛ فقد تمكَّن البشر من قبلُ من اختراع آليات متقنة من دواليب مائية وطواحين هوائية ونوافير ومنافيخ وأسلحة نارية وسدود، لكنهم لم يسبروا أبدًا من قبلُ أسرار الفيزياء، أو يبتكروا طرقًا لاستغلال هذه الأسرار في تسخير قوى الطبيعة. وهكذا أحدث مقدار القوة التي بات من الممكن توليدها — فضلًا عن تعدد الاستخدامات التي يمكن استغلال هذه القوة فيها — تحولًا في عمليات الإنتاج في كل مكان. علاوة على أن القدرة على توليد أرباح — كتلك التي تتأتى من زراعة السكر — تفسر سبب استثمار الوقت والمال اللذين كان الناس على استعداد لإنفاقهما في تطوير قوة البخار. ورغم أن الزراعة والصناعة تطلبتا تركيزًا لرأس المال، كان استصلاح أرضٍ ما كي تصبح مزرعة سكر جديدة يكلف أكثر بكثير من إقامة مصنع قطن. أصبح هذا الاستثمار الرأسمالي الملمحَ الرئيسي للنظام الاقتصادي الجديد، وربما ما كان يمثل أهمية أكبر بالنسبة للرجال والنساء العاملين في ذلك الوقت، أن كلًّا من مصانع الحقول والمصانع المسقوفة وضعت أنظمة عمل تطلَّبت ساعات طويلة من الشغل المنضبط. صحيح أن أرباب العمل كانوا دومًا يفضلون العمل الشاق على عادات الاسترخاء والراحة، لكن استثمارهم الكبير في العبيد والمعدات حول هذا التفضيل إلى ضرورة حتمية.

غيرت السياسة في أواخر القرن السابع عشر تاريخ الرأسمالية، وذلك من خلال تغيير أنماط التجارة الأوروبية. فقد أدت المنافسات الشرسة بين العائلات الحاكمة إلى توتر العلاقات بين بريطانيا العظمى وفرنسا، وبين فرنسا من جهة والنمسا وهولندا من جهة أخرى، وبين إسبانيا وبريطانيا العظمى، وبين فرنسا من جهة وروسيا وإسبانيا علاوة على بعض الولايات الإيطالية من جهة أخرى. خاضت عدة مجموعات من هذه الدول الحرب بعضها ضد بعض ثماني مرات من عام ١٦٨٩ إلى عام ١٨١٥ على مدى فترات مجملها ٦٣ عامًا.1 وكانت إحدى العواقب الرئيسة لهذه العداءات انخفاض حادٌّ في التجارة فيما بين الدول الأوروبية، والتي كانت قد نَمت نموًّا كبيرًا خلال القرنين السابقين. تحولت بريطانيا العظمى وفرنسا الجارتان عن الشراكة التجارية فيما بينهما واتجهتا إلى ممتلكاتهما الخارجية. لكن الحروب في حد ذاتها جعلت زيادة الإيرادات ضرورةً مُلحَّةً؛ مما جعل الرسوم الجمركية الباهظة على الواردات السمةَ السائدة لذلك الوقت. وكان يُنتظر من المستعمرات الأوروبية المتعددة في العالم الجديد أن تستكمل الحاجات الاقتصادية للبلد الأم.

خلقت الحرب المستمرة بين القوى الأوروبية حلقة مفرغة؛ فالدول المتحاربة كانت بحاجة إلى الثروات التي تستمدها من آسيا والعالم الجديد لدعم حروبها. لكنَّ التنافس الحامي على السيطرة على هذه الأنواع من التجارة المربحة كان يزيد نار العداوة اشتعالًا. تواجهت فرنسا وإنجلترا في خمس بقاع مختلفة حول العالم: للتنافس على القطن والحرير في الهند، وعلى العبيد في الساحل الغربي لأفريقيا، وعلى مزارع السكر في منطقة الكاريبي، وعلى التحالفات مع الهنود الحمر في وادي نهر أوهايو في أمريكا الشمالية، وعلى الفراء في منطقة خليج هدسون. وقد علَّق الروائي الأمريكي جيمس فينيمور كوبر على هذا التنافس تعليقًا طريفًا في روايته «آخر رجال الموهيكان» حين ذكر أن الجيشين الفرنسي والإنجليزي في أمريكا الشمالية كانا مُضطرَّين إلى السفر لمسافات بعيدة كي يحارب أحدهما الآخر.

ونظرًا للدور المحوري الذي كانت تلعبه تجارة العبيد في تجارة السكر، كانت هي أشد ما استعرَت عليه المنافسة من الثروات الأوروبية على وجه الأرض. ويمكن للأرقام أن تصدم كل من يعي أهميتها؛ فمن عام ١٥٠١ إلى عام ١٨٢٠ حمل تُجَّارُ الرقيق ٨٫٧ مليون أفريقي مقيَّدين بالسلاسل إلى نصف الكرة الأرضية الغربي، وفيما بين عام ١٨٢٠ وعام إلغاء الرق نهائيًّا في البرازيل ١٨٨٨، أُرسل ٢٫٣ مليون أفريقي آخر إلى هناك. ورد إلى مستعمرات العالم الجديد ما مجملهم ١١ مليون رجل وامرأة من أفريقيا مقابل ٢٫٦ مليون أوروبي عبروا المحيط الأطلنطي خلال نفس الفترة. وخلال المائة ألف رحلة المنفصلة التي جلبت هذه الشحنة البشرية، كانت نسبة ٧٠٪ من هؤلاء البشر ملكًا لتجار بريطانيين أو برتغاليين.2

كان السكر أحد الكنوز الكبرى الأولى للرأسمالية، فضلًا عن أن نجاحاته أظهرت قدرة حافز الربح على التغلب على أي عوائق ثقافية تحول دون الاستغلال الشَّره. كانت العبودية شيئًا قديمًا؛ فعبيد المصريين بَنَوا الأهرام، وعبيد الرومان شيدوا الجسور والقنوات المائية، لكن ما أضافته الرأسمالية إلى العبودية تَمثل في الوحشية المتواصلة والمنظَّمة في مجال صناعة السلع على مستوًى لم يسبق له مثيل. ليس الحجم وحده هو ما يميز العبودية الحديثة عن سالفتها القديمة في اليونان وفي العصور التوراتية، بل العِرق أيضًا؛ فالعبودية قديمًا كانت في كثير من الأحوال تحوي مكونًا عرقيًّا نظرًا لأن العبيد كانوا يُؤخَذون أسرى حرب، لكن الحرب لم تكن عنصرية دائمًا. وحينما جلَب البرتغاليون إلى وطنهم الأفارقة الأسرى للعمل في لشبونة التي لم يكن يسكنها أحد بدءًا من القرن الخامس عشر، لم تكن هذه التجارة تختلف كثيرًا عن تجارة العبيد التي كان العرب يمارسونها لعدة قرون من قبلُ على امتداد وسط أفريقيا وشرقها. لكن بعد مائة سنة لاحقة، أضيف شيء جديد إلى هذه التجارة بالبشر: هو أن العبيد صاروا يُدمجون في نظام إنتاج متوسع؛ إذ كان أولئك الذين يرسَلون إلى منطقة الكاريبي يُخصَّصون للعمل في جماعات لغرس قصب السكر، وإزالة الأعشاب الضارة، وجني الحصاد، وسحق القصب في المطاحن التي كانت تنتج الدبس والسكر. وقد عمل حجم التجارة تحديدًا على تشجيع الحرب في أفريقيا بهدف تلبية الطلب الجديد على العبيد.

قنع الإسبان — الذين كانوا أول من وصل من الأوروبيين إلى العالم الجديد بحثًا عن الذهب والمجد — باستخدام السكان الأصليين للعمل لديهم. وقد قام الأوروبيون بذلك فعلًا أينما استطاعوا، لكن هذا لم يكن ليفلح مع السكان الأصليين للعالم الجديد، الذين كانت مناعتهم ضعيفة على نحو استثنائي ضد الأمراض الأوروبية؛ فقد كانوا معزولين للغاية عن بقية سكان العالم إلى درجة أن فصائل دمائهم كانت تختلف عن فصائل دماء الآسيويين، والأفارقة، والأوروبيين، الذين امتزجوا على مدار قرون عديدة. فأسفر اندماج العالَمَين القديم والجديد دون قصد عن إبادة جماعية، حينما لقي أفراد قبيلة تلو الأخرى من قبائل نصف الكرة الأرضية الغربي مصرعهم جراء الإصابة بالأمراض التي جلبها الأوروبيون معهم، ولم يبقَ من السكان الأصليين سوى «بقايا لإنقاذ السلالة» في الأمريكتين الشمالية والجنوبية.

يقدر علماء الديموغرافيا التاريخية أن عدد سكان العالم الجديد قبل وصول الأوروبيين كان يتراوح بين ٩٠ إلى ١١٠ مليون نسمة، كان يعيش منهم ١٠ إلى ١٢ مليون نسمة في شمال المكسيك، ثم عملت أمراض الحصبة والجدري والتهاب الغشاء البلوري وحمى التيفوس والزحار والسل والدفتيريا على محو قبائل كاملة عن بَكْرة أبيها. وأدى تكرار التعرض لأمراض جديدة إلى غربلة السكان الأصليين فانخفض عددهم إلى عُشر العدد الأصلي؛ إذ كان الناس يمرضون ويموتون بسرعة مذهلة. وفي ظل عدم معرفة مسبِّب المرض — إذ لم تُعزل الجراثيم حتى حلول القرن التاسع عشر — لم يتمكن أحد من فهم الظاهرة. وظل الهنود الحمر يعانون معاناة نفسية عميقة وهم يشهدون موت ذويهم وبقاء غُزَاتهم على قيد الحياة. وكان الأوروبيون — الذين لم يقلوا جهلًا بالمسبب عن الهنود — يميلون لرؤية أن العناية الإلهية هي التي حَبَتهم بالنجاة ودمرت أعدائهم الوثنيين.

مصدر جديد للعمالة

حاول الإسبان — ومن بعدهم البرتغاليون — استعباد الناجين ونجحوا في ذلك نجاحًا محدودًا. وقد أرسل كولومبوس ٥٠٠ أسير هندي إلى إشبيلية عام ١٤٩٥. وفي العقود الأولى من القرن السادس عشر تقدمت سلسلة من الغزاة الإسبان إلى جزر الأنتيل الكبرى، وأجبروا السكان الأصليين على استخراج الذهب وجمع المواد الغذائية لهم. كان الأُسقف الإسباني بارتولومي دي لاس كازاس — المعروف بمساعيه لرفع الظلم الذي وقع على الهنود بعد الغزو الإسباني — أحد شهود غزو كوبا الدموي عام ١٥١١. وعلى مدى حياته المهنية باعتباره قسيسًا ومؤرخًا ومناظرًا وراهبًا دومينيكانيًّا وأسقفًا على تشياباس بالمكسيك، كان أكبر المدافعين عن الهنود الحمر، وهو الذي اقترح أن يستورد الإسبان العبيد الأفارقة بهدف حماية السكان الأصليين، وقال: إن الأفارقة كانوا أفضل استعدادًا للعمل من الهنود الحمر، وإنهم لم يصلوا بعدُ إلى نفس مرحلة التحضُّر التي بلغها الهنود.3 ونتيجة لاقتراحه هذا ظهرت إحدى أكثر ثمار تجارة الكاريبي ربحيةً، والتي تمثلت فيما أطلق عليه: «احتكار الأزينتو»، وهو عقد كان يمنحه المسئولون الإسبان يتيح تزويد إسبانيا بما تحتاجه سنويًّا من العبيد والسلع الأوروبية. مَنح أول هذه العقود — الذي وقع عام ١٥٩٥ — البرتغاليين حقوقًا حصرية لتوريد ٤٢٥٠ عبدًا إلى قرطاجنة سنويًّا. وفي عام ١٧١٣ حاز البريطانيون احتكار الأزينتو في معاهدة السلام التي أنهت حرب الخلافة الإسبانية.
في الوقت الذي كان الإسبان يستخدمون فيه العبيد الهنود والأفارقة في المناجم ومزارع الماشية وحقول زراعة المواد الغذائية، كان ثمن استيراد العبيد يأتي من أرباح السكر. كان المزارعون الأوائل في الهند قد وطَّنوا زراعة السكر منذ ما يزيد على الألفي عام، لكن وصول المأكولات الحلوة إلى سواحل البحر المتوسط استغرق ما يزيد على الألف عام، حيث سيطر التجار البنادقة على سوق السكر الأوروبية.4 ثم تعلم الإيطاليون كيف يزرعون السكر بنجاح في صقلية، وكذلك فعل العرب في إثيوبيا وزنجبار. أُخذت عن العرب أيضًا تقنية تصنيع السكر من مطاحن سحق القصب. ولا شك أن البرتغاليين استقوا هذه الدراية بعد غزو سبتة في المغرب قبل غزو ماديرا — الجزيرة التابعة لسبتة قبالة الساحل المغربي — بسنوات قليلة. وسرعان ما جربوا زراعة السكر هناك وفي جزر الأزور وجزر الرأس الأخضر وساوتومي، كل هذا خلال القرن الخامس عشر. وحذا الإسبان حذوهم في جزر الكناري بالمحيط الأطلنطي.
كان الأمر الجديد على نحو مذهل في جزر ماديرا وساوتومي هو كيفية تنظيم البرتغاليين للعبيد في فرق عمل منضبطة.5 من قبلُ، كان يجري جمع أعداد غفيرة من العاملين تحت سقف واحد فحسب، لكن منتجي السكر البرتغاليين توصَّلوا إلى كيفية التنسيق بين المهامِّ المعقدة لعملية بلورة السكر من الأحواض التي تحوي قطع قصب السكر المغلي. كان التجار الإيطاليُّون منذ القرن الثالث عشر وحتى الخامس عشر قد اختطفوا السلافيين (من هنا أتت تسمية العبيد بالكلمة الإنجليزية Slave) من أوروبا الشرقية واستعبدوهم للعمل في مناطق البحر المتوسط، بينما استعبد التجار العرب منذ القرن السادس عشر وحتى القرن الثامن عشر ما يزيد على مليون أوروبي من أوروبا الغربية. في بادئ الأمر، كان العبيد الذين استخدمهم البرتغاليون من ذوي البشرة البيضاء، لكن ما إن بدأ التجار البرتغاليون يجلبون الأفارقة إلى أرض الوطن بانتظام حتى تحول زارعو السكر إلى استخدام العمال من العبيد السود. وازداد عدد الألف أفريقي — الذين كان البرتغاليون يجلبونهم سنويًّا إلى لشبونة خلال منتصف القرن الخامس عشر — إلى ٣٥٠٠ أفريقي بعد مرور مائة سنة.6
كان الحظ السعيد والرياح المواتية قد منحا البرتغاليين موطئ قدم فسيحًا في أمريكا الجنوبية والبرازيل. في البداية، ركزوا على تصدير الخشب البرازيلي الشهير الذي يفرز صبغة حمراء ومنح البرازيل هذا الاسم. (في الحقيقة كان رجال الدين البرتغاليون قد أطلقوا على هذه المنطقة الشاسعة اسم الصليب المقدس.) امتدت الغابات على طول الساحل الجنوبي الشرقي وإلى الداخل لعدة أميال، وكان البرتغاليون يعتمدون على الصيادين وجامعي الثمار من شعب التوبي في استخراج الثروات من الأشجار، لكن تبين أن هؤلاء قوة عمالة مؤقتة؛ إذ رفض التوبيون أن يعملوا بالزراعة، وكانوا يهرُبون إلى أعماق الغابات أو يقتلون أنفسهم عندما يحاول البرتغاليون إجبارهم على العمل. كان ذلك — حسب وصف أحد الباحثين — نهبًا أكثر منه إنتاجًا، وحينما انتهى، تحول البرتغاليون في البرازيل إلى إنتاج السكر الذي كانوا قد برعوا فيه في مناطق أخرى أقرب إلى وطنهم.7

تعديات على البحيرة الإسبانية

لم يكن تعظيم الربح باعتباره ضرورة رأسمالية أكثر وضوحًا في أي مكان من وضوحه في حالة اكتساح السكر مستعمرات أوروبا في العالم الجديد. كان كولومبوس قد حمل فسائل قصب السكر إلى منطقة البحر الكاريبي في رحلته الثانية. وكانت السلطات الإسبانية في الوطن الأم تشجع زراعته. لكن المستعمرين أنفسهم كانوا أكثر اهتمامًا بالمعادن الثمينة، فكان البرتغاليون هم من أظهروا الأرباح التي يمكن استدرارها من غلي قصب السكر بمجرد توفير العمال القادرين على القيام بهذا العمل الشاق. وقد شكلت زراعة السكر في جزر ماديرا وساوتومي للبرتغاليين نموذجًا ملهمًا لتأسيس المزارع في العالم الجديد. وعلى مدى ما يزيد على ثلاثة قرون، استوردت البرازيل نحو أربعة ملايين عبد، وهذا كان يفوق عدد العبيد في أيٍّ من المستعمرات الأوروبية الأخرى، ويزيد على ثلث مُجمَل عدد العبيد الذين جرى إرسالهم للعالم الجديد؛ ومن ثَمَّ، لا عجب في أن البرازيليين لم يتبادر إلى ذهنهم أي شيء آخر سوى رغيف سكر حين رأوا الجبل المخروطي القابع عند ميناء ريو دي جانيرو (كان البرتغاليون هم أول من أطلقوا هذا الاسم على ذلك الجبل بسبب الشبه الشديد بين شكله المخروطي وشكل حاويات تخزين السكر المخروطية، ولا يزال الاسم باقيًا حتى اليوم).

وعلى الرغم من أن البابا حمل إسبانيا على القبول بالوجود البرتغالي في البرازيل، كان مجلس جزر الهند في إشبيلية يحرص كل الحرص على أن يظل الكاريبي بحيرة إسبانية، لكن للأسف أدت الحروب التي خاضتها إسبانيا خلال القرن السادس عشر إلى إنهاك البلاد والخزانة الملكية أيضًا، في الوقت الذي كان فيه الفرنسيون والهولنديون والإنجليز وحتى الدنماركيون يتلهفون لدخول الصراع على ثروة العالم الجديد. فضلًا عن أن المُصنِّعين الإسبان لم يتمكنوا من توريد البضائع التي كان المستعمرون الإسبان يحتاجونها، وبالتأكيد ليس بسعر يضارع السعر الرخيص الذي قدَّمه الهولنديون والإنجليز، الذين كانوا مستعدين أيَّما استعداد لتهريب المعدات والأسلحة والأقمشة والمواد الغذائية إلى المدن الساحلية العديدة التابعة لإسبانيا في العالم الجديد. ولم تسفر جهود إسبانيا للحفاظ على سيطرتها الحصرية إلا عن اجتذاب الخارجين على القانون إلى منطقة البحر الكاريبي. ومن ثَمَّ، سرعان ما عُدت هذه المنطقة «خارج نطاق السيطرة»، أي خارج قواعد الحضارة الأوروبية ومعاهداتها الدولية. وهناك، تَقبَّل الأوروبيون الاغتصاب والاختطاف والنهب والتعذيب والاعتداء والقرصنة وكل أنواع التحايل، لكن كل هذا كان هيِّنًا إذا ما قورن بالمعاملة الوحشية التي كان يلقاها العبيد الأفارقة والهنود.8

التزم الهولنديون بالتركيز على التجارة، وأرادوا موطئ قدم في المستعمرات الإسبانية؛ فتحول تجار شركة الهند الغربية الهولندية من القرصنة إلى التهريب ثُمَّ أخيرًا إلى احتلال جزيرة كوراساو جنوب البحر الكاريبي قبالة سواحل فنزويلا عام ١٦٣٤. وبالقرب من كوراساو كان يوجد أيضًا مصدر للملح، وهو مضاف غذائي ثمين وضروري لتجارة الرنجة الهولندية. كانت الشركة قد أسست بالفعل هولندا جديدة في قارة أمريكا الشمالية حينما اشترت مانهاتن مقابل بضائع تبلغ قيمتها نحو ٢٤ دولارًا تقريبًا. لكن كوراساو التي تحوي ميناءً طبيعيًّا صارت مركزًا لتجارة العبيد الهولندية. ومن خلال هذه البوابة المؤدية إلى المستعمرات الإسبانية الرئيسة، دخل الهولنديون المنافسة على الأزينتو الإسباني.

لم يكن الإسبان يعيرون اهتمامًا كبيرًا لجزر الأنتيل الصغرى، التي يطلق عليها جزر ويندوارد وجزر ليوارد، الواقعة على بعد ٥٠٠ ميل شرق مركز قيادتها في سان دومينجو وقرطاجنة. وكان من بالغ سعادة الإنجليز والفرنسيين أن يستولوا على هذه الجزر؛ فقد استقر الفرنسيون في جزر المارتينيك وجوادالوب، واستقر الإنجليز في جزر سان كريستوفر، وباربادو، وأنتيجوا، ومونتيسيرات، ونيفيس. وبدأ رواد المشاريع الإنجليز زراعة التبغ في جزرهم مستعينين بعمال سخرة من البيض بعقود مؤقتة، لكن العمال البيض كانوا سببًا في ظهور مشاكل اجتماعية، فضلًا عن أن المعروض منهم لم يكن مضمونًا. وحينما كانت عقودهم تنتهي خلال أربع أو خمس سنوات، كان يتعين منح الرجال والنساء المنتهية عقودهم أرضًا أو عملًا؛ لذلك كان العبيد الأفارقة قوة عمل أكثر جاذبية بكثير، طالما يمكن زراعة محصول وتصديره بما يغطي أسعار شرائهم، فظهرت زراعة السكر على الساحة.

كانت فرنسا أغنى بلدان أوروبا وأكثرها قوة، لكن رواد المشاريع الفرنسيين كانوا مضطرين للسجال مع نظام ملكي مستبدٍّ وفاسد، كان استغلال السلطة فيه يهدد أمان استثماراتهم. وبدلًا من وجود سوق موحدة في فرنسا، كانت الطرق الداخلية للتجارة الفرنسية مثقَلَة برسوم كان يتعين دفعها على الطرق والجسور، في الوقت الذي كان فيه معظم فلاحيها يفتقرون إلى المهارات والاستثمارات اللازمة للزراعة على نحو منتج. ومع ذلك، تعلَّمَ الفرنسيون كيفية إنتاج السكر في العالم الجديد، وارتفعت العائدات ارتفاعًا هائلًا خلال القرن الثامن عشر، لكنها لم تصل سوى إلى مجموعة صغيرة من المستثمرين ذوي الحظوة. وبفضل الضرائب الباهظة المفروضة على مزارع السكر في العالم الجديد تمكَّن النظام الملكي الفرنسي من تأجيل أزمة مالية حتمية حتى نهاية القرن.

لم يَكتفِ الهولنديون والفرنسيون والإنجليز باقتحام الممتلكات الإسبانية في منطقة البحر الكاريبي فحسب، بل تحدَّوْا أيضًا تجار العبيد البرتغاليين، وصعدوا حملة شرسة لتحطيم احتكار البرتغاليين تجارة العبيد من غرب أفريقيا. وفي ظل اتِّساع الساحل الذي كان العبيد يُجلبون منه وتعدُّد الحكام الأفارقة الذين كان يمكن التعامل معهم، لم يكن من الصعب على من وصلوا بعد البرتغاليين أن يدخلوا هذه التجارة المربحة. وحتى الأوروبيون أنفسهم لم يخترقوا الصحراء الأفريقية الكبرى حتى حلول القرن التاسع عشر، بل كانت شحنات العبيد تجمع في قلاعٍ محصنة أو مصانع، غالبًا ما تقع على جزر بعيدة عن الشاطئ. وفي بعض الأحيان كانت عصابات أفريقية مسلحة تداهم القرى ثم تبيع الأسرى لكل الراغبين. وعلى امتداد ٣٥٠٠ ميل من الشريط الساحلي الممتد من سينيجامبيا (السنغال وجامبيا حاليًّا) إلى أنجولا، كان التجار يجمعون شحنات العبيد الذين كانوا يبيعونهم مقابل البضائع الأوروبية. وكان بائعو العبيد يفضلون استخدام الأسلحة النارية تحديدًا لأسر المزيد من الرجال والنساء. كان يجري الفصل بين الجنسين خلال الرحلة عبر المحيط الأطلنطي، وكان الأسرى يُحشَرون في سفن، حيث كانت المساحة المخصصة لكل شخص تبلغ أربعة أقدام مربعة لمدة تتراوح بين ثمانية أسابيع إلى اثني عشر أسبوعًا. وكانت الرحلة العادية تحمل ما يتراوح بين ١٥٠ إلى ٤٠٠ شخص، يموت منهم عادة ١٢ إلى ١٥٪ في الطريق. وقد اندلعت حركات التمرد في حوالي ١٠٪ من مجمل الرحلات، وكانت كلها تقريبًا تندلع دائمًا خلال الأسابيع الأولى من الرحلة.9

بنهاية القرن السادس عشر، تحول مركز تكرير السكر في أوروبا من أنتويرب إلى لندن، وتراجعت صناعة السكر في صقلية بحيث باتت تلبي الطلب المحلي فقط، ودخل الإنجليز تجارة العبيد بشركة احتكارية، الشركة الملكية الأفريقية. لكن بحلول نهاية القرن السابع عشر، كان زمن الاحتكارات قد ولَّى؛ فقد زادت شكاوى التجار قوة، وباتت التجارة مفتوحة على مصراعيها، وصارت مدينة ليفربول مركزًا لهذه التجارة في بريطانيا شأنها في ذلك شأن مدينة نانت في فرنسا. خلال أوج ازدهار تجارة العبيد عام ١٧٩٠ كانت سفينة عبيد تغادر من أيٍّ من الموانئ الإنجليزية كل يومين. وبعد أن ضمنت إنجلترا عقد الأزينتو الإسباني عام ١٧١٣، هيمنت على تجارة العبيد لمدة قرن، إلى أن وضع المصلحون الإنجليز حدًّا لهذا المشروع الكريه.

كان تجار المستعمرات الإنجليزية في القارات الأخرى — وتحديدًا تجار رود آيلاند ونيويورك — يشاركون في تجارة العبيد مع تجار العبيد الذين يُبحرون من ليفربول. ولعبت المستعمرات البريطانية الشمالية أيضًا دورًا رئيسيًّا في تموين مستعمرات الهند الغربية التي كانت تستورد كل شيء تقريبًا كي لا تحوِّل الأيدي والأراضي عن عملية إنتاج السكر. وكانت هذه المستعمرات تدفع مقابل وارداتها من المستعمرات الأمريكية دبس السكر الذي كان المستعمرون يأخذونه إلى الوطن ويقطرونه لاستخلاص شراب الروم المُسكِر. وتحول السكر من رفاهية إلى ضرورة في مطابخ الجميع عدا أشد الأوروبيين فقرًا. وكانت قيمة واردات السكر وحدها تساوي أربعة أضعاف واردات التجارة كلها مع البلدان الآسيوية.10 وانضم كل بلد أوروبي تمكن من الوصول إلى المحيط الأطلنطي إلى السباق على الأرباح الناتجة عن تلك المادة المُحلِّية التي أضافت لذة إلى الشاي والبودينج، والأهم أن السكر أتاح حفظ الفواكه والخضروات الطازجة على مدار العام.
كان زارعو السكر — الذين استثمروا رءوس أموالهم في المزارع — يشغِّلون عبيدهم وأراضيهم بأقصى جهد ممكن، وقد تقبلوا التدهور الحتمي للتربة سعيًا وراء تحقيق عائدات سريعة؛ فقد كان المحصول بالغ الربحية وكان مُلَّاكُ المزارع بالغي القسوة إلى درجة أنهم كانوا يشغِّلون عبيدهم حتى الموت فعليًّا. وقد تعين على المُلَّاك استبدال العمالة في منطقة الكاريبي كل ١٠ إلى ١٣ سنة. بعيدًا عن الوطن، تخلى رواد المشاريع الأوروبيون عن عاداتهم وأخلاقياتهم، وكان العديد من مُلَّاك المزارع يتركون إدارة ممتلكاتهم لآخرين، ويعودون للوطن ليعيشوا حياة رغدة، ولم يتفكر سوى القليلين في مصدر ثرواتهم الكبرى. وفي إنجلترا، كان نحو عشرة من أثرياء السكر هؤلاء يشغلون مقاعد في مجلس العموم. ونظرًا لأنهم لم يتجشموا عناء استثمار أموالهم في إعادة إصلاح مزارعهم، تدهورت خصوبة التربة، ممًّا خلق فرصًا لحلول مزارع جديدة في السوق؛ فحظيت البرازيل بأهمية خلال معظم سنوات القرن السابع عشر، وبلغت باربادوس ذروة أهميتها في حوالي عام ١٦٩٠، وكذلك جامايكا وهاييتي بعد عام ١٧٠٠. ثم عملت أكبر حركات تمرُّد العبيد على وضع نهاية لازدهار سان دومينجو خلال النصف الثاني من القرن الثامن عشر، وارتفع شأن كوبا طوال القرن السادس عشر. وفي الوقت الذي هيمنت فيه كوبا على صناعة السكر، أمكن بيع العبيد هناك بثمن يساوي ثمن شرائهم من أفريقيا ٣٠ مرة.11 ومثلت هذه الأرباح مصدر جذب دائم.

العبيد في المستعمرات الإنجليزية في الأمريكتين

لم تبدأ أيٌّ من البلدان الأوروبية استكشافها العالم الجديد بنية جلب العبيد من أفريقيا لزرع محاصيل غريبة وتوجيهها لسوق عالمية. لكن التحول إلى عمالة العبيد في المستعمرات الإنجليزية الثلاث: فيرجينيا وباربادوس وساوث كارولاينا يُصور كيف حدث هذا التحول؛ فقد تأسست فيرجينيا — أولى مستعمرات إنجلترا — عام ١٦٠٧ مع آمال نموذجية عريضة في العثور على الذهب والفضة. وبعد عشر سنوات من خيبة الأمل والمشقة، أنقذ التبغ المستعمرة بعد أن هجَّن أحد المستعمرين ورقة تبغ يمكنها أن تنافس الورقة الإسبانية. ثم تبين أن تدخين التبغ ومضغه يحظى بشعبية واسعة في إنجلترا إلى درجة أن هذا الطلب أحدث انتعاشة في فيرجينيا مجددًا؛ فبات كل من يحصل على أرض يزرعها تبغًا.12 وأدت لامركزية اتخاذ القرار — وهي سمة مميزة لنظام الاقتصاد الحر — إلى الإفراط في زراعة المحصول، وسرعان ما أُغرقَت السوق بالتبغ أو «العشب البغيض». وحينما انخفضت الأسعار انخفاضًا حادًّا، صار التبغ في متناول آلاف الزبائن الإضافيين، ولاحت فرصة جديدة تمثلت في تحقيق ربحٍ عند هذا السعر المنخفض الجديد من خلال تعلُّم كيفية خفض التكاليف.
لم تكن العبودية ضرورية لزراعة التبغ؛ فقد كان عمال العقود المؤقَّتة وعائلات المزارعين يزرعونه لعقود عدة. لكن استخدام عمالة العبيد كان خيارًا جذابًا في نظر أصحاب المزارع الأكثر ثراءً. كانت إحدى السفن الهولندية قد جلبت مجموعة من العبيد إلى فيرجينيا عام ١٦١٩، لكن في ذلك الوقت المبكر لم يكن الاستثمار في العبيد جذابًا. وبعد عدة عقود، وصل عدد من المستوطنين ومعهم ما يكفي من النقود لإثبات وجودهم على قطع أوسع من الأرض. وكان الملك الإنجليزي قد شجَّع تجارة العبيد جزئيًّا لإبقاء الهولنديين المنطلقين بعيدًا عن المستعمرات البريطانية في أمريكا الشمالية. حينئذٍ كان بمقدور تجار العبيد الإنجليز إمداد أصحاب المزارع في فيرجينيا بالعبيد من أفريقيا مباشرة وبسعر جيد. هناك دافِع أخير للتحول من عمال العقود المؤقتة الإنجليز إلى العبيد الأفارقة هو أن العمال الذين تنتهي عقودهم كانوا يُنذِرون بظهور طبقة دنيا جامحة. وقد وصف الحاكم ويليام بيركلي الموقف حين قال آسفًا: «آه، كم هو بائس ذلك الرجل المضطر لحكم شعب يكون فيه ستة أجزاء من أصل سبعة من الفقراء والمَدِينين والساخطين والمسلحين!» صحيح أن العبيد كانوا أغلى ثمنًا من عمال العقود، لكنهم كانوا يرزحون تحت نير العبودية حتى الموت، وكان من الممكن السيطرة عليهم على نحو أفضل من السيطرة على العمال الذين انتهت عقودهم.13

عندما أدَّى تحسُّن الظروف الصحية إلى انخفاض معدل الوفَيَات الذي كان مرتفعًا من قبلُ في فيرجينيا، أصبح شراء العبيد أفضل من استئجار عمال الخدمة البيض، وباتت فيرجينيا تحظى بصفوة من أصحاب المزارع؛ رجال يملكون الموارد اللازمة لإقامة مزارع يزرعها العبيد. وفي الوقت نفسه، بدأ الوطن الأم تجارة عالية الربحية من تصدير التبغ إلى القارة. وحينما اشتكى أحد رجال الكنيسة في فيرجينيا من نقص رجال الدِّين فيها، لم يلقَ سوى التوبيخ من جانب المدعي البريطاني العام الذي رد طلبه إقامة معهد ديني «لإنقاذ أرواحهم» قائلًا: «أرواح! اللعنة على أرواحكم، فلتنتجوا التبغ.» وسرعان ما ارتفعت نسبة السكان السود التي كانت تبلغ ١٠٪ خلال العقد الأول من القرن الثامن عشر إلى ٤٠٪. وبحلول ذلك الوقت كانت البحرية البريطانية ترافق إلى الوطن في كل عام قافلة سفن مكونة من ٣٠٠ سفينة. وفي غضون ذلك انتقل السكان الأكثر فقرًا من الساحل إلى السهول، في ميريلاند ونورث كارولاينا، أو إلى الوديان الداخلية حيث تمكنوا من الزراعة على نطاق أصغر، مخصصين فدادين قليلة لزراعة التبغ بهدف كسب ما يلزم لشراء الأغطية والمعدات والأدوات المنزلية.

مرَّت باربادوس أيضًا بتحول مماثل حينما حلت زراعة السكر محل الزراعة المختلطة؛ فحينما وصل الرجال الذين يملكون الأموال لشراء الأرض والعبيد والماكينات الزراعية اللازمة لزراعة قصب السكر ومعالجته، بدأ المستوطنون الأكثر فقرًا البحث عن مستقرٍّ آخر في العالم الجديد. استقبلت ساوث كارولاينا عام ١٦٦٣ سفينة واحدة، فتحت الباب أمام نزوح جماعي للبيض والسود من باربادوس إلى القارة الأمريكية الشمالية. بدأت ساوث كارولاينا أيضًا باقتصاد مختلط، وأدخل العبيد هناك نظام الرعي المفتوح الذي كان مألوفًا لدى الأفارقة، لكن كل هذا تغيَّر مع ظهور الأرز كمحصول تصدير. كان الأفارقة — لا سيما أولئك الذين قدِموا من منطقة سيراليون، حيث كانت زراعة الأرز تمارَس منذ أمدٍ طويل — يدركون ما يتطلبه محصول الأرز من ماء وافر وأساليب زراعة خاصة، وتعرفوا أيضًا على أنواع من الأعشاب الأمريكية المحلية التي استخدمها بعضهم لتسميم أسيادهم.14 ومثلما حدث في حالتَي السكر والتبغ، أنتج الأرز ما يكفي من الأرباح لجذب المستوطنين الأكثر ثراءً، الذين كانوا يملكون الأموال اللازمة لشراء عمالة من العبيد. وبحلول عام ١٧٢٠ كان لكل مستوطن إنجليزي في ساوث كارولاينا اثنان من العبيد الأفارقة. ومثلما فعل أصحاب المزارع في فيرجينيا حينما استخدموا عمالة العبيد، مرر نخبة أصحاب المزارع في كارولاينا قوانين شديدة القسوة للسيطرة على كل جانب من جوانب سلوك العبيد لتهدئة مخاوفهم من قيام ثورة.

وحينما أسفر الاستقلال الأمريكي عن نهاية للمعونات البريطانية التي كانت مخصَّصة لدعم التبغ والأرز وصبغ النيلة، كان الجنوب الأمريكي محظوظًا بما فيه الكفاية حين اكتشف محصولًا مربحًا آخر هو القطن. وبفضل محلج القطن الذي اخترعه إيلي ويتني عام ١٧٣٩ أمكن تحقيق الربح من القطن قصير التيلة الذي كان من الممكن زراعته في جميع أنحاء المنطقة. وسرعان ما انتشر محصول القطن إلى الغرب في ولايات ألاباما ومسيسيبي ولويزيانا، مرسخًا العبودية في اقتصاد الدولة الجديدة. وبحلول عام ١٨١٥ كان أصحاب المزارع في الجنوب يرسلون ١٧ مليون بالة من القطن إلى مصانع لانكستر ومانشستر. وبحلول عام ١٨٦٠ ارتفع هذا الإجمالي إلى ١٩٢ مليون بالة، وتضاعف عدد السكان العبيد أربع مرات وبلغ نحو أربعة ملايين نسَمة من الرجال والنساء والأطفال السود.

مثلت منطقتا الكاريبي والجنوب الأمريكي الوجه القبيح للتوسع الرأسمالي بسبب الاستغلال الوحشي للعمالة الأجنبية في إنتاج المواد المعدِّلة للمزاج والمسكِرة والمخدِّرة للمستهلكين الأوروبيين الذين كانوا قد بدءوا إدمانها. كانت هذه المواد متعددة الأنواع؛ ففي عام ١٧١٤ جلب الفرنسيون القهوة لأول مرة من اليمن، ومن فرنسا امتدت إلى هاييتي ومناطق في أمريكا الوسطى، وكان الأزتك يشربون الكاكاو باردًا ومتبلًا. وبعد أن بات السكر متاحًا، صار كلٌّ من الكاكاو والشاي مشروبًا شائعًا في أوروبا. وعلى الرغم من أن الصينيين كانوا أكبر منتجي الشاي، فقد كان يُزرع أيضًا في منطقة الكاريبي. كانت كل هذه المحاصيل — باستثناء السكر — تعد من المخدِّرات، بل يستطيع المرء أن يقول إن حتى السكر يمكن أن يسبب الإدمان؛ فمِمَّا لا شك فيه أن تخمير الدبس الذي كان يتدفَّق من صهاريج قصب السكر سرعان ما تحول إلى مشروب الروم المسكر. لم يكن أيٌّ من هذه المستحدثات المسكرة في متناول الأوروبيين من قبلُ، الذين كان مناخهم لا يسمح بزراعة المحاصيل الاستوائية الغريبة. وكانت الحكومات الأوروبية هي الأخرى تحب هذه المواد التي تعزز الطعم وتُعدِّل المزاج لأنها كانت تستطيع تحميلها بما كان يطلق عليها «ضرائب الإثم».15 وكان دعاة الأخلاق يشتكون من انتشار شعبيتها، لكن تعنيفهم فقد قوته بارتفاع قيمة الحرية الفردية. فرغم كل شيء، تبين أن كل رغبة هي محفز قوي يعزز عادات عمل مطَّرِد حينما يُترك للناس حرية الاختيار من بين وفرة السلع المتاحة لهم.

نظام عمل تطلب تبريرات

إن استمرار العبودية لما يزيد على الأربعة قرون أمر يسترعي اهتمامنا؛ فكيف سمحت الثقافة الأوروبية بفظائع كتلك التي ارتُكبَت ضد الأفارقة فضلًا عن الشعوب الأصلية للأمريكتين الشمالية والجنوبية؟ عن نفسي، أظن أن مستوى القسوة في كل مكان في العالم في ذلك الوقت كان يجعل العبودية أقل إثارة للاستغراب. فعلى سبيل المثال، أحد التقارير البرلمانية للقرن التاسع عشر يصف ببرود تفوُّق الفتيات المراهقات على البغال في مهمة جر عربات الفحم عبر الممرات الضيقة للمناجم. إن القسوة التي تعرَّض لها الرجال والنساء الأفارقة عكست بعضًا من المعاملة القاسية التي يلقاها كل من حكم عليهم القدر بالتبعية، ثم هناك أيضًا تلك القدرة المدهشة للبشر على تبرير ما يريدون فعله.

دائمًا ما يسود منطق «البعيد عن العين بعيد عن القلب»، كما هو الحال بالنسبة لرَدِّ فعلنا إزاء تضور الملايين جوعًا اليوم. كانت نسبة ضئيلة فقط من الأوروبيين هي التي على علاقة مباشرة بالعبودية. ولعل هذا يبرِّر سبب قلة قسوة العبودية في الجنوب الأمريكي، حيث كان السيد والعبيد يعيشون جنبًا إلى جنب. كان الحال في أمريكا البريطانية على العكس من أمريكا اللاتينية — التي كانت تحوي الكثير من الخلاسيين والميستيزو (وهو العرق الناتج من تزاوج الأوروبيين، لا سيما الإسبان، بالشعوب الأصلية في أمريكا الجنوبية) — إذ أصبح العرق هو الحجة التي تمسَّك بها المدافعون عن العبودية لتسويغ شرعية امتلاكهم الرجال والنساء في عبودية أبدية.

أحدثت الرأسمالية منعطفًا في العلاقات بين الأعراق على نحو بالغ القبح، والسبب في ذلك واضح وغامض في آنٍ واحد. فقد بدأت الرأسمالية كنظام للإنتاج، تدفعه رغبة شرهة في الربح، وصارت كل الأماكن التي تحوي موارد طبيعية حول العالم مصدر جذب للمستثمرين. وقد استطاع هؤلاء الأوروبيون حمل رءوس أموالهم معهم، لكنهم لم يستطيعوا حمل الرجال والنساء العاملين اللازمين لاستخراج تلك الموارد البعيدة أو زراعتها. وبدلًا من ذلك كانوا مضطرين للاعتماد على عمال المناطق التي تحوي هذه الموارد، بمعنى حشد الآسيويين والأفارقة أو سكان أمريكا الأصليين؛ أي كل البشر الملونين. كان رواد الأعمال الأوروبيون ينظمون العمل في الخارج بما يخدم مصلحتهم، وكان ذلك يتأتى عادة بمساعدة الملوك المحليين الذين جرت رشوتهم. ونظرًا لأن الأوروبيين كانوا يحكمون على العمال وفقًا لسرعتهم في التأقلُم على عادات العمل التي وضعوها، فإن هؤلاء العمال كانوا عادة ما يوسمون بعدم الكفاءة. وقد حفلت خطابات الأوروبيين إلى الوطن بأمارات الامتعاض من كسل أولئك العمال — الذين كان الأوروبيون يعتمدون عليهم لإنجاز العمل — فضلًا عن عاداتهم القذرة.

إن تبريرات العبودية تنبهنا إلى وخز الضمير الذي كان يخيم على النظام. في بعض الأحيان يظهر العلماء الآراء الأوروبية المجحفة في حق الأفارقة على أنها أسباب تؤيد الاستعباد، لا أعذار يمكن الاعتماد عليها في تبرير الحقيقة. فبمجرد أن ثبتت العبودية أقدامها، وُجدت كل الدوافع للحط من شأن الأفارقة. فقد أثارت بشرتهم السوداء صورًا وعبارات تحقير مرتبطة بالسواد، مثل: الشيطان الأسود، والسوق السوداء، والوغد الأسود. بالإضافة إلى الدخول في حلقة منطقية مفرغة؛ إذ إن السمات الشخصية البغيضة — البلادة والفظاظة والكسل واللامبالاة — التي طبعتها العبودية في نفوس الأطفال وآبائهم كانت نفس السمات التي استُغِلت لتبرير العبودية. وبنهاية القرن الثامن عشر، كان هناك التزام جديد في أوروبا بالحرية والمساواة يدين سخرة العبيد، ورغم ذلك لم تنتهِ العبودية تمامًا حتى عام ١٨٨٨؛ إذ كانت البرازيل آخر بلد غربي يلغي العبودية، ولم يرغب أحد في التحدث عنها. وقد علق أحد مؤرخي القرن العشرين على ذلك ساخرًا بأن ذكر تجارة العبيد لم يَرِد في كتب تاريخهم إلا عند الحديث عن إلغاء الرق.

ويزعم الباحثون أن العبودية في المستعمرات الأيبيرية كانت أكثر تسامحًا لأن البرتغاليين والإسبان كانوا معتادين على النظام وأدخلوا العبودية في قوانينهم. وقد جعلتهم علاقتهم المديدة مع مسلمي شمال أفريقيا على اتصال مستمر بالشعوب الملوَّنة. بالإضافة إلى ذلك، كانت الكنيسة الكاثوليكية تصر أشد الإصرار على تحويل العبيد إلى المسيحية. وكان تجار العبيد البرتغاليون يعمِّدون شحناتهم على نحو روتيني قبل الإبحار. وكانت الكنيسة تُقِر زواج العبيد، لكن البروتستانت لم يفعلوا ذلك. وكانت القوانين الإسبانية والبرتغالية تضع شروطًا محددة للغاية تمكِّن العبد من استعادة حريته، فضلًا عن أن العرف والقانون والدين كانوا يشجعون السادة على عتق عبيدهم، وكان يحق للعبيد التعامل مع المحاكم باعتبارهم شهودًا وخصومًا.16
صاحب ذلك انتشار الأطفال مختلطي الأعراق في مستوطناتهم. وقد وصف أحد المعاصرين السود والخلاسيين بأنهم «يدَا البرازيل وقدماها» لأنهم كانوا يقومون بكل العمل في مجتمعاتهم. وفيما يُعَد انعكاسًا لمواقف النبلاء الإسبان في الوطن الأم، كان البيض يعتَبِرون العمل أمرًا يحط من قدر المرء. وقد قال أحد الرحالة متحدثًا عن الأرجنتين إن الزنوج هم أشد الأشخاص الذين قابلهم ذكاءً لأنهم حرفيون وبناءون ومزارعون وعمال مناجم وحمالون وطباخون وممرِّضون وعمال في مختلف الأعمال. وقال: «لولا العبيد، لكان العيش هنا مستحيلًا؛ فالإسبان — مهما كانت درجة فقرهم — لن يقوموا بأي نوع من الأعمال.»17
ويشير الفحص الدقيق للسجلات إلى أن استغلال العبيد في البرازيل وكوبا كان استغلالًا متطرفًا، على الرغم من أن المستعمرين الإسبان والبرتغاليين امتزجوا اجتماعيًّا بسهولة أكبر مع الأمريكيين الأصليين والأفارقة المستعبدين. الأهم هو أن العبيد في مستعمرات أمريكا الإنجليزية كانوا يعيشون على نحو أفضل من نظرائهم في مستعمرات أمريكا اللاتينية، وكان نموذج النمو الطبيعي للسكان أقوى هناك، حتى إن ما يصل إلى ثلثي أحفاد العبيد الأفارقة يعيشون في الولايات المتحدة، على الرغم من أنها استقبلت أقل من ٦٪ من إجمالي عدد العبيد الذين أُخِذوا من أفريقيا.18 وثمة عدة عوامل تسببت في ذلك: أن النساء شكَّلن النسبة الكبرى من العبيد الذين كانوا يرسَلون إلى المستعمرات الأمريكية، وأن نسبة المواليد المرتفعة أدت إلى قلة استيراد الأفارقة، وأن المناخ كان صحيًّا أكثر، بالإضافة إلى أن ثلاثة أرباع مجمَل السود كانوا يعملون في مزارع يعمل فيها أقل من خمسين عبدًا، على النقيض من الحال في جزر الهند الغربية، حيث كانت المجموعات العاملة تقدَّر عادة بالمئات، ورغم أن النظام كان قاسيًا، فقد كان أقل إيذاءً وأكثر اتِّسامًا بالفصل العنصري.
من القضايا المحورية في هذا التاريخ أهمية نظام العبودية عبر المحيط الأطلنطي بالنسبة للرأسمالية. أقل ما يمكن أن يقال إن هذا النظام أنتج ثروة طائلة، رُدَّ معظمها إلى بلدان المستثمرين الأوروبيين. فحتى نهاية القرن الثامن عشر، كان العالم الجديد أكبر مستودع للأرصدة البريطانية والفرنسية في الخارج، وقد استغلت أوجه تجارتهما الاستعمارية مئات الآلاف من مواطنيهم، رغم أن هؤلاء الرجال عانَوا عناء بالغًا — شأنهم في ذلك شأن الأفارقة — من الظروف غير الصحية في عرض البحر وفي جزر الهند الغربية، حتى إن نصف الجنود البريطانيين الذين كانوا متمركزين في منطقة الكاريبي فقدوا حياتهم هناك. وكان معدل الوفَيَات بين أفراد طواقم سفن شحن العبيد أعلى من ذلك. وكان معظم من استثمروا في جزر زراعة قصب السكر ملاك أراضٍ لا يعيشون فيها وكانوا يتجنبون هذه المنطقة المميتة مهما كلفهم الأمر. وقد أفاد المجلس الاستشاري البريطاني عام ١٧٨٩ أن ما مجمله خمسون ألفًا من البيض — معظمهم رجال — يعيشون في المستعمرات البريطانية الجزرية إلى جانب ما يقل قليلًا عن ٥٠٠ ألف عبد ونحو ١٠ آلاف من الرجال والنساء الملوَّنين المحرَّرِين.19

ثمة شيء واحد يمكن قوله على وجه اليقين: إن استخدام عمالة العبيد لم يُسفِر عن تطورات اقتصادية مستدامة في أمريكا الجنوبية وفي جزر الهند الغربية وفي أمريكا الجنوبية، ولا حتى في أفريقيا نفسها؛ فقد تدهور نظام العبودية عبر المحيط الأطلنطي بنفس السرعة التي ازدهر بها. وكآثار أقدام على الرمال، اختفت بنية تصنيع السكر المعقَّدة برُمتها بعد إلغاء الرق. صحيح أن العبودية استمرت زمنًا أطول في الولايات المتحدة، لكن الحكاية عينها تكررت؛ فقد كانت القيمة السوقية للعبيد الأمريكيين قبيل الحرب الأهلية تبلغ نحو ثلاثة مليارات دولار، وهو مبلغ يفوق قيمة كل التصنيع والسكك الحديدية في الولايات المتحدة. لكن بعد أربع سنوات، صار الجنوب في حالة من الخراب؛ إذ أسفر الضرر الذي خلَّفته الحرب والاحتلال العسكري الذي استمر اثني عشر عامًا إلى إضعاف اقتصاد الجنوب لفترة طويلة، حتى تطبيق «الصفقة الجديدة».

ألغت بريطانيا العبودية في مستعمراتها عام ١٨٣٣، وفعلت فرنسا ذلك في مستعمراتها عام ١٨٤٨، وكذلك هولندا عام ١٨٦٣، وإسبانيا عام ١٨٨٦، تلتها البرازيل بعد ذلك بعامين. لم يتوقع مؤيدو إلغاء العبودية ولا أثرياء تصنيع السكر الانهيارَ السريع لإنتاج السكر في جزر الهند الغربية بتحرير الرجال والنساء المستعبَدين، لكنهم انتقلوا إلى إقامة مزارع عائلية صغيرة بعيدة عن مسرح ماضيهم البائس.20 وأدت الجهود الرامية لتحويل العبودية إلى نوع من السُّخرة إلى اندلاع ثورة عنيفة في جامايكا تم قمعها بوحشية عام ١٨٦٧، وإلى نشوء نظام عنصري صارم في الجنوب الأمريكي ظل ينظم العلاقات بين السود والبيض حتى منتصف القرن العشرين.
أوحى الانهيار المفاجئ للإنتاج الزراعي لبعض الباحثين أن إلغاء العبودية كان مدفوعًا بالتراجع في صناعة السكر البريطانية لا بالانتهاك الأخلاقي.21 لكن على مدى الستين سنة التي أعقبت ظهور هذه الفرضية، بيَّن المؤرخون أن ما حدث فعلًا هو أن كلا الصادرات والواردات بين بريطانيا وجزر الهند الغربية كانت في ازدياد حينما مرر البرلمان قانون إلغاء العبودية. وخلال السنوات التي أعقبت ذلك، أنفقت بريطانيا الملايين على أساطيل بحرية كانت مهمتها مراقبة مياه المحيط الأطلنطي ومنطقة الكاريبي بهدف منع الدول الأخرى من استيراد العبيد، وهي مهمة كانت عبثية إلى حَدٍّ ما. وعلى الرغم من هذه الجهود، جرى تصدير ما يزيد على مليوني عبدٍ آخر إلى كوبا التي بلغت أوج إنتاجيتها خلال العقود الوسطى للقرن التاسع عشر. وعندما ألغى البرلمان العبودية، كانت سوق السكر لا تزال تنمو.

الاختراعات الصناعية

تعيدنا نهاية نظام العبودية عبر المحيط الأطلنطي إلى فصل آخر من فصول القرن الثامن عشر يتعلق بتاريخ الرأسمالية، وهو الفصل الذي وقعت أحداثه في إنجلترا حين أحدثت البراعة التكنولوجية تحولًا في عالم العمل. ثَمَّةَ دعابةٌ تقول إن أفضل طلاب الدراسات العليا فقط هم من يقال لهم إنه لم تكن هناك ثورة صناعية. إن مشكلة مفهوم الثورة الصناعية تكمن في كلمة «ثورة»؛ إذ توحي هذه الكلمة بحدوث تغيير جذري على نحو فجائي، لكن ذلك التغيير الجذري لم ينطبق سوى على بريطانيا العظمى في القرن التاسع عشر؛ لأن الابتكارات الصناعية التي يشملها مسمى «الثورة» استغرق تصوُّرها وتصميمها واختبارها وتعديلها ما يزيد على قرن، شأنها في ذلك شأن ما حدث من قبلُ في حالة الثورة الزراعية. فضلًا عن أنه انقضى وقت طويل قبل أن تُستخدم الماكينات الجديدة في الغزل والنسج وصنع أدوات المائدة وتصنيع الطوب والحديد ونقل البضائع والأشخاص عبر السكك الحديدية والمياه.

من الأفضل استخدام مصطلح «التطور الصناعي» للتعبير عن نشوء الآلات المصمَّمة للقيام بالعمل الضخم بدلًا من الرجال والنساء، وبهذا ستكون التعبيرات التي نستخدمها في الحديث عن تطور البشر مثل: «العمل الثابت لقوانين الطبيعة» و«التكرار» و«التغيرات العشوائية» و«المخلفات» و«البقاء للأصلح» ملائمة أكثر في هذه الحالة؛ فجميع المفاهيم التي تعبر عنها المصطلحات السابقة تضافرت في إتمام صنع المحرك البخاري. وكحال التطور، لم يكن تسلسل الخطوات المؤدية إلى إتمام أيٍّ من الآلات هو التسلسل الأمثل، بل استغرق التوصل للنماذج المقبولة ما يكفي من الوقت. وبما أنني أشك كثيرًا في أن يحظى مصطلحِي «التطور الصناعي» بالانتشار، فإنني سأستخدم مصطلح «الثورة الصناعية»، آملةً أن يتذكر قرائي أن وتيرة إحداث تحول في عالم العمل كانت وئيدة ومتزنة.

كان كل تغير في النظام السياسي الأوروبي مشجعًا للصناعة؛ فقد تحولت أنماط التجارة من المتاجرة فيما بين الدول الأوروبية إلى المتاجرة مع المستعمرات نتيجة للمنافسات الشرسة بين بريطانيا وفرنسا خلال القرن الثامن عشر. ودفع هذا الدول إلى تشجيع معالجة المواد الخام محليًّا، حيث يجري ذلك بعيدًا عن المنافسين وفي الوقت نفسه يخلق الكثير من فرص العمل في تكرير السكر ولف التبغ. كانت المستعمرات مصادر مثالية للمواد الخام فضلًا عن الزبائن الجيدين للسلع المصنَّعة. وكانت المستعمرات مضطرَّةً غالبًا إلى إطاعة القوانين التي تفرضها الدولة الأم، وكانت القوانين الإنجليزية للملاحة تفرض أن يتم شحن السكر والتبغ إلى بريطانيا العظمى مباشرة، كما يجب تنزيل أي بضائع قد تستوردها المستعمرات من أوروبا في الموانئ البريطانية أولًا قبل مجيئها. كان البريطانيون قد قلَّلُوا وارداتهم من الكتان من ألمانيا ووارداتهم من النبيذ من فرنسا؛ فصار شراب «البورت» هو الشراب المفضَّل نتيجة لأن العلاقات الدبلوماسية بين بريطانيا والبرتغال كانت جيدة على نحو استثنائي. وبطبيعة الحال ردت دول أخرى على تلك الإجراءات بتشريعاتها الحمائية الخاصة. هذه كانت السياسات التي انتقدها آدم سميث في «ثروة الأمم»؛ فمن واقع حساب كلفة الحفاظ على المستعمرات البريطانية، ذهب سميث إلى أن أفضل الشركاء التجاريين لبريطانيا هم أقرب جيرانها.

عززت تطورات اقتصادية عديدة فرصة حدوث ثورة صناعية، على الرغم من أن أيًّا منها لا يمكن اعتباره سببًا في حد ذاته. فالظروف تمكِّن المسببات من إحداث التغيير، لكن الظروف نفسها لا تستطيع أن تتسبب في أي شيء. كانت التغييرات الزراعية الجذرية أول وأهم هذه المسببات؛ لأنها قللت عدد الرجال والنساء الذين كانوا يعملون بالزراعة إلى النصف؛ من ٨٠ إلى ٤٠٪. ورغم أن البريطانيين والهولنديين كانوا منذ وقت طويل يصنِّعون بأساليب مبتكرة، إلا التصنيع ظل جزءًا ثانويًّا من الاقتصاد إلى أن تمكنوا من تحسين إنتاجية مزارعيهم. وفي نهاية المطاف، أصبح فائض العمال من مناطق الريف الإنجليزي يشكل طبقة العمال «البروليتاريا» في عصر الصناعة. ولم يتوقف الأمر عند حد تحرُّر العمال من الاشتغال بالزراعة، بل انخفضت النفقات أيضًا، محررة الأموال اللازمة للاستثمار في أوجُهٍ أخرى ولشراء بضائع أخرى خلاف المواد الغذائية. لقد أسفر قرن من التجارة المربحة عن ازدياد رأس المال وانتشاره في جميع أنحاء أوروبا.

وعلى نحو أكثر تحديدًا، لعبت حقيقتان اقتصاديتان في إنجلترا دورًا رئيسيًّا في استحداث أجهزة من شأنها توفير الأيدي العاملة، وهما: الأجور المرتفعة، وكلفة الفحم الرخيصة للغاية. يبدو ارتفاع الأجور في إنجلترا مخالفًا للمنطق في ضوء كثرة عدد الرجال والنساء الذين لم تعُد هناك حاجة لعملهم في الحقول. ومع ذلك، كانت أجور العمال الإنجليز أعلى من أجور نظرائهم في أي مكان آخر في أوروبا، وأعلى بكثير من أجور العمال في أنحاء أخرى من العالم. وهذا يمكن عزوه إلى ثبات النمو السكاني في إنجلترا خلال القرن السابع عشر وإلى توسع أنواع أخرى من أوجه العمل؛ فقد بقي الكثير من فائض العمال في المناطق الريفية وأصبحوا جزءًا من المنظومة المتدرجة التي كانت تتضمن أن يجلب بائعو الأقمشة الصوف الخام إلى ساكني الأكواخ، حيث كانت عائلاتهم تعمل على غسله ثم تلبيده ثم ندفه ثم غزله ثم نسجه ليتحول في النهاية إلى قماش. وكان الحرفيون المهرة في إنجلترا يقومون بالكثير من أعمال الحديد المزخرف في منازلهم خلال السواد الأعظم من القرن الثامن عشر.

في هذا النظام المنزلي، كان أرباب العمل يدفعون للعمال بنظام القطعة، وكان رب المنزل هو الذي يحدد ساعات العمل ووتيرته وظروفه؛ فكانت الأمهات تجلسن إلى دولاب الغزل، وكان الآباء يجلسون إلى النول في حين كان الأطفال يقومون بمهام أخرى — حسب عمرهم وجنسهم وبراعتهم — في العملية التي تأخذ الصوف المجزوز من ظهور الخراف وتحوِّله في نهاية المطاف إلى لفة كبيرة من القماش.22 مثلت هذه المنظومة المتدرجة خطوة على طريق تحول الكثير من سكان المناطق الريفية إلى طبقة عاملة حديثة، كما أدت إلى ازدياد حجم الأسرة؛ إذ لم يعد ساكنو الأكواخ بحاجة لانتظار قطعة أرض يزرعونها كي يتمكنوا من تكوين أسرة، بل كانوا يستطيعون الزواج في سن مبكرة بفضل الاقتصاد الصناعي المتوسع؛ فأسفرت زيجاتهم المبكرة تلك عن ارتفاع معدلات المواليد.23
بدأت مكانة لندن في البروز بين المدن الأوروبية خلال العقود التي شهدت تحرر العمال من قطاع الزراعة في إنجلترا؛ فازداد سكانها الذين كان عددهم يبلغ نحو ٤٠٠ ألف نسمة عام ١٦٥٠ إلى ٥٧٥ ألف نسمة عام ١٧٠٠، ثم إلى ٦٧٥ ألف نسمة عام ١٧٥٠، ثم إلى ٨٠٠ ألف نسمة عام ١٨٠٠. وعلى سبيل المقارنة، حينما تفوقت لندن على باريس من حيث عدد السكان، كان إجمالي عدد سكان فرنسا يفوق إجمالي عدد سكان إنجلترا بست مرات. وفي ظل ازدياد معدل الوفَيَات عن معدل المواليد في لندن، كانت لندن تستقبل أيضًا من المناطق الريفية سيلًا مُطَّردًا من الرجال والنساء الذين كان عددهم يقدر بما يتراوح بين ٨ آلاف إلى ١٠ آلاف نسمة سنويًّا. وقد قدر أحد العلماء أن فردًا بالغًا من بين كل ستة أفراد قضى فترة من حياته في لندن.24

كان تجار المدينة يستخدمون الملاحين، وعمال الميناء، وعمال المخازن، وصناع الأشرعة، وعمال جلفطة السفن (أي سد شقوقها بالقار)، وصناع الأشرعة وعمال تركيب النحاس، وعمال الحبال الذين كانوا يعملون على صيانة سفنهم كي تظل قادرة على الإبحار. وهكذا كان استيراد المواد الخام يعود بربح طيب من خلال وظائف ذات أجور جيدة في مجالات تصنيع السكر والتبغ والشاي فضلًا عن شراب الجِن، الذي صار شرابًا مفضلًا في القرن الثامن عشر. كان ارتفاع الأجور يعني أن عددًا متزايدًا من الرجال والنساء العاملين بات قادرًا على شراء البضائع التي تنتجها ورش العمل في إنجلترا. وعلى عكس العديد من العواصم في جميع أنحاء العالم، لم تكن لندن تعج بالموظفين ورجال البلاط، بل بالمشاركين في نشاط تجاري ضخم. وقد ظهر نشاطها هذا جليًّا حينما أتى حريق على المدينة عام ١٦٦٦ ليعاد بناؤها مجددًا بسرعة مذهلة من جانب مستثمري القطاع الخاص.

ثمة عامل اقتصادي آخر شارك في مجموعة الحوافز والسبل الداعمة التي مهدت للثورة الصناعية؛ فقد كانت إنجلترا تمتاز بما تملكه من احتياطي فحم ضخم ويسهل استخراجه. وما إن نفدت غابات البلاد حتى ارتفع سعر الفحم النباتي ارتفاعًا حادًّا، وبدأ الناس يتحولون إلى استخدام الفحم الحجري لتلبية احتياجاتهم من الوقود. كان الفحم الحجري هبة من السماء للصناعات التي تطلبت الكثير من الحرارة مثل نفخ الزجاج وتصنيع الطوب. وأدى حلول الفحم الحجري محل الخشب كمصدر للكربون إلى زوال الضغط عن الأرض أيضًا. وفي ظل رخص سعر الفحم، تمكن الإنجليز من بناء بيوتهم بالطوب؛ مما زاد من تخفيف العبء الواقع على الأرض. وأمكن توفير الخشب لبناء السفن وتأطير الأبنية، على الرغم من أنه كان يُستورد من السويد على نحو متزايد ممَّا جعل صناعة السفن تتحول إلى المستعمرات الأمريكية. وجرى تحويل الفحم الحجري إلى فحم الكوك الذي يستخدم في تسخين أتون صهر الحديد الذي كان يدخل في صناعة أسلحة وأدوات وهياكل بناء. هذه العمليات الصناعية الجديدة لم تنتج على نحو أسرع فحسب، بل أيضًا كسرت القيود التي كانت تفرضها الأرض والمواد الغذائية ومواد الوقود على الإنتاج.25 وفي الوقت الذي كان فيه الوقود الحفري رخيصًا للغاية ومتوفرًا بكثرة في ظل عدد سكان منخفض نسبيًّا، لم يتطرق التفكير كثيرًا إلى ما ستفعله عمليات استخراجه وحرقه في هذا الكوكب على مدار قرنين أو أكثر.
أشارت شعبية أقمشة الكاليكوس والموسلين التي كانت تُجلب من الهند إلى وجود سوق محلية قوية للقطن، علاوة على أن ألياف القطن كان من الممكن معالجتها ميكانيكيًّا — إذا تم التوصل إلى أساليب لذلك — على نحو أسهل من معالجة ألياف الصوف أو خيوط الكتان. وأخيرًا، أظهر الاعتماد المتزايد على الفحم الحجري في مجموعة واسعة النطاق من الصناعات كم سيكون من المفيد أن يستفيد المصنعون من رخص سعره لتوليد طاقة صناعية.26 هذا المزيج من ارتفاع الأجور وانخفاض سعر الوقود في إنجلترا القرن الثامن عشر خلق دافعًا قويًّا لتطوير أساليب تمكنهم من الاستعاضة بالرخيص عن الباهظ، وبالمزيد من الوقود عن قلة العمالة البشرية، أو ببساطة، دافعًا لاختراع آلات تستخدم الوقود الذي يمكنه أن يزيد إنتاج العمال البشر زيادة ضخمة. وهذا تحديدًا هو المفهوم الذي لم يتمكن المصنعون في الماضي من التوصُّل إليه. قيل إن كل عنصر من عناصر السيارات الحديثة كان موجودًا في زمن ليوناردو دافينشي في نهاية القرن الخامس عشر، فيما عدا فكرة المحرك الذي يمكنه تحويل الحرارة إلى شُغل عن طريق حرق الوقود الحفري.27

ثورة علمية

ليس كل رغبة تستطيع أن تُثمر فكرة جديدة. وكما يقول المثل: «لو كانت الأماني خيولًا، لركبها المتسولون.» ولأننا نعلم أن حفنة من المخترعين طوَّرُوا بعض الآلات الرائعة، فإننا نميل إلى الاعتقاد بأننا إذا استطعنا إيجاد دافعهم لذلك نكون قد فسرنا السبب في أنهم اتخذوا هذه الخطوة، لكن تصميم الآلات يتطلب ما هو أكثر من الدافع القوي، وفي هذه الحالة، ما هو أكثر من الموهبة؛ فقد تعدى توماس سافري وتوماس نيوكومن وجيمس واط الدافع والموهبة وأضافوا البراعة إلى التجربة، واعتمدوا على المعرفة التي لم تكُن معروفة من قبل. وهكذا اجتمعت التكنولوجيا والعلوم وشكَّلتا وحدة دائمة. وقد عاش العالم الفلكي جاليليو والمفكر فرانسيس بيكون في نفس الزمن.

في عام ١٦٣٢ أجبرت محاكم التفتيش الإيطالية العالم جاليليو جاليلي على التنكُّر لاعتقاده بأن الشمس هي الجرم السماوي المركزي الذي تدور حوله الأرض والكواكب الأخرى. كان جاليليو بما لديه من سيرة مهنية طويلة ومتميزة في عالم الرياضيات والفلك قد توصل إلى تصور دقيق لقوانين الحركة، وطور التلسكوب كاسر الأشعة قبل أن يجري إسكاته. أصاب جاليليو معاصرًا إنجليزيًّا آخر بعدواه تلك؛ فقد أعجب فرانسيس بيكون — على الرغم من كونه محاميًا وقاضيًا — بملاحظات جاليليو ومنطقه الاستقرائي. قال بيكون في كتابه «تقدم المعرفة»، الذي كُتب لتشجيع اكتساب المعارف المفيدة، إن التجارب — وليس النظريات — هي مرتكزات هذا «العلم» الجديد الذي يتشكل عبر القارة الأوروبية، ولو أن تسميته بالفلسفة الطبيعية ستحقق مزيدًا من الدقة؛ لأن مصطلح «عالِم» لم يشِع استخدامه حتى منتصف القرن التاسع عشر.

أصبحت المعرفة الموضوعية هي الأمنية العظمى التي تتأتى من خلال تكوين فرضيات حول قوى الطبيعة ثم تصميم تجارب يمكنها اختبار صحة الفرضيات. كان بيكون قد سمع الكثير من الآراء على الملأ خلال حياته المهنية الطويلة في المحاكم؛ فتعلم أن يُعلي الحقائق على الآراء، وقال إن الطبيعة ترد على ما يقال عنها، قاصدًا بذلك أنه إذا كانت آراء شخصٍ ما بشأن نظام الأمور خاطئة، فإن التجارب لن تثبت صحتها. من ناحية أخرى، استمرَّتِ الآراء في الانتشار دون قيد لأنَّه في أغلب الأحيان لم تكن هناك طريقة لدحضِهَا. وقد أيَّدَ بيكون نشر المعرفة الجديدة. وهذا أيضًا كان خروجًا على المألوف؛ لأن المعرفة طالما كانت تُعامَلُ على أنها كيان من الأسرار التي لا تمرر إلا لزمرة مختارة. وأسفرت ممارسة مشاركة الملاحظات والتحليل على الملأ إلى توسيع نطاق الاستكشاف. وعملت النتائج المنشورة للبحوث كالمغناطيس، إذ جذبت برادة الفضول من جميع الأنحاء لتتركز حول مشاكل بعينها.

وانشغل خيرة الرياضيين والفلاسفة في جميع أنحاء أوروبا بأعمال جاليليو عن قوانين الحركة، وعلم البصريات، واستخدام النماذج. وطوال القرن السابع عشر تزايد الفضول العلمي، لا سيما في إنجلترا، لكنه كان واضحًا في ألمانيا وإيطاليا وهولندا وفرنسا أيضًا. ثم أجرى رجلان إنجليزيان، إسحاق نيوتن وروبرت بويل، التجارب التي كانت في طريقها لأن تؤثر أشد التأثير على الاختراعات الصناعية. ولد نيوتن عام ١٦٤٢ — نفس العام الذي توفي فيه العالم جاليليو — وكان بويل يبلغ خمسة عشر عامًا في ذلك الوقت. وقد خلف هذان العالمان سلسلة من العرافين الآخرين.

كان النموذج السائد في الفلسفة الطبيعية موروثًا عن أرسطو، الذي عاش منذ عشرين قرنًا مضت قبل ذلك العصر. وصف أرسطو العالم من خلال الفصل بين المادة والشكل. ورغم أن عمله كان مذهلًا من حيث اتساع نطاقه، فقد كان يصف الأشياء في الطبيعة ويعرِّفها، لا يفسرها؛ فسلوك المادة كان يختلف وفقًا لجوهرها أو شكلها، والعناصر الأساسية الأربعة من هواء وماء وتراب ونار تحمل الخواص: جاف، ورطب، وبارد، وحار. والأشياء الثقيلة تسقط على الأرض بسبب خاصية الثِّقَل المتأصلة بها. لكن نظريات نيوتن حول عمل الجاذبية قدَّمَت مبدأً جديدًا تمامًا في عمل المادة. الأجرام السماوية أيضًا، شأنها شأن تلك الموجودة على الأرض، خاضعة هي الأخرى لقوة الجاذبية. كانت هذه القوانين أكثر من مجرد مبادئ؛ إذ كان يمكن التعبير عنها حسابيًّا، وكان من الممكن أيضًا إثبات صحتها، على الرغم من أن قلةً فقط من الناس هم من كانوا يستطيعون أن يتعاملوا مع العمليات الحسابية وقت أن نشر نيوتن كتاب «المبادئ» عام ١٦٨٩.

قال أرسطو أيضًا إن الطبيعة تمقت الخواء. وفيما يُعَد استجابةً لهذا التحدي الأرسطي، أجرى جاليليو تجارب على مضخَّات الشفط، وأثبت العالم روبرت بويل على نحوٍ قاطع من خلال تجاربه على مضخة الهواء والناقوس الزجاجي أن الفراغ موجود؛ مما يعني أن الغلاف الجوي له وزن. ونتيجة للطابع المنفتح الذي اتسمت به الحياة الإنجليزية العامة، انتقلت المعرفة من الاستكشافات التي تقتصر على فئة معينة من الفلاسفة الطبيعيين إلى جمهور أوسع من محبي الاستطلاع العلمي. وصار الافتتان بضغط الهواء، والخواء، والمضخات جزءًا من ثقافة علمية مشتركة على نطاق واسع امتد إلى الحرفيين والمصنعين، بالإضافة إلى أولئك الموسرين الذين تعهدوا المعرفة بالعناية. وخلق التسامح الديني، وحرية نشر الأفكار عن طريق المنشورات والنقاشات، والاختلاط السلس بين المواطنين العاديين وأعضاء النخبة المتعلمة؛ تقبُّلًا واسع النطاق لهذه النظريات المتعلقة بالعالم، والتي كانت تخالف قرونًا من المعرفة.28
لقد هزمت السلطة جاليليو، سلطة الكنيسة. لكن ثمة سلطة جديدة كانت تتخلَّق ببطء؛ إنها سلطة مجموعة الفلاسفة الذين قرأ بعضهم كتابات بعض، وحاكى بعضهم تجارب بعض، وشكلوا توافق خبراء. كانت إنجلترا أكثر ترحيبًا بكثير من الفاتيكان بهذا النمط الجديد من الاستكشاف. وقد شجعت الجمعية الملكية — التي تأسست عام ١٦٦٢ — التجريب وكفلت حمايته. بدأت هذه الجمعية باستطلاع الممارسات الزراعية في جميع أنحاء إنجلترا؛ رغبة في تجسيد روح فرانسيس بيكون لإنتاج المعرفة المفيدة، وربما رغبة في تبرير ما تلقاه من دعم ملكي. وقد دعمت كذلك دراسة حول استخدام البطاطس كغذاء. وما هو أكثر أهمية بكثير أنها جمعت تحت سقف واحد أكثر الأشخاص انخراطًا في المسائل الفيزيائية والميكانيكية والرياضية، وسرعان ما اكتشف أعضاؤها كم هو صعب أن تحول «المعرفة» المفيدة إلى ممارسات مفيدة. لكنهم بدءوا بالفعل سلسلة من المحاضرات التي حملت هذه المعرفة إلى المقاطعات، حيث يمكن أن يتوصل آخرون إلى كيفية جعلها مفيدة على أرض الواقع.29

وبطبيعة الحال فإن أيًّا من هذا ما كان ليُحدث أي تأثير على عالم العمل الذي يتصبب الناس فيه عرقًا بجانب أفران الصهر ويكدحون أمام أنوال النسج، لو لم تكن تلك القوانين الفيزيائية تؤثر على أعمال الرفع، والدفع، والدوران. كان وجود الفراغ وقياس ضغط الهواء هما الاكتشافان الهامان بالنسبة لاختراع المحرك البخاري، باعتباره الابتكار المحوري للقرن. وربما حتى هذه المعرفة كانت ستظل حبيسة في مضخات الهواء والنواقيس الزجاجية لو لم تكن هناك قناعة شائعة، منذ أن كتب نيوتن أن الطبيعة يمكن حملها على العمل من أجل البشر، بأن قوى الطبيعة يمكن فهمها والسيطرة عليها.

على نطاق القارة الأوروبية بأسرها، حيث كانت الكنيسة الكاثوليكية قوية، كان فكر نيوتن مشبوهًا، ويكاد يعامَل على أنه سحر. وحتى في إنجلترا، كان رجال الكنيسة يخشون من أن الإفراط في دراسة الطبيعة قد يؤدي بالرجال والنساء إلى أن يصبحوا ماديين. وهذا المصطلح كان في القرن الثامن عشر مرادفًا لكلمة ملحدين. لكن في هولندا وإنجلترا، لم تَسترعِ هذه الاعتراضات سوى القليل من الانتباه؛ إذ كتب الرجال الذين يمكن أن نطلق عليهم معلِّمي العالم كتبًا تبسِّط الفيزياء نُشرَت في طبعات ولغات عدة. وبدأ يتشكل مجتمع مُشارك فيما يحدث من خلال مجموعة كبيرة من المنظمات المدنية، وجمعيات تحسين الذات، والمكتبات، والمطبوعات الدورية، والصالونات، والمسرحيات. كانت هناك كتيبات مبسطة لشرح مبادئ نيوتن، منها حتى ما كتب خصيصًا للأطفال، ووجدت هذه الكتب جمهورًا متأهبًا وراغبًا. وقد تعرَّف بنجامين فرانكلين على فيزياء نيوتن إبَّان مراهقته خلال زيارة إلى لندن لتعلُّم تقنيات الطباعة. في الوقت نفسه تقريبًا، قضى فولتير الشاب — الذي صار أهم فلاسفة التنوير — ثلاث سنوات في إنجلترا وأعلن أن نظرية نيوتن انتصار بشري.30
منحت معارضة الكنيسة لتعلُّم الفيزياء الحديثة إلى منتقدي النظام الفرنسي القديم — مثل فولتير — تهمةً أخرى ضد هذا النظام. لم تبدأ فرنسا — التي كانت متعثرة طوال القرن الثامن عشر نتيجة للكثير من المشاكل — مرحلة التصنيع إلا متأخرًا، لكن مثقفيها كانوا مولَعين بفكر نيوتن وتطبيقاته. ففي عام ١٧٥١ نشر ديني ديدرو وجان لورون دالمبير موسوعة عظيمة زاوجت بين النظري والعملي. كان محررَا هذه الموسوعة — وكلاهما من الفلاسفة — قد زارَا عشرات من ورش العمل من أجل كتابة ٧٢ ألف باب عن الفنون المفيدة، تنوعت من صنع الساعات إلى أجهزة الخض. ويبدو أن آدم سميث استمد من ذلك التبويب وصفه الشهير لتقسيم العمل.31 كانت موسوعة ديدرو ودالمبير أضخم وأروع موسوعة من نوعها ووجدت بالفعل ناشرين في بريطانيا، والذين توقعوا ما سيلاقيه التنظيم السهل لمصادر المعلومات التقنية من استحسان.
في إنجلترا كان يوجد ما يكفي من الفضول لدفع الناس إلى تكبُّد ثمن دورات مكلِّفة إلى حدٍّ ما للكبار لتعلُّم الفيزياء الحديثة. وقد استفاد المفكر الإنجليزي توماس بين نفسه — الذي قَدِم من إحدى المقاطعات إلى العاصمة — من هذه الدورات، التي آتت أُكلَها فيما بعدُ حين صمم جسرًا حديديًّا. كان هناك أيضًا شبان منتشرون في جميع أنحاء لندن ينشرون أكثر أفكار العصر تطورًا عبر جميع أنحاء البلاد. وسرعان ما أصبح الخبراء المتجولون يُلقون سلسلة من المحاضرات في مدن ليدز ومانشستر وبيرمينجهام، وفي بلدات أصغر أيضًا. وكانوا يجرون وراءهم مئات من الجنيهات في شكل مضخات هواء، ونماذج محاكاة المجموعة الشمسية، وروافع، وبكرات، وأجهزة قياس كثافة السوائل، وأجهزة كهربائية، ونماذج مصغرة من المحركات البخارية. واعتمادًا على هذه الأدوات، استطاعوا أن يشرحوا قوانين نيوتن الخاصة بظواهر «التجاذب، والتنافر، والقصور الذاتي، وكمية الحركة، والفعل، ورد الفعل»32 وبدأت معاهد الميكانيكا بهدف محدد هو تعليم الرجال كيف تعمل الأجهزة الحديثة فعليًّا، ولماذا تعمل.

المخترعون ومخترعاتهم

يدل شيوع القدرة على الإبداع البشري في جميع أنحاء العالم على أن ما من دولة أو عرق أو قارة تمكنت من منعها من الانتشار. كان العرب والصينيون قد أحرزوا تطورات مهمة في العلوم قبل الأوروبيين بفترة طويلة من الزمن، وطوروا كذلك أنظمة هيدروليكية معقدة. وفي أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى برع الحرفيون الأفارقة في استخراج المعادن وصنع القطع الفنية من الذهب والنحاس والقصدير والحديد. وشيَّد المايا والإنكا والأزتك مبانيَ رائعة في العصر ما قبل الكولومبي دون استخدام الحديد أو العجلات. إن أمثلة كهذه تخبرنا أن ما أدَّى إلى الثورة الصناعية ليس ذكاء متفوقًا لحضارة بعينها، وإنما الربط الموفق بين فضول تكنولوجي تجاه الفرص الاقتصادية وبيئة اجتماعية داعمة. ببساطة، تطلب الأمر ذكاءً ومعرفة يعملان في مجتمع كان يحفز على تطبيقهما على عمليات الإنتاج. اضطرت البيئة المحيطة أيضًا لمنح الأفراد مجال عمل كي يجربوا. أو بالأحرى، لم تمتلك السلطات القدرة على تحويل العقول المتسائلة عن مجالات التساؤل، ولم تعاقب — بالقانون أو من خلال التحامل — أولئك الذين تعهدوا الابتكارات التي من شأنها أن تربك أماكن العمل التقليدية.

كان أول من استغل المعرفة الجديدة بوزن الهواء الحدادان الرائدان توماس سيفري وتوماس نيوكومن، حينما استخدماه في دفع البخار لتشغيل محرك. وفي عام ١٧٠٥ أدى اختراع نيوكومن — الذي كان فعالًا في ضخ المياه من المناجم — إلى بَثِّ الحياة في عدد من مناجم الفحم غير المربحة. فقد أشار أصحاب المعرفة على أصحاب المناجم — الذين كانوا من كنيسة إنجلترا، أو من جامعة أكسفورد، أو من النبلاء الذين كانت أراضيهم تحوي رواسب معدنية — بشراء محرك بخاري. في الوقت نفسه تقريبًا توصل أبراهام داربي إلى كيفية استخدام فحم الكوك — وهو مادة صلبة ناتجة من حرق الفحم — بدلًا من الكربون الناتج من الخشب في أفران الصهر. وفيما يُعَد تكافلًا مفيدًا، استخدمت محركات داربي البخارية الفحم لإشعال مراجلها، بينما كانت تُستخدم هي لضخ المياه من المناجم التي كانت تنتج ذلك الفحم. وكما هي حال الكثير من الاختراعات الأخرى، استغرق الأمر ما يقرب من نصف قرن قبل أن يصنَّع الحديد المسبوك على نحو سهل باستخدام فحم الكوك، وباستخدام أعمال الضخ التي كانت تنجزها المحركات البخارية لدفع الهواء داخل أفران الصهر.33
حل المحرك البخاري الذي اخترعه نيوكومن محل الدواليب المائية (السواقي) ومنافيخ الكير التي كانت تستخدم في مجالَيِ التعدين وصناعة الحديد. وكان هذا أول إحلال ضمن سلسلة لا نهاية لها من الإحلالات. كانت هذه المحركات كثيرة الاستهلاك للوقود، لكن إنجلترا كانت تمتلك الكثير من الفحم، وهذا يعني أن المحركات البخارية كان لا بد من استخدامها بالقرب من حقول الفحم التي تقع في وسط إنجلترا. يطلق الاقتصاديون على هذا التركز للمشاريع حول رواسب الفحم اقتصادات التكتل، وهم يعنون بذلك أنه إذا تجمعت ورش العمل، فسوف تكون قادرة على الاعتماد على تجمُّع من العمال المهرة، والخدمات المتخصصة، والمواد الخام بأسعار أقل، وهذه نتيجة مفيدة غير متعمدة لما كان من قبل أحد أوجه القصور الحقيقية.34 بحلول عام ١٨٠٠، كان هناك ١٦٠٠ محرك من محركات نيوكومن يعمل في إنجلترا، و١٠٠ محرك في بلجيكا، و٤٥ محركًا في فرنسا. وفي هولندا وروسيا وألمانيا كانت توجد بضعة محركات، أما في البرتغال وإيطاليا فلم تكن توجد أية محركات على الإطلاق.35 كانت هناك حاجة إلى شيء جديد يجعل المحركات البخارية قادرة من الناحية الاقتصادية على مواصلة العمل في الأماكن التي يَقِل وجود الفحم فيها. لكن في غضون ذلك، كان نجاح أجهزة نيوكومن في حل مشاكل تصريف المياه من مناجم الفحم قد حوَّل إنجلترا إلى المركز الرئيسي للتعدين في أوروبا بعد أن بلغ إنتاجها ٨١٪ من مجمل الحمولات الطنيَّة من المعادن الأوروبية.
ظهر جيمس واط — صانع الأدوات الاسكتلندي — في المشهد حينما أُعطي أحد محركات نيوكومن ليصلحها. أوحت له هذه التجربة بأن يصبح مهندسًا ميكانيكيًّا. ورغم أنه كان قد علَّم نفسه بنفسه إلى حد كبير، فقد اعتمد على معرفة رجال العلم الذين قابلهم في جامعة جلاسكو. ظلَّ واط طيلة حياته قارئًا نهمًا وجامعًا للكتب،36 وحاول خلال تجاربه — التي اتسمت بالدقة التي تميز أي عالم من علماء المختبرات — أن يفهم سبب الهدر الرهيب من البخار خلال عمليات التسخين ثم التبريد ثم إعادة تسخين الأسطوانات الموجودة في محركات نيوكومن، فصمم لحل هذه المشكلة مكثفًا ليرسل العادم إلى غرفة منفصلة لكنها متصلة بالمحرك، ونال براءة هذا الاختراع عام ١٧٦٩. ومثلما حدث في حالة استخدام البخار كقوة لنقل الأشياء، استفاد المكثف من خاصية أساسية من خصائص الطبيعة، هذه المرة كانت هذه الخاصية الضغط الجوي. واصل واط — على مدى حياة مهنية طويلة في صنع المحركات البخارية وتدريب المهندسين المتخصصين في هندسة البخار، أمضى الكثير منها في مصنعه في بيرمينجهام — العمل على تصميمه، محولًا إياه — كما وصف أحد الباحثين في الآونة الأخيرة — من «آلة أولية رديئة الصنع إلى مصدر عالمي للطاقة الصناعية.»
كان متوسط قدرة نماذج محركات واط التي كانت موجودة في أواخر القرن الثامن عشر تعادل قدرة الدواليب المائية (السواقي) خمس مرات، وكان يمكن وضع هذه المحركات في أي مكان.37 من المعروف أن الحصان يستطيع أن ينتج طاقة تفوق قدرة الإنسان العادي بعشر مرات. بدأ واط بهذا البند الإحصائي كي يحدد وحدة لتعيين الطاقة الاصطناعية؛ فكان مقياس «قوة الحصان» يساوي القوة اللازمة لرفع ٥٥٠ رطلًا مسافة قدم واحدة في زمن مقداره ثانية، أو نحو «٧٥٠ واط». كان نجل جيمس واط من بين المصنِّعين الذين أدركوا إمكانيات المحرك البخاري. ونتيجة لاسترشاده المتواصل بالرياضيات والفيزياء بفضل والده، طبق ما يعلَمه على تصميم محركات للسفن، وكذلك فعل مجموعة من الأمريكيين الذين كانوا يتوقون لإيجاد وسيلة لنقل الركاب والبضائع إلى منطقة خليج هدسون شمالًا وعبر فروع نهر المسيسيبي في الجنوب خلال العقد الأول من القرن التاسع عشر. كان الانتقال من البواخر إلى خطوط السكك الحديدية خطوة تالية بديهية، اتخذها جورج ستيفنسون في عشرينيات القرن التاسع عشر. أنتج واط وشريكه ماثيو بولتون مئات من المحركات لكل ما يمكن تصوره من تطبيقات التصنيع، وقد تجاوز عددها الألف محرك بحلول عام ١٨١٩، سنة وفاة واط. وقد حمى واط وشريكه براءات اختراعاتهما بشراسة، وتمكَّنا من تحقيق ثروة على عكس الكثير من المخترعين الذين لم يكسبوا سوى القليل من وراء براعتهم. كانت عملية الحصول على براءة اختراع تشبه في كثير من الأحيان اجتياز مسار حافل بالموانع. ما هو أكثر إثارة للدهشة أن معاصري واط كانوا يدركون الإمكانات الواعدة لإنجازاته.

تحسين صناعتي النسيج والفخار

تعد عشرينيات القرن التاسع عشر شارة بدء عصر البخار الذي غيَّر وجه الأرض، من حيث غلافها الجوي وغلافها الحيوي وغلافها المائي وسطحها. قبل ذلك الوقت بمائة سنة، كان عدد سكان العالم قد بدأ الازدياد الذي وصل إلى ذروته مع نهاية القرن العشرين. إن الشهية النهمة للوقود الحفري، والناجمة في جزء منها عن تزايد عدد الأفواه التي تحتاج للإطعام، والأجساد التي تحتاج للكسوة، والأسر التي تحتاج للمأوى، والمصانع التي تحتاج للتشغيل، ظلت خفية على الإدراك لزمن طويل. وإذا نظرنا الآن إلى التأثيرات المتلاحقة الناجمة عن آلاف من العواقب غير المقصودة التي أسفرت عنها التقنيات المتعاقبة للصناعة فسنرى أن هذه العواقب كانت مهولة. وقد استغرق الأمر قرنًا آخر ونصف القرن كي يدرك الناس أن الآثار المترتبة على التصرفات الجماعية لمليارات الحيوانات الصغيرة إلى حدٍّ ما والتي تمشي على قدمين قد انتشرت بالفعل واجتاز تأثيرها الحدود المحلية والإقليمية لتصبح عالمية. وتُبين الإحصاءات هذه الحقيقة. ففي الفترة الواقعة بين العقود الأخيرة من القرن الثامن عشر ومطلع القرن العشرين، زادت الطاقة الاصطناعية كفاءة العمال مائتي مرة. وقد حسب أحد الخبراء أن الناتج العالمي نَمَا بمقدار أربعين مرة خلال القرن العشرين فقط.38 لكننا لن نستبق القصة التي ازدادت سخونة خلال القرن التاسع عشر على يد المهندسين الذين كانوا منشغلين بتطوير تصميم محرك واط.

أصبح صنع الأشياء الجميلة أيضًا أكثر سهولة باستخدام البخار. كان الأوروبيون يستوردون الخزف من الصين منذ القرن السادس عشر، وكانت هذه القطع المزخرفة والمصنوعة بدقة تضع الأواني الفخارية الثقيلة التي كان ينتجها الفاخوريون الأوروبيون في موقف حرج بتفوقها عليها. أظهر هذا أيضًا ما يمكن تحسينه. وفي الربع الأخير من القرن الثامن عشر، أخذت الشركات في مدينتي سيفر وليموج بفرنسا، وستافوردشاير بإنجلترا، تخوض التحدي المتمثل في محاولة بلوغ جودة الخزف الصيني. جرت هذه المحاولة بقيادة جوسيا ويدجوود، الذي ولد لأسرة فاخوري، وعرف خلال نشأته التنظيم العفوي للعمل في مصانع فخار ستافوردشاير. فكما هي الحال بالنسبة لمعظم الحرف اليدوية في ذلك الوقت، كان العمال يتركون العمل لأجل حضور حفلات التأبين، وحفلات الزفاف، والمعارض، وقضاء فترات خاصة في احتساء الشراب. لم تكن الساعات منظَّمة، ولم يكن الفاخوري صاحب العمل — الذي عادة ما كان يملك محلًّا فضلًا عن ثمانية أو تسعة من العمال والصبيان المتدربين — يراقب سير العمل كما ينبغي. لكن كان كل فاخوري على علم بمعظم الحيل التي يمكن من خلالها تحويل الطين إلى وعاء، وكان الفاخوريون ينجزون هذه المهام بنجاح متوسط، عدا استثناءات نادرة. فبدأ ويدجوود — الذي كان يعد شخصية أسطورية في تاريخ التصنيع — ينظر إلى هذه الملامح على أنها تَحدٍّ يحتاج للإصلاح.

تعامل ويدجوود مع صناعة الفخار كعالم، وفنان، ومراقب عمل. فأجرى تجارب على الطين والكوارتز، وخلط أكاسيد معدنية، واخترع البيرومتر لقياس درجات الحرارة في أفران الخزف، وأتقن صنع أوانٍ خزفية قشدية اللون إلى درجة جعلت العائلة المالكة نفسها تستخدمها، وقد ذاعت سمعته نتيجة لعبقريته في تنظيم مصنعه وقولبة موظفيه محولًا إياهم إلى حرفيين متخصصين؛ أسوة بما يفعلونه من قولبة الطين لتحويله إلى أطباق، وسلطانيات، وفناجين. ولأن ويدجوود كان حقًّا شخصًا ذا رؤية، فقد كان يتخيل الشيء الذي يمكن أن يكون مثاليًّا ثم بعد ذلك يبذل كل جهد ممكن لإنجازه. وعلى عكس أسلوب العمل الروتيني المعتاد في مصانع الفخار، قرَّر ويدجوود أن يصنِّع منتجاته المختلفة بتقسيم العمل إلى مهام منفصلة وأن يركز كل واحد من الخزافين — الذين كانوا يقومون بكل المهام مجتمعة — على مهمة واحدة فقط؛ فمثلًا عند إنتاج قطعة خزفية ملونة في مصنع ويدجوود، كان الرسامون والطحانون وطابعو الرسومات ومبطنو الأواني ومحددوها وملمِّعوها، وعمال جلي القطع الخزفية يعملون معًا في غرفة واحدة، جنبًا إلى جنب مع مصممي النماذج وصانعي القوالب وعمال الفرن والحمالين وعمال التغليف الذين عملوا ضمن جميع الأقسام.39

لقد أخذ ويدجوود مزيج الأشخاص الذين كانوا مدرَجين على جدول رواتبه، وصهرهم على شكل قوة عمل حديثة. كان يستخدم أجراسًا وساعات لغرس الالتزام بالمواعيد، وكان الحفظ الدقيق للسجلات يمكِّنه من تحديد الموظفين المتمردين وتوقيع الجزاءات عليهم، وكان يستخدم النساء في مصانعه؛ مما أثار غضب موظفيه من الذكور، على الرغم من أنهم كانوا يتقاضون أجورًا تفوق أجور النساء بكثير. ولم يكن يتسامح مع عادات العمل المتراخية التي كانت سائدة بين أبناء جيل والده، لكنه كان يراعي احتياجات عماله المادية، ويدفع لهم أجورًا مرتفعة، ويعتني بصحتهم، ويبني لهم منازل بدلًا من الأكواخ التي كانوا يعيشون فيها.

لم يمضِ وقت طويل على افتتاح ويدجوود مصنعه الجديد في شمال غرب إنجلترا، حتى أمرت إمبراطورة روسيا كاثرين العظمى بطلبية لشراء ألف قطعة من قِطعه القشدية اللون الشهيرة. وحينما قرأ ويدجوود أن الإمبراطورة تريد أن تكون أطباقها وسلطانياتها مزينة بالمناظر الطبيعية الخلابة، فضلًا عن رسومات للأطلال والمنازل الرائعة القديمة، أدرك أنه لا يملك الفنانين القادرين على القيام بهذا النوع من العمل، وأن تدريب الفنانين الذين يعملون لديه بالفعل لن يكون بالأمر السهل. وبطريقة ما تمكن ويدجوود من إرسال ٩٥٢ طبق إلى الإمبراطورة، لكن نجاته بأعجوبة من هذا الفشل أقنعته بإنشاء مدرسة لتدريب المصممين والمزينين منذ سن مبكرة. ولعله ما من شيء يدل على ميله إلى التفكير على المدى الطويل أفضل من رغبته هذه في تحويل مراهقين إلى حرفيين مهَرة من الرجال والنساء. أفاد من زاروا الصين في ذهول أن ٧٠ زوجًا مختلفًا من الأيدي كانت تعمل على كل طبق يخرج من مصنع الخزف الصيني. والفرق بين تنظيم ويدجوود وهذا التقسيم المتطرف للعمل في الصين يكمن في أن ويدجوود إلى جانب إصراره على الجودة كان ينشد الكفاءة أيضًا.40
في العقود الأخيرة من القرن الثامن عشر، شحن ويدجوود أطنانًا من أدواته الخزفية قشدية اللون، وأوانيه من البازلت الأسود واليشب إلى بولندا والدنمارك وإيطاليا وأمريكا الجنوبية وألمانيا وفرنسا، ودول الأراضي المنخفضة التي تضم بلجيكا ولوكسمبورج وهولندا. وقد أرسى معايير ذلك العصر من حيث الرقي، والمهارة الفنية، والبريق، والخامة، ومرافق الإنتاج. ولدت صناعة الخزف الحديثة حينما ركَّب ويدجوود المحركات البخارية في مصنعه للخزف في نهاية القرن الثامن عشر. وساهم أيضًا في حفز هوَس تشييد شبكة القنوات المائية في إنجلترا خلال العقد الأخير من القرن الثامن عشر؛ مما يعطي دليلًا مبكرًا على علاقة الدعم المتبادل بين الصناعة والنقل.41 وقد حَبَت الطبيعة إنجلترا بالعديد من الأنهار التي عززت القنوات منافعها.
كانت صناعة النسيج الإنجليزية متشبثة بإجراءات الإنتاج القديمة، كحال مصانع فخار ستافوردشاير قبل أن يظهر ويدجوود في المشهد. صحيح أن بعضًا من العمال كانوا يُجمَّعون في مصانع النسيج التي تعمل بالطاقة المائية، لكن العديد من الرجال ظلوا يعملون في المنزل بمساعدة أُسرهم والقليل من الصبية المتدربين. وكان الحدادون وصانعو الساعات يصنعون الأدوات من الخشب والقليل من الأجزاء الحديدية.42 كانت صناعة النسيج بحاجة لثورة هي الأخرى، وكان القطن هو القماش الذي عقد عليه أطيب الآمال في النجاح؛ فأليافه كانت أسهل في العمل عليها من ألياف الصوف أو الحرير أو الكَتَّان، وكانت سوقه ضخمة. كان الهدف هو ميكنة الحركات التي تؤديها أيدي الغزَّالِين والنسَّاجين وأذرعهم.

أحدث أربعة رجال — عملَ كلٌّ منهم على حدة — تحولًا في صناعة النسيج باختراعاتهم — مغزل جيني، وبغل الغزل، والمنسج الآلي — التي صممت كلها لتسريع عملية تحويل الصوف إلى خيط ثم تحويل الخيط إلى قماش. وتلخص نجاحاتهم المختلفة المصير المشترك الذي يجمع المخترعين؛ فقد اخترع جيمس هارجريفز وتوماس أركرايت «مغزلَ جيني»، وجيني هو اسم زوجة جريفز، وهو عبارة عن جهاز بسيط مكَّن من زيادة دورات خيط الغزل التي تدورها العجلة الواحدة. وما إن بدأ هذا الجهاز يُستخدم في الغزل، حتى ارتفع عدد لفَّات المغزل ارتفاعًا سريعًا من ٨ إلى ٨٠ لفة. كان هارجريفز نسَّاجًا، لكن أركرايت تمتع بعلاقات أفضل مع مساندي هذه الفكرة وكان قادرًا على إنشاء مصنع، حيث نجح في جمع ٦٠٠ عامل — الكثير منهم من النساء والأطفال — تحت سقف واحد. الرجل الثالث هو إدموند كارترايت، وهو رجل دين قروي تخرج من جامعة أكسفورد، لكنه صار منشغلًا بعملية النسيج إثر زيارته مصنعًا لغزل القطن. وبعد مرور عام، في ١٧٨٥ حصل على براءة اختراع المنسج الآلي الذي يستخدم قوة البخار لتشغيل النول العادي لصنع القماش؛ فأصبح هذا النول هو النموذج المبدئي للنول الحديث. ورغم أن كارترايت بنى مصنعًا للنسيج فقد أشهر إفلاسه. الرجل الرابع هو صامويل كرومبتون الذي اخترع بغل الغزل، الذي — كما يوحي اسمه — يجمع بين اختراعين: مغزل جيني والمنسج الآلي. لكنه اضطر لبيع حقوق استغلال اختراعه هذا لأنه كان أفقر من أن يقدر على دفع ثمن عملية تسجيل براءة الاختراع.

منحت قوة البخار البريطانيين ميزة تنافسية في صناعة الغزل والنسيج، لا سيما غزل القطن ونسجه. وصار البريطانيون قادرين على بيع منتجاتهم بأسعار تقل عن أسعار بيع جميع المنتجات الهندية والصينية. كانت سوق القطن سوقًا عالمية، وكانت الأقمشة الإنجليزية رخيصة للغاية بحيث كانت تستطيع أن تقتحم الكثير من الأسواق المحميَّة في العالم. وعاد انتعاش مبيعات القطن بفائدة على الأصباغ أيضًا، التي كان معظمها يُصنع في العالم الجديد. فقد كان الخشب البرازيلي يفرز صبغة حمراء، وكذلك نبتة الفوَّة التي كانت تُجلب من تركيا. إن الإبداع البشري شيء رائع؛ فقد اكتشف شخص ما بطريقة ما أن الجثة المجففة لإناث إحدى الحشرات — هي دودة القرمز التي تعيش على الصبار المكسيكي — تستطيع أن تعطي لونًا قرمزيًّا رائعًا. وقد صار هذا اللون فيما بعدُ جزءًا من ألوان الأقطان. ويعود أصل صبغ النيلة — الذي يعطي تدرجًا جميلًا من اللون الأزرق — إلى الهند. وقبل أن يحل عصر الأصباغ الكيميائية كان يصعب الحصول على الألوان، وكان ارتداء الملابس ذات الألوان الزاهية يدل على الثراء. نجحت إليزا لوكاس بينكني — إحدى المبدعات الإناث القلائل في هذه الفترة — في تجربتها لزراعة النيلة في ولاية ساوث كارولاينا. أمكن الاستفادة من صورتي المناخ بالمستعمرة في إنتاج شيئين للسوق العالمية؛ إذ أنتجت الأراضي الرطبة الأرز، فيما أنتجت أراضي المرتفعات الأكثر جفافًا النيلة. حولت هذه الأصباغ الرائعة أيضًا إحدى وسائل الترف إلى مسرة تتمتع بها بائعات المتاجر ويتمتع بها عشاقهن أيضًا. وبات بمقدور الناس العاديين ارتداء اللون الأرجواني — الذي كان في الماضي حكرًا على الملوك — لكن ذلك لم يمر دون أن يثير الدهشة في بادئ الأمر.

حوَّل البخار صناعة النسيج إلى صناعة رئيسة في القرن التاسع عشر. كانت الأماكن التي تصلح لزراعة القطن أكثر من تلك التي تصلح لزراعة السكر، لكنها كانت رغم ذلك أماكن محدودة. ولم يبدأ الأمريكيون زراعة الأقطان قصيرة التيلة حتى اخترع إيلي ويتني محلج القطن عام ١٧٩٣. وبعد ذلك الاختراع، صار الطلب هائلًا، وازداد بمقدار عشرين ضعفًا في ٥٠ عامًا. وفي النهاية صارت مصانع مانشستر تستقبل إمدادات منتظمة من القطن؛ نتيجة لانتقال المستوطنين وعبيدهم لاستغلال الأراضي البكر في جورجيا، وألاباما، ومسيسيبي. وعندما نجحت ولايات الشمال في إيقاف شحنات القطن إلى إنجلترا خلال الحرب الأهلية تحولت بريطانيا العظمى إلى مصر، حيث كانت الحكومة تشجع إنتاج القطن. لكن في وقت لاحق أدَّى توافر الطاقة الرخيصة اللازمة لضخ المياه لمسافات طويلة إلى إتاحة زراعة محصول القطن المربح في الصين، فضلًا عن أجزاء من ولايتي أريزونا وكاليفورنيا. لكن هذا استباق لأحداث قصة الرأسمالية في القرن الثامن عشر.

ظهور المصانع

ظل العمال لفترة طويلة يُجمَعون في مصانع الجعة، وأحواض بناء السفن، وبجانب أفران الصهر، وفي المناجم، ومصانع الورق. لكن مع دخول التصنيع مجالَيِ النسيج والخزف، أصبح المصنع رمزًا لحقبة صناعية جديدة، وإن ظل عمال المصانع جزءًا صغيرًا من قوة العمل متنوعة النطاق في المجتمعات الحديثة. وقد أطلق الشاعر ويليام بليك على هذه المصانع اسمًا مميزًا جديرًا بالذكر هو: «المصانع الشيطانية المظلمة». وقد انتشرت المصانع التي كانت تستخدم الطاقة المائية في الريف الإنجليزي، في حين تجمعت معظم المصانع التي كانت تستخدم طاقة البخار حول أماكن رواسب الفحم في إنجلترا في وسط البلاد. وكانت المصانع أماكن مظلمة وقذرة وخطرة، لكنها بالنسبة للعمال كانت أفضل قليلًا من المناجم. وكان النساء والأطفال يعملون جنبًا إلى جنب مع الرجال في المناجم، ينقلون الفحم في سلال مملوءة عبر الأنفاق الطويلة سيئة التهوية. وضعت المصانع — سواء التي تعمل بطاقة المياه أو بطاقة البخار — نهاية لاستقلال الأسرة التي كان أفرادها يعملون معًا في المنزل، وبات أصحاب المصانع أو المشرفين عليها يستطيعون مراقبة أداء مستخدميهم من خلال تنسيق مهامهم اليومية، على الرغم من أنه في بادئ الأمر ظل الأقارب يعملون معًا في وحدات المصنع. وأدى التعقيد المتزايد للماكينات إلى جانب إصرار المستهلكين على الحصول على منتجات نموذجية إلى ازدياد أهمية الإشراف أكثر فأكثر.43 تمكن أرباب العمل — من خلال جمع عمالهم في مكان واحد — من فرض يوم عمل مدته ١٢ ساعة، وهي المدة التي صارت قاعدة متعارَفًا عليها في القرن التاسع عشر.

أوجد نجاح ويدجوود وظائف لسكان ستافوردشاير؛ فنما مسقط رأسه أكثر من خمس مرات خلال حياته. لكن أدت اختراعات أخرى موفرة للوقت إلى طرد الرجال والنساء من أعمالهم. فقد أحدثت جميع الابتكارات تغييرًا جذريًّا في حياة العمال. وبإلقاء نظرة طويلة الأمد، يستطيع خبراء الاقتصاد أن يبرهنوا على أن جعل السلع أرخص عادةً ما ينتهي بخلق فرص عمل من خلال تحرير الطلب على سلع أخرى. لكن الألم يحدث على المدى القصير، والعديد من العمال الإنجليز استجابوا لهذا الألم استجابةً مريرة. ففي العقد الثاني من القرن التاسع عشر، حطم عمال يوركشاير — الذين كانت أسرهم تعمل في جَزِّ صوف الأغنام على مدى أجيال — آلات جز الصوف التي كانت تقضي شيئًا فشيئًا على سبيلهم الوحيد لكسب العيش. اتخذ هؤلاء العمال اسم نِد لود، وهو أحد المقاومين الأوائل. وأعلن هؤلاء «اللوديون» الحرب على الماكينات التي انتهكت روتين العمل الموقر وسلبت الراحة وحميمية العيش المشترك من مكان العمل.

في الواقع كان صناع الأقمشة الصوفية في غرب إنجلترا قد بذلوا في وقت سابق جهدًا كبيرًا لمنع صناع الأقمشة من استخدام مغزل جيني الذي كان يشكل تهديدًا لهم؛ لأن هذا الجهاز يستطيع القيام بعمل عشرين نساجًا. كان هؤلاء الحرفيون يستفيدون من تقاليد تنظيم عريقة في صناعة الصوف؛ لذلك ناشدوا البرلمان بتطبيق القوانين التي كانت مدونة في الكتب منذ أجيال. وبعد عشر سنوات من تقديم الالتماسات، وممارسة الضغط، وتوزيع المنشورات حظي صانعو القماش أخيرًا بتحقيقٍ برلماني. كان هؤلاء العمال يحاربون للإبقاء على الطريقة القديمة والمستقرة للعيش، في حين كان أرباب العمل يحاربون لزيادة الأرباح عن طريق توفير تكاليف الأيدي العاملة. وحين لجأ العمال للقوانين التي كانت موضع اعتبار في الماضي وكانت تثبط الابتكارات؛ رد المصنِّعون بأن هذه القوانين عَفَا عليها الزمن وبأنها ستُحدث المزيد من المشاكل. كان هذا منعطَفًا جديدًا في النزاع الأزلي بين التقليد والإصلاح، وبين الجمود والتغيير.

ألغى البرلمان فيما بعدُ القوانين القديمة التي تنظم تجارة القماش عام ١٨٠٩. وبعد ذلك بعامين، بثت حركة اللوديين الحماس في نفوس آلاف العمال الآخرين على امتداد قطاع واسع من إنجلترا. فبينما كان صانعو القماش يحطمون ماكينات النسيج، كان عمال المزارع يهاجمون اختراعًا آخر، هو محراث الخُلد أو المحراث الدفين، الذي كان يستخدم لصنع قنوات التصريف بواسطة كرة من الصلب. وكما يوحي اسم هذا المحراث، كان يحفر مسارًا يشبه ذلك الذي يحفره حيوان الخُلد، الذي يرفع التراب قليلًا أثناء تحركه تحت سطح الأرض. فأرسلت الحكومة قوة مسلَّحة قوامها اثنا عشر ألف جندي لإخماد أعمال الشغب في المناطق الريفية، وهي قوة أكبر من تلك التي اصطحبها دوق ولينجتون إلى إسبانيا لمحاربة نابليون. ثم أتبع البرلمان ذلك بإضافة تحطيم الآلات إلى قائمة الجرائم التي يعاقَب عليها بالإعدام، والتي بات عددها يقدر بالمئات. وعلى مدى القرن الذي شهد ازدهار الثورة الصناعية، كان هناك أكثر من ٤٠٠ مثال على الأنشطة المباشرة المضادة لوتيرة التغيرات الحادثة في مكان العمل ونطاقه في بريطانيا العظمى. وأثار تدمير الممتلكات ردودَ فعل ضارية من جانب مُلَّاك الأراضي والمصنِّعين والممولين والتجار، الذين كانوا يمارسون سيطرة قوية على الحكومة البريطانية. تجلَّت هذه السيطرة والقيم التي قامت عليها في أوضح صورها خلال المجاعة الأيرلندية في الفترة بين عامي ١٨٤٦ و١٨٤٨. ففي حين كان مئات الآلاف من الرجال والنساء والأطفال يموتون جوعًا، كان الأيرلنديون يرسلون المواد الغذائية إلى إنجلترا الثرية لأن القوانين كانت تمنعهم من إطعام أنفسهم من غلال الفدادين التي يملكها الملاك الغائبون.44
استمرت مقاومة التجديد على نحو متقطع حتى القرن التاسع عشر، منتقلة من تحطيم الآلات إلى التهديد بالعصيان المسلح. وقد أدت تظاهرات كابتن سوينج خلال ثلاثينيات القرن التاسع عشر إلى تأخر استخدام آلات درس الحبوب. واستمرت الحرب على الميكنة حتى نهاية القرن التاسع عشر بين منضدي حروف الطباعة، ونشاري الأخشاب، والعاملين في تجارة الأحذية والنعال. واحتج عمال المزارع على ما هو أكثر من الابتكارات التقنية، مثل استخدام العمالة الأيرلندية، وكيفية تنفيذ قوانين الفقراء.45 وعادة ما كان يجري التركيز على الطابع الرجعي لاستجابة العمال بهدف تجاهل مظالمهم الحقيقية التي تتعلق بساعات العمل وأجوره وظروفه.
غالبًا ما يقال إن التكنولوجيا تخفِّف العمل الشاق، رغم أن التنسيق اللازم في المهامِّ الصناعية، والضجيج المستمر، والخوف المزمن من وقوع الحوادث جعلت العمل اليدوي كريهًا أكثر من ذي قبل. وأصبحت زيادة ضغط العمل هي القاعدة، ليس فقط بسبب تشغيل الماكينات، بل أيضًا لأن أصحاب الماكينة باتوا يريدون أن يعود استثمار رءوس أموالهم في هذه الماكينات بالربح في كل ثانية. وكلما غارت المناجم لمسافات أعمق زاد الخطر المحتمل جراء التفجيرات، وعملت جميع الأعمال المميكنة على ملء رئات العمال بالملوثات.46 ولما لم يكن للعمال أي تمثيل في عملية الإنتاج، فقد طوَّروا طرقهم الخاصة بغية إسماع أصواتهم وإعلائِهَا فوق ضجيج قعقعة المعادن؛ فشغلوا الآلات بالسرعة الخاطئة، وأهملوا الأجهزة التي قلبت حياتهم العملية رأسًا على عقب؛ فقد أسفر ظهور الآلات عن خفض عدد العمال اللازمين، لكنه أسفر أيضًا عن ازدياد عدد العاطلين عن العمل وعدد العمال تحت الطلب. وبعد عدة جهود لإيجاد بدائل للميكنة، هدأت روابط العمال ورضيت بخدمة الآلات. وما من شك أن الرجال والنساء وأطفالهم كانوا مضطرين إلى العمل في ظل ظروف أكثر مشقة بكثير من ظروف عمل أسلافهم.

إذا تناولنا هذا الأمر من منظور تاريخي، فسنجد أن هذه الحملات العدائية من جانب العمال كانت إلى حد كبير محاولة أخيرة ويائسة للحيلولة دون حدوث التغييرات. لكن من منظور المستقبل القريب لهؤلاء العمال الذي تعيَّن عليهم أن يعيشوه جميعًا، نرى أن هؤلاء المحتجين كثيرًا ما فازوا بمكتسبات. وكان الجمهور في أغلب الأحيان في صف العمال لأنهم كانوا يؤيدون التمسك بالقديم. وقد صادر البرلمان سلطة قضاة الصلح في تنظيم الأجور، وهي حماية قانونية كانت تمثل سلاحًا ذا حدَّين بالنسبة للعمال. كان عصر الطريقة الأبوية يفسح المجال لعصر التقدم، وهذه هي الفكرة التي كانت قد سيطرت بقوة على مخيلة أفراد الطبقة الراقية في بريطانيا. كانت قلة من العاملين في الصحافة تعبر عن جانب العمال لعامة الناس. ولو أن آدم سميث علق تعليقًا لاذعًا في كتابه «ثروة الأمم» حينما قال إن المصنعين لم يجتمعوا قط لتناول العشاء، بل من أجل تحديد الأجور. وبينما كان من السهل على أرباب العمل عقد اتفاقات غير رسمية بين بعضهم وبعض، كان العمال يصطدمون بالقوانين المضادة للتآمر عندما يمارسون ضغطًا بغرض اكتساب أي حقوق. وقد مر قرن آخر قبل أن تصبح المفاوضة الجماعية جزءًا من النظام الرأسمالي ويصبح العمال قادرين على التمتع بمنافع التصنيع في العمل والمنزل على حد سواء.

التأثير الفكري للتغير التكنولوجي

دائمًا ما يُرجع الناس التفوق الإنجليزي الصناعي إلى مَزِية بعينها — سواء أكانت ارتفاع الأجور أو انخفاض تكاليف الوقود، أو تأمين ملكية الأراضي، أو التحسينات الزراعية، أو انخفاض الضرائب، أو ازدياد المدن، أو ثقافتها العلمية — لكن لماذا لا يلاحظون كيف كانت جميع هذه العناصر تعزز بعضها بعضًا؟ إذا وضعنا في الاعتبار كيف كانت هذه السلسلة من الاختراعات غير مسبوقة، فسندرك أنها تطلَّبت العديد من العوامل التي تعمل على نحو تفاعلي — شأن الجينات ذات الآليات الاسترجاعية — كي تحقق هذه الثورة في عمليات الإنتاج. وأولئك الذين يؤكدون على أن الحوافز المالية دفعت الرجال إلى اختراع الأجهزة التي توفر الأيدي العاملة إنما يُغفِلون مكوِّنًا رئيسيًّا لهذه الأفضلية الإنجليزية، ألا وهو تشجيع التوجهات التي تدعم المشاريع الاقتصادية. ويمكن عزو العديد من هذه المزايا إلى ابتعاد بريطانيا عن الاضطراب السياسي للقرن السابع عشر.

إن ما يعده «أفضل وألمع» أبناء أي جيل بمثابة إنجاز عمرهم إنما يعتمد إلى حد كبير على القيم التي تشَرَّبوها في صغرهم. فمثلًا لو كان جيمس واط قد وُلد في إنجلترا قبل قرن من ميعاد ولادته الأصلي، فربما كان من السهل أن يكرس نفسه لإصلاح كنيسة إنجلترا، على الرغم أن هناك شك في أن مثل هذه المهنة كانت لتبلغه أوج المجد الذي أهَّله لأنْ يحتل تمثاله الضخم ذلك المكان الذي يحتله في كنيسة وستمينستر الآن.47 شهد القرن الثامن عشر شبابًا موهوبين صَبُّوا مواهبهم الجوهرية في اختراعات صناعية وفي بعض الأحيان اكتسبوا شهرة وثروة أيضًا. وقد عززت كثرة عدد هؤلاء الموهوبين على مدى عدة أجيال تواصل التطور الصناعي، علاوة على أنهم كانوا متنافسين متعاونين، يتلهف كلٌّ منهم لتسجيل براءة اختراعه، لكنه يملك من الحماس ما يدفعه إلى تشارُك الأفكار المبتكرة. وقد انتشرت مَلَكة الابتكار في عائلات كثيرة كعائلتي جيمس واط وهنري مودسلي.
خلال القرن الثامن عشر، صار واضحًا لأول مرة أن الباعث السري وراء الرأسمالية هو الابتكار، وإن كان هذا أمرًا غير مضمون. أقول «غير مضمون» لأنه ما من وسيلة لإجبار الناس على الابتكار. بالتأكيد يمكن تشجيعه، ومن الواضح أن بعض الثقافات تُنميه أكثر من غيرها، لكن الأفكار المبتكرة تبدأ في التجاويف الخفية لدماغ شخص بعينه. والشيء المذهل هو عدد المخترعين الذين علَّمُوا أنفسهم بأنفسهم. لم يكن هؤلاء مجرد مصلحي أدوات استغلوا معرفتهم بكيفية استخدام البكرات والتروس والقضبان الأسطوانية والأسافين ودواليب الموازنة والعتلات من أجل تحسين الأجهزة الموجودة بالفعل، بل كانوا عباقرة حقيقيين، مثل ريتشارد روبرتس أو جون ميرسر، اللذين علَّما نفسيهما بالاستعانة بالمؤلَّفات العلمية في مجال الميكانيكا. فقد ميكن روبرتس آلات الغزل عام ١٨٢٥، وهو الابتكار الذي ظل مستخدمًا حتى القرن العشرين. وكان ميرسر رائد عمليات طباعة المنسوجات القطنية، وأدخل ما يُعرف بعملية المرسرة، التي جعلت الأقمشة أكثر تحملًا للشد.48

حركة التنوير في فرنسا وإنجلترا

فيما يخص الأفكار التي أصبحت ضرورية للغاية لإحداث تحولٍ في المجتمع الأوروبي خلال القرن الثامن عشر، جمعت علاقة مدهشة بين فرنسا وإنجلترا. كان البريطانيون قد دخلوا القرن بمجتمع من نوع جديد؛ مجتمع نبذ الرقابة وقهر الاستبداد السياسي من خلال دستور متوازن جعل السلطة موزعة بين الملك والنبلاء والعامة. (في الحقيقة لم يكُن «مجلس العموم» يمثل عامة الناس العاديين بالضبط؛ فقد كانت ثروة أعضائه المتراكمة تفوق ثروة الطبقة الأرستقراطية، لكنه كان يرمز للشعب.) أمَّا في فرنسا، كانت القوانين الغامضة تعرقل كل من يرغب في ممارسة العمل الحر. وكان العمال والفلاحون يتمتعون بامتيازات تثبط التنمية الاقتصادية. وسواء في المقاطعات أو بين النبلاء أو بسبب احتكار موروث يملكه أحد الأفراد أو في أي شركة، كانت قطاعات واسعة من المجتمع قادرة على مقاومة هذا الشيء المفزع الذي يدعى التغيير.

ظل النظام الملكي الفرنسي المحتضر متشبثًا بسلطته المطلقة حتى عام ١٧٨٧، حينما دفع خواء الخزانة الملك لاستدعاء المجالس العمومية التي كانت قائمة في الماضي. لم تكن هذه المجالس قد اجتمعت منذ ما يقرب من قرنين من الزمان، لكنها سارعت بتحويل نفسها إلى ما عرف باسم الجمعية الوطنية. هذه الخطوة القاتلة قذفت البلاد إلى أتون ثورة. وهذا تحديدًا ما كان يلزم للتحرر من القيود والروتين الحكومي، والتراخيص، وخطابات التأسيس، وجميع القوانين القديمة التي كانت تعزز استعلاء الطبقة الأرستقراطية وتشد وثاق ذلك المارد الجبار؛ فرنسا. خلال القرن التاسع عشر، عملت البلاد على اللحاق بالركب، وبحلول الحرب العالمية الأولى صارت تضارع بريطانيا العظمى من حيث معدل ثروة الفرد.

أثار تطرف الثورة الفرنسية ذعر معظم الإنجليز، الذين خشوا من أي شيء من شأنه أن يثير الاضطراب بعد عدة أجيال من الازدهار. وأثرت هذه النزعة المحافظة على جميع مستويات المجتمع. على سبيل المثال، عقب انتشار خبر إعراب العالم جوزيف بريستلي عن تعاطفه مع الثورة الفرنسية عام ١٧٩٤، قامت مجموعة من الغوغاء بتدمير منزله؛ فلاذ بالفرار إلى ولاية بنسلفانيا الريفية. يا له من فرق أحدثه قرن واحد! ومع ذلك، كانت إنجلترا مسئولة بطرق عديدة عن اندلاع الثورة الفرنسية؛ إذ إن قراءة الفرنسيين للتاريخ الإنجليزي، ودراستهم علوم نيوتن ولوك، واكتشافهم الشخصي للمجتمع المنفتح الطموح الكادح المحب للاستطلاع للقرن الثامن عشر؛ كل ذلك مهَّد الطريق لولادة فكرة إمكانية إصلاح النظام القديم، وهي فكرة بالغة الأهمية.49

كانت التغيرات الجلية في البيئة المطورة تثير الخيال بإلحاح يضارع ذلك الذي أثارته الأسئلة التي طرحها الفلاسفة. واجتذب شكل مكثف على نحو استثنائي من أشكال الفضول بلدان أوروبا الغربية إلى المُضي قُدمًا في طرق الابتكار التي باتت أكثر رحابة من أي وقت مضى مع تنحية الناس الممارسات التقليدية جانبًا. وعلى طرق الإبداع البشري الرحبة هذه اكتشف الأوروبيون أنهم صانعو عالمهم الاجتماعي الخاص. كانت أصداء هذا الإدراك بالغة الأهمية، وتتعارض بشدة مع تقاليدهم الدينية، وبدا أن العالم ليس مخلوقًا للتأمُّل والتبجيل، بل هو عملٌ متواصل ينبغي تحسينه.

في عام ١٧٧٦، كان لاثنين من المؤلفات — فضلًا عن وثيقة واحدة مذهلة — أثر حاسم في تاريخ الرأسمالية: «ثروة الأمم» لآدم سميث، و«المنطق السليم» لتوماس بين، ووثيقة إعلان الاستقلال الأمريكي. كان سميث يهدف بكتابته إلى تحرير الاقتصاد من التدخل الحكومي، ووصف بتفصيل واسع ومقنع ما أسماه «نظام الحرية الطبيعية الواضح والبسيط.» نالت أفكار سميث حول الاقتصاد دعمًا من نموذج للسلوك البشري خرج خروجًا قاطعًا على المفاهيم التقليدية بأن الرجال والنساء لا يمكن التنبؤ بأفعالهم، ومتقلبو المزاج، ومستهترين. وتوضح كلماته هذه النقطة إذ قال: «إن الجهد الموحد، والثابت، والمتواصل دون انقطاع من جانب كل فرد من أجل تحسين حالته [هو] المبدأ الذي يستمد منه في الأصل الرخاء العام والوطني، فضلًا عن الرخاء الشخصي.» أكد سميث أيضًا على أن «القاعدة التي تدفعنا إلى الادخار هي الرغبة في تحسين حالتنا، على الرغم من أن هذه الرغبة هادئة وفاترة بوجه عام، وتولد معنا من الأرحام، ولا تتركنا حتى نذهب إلى القبر».50

وكما رأى نيوتن التجانس الكامن وراء التنوع المذهل للكواكب والنيازك والنجوم، وجد سميث أيضًا اتساقًا في المعاملات التجارية المتعددة التي تشكل السوق، ووصف عالمًا اقتصاديًّا لا يخضع لقوانين الدولة، بل على العكس من ذلك، يُخضع الدولةَ لقوانينه. ورغم أن الاختراعات التي بلغت ذروتها في مجال التصنيع كانت في بدايتها بالكاد حين وضع سميث مؤلفاته؛ فقد كان يشهد من التحسينات ما يكفي ليتنبأ بالمستقبل.

كان قانون النتائج غير المقصودة جزءًا لا يتجزأ من تنظير سميث، وهو يشكل رؤية مدهشة بعيدة النظر للفلاسفة الاسكتلنديين، تطرح كيف يمكن أن تكون الأفعال ناشئة عن إرادة أفراد حريصين على مصلحتهم الشخصية، ومع ذلك تعود بالفائدة على مجموعة أكبر من الأفراد. وبالطبع كان أكثر أمثلة ذلك شهرة «اليد الخفية للسوق»، والتي تستخدم المنافسة لتحويل حافز الربح إلى قوة تعود بالخير. وكما أوضح سميث: «إننا لا نتوقع الحصول على طعامنا بفضل نزعة الخير في نفس اللحام أو الخباز أو صانع الجعة، بل من حرصهم على مصلحتهم الخاصة.»51 وهذا أحد المفاهيم التي ساهمت في ظهور الانطباع القوي بأن الحقيقة كثيرًا ما تكون محجوبة وراء المظاهر. كان سميث يستجيب للتطورات التي كانت تحدث إبان فترة حياته، بين عامي ١٧٢٣–١٧٩٠، حينما كان لا يزال من السهل نسبيًّا على خباز شاب وطموح أن يحصل على المال ويؤسس به نفسه بحيث يتنافس على نحو فعال مع المنافسين الأقوياء. لاحقًا، سحب تركز رأس المال البساط من تحت «اليد الخفية للسوق» بوصفه أكثر القوى المشكلة للسوق حيوية.

قدم سميث وزملاؤه الاسكتلنديون تاريخًا افتراضيًّا للبشرية يتتبع المجتمع البشري منذ مرحلة الصيد وجمع الثمار إلى الرعي، ثم إلى الزراعة المستقرة، وأخيرًا إلى المجتمع التجاري. وقد ساعد اكتشاف الشعوب الأصلية في الأمريكتين الشمالية والجنوبية — التي كان أبناؤها لا يزالون يمارسون الصيد وجمع الثمار — على إثبات الفرضيات الاسكتلندية من خلال وقائع أمكن رؤيتها على أرض الواقع. ومن هذا المنظور، تبين أن عملية بطيئة من التغيير التدريجي — لا أحداثًا طارئة وأشخاصًا ذوي نفوذ كما تقول كتب التاريخ — هي التي دفعت التاريخ للتحرك قُدمًا. كان التركيب الموزون للحقائق الاقتصادية الذي طرحه سميث ينطوي ضمنيًّا على الافتراضات بأن البشر شركاء سوق منسجمون ومنضبطون ومتعاونون، وبأن ثمة قوانين طبيعيةً تحكم مجال الأنشطة التطوعية لأن هذه الصفات يمكن الاعتماد عليها.

شدَّد الاسكتلنديون على أن تاريخ البشر لم يتباين ويتقلَّب خلال دورات من التغيير، كما كان يُعتقد من قبل، بل إن أنماطًا من التحسينات التراكمية التي لا رجعة فيها هي التي سيَّرت الأحداث في اتجاه جديد. فقد حمل الوقت في ركابه تطورًا، وليس تغييرًا وحسب. قلب هذا الإدراك موقف الأوروبيين إزاء الماضي والمستقبل على حد سواء. فمن قبل كانت جنة عدن تذكِّر المسيحيين بأنهم يعيشون حالة انحطاط، وكان عصر النهضة يمجِّد اليونان القديمة، وكان المفهوم الكلاسيكي للتغيير الدوري يربط حياة الإنسان بالدورات التي يمكن ملاحظتها في الولادة ثم النمو النشط إلى مرحلة النضج، ثم الاضمحلال والموت اللذين لا مفر منهما. لكن بعد أن بات الوقت يُقسم إلى عمليات مضمونة، وأنماط متعاقبة، ومسارات لا رجعة فيها، بات من الممكن رؤية كل ينبوع من ينابيع النشاط البشري يصب في النهر الكبير للتقدم، ولو أن هذا المصطلح لم يلقَ الرواج حتى القرن التاسع عشر. هيمن سيناريو التنمية الجديد على فضاء الخيال الذي كان مكرسًا من قبل للإيمان بالقصة الشجيَّة للتقهقر المحتوم. وانتحى الخوف جانبًا مفسحًا المجال للأمل.

كان توماس بين أحد أكثر الدعاة إلى الأمل نجاحًا، وقد كتب بين «المنطق السليم» للأمريكيين بعد أن هاجر إلى ولاية بنسلفانيا عام ١٧٧٣. كان ثائرًا عنيدًا على المعتقدات التقليدية ومقاتلًا متحمسًا لإجراء الإصلاحات التي من شأنها إفادة الرجال والنساء العاديين، وليس فقط من يستخدمونهم ومن يملكون الأراضي التي يعملون بها. ولكي يدعم قضيته، هاجم مجمل فكرة الدستور المتوازن التي كان البريطانيون يفاخرون بها. وانتقد الماضي حينما كتب أن الدستور البريطاني «كان نبيلًا في عصور العبودية والظلام التي صيغ فيها»، وأطلق لنفسه العِنان في الاستشهاد من الكتاب المقدس، مبينًا أن الملوك كانوا يرسَلون لبني إسرائيل كعقاب لهم. وقد بيَّن الفرق بين المجتمع — كانت كلمة المجتمع وفكرته جديدتين في ذلك الوقت — والحكومة؛ فالمجتمع يتحرك من خلال جمعيات طوعية ويفعل الخير، بينما الحكومة — على الرغم من أنها ضرورية — فإنها جلاد بغيض. ورأى بين أن التجارة بديل عن الحرب كي يحصل الناس على ما يريدون، ووصفها بأنها «نظام سلمي» يعمل على إشاعة الود بين أبناء الجنس البشري، من خلال جعل الدول — فضلًا عن الأفراد — مفيدة بعضها لبعض.52

خلال الأوقات التي لم يكُن بين يؤلف فيها كتيبات تحريضية، كان يعمل على تصميم لجسر حديدي تم بناؤه في نهاية المطاف؛ فقد كان يجمع دعاواه السياسية المتطرفة بحماس للتقدُّم الاقتصادي. وكانت مظاهر الظلم الموروث للمجتمع الأرستقراطي هي أهدافه، لا الانتهاكات الجديدة التي تحدث في المجتمع الصناعي. ولم تؤثر كتاباته في تاريخ الرأسمالية فقط لأنه شجع على تحرر المستعمرات الأمريكية من حكم الإمبراطورية البريطانية، بل أيضًا لأنه جعل الهجوم على التقليد شأنًا شعبيًّا. كان رجال أمثال بين معجبين باقتصاد المشاريع لأنه مفتوح أمام المواهب، وليس حكرًا على أولئك الذين يحظون بمكانة اجتماعية موروثة. وهذا لا يزال صحيحًا إلى اليوم، ولو أن الحصول على رأس المال بات أكثر صعوبة.

تلاشى تهديد الأعداء القدامى ببطء، على الأقل من المخيلة. وقد واصل توماس بين الهجوم على أرستقراطيي إنجلترا بينما كان أصحاب المصانع الجدد يستجمعون قوة أكبر بكثير من تلك التي كانوا يحوزونها من قبلُ. خسر العمال العاديون الكثير من الحرية في هذا العصر؛ ففي القرن التاسع عشر مارَسَ أصحاب المصانع — الذين كانوا قد توحَّدُوا حديثًا في طبقة قوية — السيطرة عليهم من خلال حقهم في التعيين والإقالة كيفما طاب لهم ومن دون سبب. ورفضوا فكرة أن الحرية شيء ثمين بالنسبة إلى العمال مثلما هي ثمينة بالنسبة لهم أيضًا، جاعلين الملكية الخاصة هي الغاية الاجتماعية الأولى. ونظرًا لأن حماية العمال الذين كانوا يحاولون التضامن للحصول على حقوقهم في ممتلكات رؤسائهم الخاصة تطلبت تشريعات، فقد كان الملاك كثيرًا ما يتعاملون مع حملات العاملين باعتبارها اعتداءات على الحرية. أما بالنسبة لآخرين، فإن المعركة التي طال أمدُها بين العمال والإدارة، على ظروف السلامة وأجور العمل وساعاته وظروفه، أثارت الجدل حول ارتباط الحريتين الاقتصادية والسياسية، الذي لم يبدُ في الماضي مثارًا للجدل حينما كان الرأسماليون يقاتلون ضد فئة حصينة من ملاك الأراضي.

خلال القرن الثامن عشر كان من الممكن رؤية الأثر التراكمي للممارسات الرأسمالية بوضوح وهو يشكل نظامًا. فقد نُظم الإنتاج بحيث يعود بالربح، بدلًا من أن يكفل بقاء المجتمع فحسب. وأخذ الأفراد الذين يستخدمون مواردهم الخاصة يتخذون القرارات المتعلقة بكيفية استخدام تلك الموارد من دون تدخل كبير من جانب السلطة العامة. وأصبح مجموع القرارات واقعًا اقتصاديًّا ذا أهمية كبيرة بالنسبة لتحديد الأسعار. وصارت المعلومات التي تسري من خلال شبكة غير رسمية لنقل المعلومات في شكل أسعار أو معدلات فائدة أو إيجارات؛ تؤثر على اختيارات المشاركين الآخرين في السوق. ونظم أرباب العمل الأعمال التي يتعين القيام بها، بدلًا من ترك هذه المهمة لتقاليد المهنة. وصارت السلطة الشخصية حقًّا لأولئك الذين اكتسبوا أموالًا من خلال الآليات المحايدة للسوق. ظلت النظم الهرمية القوية — على غرار الكنيسة وطبقة أصحاب الممتلكات — تمارس تأثيرًا، لكنها كانت في كثير من الأحيان تضطر للإذعان لأصحاب السلطة في المجال الاقتصادي.

عند تتبع مسار التصنيع في الولايات المتحدة، يمكن القول إن العبودية كانت إحدى ساقين قام عليهما التصنيع. فقد لعبت العبودية آنَذاك دورًا استراتيجيًّا في حدوث التحول في صناعة الغزل والنسيج التي كانت القطاع الرئيسي في الاقتصادين الأمريكي والبريطاني على حد سواء. في القرن التاسع عشر، شكَّل الشمال والجنوب الأمريكي علاقة اقتصادية متناغمة؛ فقد كان المصنعون الشماليون يوردون الملابس والأخشاب والأدوات لمزارعي الجنوب، الذين كانوا يركزون رءوس أموالهم في إنتاج القطن الذي كان سلعة التصدير الرئيسية للدولة على مدى العقود الخمسة الأولى من القرن. ولولا الأرباح التي كانت تأتي من العبودية في الجنوب، لكان الاقتصاد الأمريكي بالتأكيد تطور بوتيرة أكثر بطئًا، لكن هذا البطء لم يكن ليعوق التقدم في حد ذاته.

في كثير من الأحيان، كان يصعب رؤية القيود المفروضة على العمال الأُجراء؛ إذ حظيت العبودية بالقدر الأعظم من الاهتمام. لقد بدأتُ هذا الفصل بربط استغلال عمالة العبيد في مزارع سكر منطقة الكاريبي بالاختراعات التي أدت إلى ميلاد الثورة الصناعية؛ فهناك أوجه شبه بينهما نظرًا لأن كليهما مدفوع بحافز الربح نفسه، ويعتمد على الموارد نفسها المادية والثقافية على حد سواء. لكن بحلول نهاية القرن الثامن عشر، كان كلٌّ منهما قد اختلف عن الآخر اختلافًا حادًّا؛ إذ نشأت الابتكارات الصناعية في الوطن إبان إحدى أكثر الفترات الفكرية خصوبة على مر التاريخ، بينما ازدهرت العبودية بعيدًا عن الأعين في مناطق نائية ومتخلفة، لكنها لم تكن بعيدة تمامًا عن القلب، بل كان إدراكها سببًا في زيادة انتشار الوعي بها. ففي أرض الوطن كان التحقق الشامل للتقدم الاجتماعي — الذي كانت الآلات الرائعة جزءًا منه — يوقظ الضمير النائم الذي سمح بنظام الرقيق على الجانب الآخر من المحيط الأطلنطي.

في القرن الثامن عشر نبعت قضية تعزيز حقوق الإنسان، وكأنها جاءت من الفراغ، وحركت جيلين من المُصلِحِين.53 كانت عشرات الافتراضات الجديدة حول الرجال والنساء، وطبيعتهم التي كانت تتجلى للعيان، تستدعي الانتباه. وصارت إمكانية إحداث تغيير إيجابي — والتي أصبحت مرجحة بمرور الوقت — تُخايل كلَّ العيون في ظل وفرة محلات بيع المواد الغذائية، ووفرة الأقمشة والأدوات الخزفية والكتب والآلات والحلي المعروضة في الواجهات الزجاجية للمتاجر. وحيثما كان كل شيء من قبلُ يؤكد بما لا يدع مجالًا للشك أن الماضي سيظل يعيد نفسه إلى الأبد؛ بات الكل في انتظار ما سيحدث لاحقًا.

في خِضم هذا الحراك الأخلاقي، غزت المخيلةَ الشعبية في أوروبا الغربية روحٌ جديدة للعمل الإنساني. خلق الفضول التزامات جديدة، وألهمت هذه الالتزامات منظمات متحمسة أطلقت بدورها حملات سياسية، وأسفر نشر الكتيبات الجدلية، ومذكرات العبيد، وشهادة المتورطين في تجارة العبيد؛ عن دفع الصورة الحية للرجال والنساء الأفارقة المقيدين بالسلاسل إلى صدارة المشهد. كان التناقض بين نضال قادة الثورة الأمريكية من أجل نيل الحرية، وبين إبقائهم في الوقت نفسه على نظام العبودية واضحًا وضوحًا محرجًا لهم ولخصومهم البريطانيين. وفي نهاية المطاف، برروا الانفصال عن بريطانيا العظمى بأحقية كل البشر في «الحياة، والحرية، والسعي إلى تحقيق السعادة». وبعد مرور أربع سنوات من إعلان الاستقلال، ألغت السلطة التشريعية لولاية بنسلفانيا العبودية. وبموجب قوانين الاتحاد الكونفدرالي، صارت بنسلفانيا دولة ذات سيادة بحق، وهكذا أصبحت أول حكومة تبين أنه من الممكن القضاء بسلام على نظام تشريعي قديم قِدَم الكتاب المقدس من خلال هيئة تشريعية منتخبة انتخابًا ديمقراطيًّا.

ثم تبعت كل الولايات الشمالية الأخرى ولاية بنسلفانيا نحو هذا العصر الجديد. وبحلول عام ١٨٠١ كان خط ماسون ديكسون — الذي بدأ على شكل خط يفصل بين أراضي ولايتي بنسلفانيا وميريلاند — قد بات يرمز إلى الحد الفاصل بين ولايات العمال الأحرار وولايات العمال العبيد في الولايات المتحدة. وكانت قوانين الإلغاء التدريجي للعبودية في ولايات الشمال تنص على منح الحرية للعبيد الذين ولدوا بعد تاريخ معين بمجرد بلوغهم سن الخامسة والعشرين أو السادسة والعشرين أو الثامنة والعشرين. وحتى في الولايات الجنوبية، نمت جمعيات مناهضة للعبودية حتى عشرينيات القرن التاسع عشر، حينما دعمت زراعة القطن المربحة بقاء العبودية لأربعين سنة أخرى. خلافًا للبريطانيين — الذين كان لديهم قانون يطبق على ممتلكاتهم الجزرية البعيدة عن الوطن — حرر المستوطنون الشماليون العبيد الذين كانوا يعيشون وسطهم. وبات عدد العبيد الذين ظلوا عبيدًا أقل بكثير في ولايات الشمال منهم في ولايات الجنوب. لكن يقدر أن عدد الرجال والنساء المستعبدين كانوا يشكلون نسبة الربع من مجمل السكان القادرين على العمل في مانهاتن. وحينما ألغى قانون ولاية نيويورك مشروعية الاحتفاظ بالبشر كممتلكات، شكل هذا أكبر تعدٍّ سلمي على الملكية الخاصة على مَرِّ التاريخ. وتطلَّب الأمر أن تكمل الحرب الأهلية الأمريكية ما كانت ولاية بنسلفانيا قد بدأته، إضافة إلى تمرير التعديل الرابع عشر للدستور الفدرالي عام ١٨٦٨. إذا تشكك المرء في أي وقت من الأوقات في أن الأفكار تمتلك حقًّا قوة في العالم العادي، فمن المفترض أن تدرأ حملة القضاء على العبودية أي شكوك في ذلك.

في الوقت الحالي، هناك تجارب رائعة للرأسمالية تتشكل حول العالم، لكن الرأسمالية جاءت في الأصل — وعلى مدى ما لا يقل عن ثلاثة قرون — من الغرب. وقد حمل زخمُها الأوروبيين وأساليب عملهم إلى جميع أنحاء العالم. وما إن صارت الرأسمالية منظومة كاملة ذات قِيم ثقافية وعادات اجتماعية تعزز قوتها، حتى مضت لتسحق كل ما يمكن أن يعترض سبيل توسعها. وأصبحت صفات الأوروبيين الغربيين — الانفتاح على الحداثة، والإقدام، والمثابرة، والإبداع، والشعور بالتفوق — أكثر وضوحًا في ظل ازدياد نجاحهم. هذه هي أوروبا التي تعرفها بقية بلدان العالم، وتعجب بها وتخشاها. وهذه هي الثقافة التي شجعت الحقوق الطبيعية، والديمقراطية، والوعي بالقضايا الإنسانية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤