مطالع النور «١»

ما أكثر ما تكون الحقيقة الضائعة ماثلة بين يديك ولا تراها، لا عن علة في البصر، ولكن لأنك لم تعرف كيف توجه البصر توجيهًا سديدًا، ومن أوضح الأمثلة على ذلك — فيما يروي صاحبنا نقلًا عن خبرته المباشرة — أن ترى جماعة من النَّاس تفرقت مذاهب وأحزابًا على وهم من الأطراف المتحركة بأن ثمة بينها خلافًا في الرأي، وإذا بنظرة مفاجئة كاشفة، تبين للمختلفين بأن كل ما اختلفوا به بعض عن بعض، هو الصورة اللغوية التي اختارها كل منهم ليصف بها رؤيته، أو هو أن كلًّا منهم وقعت عينه على ناحية واحدة من نواحي الموضوع المُختلف عليه، وبذلك تصبح حقيقة الأمر هي أن تجمع زوايا النظر بعضها إلى بعض، فإذا بحاصل جمعها هو الحقيقة المنشودة، أي إن الأطراف التي كانت متنازعة على ظن منها بأنها أطراف تتعارض ولا تتلاقى، إنما هي أجزاء متفرقة من كيان واحد، وحكاية جماعة العميان والفيل معروفة، فقد أرادوا معرفة الفيل بلمسات الأيدي، وحدث أن لمسه كل منهم عند موضع واحد من جسمه الكبير، فاختلفت صورة الفيل بينهم بمقدار ما اختلفت مواضع اللمسات، فكان الفيل عند أحدهم قرصًا مستديرًا، وعند الثاني جسمًا أسطواني الشكل، وعند الثالث سطحًا خشنًا مقوسًا، وعند الرابع عمودًا ضخمًا غليظًا، وهكذا، فمن ذا ينبئهم بأن الفيل على حقيقته هو مجموعة الأجزاء سوى مبصر يرى الحقيقة في تكامل أجزائها.

أمثلة ذلك في حياة الفكر كثيرة، يهمنا منها في سياق حديثنا هذا، ما رواه صاحبنا عن نفسه في لحظة مشرقة، حين أدار الفكر فيما يتقسم عصرنا من مذاهب فلسفية تتصارع، وقد وجد نفسه متحصنًا بمذهب منها، وضللته الأوهام حينًا من دهره كما ضللت سواه، ولو كان الخلاف بين تلك المذاهب المتصارعة مقصورًا على أصحابها هناك في الغرب لجاز أن نلوي شفاهنا ونهز أكتافنا، قائلين إن الشأن ليس شأننا، لكننا هنا على أرض الوطن قد تحولنا بقدرة قادر إلى مرايا، لكل مرآة منها ما تعكسه على سطحها من تلك المذاهب المتنازعة، ولم تقنع مزايانا الفكرية بأن تعكس أضواء سوانا، بل أخذت بدورها تعترك ليهشم بعضها بعضًا، وهكذا أخلصت كل مرآة لما عكست.

وفي تلك اللحظة المشرقة التي أشار إليها صاحبنا، سأل نفسه سؤالًا تمليه البديهة، قائلًا: كيف يمكن للعصر الواحد أن يتجزأ بين رؤًى بينها كل هذا الاختلاف المزعوم؟ إن جوهر العصر التَّاريخي المعين، الذي بفضله يصبح العصر عصرًا متميزًا مما سبقه وما سوف يعقبه، هو تلك «الرؤية» الخاصة التي تُوَحِّدها بين فئات النَّاس وأفرادهم غايةٌ مشتركة تستقطب أوجه النشاط على تفرقها، فكيف إذن نخلع على عصرنا هذا صفة العصر وهو على هذا الذي نظنه فيه من تمزق الرؤى تمزقًا لا يجمعها على هدف مشترك؟ وهنا أشرق على صاحبنا السؤال: أحقًّا تتباين المذاهب الفكرية في عصرنا كل هذا التباين الذي توهمناه؟

تعالوا نراجع معًا حقيقة الموقف الفكري كما هو قائم بالفعل في عصرنا، ولكي نتفق جميعًا على أساس نقيم عليه هذه المراجعة، سنفرض صحة الأساس الذي أقام عليه صاحبنا وجهة نظره، في هذه المسألة الفكرية التي نحن الآن بصدد الحديث عنها، ألا وهي: أن الحياة الفكرية في أي عصر تظهر على حقيقتها فيما قد أفرزه ذلك العصر من فكر فلسفي على وجه التحديد، لماذا؟ لأن الفلسفة بمعناها الصحيح، وهو المعنى الذي يؤيده تاريخها، إذ هو المعنى الذي نراه متمثلًا في أعمال أولئك الذين وصفوا بهذه الصفة، وأبقى عليهم الزمن موصوفين بهذه الصفة، أشارت إليهم المؤلفات على أنهم «فلاسفة» وأشارت إلى أقوالهم على أنها «فلسفة»، فلكي نكشف عن السمات الفكرية التي تميز عصرنا، فما علينا — بناءً على الأساس الذي ذكرناه — سوى أن ننظر لنرى أهم المذاهب الفلسفية التي تستوعب عصرنا الحاضر، متمثلًا في صانعيه وهم أهل الغرب، ولا يغير من هذه الحقيقة أن تكون هنالك أمم وشعوب، رافضة للعصر وحضارته وثقافته وداعية أبناءها إلى العودة لما كان عليه أسلافهم في ماضيهم المجيد، لكن هؤلاء بكل مالهم من حق في اختيار الجهة التي يوجهون إليها خطواتهم، فهم في الوقت نفسه ليسوا هم هذا «العصر» بحكم رفضهم له، وإدارة ظهورهم لمقوماته؛ كي يتوجهوا بوجوههم نحو الفترة الزمنية التي اختاروها وهي الماضي.

أما عن المذاهب الفلسفية التي تتقسم فيما بينها شعوب الغرب من أهل أوروبا وأمريكا الشمالية، فالأساس منها أربعة، جاء تقسيمها مطابقًا على وجه التقريب، للرقعة الجغرافية التي يقع فيها كل من تلك المذاهب الأربعة، ففي الشمال الغربي من أوروبا تسود الرغبة في تحليل العلم إلى أبسط وحداته المنطقية، التي من تركيباتها تتكون العلوم المختلفة، وفي غربي أوروبا تسود الرغبة في أن يتجه الفكر الفلسفي نحو ما ينبغي أن يكون جوهرًا للإنسان، وهو أن يكون كائنًا مريدًا وفعالًا لما يريد، مع تبعة أخلاقية يلتزمها الإنسان فيما أراد وفعل، وفي شرقي أوروبا تسود رغبة في أن تكون الحياة الإنسانية مدار التفكير، إلا أنها الحياة الإنسانية في صورتها المجتمعية، وليس في صورتها الفردية كما هي الحال في غربي أوروبا، وفي أمريكا الشمالية تسود الرغبة في أن يتجه الاهتمام نحو المستقبلية، وبذلك يختلف العلم الصحيح عن العلم المغلوط، في أن الأول هو ما يمهد الطريق إلى مستقبل أغنى وأقوى، وأما المغلوط فهو يرد معايير صوابه إلى حقائق مضت وانقضى زمانها، تلك هي المتجهات الأربعة على وجه التعميم والتقريب، وليس على وجه القطع والتحديد، وإلا فلا يخلو قط أن تجد هنا وهناك فروعًا لها قيمة كبرى، ولأصحابها منزلة رفيعة، إلا أنها ليست هي ما يعطي العصر ملامحه وقسماته.

وسؤالنا إزاء هذه الأقسام هو: أهي حقًّا — كما يبدو من ظاهرها — أضداد لا تلتقي؟ بحيث إذا وصفنا مجتمعًا ما بأحد هذه الأقسام، فلم يعد يجوز لنا أن نصفه بما يُوصف به أي قسم من الأقسام الأخرى؟ أم هي في حقيقة أمرها «زوايا» مختلفة للنظر بمعنى أن كل مذهب منها قد اختار وجهًا واحدًا من وجوه العصر، مؤثرًا إياه على سائر الوجوه في أحقية الاهتمام والنظر، وإذا صدق هذا الرأي كان عصرنا هو كل تلك الزوايا جميعًا، وكان علينا عندئذ البحث عن الحقيقة الأساسية التي تكمن وراءها، ولم يكن صاحبنا يشك لحظة في أن عصرنا هو مجموع وجهات النظر الأربع معًا، وأراد ذات يوم أن يوضح هذا الرأي لمن أنكره عليه، فأشار له إلى «سجادة» فُرشت على أرض الغرفة، قائلًا له: إننا نستوعب القول عن هذه «السجادة» استيعابًا كاملًا، إذا نحن استوفينا الإجابة عن أسئلة أربعة عنها فنسأل عمن صنعها وكيف صنعها؟ ثم نسأل ثانيًا لأي شيء صنعها صانعها بالطريقة التي صنعها بها؟ ثم نسأل ثالثًا عن نوع المادة التي صُنعت منها ماذا عسى أن تكون؟ ثم نسأل رابعًا عن الصفة الأساسية بين صفاتها التي بررت لنا أن نقرر بأنها «سجادة» لها حق الوجود في عالم الأشياء على هذا الأساس، فلا هي خرقة من القماش ولا هي قطعة من الخيش.

دقق النظر في هذه الأسئلة الأربعة حول «السجادة» التي كانت موضوعًا للحديث، وهي أسئلة تستوعب الإجابة عنها كل ما يُراد معرفته عنها، تجد أن المذاهب الفلسفية الأربعة التي تتقسم الفكر في الغرب، إن هي إلا ضرب من محاولات أربع، أجابت كل منها عن سؤال واحد من الأسئلة الأربعة التي يمكن السؤال بها عن عصرنا هذا وخصائصه التي تميزه، فأوروبا الشرقية، التي هي بمنزلة من أراد أن يهتدي بحركة التَّاريخ في تكوين الحياة الحاضرة، لاءمتها النظرة المادية الجدلية في فهمها للتاريخ، فالتَّاريخ عندها محصلة صراع بين أصحاب المال وأصحاب العمل، فإذا استطاع الحاضر أن يجمع الجانبين في المواطن الواحد، بحيث يكون هو العامل المُنتج وهو في الوقت نفسه الذي يملك وسائل الإنتاج، ذابت الطبقية وانتهى الصراع، أقول: إن أوروبا الشرقية باصطناعها لهذا الموقف كانت كالذي نظر إلى «السجادة» (في المثل الذي أسلفناه) ليسأل: من صانعها وكيف صنعها؟ وأما أمريكا الشمالية، وعلى وجه التخصيص الولايات المتحدة، فقد اتخذت لنفسها (في مثل «السجادة») موقف من سأل: لأي شيء صُنعت؟ إذ هو موقف من يسأل عن المنفعة المستقبلية للشيء المعين، أو للفكرة المعينة، وعلى هذا الأساس يجيء الحكم بالصلاحية أو بعدم الصلاحية لموضوع الحكم، وأما الشمال الغربي من أوروبا، فقد وقفوا موقف من يسأل عن خامة «السجادة» ما هي؟ وذلك لأن أهم ما شُغل به فلاسفة ذلك الركن الجغرافي من أوروبا، هو أقرب ما يكون إلى تحليل البنية العالمية تحليلًا يردها إلى خامتها الأساسية، وبقيت أوروبا الغربية، فكان سؤالها هو عن مبرر الوجود لما هو موجود مما نريد فهمه وتقويمه، فما هي الصفة الأساسية التي بها يكون الإنسان إنسانًا؟ أيكفي — مثلًا — أن يكسب العلم بحقائق الأشياء ليكون إنسانًا؟ أيكفي لذلك أن يعرف حقيقة التَّاريخ وأن يصوغ حياته على أساس تلك الحقيقة التَّاريخيَّة؟ وهل يكفي أن يصور لنفسه المستقبل الغني القوي فيعمل على تحقيقه ليكون إنسانًا؟ لا، إن ذلك كله مطلوب ولكنه ليس هو جوهر الإنسان في إنسانيته، بل إن جوهره هو أن «يريد» وأن يسلك وفق ما أراد، متحملًا تبعة ما قد أراد وفعل.

هي إذن اختيارات لهذا الركن أو ذلك الركن من أركان أربعة لمربع واحد، وذلك هو عصرنا في واقعه الفكري، وأما «المربع الواحد» في تشبيهنا، فهو «الإنسان»، فمذاهب عصرنا الفكرية جميعًا، قد تلاقت على موضوع واحد، هو «الإنسان»، هنا على هذه الأرض، من هو؟ وكيف ينبغي له أن يكون؟ فكأنما أجاب الشمال الغربي لأوروبا قائلًا: إن إنسان العصر هو من يبني حياته على العلم. وأجاب الأمريكي: إنه هو من يقيم على ذلك العلم صناعة تلد مستقبلًا ناجحًا مأمولًا. وأما أهل القارة الأوروبيَّة فيجعلون الأولوية لحياة الإنسان قبل أن يجعلوها لعلمه وصناعته، إلا أن الجانب الغربي من أوروبا ركز اهتمامه على الإنسان فردًا، بينما ركز الجانب الشرقي اهتمامه على الإنسان مجتمعًا.

تلك هي نظرات الفكر حول حقيقة عصرنا، كما نراها عند مبدعيه، فماذا عن سائر الأمم، والأمة العَربيَّة منها على وجه الخصوص؟ فأولًا: كان موقف الأمة العَربيَّة إزاء هذا كله موقفًا سلبيًّا، يتلقى قارئًا لما يكتبه أهل الغرب، أو مُنصتًا لما يقوله العارفون، وثانيًا: نلاحظ أن أوساط المثقفين من الأمة العَربيَّة قد غلب عليهم رفض ثلاث إجابات عن الإنسان، من الإجابات الأربع التي أسلفنا ذكرها، كما غلب عليهم الجهل بالإجابة الرابعة فلم يكن لهم فيه رفض واضح أو قبول واضح، ومع ذلك فقد اختلفت بينهم أسس الرفض وأسس القبول.

فالفكر الشيوعي في شرقَي أوروبا، والفكر الوجودي في غربَيْها، معروفان بدرجات تتفاوت سطحية وعمقًا بين جماعة المثقفين، ولكنهما مرفوضان معًا على أساس ديني أولًا، وبعد ذلك قد تجيء أسباب أخرى، وهنا يجب أن نذكر بأن للمذهب الوجودي جانبين، فجانب منهما مؤمن ومن هذه الناحية هو مقبول، وجانب آخر ينتهي إلى موقف ملحد، وهو لذلك مرفوض، كما يجب كذلك أن نذكر بالنسبة إلى الفكر الماركسي في شرقي أوروبا، أن هنالك منا من قبلوه من ناحيته السِّياسية، مع الثبات على رفضه من ناحيته اللادينية، وظنوا أن الأخذ بجانب من المذهب والتنكر للجانب الآخر أمر ممكن، وأما عن «براجماتية» النظرة الأمريكية فهي على الأغلب لا تلقى الرضا، وأغلب الظن أن ذلك النفور يرجع إلى كراهية سياسية قبل أن تكون نتيجة لدراسة واعية، وإلا لما كانت تلك «البراجماتية» ذاتها، قد لقيت منا قبولًا في دوائر التربية والتعليم، من الوجهة النظرية على الأقل، وبقي من المواقف الأربعة ذلك الموقف الذي اتجه بمعظم اهتمامه الفكري — على المستوى الفلسفي — نحو تحليل العلوم تحليلًا ردها إلى وحداتها الأولية، وهنالك ظهرت الفوارق بين مختلف فروعها ظهورًا واضحًا، وقل أن تجد بين أوساط المثقفين عندنا من يتجه باهتمامه نحو هذا الطريق الفكري؛ ولهذا فهو — على وجه العموم — بمنجاة من القبول ومن الرفض على السواء، إلا أن يجدوا شيئًا منه قد تعرض له من يقاومونه فيستنكرونه بالكراهية، وليس بالعقل وميزاته.

ذلك هو بعض ما يُقال عن ردود الفعل عند جماعة المثقفين في الأمة العَربيَّة لتيارات الفكر في الغرب المعاصر، متمثلة في مذاهبه الفلسفية، وهي ردود فعل تغلب عليها السلبية — كما ترى — ولذلك نستطيع القول على وجه الإجمال بأن تلك المذاهب لم تؤثر في تكوين الفكر العربي المعاصر، بالرغم من كونها مقررات دراسية في معظم الجامعات العَربيَّة، ولكن كل ما يدرسه الطلاب في قاعات الدرس، هو ذو أثر ملحوظ في الحياة الفكرية العامة خارج أسوار الجامعات، إذن لا بد لسؤال أن يطرح نفسه علينا هنا، وهو: بأي متجه فكري تسير الأمة العَربيَّة في حاضرها؟ والإجابة السريعة عن هذا السؤال، هي أن الأمة العَربيَّة لا تلتقي على هدف فكري واحد، كما كان ينبغي لها أن تفعل، فما يتحمس له زيد يتنكر له عمرو، وذلك يفسر ازدواجية من الازدواجيات الكثيرة التي تكتنف حياتنا، وأعني بها ازدواجية «الحضارة» من جهة، و«الثَّقَافة» من جهة أخرى، فهنالك في الغرب المعاصر حركة علمية قوية مبدعة تنتج عنها كل يوم كشوف جديدة سرعان ما يتجسد أثرها في أجهزة وآلات، فلا يتردد العربي في شراء ما يستطيع شراءه منها، لمستشفياته، ومواصلاته، وصناعاته، ولكل جانب من جوانب حياته العملية، على أنه يرى في الوقت نفسه، أن في مستطاعه رفض الفكر الذي أدى بأصحابه إلى تلك الكشوف العلمية وما نتج عنها، فجاءت وسائله «الحضاريَّة» على صورة، وحياته «الفكرية» على صورة أخرى.

ذلك هو المشهد الذي رآه صاحبنا منذ الأعوام الأخيرة من الأربعينيات، وبدا له في جلاء أننا بين أمرين، لا بد من اختيار أحدهما في شجاعة المؤمن: فإما أن نسد الفجوة بين مظهرنا الحضاري ومخبرنا الثقافي، بأن نقبل الحضارة فنكيف لها الجانب الثقافي، وإما أن نختار الحفاظ على حقيقتنا الثَّقافيَّة، فنرفض المظهر الحضاري المستعار، وصدق الرسول عليه الصلاة والسلام إذ قال: «كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته …» فمن حق كل منا أن يختار أحد الخيارين، على أن يتصدى لشرح ما اختار والدفاع عنه، وكان اختيار صاحبنا هو أن يُؤخذ الوجه الحضاري من عصرنا، وأن يُكَيَّف المضمون الثقافي ليتلاءم مع الظاهر الحضاري المأخوذ.

لكن هذه الصيغة لا بد لها من ضوابط وتحفظات، وإلا أمن أن ينبثق منها شر لا نرضاه، إذا هي فهمت على إطلاقها، فما الذي يجوز تغييره من مضمونات حياتنا الثَّقافيَّة لتتم الملاءمة مع حضارة العصر؟ ثم ما الذي نريد له أن يُؤخذ من عناصر تلك الحضارة بحيث لا نشوه جوهرها، ولا نقتات في الوقت نفسه على اللب الثقافي الذي يميزنا أمة لها من السمات الخاصة ما تنفرد به؟ قد يبدو للوهلة الأولى أننا بهذه القيود نكون قد نسفنا الغاية التي نتغياها، ويصبح شأننا كشأن من قيل عنه: ألقاه في اليم مكتوفًا، وقال له: إياك إياك أن تبتل بالماء، بيد أن حقيقة الأمر في موقفنا، أيسر جدًّا مما قد يبدو.

إن مقومات الحياة الثَّقافيَّة في تميزها وتفردها بالنسبة إلى نظائرها في سائر الشعوب، إنما تكمن أساسًا في أربعة أركان هي: الدين، والفن بما فيه فنون الأدب، ومجموعة من التقاليد والأعراف تتناقلها الأجيال لاحقًا عن سابق، ثم مجموعة من الأفكار التي في صميمها موجهات للناس في حياتهم العملية، بما تنطوي عليه من معايير وأهداف، فإذا طالبنا بأن يتكيف المضمون الثقافي من حياتنا ليلائم الوجه الحضاري الجديد، منقولًا إلينا من الغرب، كان هذا الذي نطالب به متغيرًا تتغير صورته بالنسبة إلى كل مقوم من المقومات الثَّقافيَّة الأربعة التي ذكرناها، فأما أول تلك المقومات، وهو العقيدة الدينيَّة، فهو مقوم ذو حصانة، فلا يجوز لمن يؤمن بعقيدة دينية أن يغير منها ويبدل بحسب الظروف الطارئة، وإلا فقدت معناها من حيث هي «عقيدة» ومن حيث هي «دين»؛ ففي صلب «العقيدة» يكمن إقرار من حاملها بأنها هي «المبدأ» الذي يترتب عليه الحكم بصحة الصحيح وفساد الفاسد، والعكس هنا غير صحيح، فليست طوارئ الظروف والأحداث هي التي تفرض نفسها على «المبدأ» ليتغير معها كلما تغيرت، والأمر في ذلك شبيه بالأمر في الميزان وما يُوزن به، فالميزان ثابت، وموازين الأشياء التي يزنها هي التي تخضع لمعاييره، وأما من حيث هي عقيدة «دينية» فالإلزام بالثبات يزداد ضرورة وإحكامًا؛ لأن «الدين» بحكم تعريفه أمر إلهي، فإذا آمنت به لم يعد من حقك أن تغير فيه، شريطة أن يظل للمؤمن المؤهل أن يرى الرأي في فهم النصوص، لأن اللغة بطبيعتها كثيرًا ما تفسح المجال لتعدد معانيها.

إذن فليس هو الجانب الديني من النسيج الثقافي الخاص، هو الذي يتغير أمام الحضارة الجديدة الوافدة ليتلاءم معها، وإنما الذي يمكن أن يتكيف لها فهو المقومات الثلاثة الأخرى: الفن ومعه الفن الأدبي، التقليد والأعراف، مجموعة الأفكار حاملات القيم والأهداف، وليس في ذلك من شك أو حرج؛ لأن التَّاريخ شاهد على صدق هذا الزعم، فليس بين شعوب الأرض شعب لم يتعرض للتغيرات مع مراحل التَّاريخ فنه، وأدبه، وشيء من تقاليده وأعرافه، وطريقته في فهم الأفكار الكبرى الموجهة للسلوك والأهداف، وأن ما قد طرأ بالفعل على الفن العربي: موسيقاه، وتصويره، وعمارته، وأدبه، من تحولات في عصرنا هذا، بحيث اختلفت كل هذه الجوانب عما عرفناه عنها خلال عصورنا الماضية جميعًا، ليشهد بأن ما نزعمه لتلك الجوانب من قابلية التَّغير ابتغاء الملاءمة مع ظروف عصر جديد، لا يقبل ريبة المرتاب، وكذلك قل في التقليد والعرف، فأمام أعيننا ما يتحول به النَّاس تدريجًا في هذا المجال، تحت ضغط الحياة الجديدة وما تقتضيه.

وبقي الحديث عن المقوم الرابع، وهو «الأفكار» التي تنطوي على قيم وأهداف، فلعل هذا العامل — فيما نرى — هو أهم العوامل الثَّقافيَّة جميعًا في عملية التَّغيير والتطوير، وما هي تلك «الأفكار» التي نشير إليها؟ إن الخريطة الثَّقافيَّة أينما كانت، تتألف من طرفين ووسط يقع بينهما، والطرفان هما: طرف «العلوم» التي يُراد فيها أن تنسحب الذات الإنسانية بميولها ونزعاتها وانفعالاتها وعواطفها انسحابًا يجب أن يبلغ أقصاه، بحيث لا يبقى منه إلا ما ليس في وسع البشر التخلص منه؛ وذلك لنضمن لقوانين العلوم وأحكامها «موضوعية» تامة ما استطعنا إلى ذلك من سبيل، وأما طرف الفن والأدب فها هنا مجال الذات تضع نفسها على أي نحو شاءت، فلا حرج عليها في أن تطلق العنان للطاقة الوجدانية الفردية الخاصة، إطلاقًا لا يحدده إلا ضوابط الإبداع الفني في المجال الذي يبدع فيه المبدع؛ ولهذا فبينما نحن في مجال العلم نسقط عن الإنسان فرديته التي ينفرد بها كي نخلص إلى ما هو عام ومطلق يصدق في كل مكان وفي كل زمان، فنحن في مجال الفن والأدب نسقط عن الموقف المعين ما هو مشترك بينه وبين غيره، لنبحث فيه عما يجعله فردًا فريدًا متميزًا عن أي شيءٍ سواه، وبين هذين الطرفين: طرف العلم من ناحية، وطرف الفن في ناحية ثانية، هنالك كائنات وسطى لا هي فن من الفن، ولا هي علم من العلم، ومع ذلك فهي تسري في كليهما سريان الدم في الشرايين، وتلك الكائنات الوسطى هي مجموعة من «أفكار» من قبيل الحريَّة، المساواة، الديمقراطية، الكرامة، الانتماء، الوفاء، الوطنية، التعاون إلخ إلخ، هي أفكار لم يخلُ منها، ولن يخلو أبدًا إنسان يتعايش في مجتمع واحد مع آخرين، إذ فيها تكمن الضوابط التي تضبط العلاقات الضرورية لتفاعل الأفراد بعضهم مع بعض، ومن أخص خصائص هذه «الأفكار» استحالة تعريفها تعريفًا يبين حدودها إلا على سبيل التقريب؛ وذلك لأن كل واحدة منها تنمو مع درجات النمو التي يصعد بها الإنسان نحو الأكمل، فإنسان العصر الحجري لا بد أن يكون قد احتفظ لنفسه بالحريَّة — مثلًا — بحد من حدودها وبمعنًى من معانيها، وجاءت بعده عصور الحياة البشرية تدرجًا صاعدًا، من مرحلة الصيد، إلى مرحلة الرعي، إلى مرحلة الزراعة، ثم إلى مرحلة الصناعة في صورها التي تدرجت بدورها حتى بلغت ما يحيط بنا من صناعات تقنية (تكنولوجية) ومع كل مرحلة من هذه المراحل، اتسع أفق «الحريَّة» وكثرت جوانبها وأبعادها، ولهذه المرونة الشديدة في معاني كل فكرة من «الأفكار» التي نشير إليها، قد تجد في العصر الواحد — كعصرنا الحاضر — مجمعًا إجماعًا لا استثناء فيه، على وجوب «الحريَّة» للإنسان، و«الديمقراطية» … إلخ، لكن انظر كم تختلف الحدود لكلٍّ من هذه الأفكار في شعب عنها في شعب آخر، فما هو معدود في إطار الحريَّة عند هذا الشعب يُعد خروجًا إلى هوامش التمرد والفوضى عند ذلك الشعب، وما هو «ديمقراطية» في بلد ديكتاتوري الحكم يعد تسلطًا واستبدادًا في بلد آخر، وهكذا، وها هنا في مجال هذه المجموعة الخطيرة من «الأفكار» نجد الفرصة مواتية في تفسيرها على نحو يساعد مجتمعنا العربي على التَّغير المطلوب، لمواجهة ما عسانا ناقلوه من حضارة عصرنا، دون أن تتأثر بذلك الهُوية العَربيَّة، بل العكس أقرب إلى الصواب، إذ يعمل التوسع في فهم هذه «الأفكار» على مزيد من الغزارة في إنسانية الإنسان، هذا — إذن — هو المضمون الثقافي الخاص، أين نغيره وكيف نغيره، وبقي أن ننظر في الجانب الثاني من جانبَي القضيَّة، وأعني الجانب الحضاري الذي نرى ضرورة نقله عن مصادره، ولنذكر دائمًا أن العلاقة بين «الحضارة» و«الثَّقَافة» هي شديدة الشبه بالعلاقة بين جسم الإنسان وروحه، فالجانب الحضاري كله منشآت مجسدة أو ما يؤدي إلى إقامتها، وحضارة عصرنا مدارها الأساسي علوم طبيعية نجحت نجاحًا متسارعًا في قراءة الظواهر الكونية قراءة استخرج بها العلماء أسرار تلك الظواهر وصاغوها في قوانين، وعلى الرغم مما تقدمت به العلوم الرياضية، إلا أنها ليست هي الطابع المميز لعصرنا؛ لأن التفكير الرياضي والبراعة فيه قد تحقق للنابغين من أبناء العصور الأولى، وأما الجديد حقًّا فهو العلوم الطبيعيَّة، خصوًا في صورتها التقنية المعاصرة، ثم نتجت نتائج — بالطبع — لما كشف عنه الإنسان من أسرار الكون وتفرعت النتائج، حتى انتشرت لنرى آثارها قد دخلت كل بيت، لينعم بها كل إنسان، أيًّا كانت درجة علمه، أو ثرائه، أو مكان إقامته، وكان لا بد لهذا كله أن يحدث آثاره في حياة النَّاس، فردية كانت أم اجتماعية، ومثل هذه الآثار الجانبية التي تتولد عن الحقيقة الأم، ألا وهي أن تكون السيادة في عصرنا للعلوم الطبيعيَّة، هي مما يمكن توجيهه والتحكم فيه، فتختلف من شعب إلى شعب، فمثلًا قد نتج عن العلم جهاز يذيع الصوت ويذيع الصورة حول العالم بأسرع من البرق، وفي هذه الحقيقة العلمية يشترك الجميع، لكنهم لا يشتركون — إذا شاءوا الاختلاف — في مضمون الصوت أو الصورة المذاعين، فلكل منا أن يختار ماذا يذيع لينفع النَّاس في إطار تصوره للنفع كيف يكون، واختصارًا فإن للعلم أن يزودنا بوسائل القوة، ولكل شعب حريته — في حدود ثقافته — أن يختار نمطه الخاص في استخدام تلك الوسائل.

فعصرنا كأي عصر آخر علمه نور، وثقافتنا كأية ثقافة أخرى تختار لنفسها كيف تستضيء بذلك النور.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤