مطالع النور «٣»

هل كان يمكن أن يرتج البنيان الحضاري وما يتخلله ويسايره من أنماط ثقافية، ولا يرتج معهما «الفكر» بصفة عامة، والفكر الفلسفي منه على وجه الخصوص؟ إن بين «الحضارة» و«الثَّقَافة» — فكرًا وفنًّا وأدبًا — حركة جدلية لا تنقطع، فالرؤية الثَّقافيَّة تتغير لسبب أو لآخر، لتتغير معها متجهات الإنسان ومنجزاته، ومجموعة المنجزات التي تنشأ في مناخ متجانس مُوحَّد الهدف، هي «الحضارة»، وإذا أخذت الحضارة المُستحدثة بعض شوطها عادت بدورها فأثرت في الحياة الثَّقافيَّة، ولسنا نقول في هذا ما يجهله قارئ واحد، فأمام أعيننا وبين أيدينا ما يبين في أجلى وضوح، كيف تتغير المشاعر والأفكار حول وجه حضاري معين، فنقبل عليه نروج له، أو ننصرف عنه وننفر النَّاس منه، تبعًا لما تغيرت به تلك المشاعر والأفكار، ثم يرتد الأثر في اتجاه عكسي، وأعني أنه إذا ما استقر بنا الأمر على الجانب الحضاري الذي اخترناه، عمل هذا الموقف الجديد بدوره على توجيه مشاعرنا وأفكارنا، فإذا كان التأثر والتأثير لا ينقطعان بين الجانب الحضاري من جهة، والجانب الثقافي من جهة أخرى، فهل كان يمكن — كما أسلفنا السؤال — أن يرتج البنيان الحضاري، ارتجاجًا تمثل في حربين عالميتين وما بينهما من ثورات، خلال النصف الأول من هذا القرن، ولا يسبق ذلك ويلحق ذلك، تحولات كبرى في المشاعر والأفكار، ثم لا يحدث — بالتالي — متجه جديد للفكر الفلسفي؟

إن هذا الكاتب حين يحرص على أن تكون طبيعة الفكر الفلسفي واضحة للقارئ المثقف، فحرصه نابع من يقين عنده بأنه ضرب من المحال أن تبلغ الحياة الثَّقافيَّة في أمة من الأمم مداها، ما لم تستطع أن تستقطب أوجه النشاط الكثيرة، المبعثرة بين أبنائها وبناتها، بالكشف عم تضمره تلك الكثرة المنوعة المتفرقة، من مبدأ واحد مشترك، ومن هدف واحد مشترك كذلك، فلا بد للأمة الواحدة، في العصر الواحد — إذا كانت حياتها سوية — أن تصدر في خضم مشاعرها وأفكارها وأفعالها عن ينبوع مشترك، وأن تستهدف برغم ما يبدو على سطح حياتها من متضادات ومتناقضات، غاية واحدة، لكن ذلك المبدأ الواحد وهذه الغاية الواحدة، لا يُؤمر بهما المواطنون من صوت ينفخ لهم في بوق ليسمعوا ويطيعوا، كلَّا، بل هي الظروف الحضاريَّة تنسج مناخًا بخيوطها، يومًا بعد يوم، وعامًا بعد عام، فتظل تلك الخيوط تتوازى وتتقاطع وتنساب وتتعاقد، حتى ينتج عنها المناخ الثقافي الذي يتنفسه النَّاس في حياتهم اليومية شهيقًا وزفيرًا، فمن الذي يستخرج لهم من بحر الحياة العملية الهائج بفعله وانفعاله، المائج بخصوماته ومصالحاته، ما عساه أن يكون غارقًا في قاعه من مبادئ دفينة وغايات مضمرة؟ إنه الفكر الفلسفي بأهم وجه من وجوهه، فما هذا الفكر في لبه وصميمه إلا إزاحة لرغوة الحياة العملية كما هي واقعة، حضارة وثقافة؛ لينكشف ما تحت الرغوة من حقيقة البحر وما يضمره، فهو فكر قريب الشبه جدًّا بمنظارٍ ذي عدسات تقرب البعيد، وتكبر الصغير، ليراهما الرائي بعد أن لم يكن يستطيع ذلك بحواسه المجردة، إن الفيلسوف الحق لا يسعى وراء جديد يبدعه إبداعًا منقطع الصلة بتيار الحياة كما يجري، بل هو أقرب إلى رجل العلم الذي يحاول بالمناظير المقربة «التلسكوب» أن يرى أجرام السماء التي تبعد عن مكانه مسافة تُقاس بآلاف الملايين من السنين الضوئية، كما يحاول بالمناظير المكبرة «ميكروسكوب» أن يرى جسيمات تبلغ من الصغر حدًّا يستحيل معه على العين المجردة أن تراها، إلا أن يقابل تلك المناظير عند الفيلسوف قدرته على أن ينفذ بثاقب فكره إلى ما هو واقع في حياة النَّاس العلمية والثَّقافيَّة والعملية ليستخرج منها مبادئ مطوية في ثناياها، على أسسها يقيم الإنسان نشاطه العملي أو الفكري والفني، دون أن يكون على وعيٍّ بها، إلا إذا كان ذلك الإنسان نفسه أحد أولئك القلائل الذين يأخذهم القلق إذا هم لم يتعقبوا الوسائل التي توصلهم إلى تلك الأسس الأولية المطمورة في حنايا الضلوع — إذا جازت هذه الاستعارة — ولذلك فمن النادر أن تجد فيلسوفًا في أي عصر، لم يكن هو نفسه مشتغلًا بأمر من أمور العلم أو الفن أو غيرهما، مما قد بُنِيَ على أسس مأخوذة مأخذ التسليم من عامة النَّاس، لكنه هو قد تميز من سائر زملائه، بأن اشتدت به الرغبة، وكانت لديه القدرة في أن يزيح أستار الخفاء عما قد دس في الأعماق من جذور، هي المسئولة عما خرج على سطح الحياة العملية والفكرية التي يحياها النَّاس في أوجه نشاطهم على اختلافها، وبعبارة أخرى ربما كانت أيسر قبولًا، نقول عن الفكر الفلسفي: إنه في أغلب حالاته محاولة ﻟ «تفسير» أوضاع الحياة الفعليَّة القائمة، فمن رغب في تفسير الظواهر الحياتية السائدة تفسيرًا يبلغ نهاية مداه أحب الفلسفة وعرف قدرها، ومن لم يرغب في ذلك عجب لماذا خُلق هذا المخلوق النظري ليشغل النَّاس.

وهذه الحقيقة عن طبيعة الفكر الفلسفي، كثيرًا ما تخفى حتى على بعض الدارسين، ذلك لأحد سببين أو لهما معًا؛ أولهما: اختلاط «الفلسفة»، كما ألفها دارسها، ﺑ «الحكمة» التي يتميز بها من خبروا الحياة العملية خبرة عميقة، مكنتهم من تنظيرها في قواعد عامة، وأما السبب الثاني: فهو أنه بعد أن يعكس الفيلسوف عصره ومحاوره، فيما كتبه أو قاله لمريديه، تمضي الأعوام وتأتي عصور بعد عصور، يظهر فيها من يريدون، أو يُراد لهم، أن «يدرسوا» ذلك الموروث المأثور عن فلاسفة الماضي، فالذي يدرسونه إنما يطالعون «تاريخَ» ما قد حدث في هذا العصر، أو ذاك، أو ما قد حدث في جميع العصور متسلسلة في تاريخ متصل، فإذا نظر هؤلاء إلى ما يطالعونه من جهة، وإلى بعض ظواهر حياتهم القائمة من جهة أخرى، لم يجدوا قسمات حياتهم منعكسة فيما يدرسونه، فينكرون أن تكون العملية الفلسفية في حقيقتها «تفسيرًا» للحياة المحيطة بالفيلسوف، ويفوتهم أنهم إذا أرادوا صورة حياتهم كما يحياها عصرهم، وجدوها عند فلاسفة عصرهم هم، لا في عصور السابقين، على أن ذلك لا ينفي أن يكون هنالك في حياة الإنسانية من المسائل الكبرى، ما يطرح نفسه في كل العصور؛ لأن إجابة العصر الواحد أعجز من أن تستوعبها على نحو شامل، فيه كل الصدق، ومن هنا نجد شيئًا من التشابه فيما يشغل الفلاسفة في كل العصور على حدٍّ سواء.

ولماذا وقفنا هذه الوقفة الطويلة لنلقي بعض الضوء الشارح على طبيعة الفكر الفلسفي، الذي يتميز به «المبدعون» في هذا المجال، وقد لا يتميز بشيء منه من اقتصروا على «دراسة» ما خلفه هؤلاء المبدعون؟ علة ذلك هي أننا بصدد الرواية عن صاحبنا الذي نقص قصة المعالم الكبرى في حياة أحاطت به فانفعل بها، وكان من تلك المعالم أن رأى بعينَيْ بصره وبصيرته معًا، كيف أخذت في الانهيار حضارة ختمت بختام القرن التَّاسع عشر من عقد من أعوام هذا القرن العشرين، وكيف أخذت تبرز خطوط وملامح من حضارة جديدة تُولد، ولم يكن بُدٌّ ليحث هذا التحول الواسع العميق، إلا بنشوب حربين كبريين، واشتعال عدة ثورات سبقتهما، وتوسطت بينهما، ولحقتهما؛ ولذلك طرحنا سؤالنا في أول هذا الحديث: أكان يمكن أن تسقط حضارة وتُولد حضارة أخرى، دون أن ينقضي عهد بفلسفته ليظهر عهد جديد بفلسفته الجديدة؟ ذلك ضرب من المحال، إذا أُريد للحياة أن تكون سوية معافاة مبدعة، ومع ذلك فصاحبنا إذ اشتدت به عزيمة مصممة على أن يثبت في مواطنيه نفثات من روح الحضارة الجديدة، وهي نفثات دارت في معظمها حول أسس الرؤية العلمية، ولا غرابة في ذلك، فهو عصر «العلم» بلا جدال، لقي ما لقيه من مقاومة مستهترة غشيمة، وممن جاءت المقاومة أولًا، ثم تبعهم نفر ممن دخلوا الهيجاء وهم على جهلٍ تام بما يدور حوله القتال؟ جاءت من دارسي الفلسفة أنفسهم، وكان الذي أضحك وأبكى أن تعجب المتعجبون من «الدارسين» كيف جاز لصرخة مدوية أطلقها مجنون، أن تدوي في محراب الفلسفة الهادئ، تريد له أن يصخب بِلَغْوٍ ليس منها ولا هو ينتمي إليها بسبب من الأسباب.

كانت الثورة التي غيرت من اتجاه السير للفكر الفلسفي، لكي يساير حركة الانتقال من عصر ذهب أوانه، إلى عصر لم يُولد بعد، وإن يكن الوجود الحضاري قد أخذتْ تذبُّ فيه إرهاصات المخاض، أوضح من أن تُقاوم من حيث المبدأ، وأما تفصيلات التفريع من ذلك المبدأ فقابلة للنقد والتعديل، وهي إن لم تكن كذلك لماتت ودُفنت في مهدها، وكانت، إلى جانب وضوحها، أعمق من أن تلهو بها أهواء طفلية، إذا جازت في أي مجال آخر فهي لا تجوز في ساحة الفكر الفلسفي، وإن صاحبنا لا ينسى تلك اللحظة التي جاءه فيها زميل ليسأله: أين أجد نقد المعترضين على هذه الثورة في وجهة النظر؟ فأجابه: إنك واجد شيئًا مما تريد عند فلان وفلان، فما هو إلا أن يجد الزميل وقد استخرج ما استطاع استخراجه من نقد المعترضين، لينشره وكأن البضاعة بضاعته، وربما كان عذره في ذلك أن أخلاقيات حياتنا العلمية اليوم أصبحت تبيح هذا السطو على ملكية الفكر، لكن الذي يثير الحسرة حقًّا هو أن المعتدي في هذه الحالة لم يكن على أقل درجة من درجات المعرفة بالحقيقة المفقودة، فذلك لم يكن عنده بذي خطر؛ لأن الأهم هو أن يضيف إلى صراخ الغاضبين صرخة لعله يظفر بنصيب من الثواب.

فما الذي أرادت الدعوة الجديدة أن تستحدثه، ليتلاءم الفكر الفلسفي مع المتجه الحضاري الثقافي الجديد؟ كان بكل البساطة والوضوح، أنه لم يعد يحق في عصر العلم لأحد من غير العلماء في ميدان معين، أن يقتصر الفكر الفلسفي على النقد المنهجي، وليس على موضوع البحث العلمي ذاته، وقد يسأل سائل: ولماذا لا يقوم بذلك النقد المنهجي في ميادين العلوم علماء تلك الميادين؟ والإجابة على سؤال كهذا، هو: أن هذا هو ما قد حدث بالفعل، عندما ينصب النقد المنهجي انصبابًا مباشرًا على علم من العلوم، ومعظم العلوم قد خضعت في عصرنا هذا لمثل ذلك النقد المنهجي، ومن ثم حدث التَّغير الواسع العميق في البنية العلمية، وكان الذي قام بالعملية النقدية علماء في الميدان الذي اهتموا بنقده، فالذين عُنوا بالنقد المنهجي للأسس التي كانت العلوم الرياضية قائمة عليها — مثلًا — هم نفر ممن كانوا علماء في ذلك الميدان وأدركوا أن تلك الأسس في حاجة إلى مراجعة، إذ بدا لهم أنها كانت منطوية على تناقض داخلي، مما كان له أثره في الشرائح العليا من تلك العلوم، وهكذا قل في سائر فروع العلم، ولم يكن الانقلاب الذي حدث في وجهة النظر العلمية، منذ بداية هذا القرن، صدفة عمياء، بل هي نتيجة مباشرة لتلك الجهود النقدية.

لكن هنالك في حياة النَّاس جوانب لها أهميتها وخطرها، ليس فيها ذلك التخصص العلمي الذي ينحصر في مادة بحثية معينة كالرياضة والفيزياء والكيمياء، وغيرها، وتلك الجوانب تتناول فيما تتناوله مجموعة «الأفكار» التي هي حاملات «القيم»، والذي يُعنى بالنظر فيها وتحليلها ونقدها، يُشترط فيه نوع آخر من المعرفة والتدريب، فليس من يفكر بالمنهج الفلسفي في موقف النَّاس من الحريَّة والديمقراطية والسلام، والتعاون بين الأفراد وبين الشعوب، يحتاج بالضرورة إلى أن يكون من علماء الرياضة أو الفيزياء، لكنه في الوقت نفسه يفيد كثيرًا إذا استخدم منهج النقد المنهجي الذي يستخدمه العلماء في فلسفة العلوم.

من هنا جاءت الدعوة الجديدة لأن تكون الفلسفة منهجًا بغير موضوع، ومنهجًا هو منهج التحليل الذي يَرُدُّ الفروع إلى جذوعها، ويرد الجذوع إلى الجذور، وذلك يفسر لماذا أُطلق على عصرنا عصر «التحليل»، ففهم الإنسان لشيء أو لفكرة أو لنظام من النظم لا يكون إلا بتحليله أولًا إلى عناصره الأولية، ثم معرفة على أي صورة تتركب تلك العناصر بعضها مع بعض، وليست هذه العملية الضرورية لفهم الإنسان لشيء أو لفكرة بنت عصرنا من حيث الولادة والنسب، فقد كانت جزءًا هامًّا في منهج ديكارت، الذي يُعد فاتحة النهضة الأوروبيَّة على المستوى النظري، إلا أن العصور تتميز بما يسودها ويملأ أرضها وسماءها وليس بفكرة شاردة وُلدت ثم بقيت مقصورة على قلة قليلة في أركان مجهولة، ومنهج التحليل في ميادين العلوم وميادين الحياة الثَّقافيَّة بصفة عامة، قد اتسع في عصرنا ليصبح علامة مميزة له دون سوابقه، حتى لأصبح «المثقف» في حساب عصرنا، هو ذلك الذي يقف من الأفكار السائدة وقفة ناقدة على منهج التحليل.

ولكن ما الذي نحلله، وكيف نحلله، إذا أردنا أن نجيد الفهم لفكرة معينة؟ جواب ذلك هو: أن نحلل التركيب اللغوي الذي يحملها، وبهذا الجواب نكون قد وصلنا بك إلى أهم ركيزة ترتكز عليها ثورة الفكر الفلسفي في عصرنا، فالفكرة هي لغتها، هل تأذن لي أيها القارئ بأن أعيد هذا القول البسيط الذي نزعم له أنه يحمل في جوفه ثورة فكرية شاملة؟ إذن فلنقل مرة أخرى: الفكرة هي لغتها، إنه مألوف لنا أن نقول عن اللغة إنها «وعاء» يمتلئ بما يملؤه به، كأنه في وُسع الإنسان أمام جملة معينة، كقولنا «إن الحريَّة حق للإنسان ينبع من فطرته فيفرغها من عصارتها، ثم يعود فيملؤها إذا شاء، كما نفعل بكوب ماء.» لا، ليس هذا هو واقع الأمر، بل جوهر الأمر — كما ترى — هو أنك إذا نظمت عددًا من مفردات اللغة نظمًا يجعلها جملة، كنت بذلك قد نسجت فكرة، وليس للفكرة وجود من وجهة نظر الآخرين الذين توجه إليهم الخطاب، إلا أن تكون متجسدة في لغة تؤديها، وإذا كان هذا هكذا، وهو هكذا بكل اليقين، إذن فتحليل الفكرة المعينة هو هو نفسه تحليل عبارتها اللغوية، وعندئذ تجد نفسك أمام جسد مُجَسَّد، هو الجملة اللغوية التي تسمعها منطوقة، أو تراها مكتوبة، فما عليك بعد ذلك إلا أن تقوم بعملية تشريح لهذا الجسم اللغوي الذي تسمعه أو تراه، لتمعن النظر في أعضائه كيف تلاحم بعضها مع بعض، وهنالك تستطيع أن ترى من طبيعة الروابط بين تلك المفردات، هل يتكون معنى؟ وإذا تكون المعنى، فهل هو صحيح بمطابقته للواقع الذي جاء ليشير إليه، ماذا؟! أتقول «معنى»؟ فمتى يكون للجسم اللغوي «معنى» ومتى لا يكون؟ ماذا تقول يا رجل؟! وهل هنالك جملة لغوية أقرَّ سلامَتَها علمُ النحو غير ذات معنى؟! … نعم، نعم، يا صديقي، هنالك مثل هذه الجملة الصحيحة نحوًا وتركيبًا، والخاليةُ معنًى، بما يُعد ألوفًا ألوفًا، ومن أجل الشفاء من مرض الأقوال الخاوية، كأنها الجعجعة، التي لا ينتج عنها طحين، عُنِيَ صاحبنا بشرح الموقف وتوضيحه، ليعرف من يهمه الأمر كيف يفرق بين الضأن والماعز فيما ينطق المتكلمون وما يكتب الكاتبون، وربما كان ذلك هو نفسه ما أثار على صاحبنا غضب الغاضبين، فقد كانوا يؤثرون لأنفسهم أن يرسلوا الكلام إرسالًا لا يسبقه رقيب ولا يلحقه حسيب.

لعلك تذكر ما تحدثنا به في حديثنا السابق عن «الصدق» وكيف تختلف معانيه في أربعة من أهم ميادين القول، وهي: العلوم الرياضية، والعلوم الطبيعيَّة بما فيها العلوم الاجتماعيَّة، ثم في مجال الدين، ومجال الأدب والفن، على أن معاني «الصدق» التي تباينت بين تلك الميادين الأربعة، تلتقي كلها في أساس مشترك، وهو أن يكون في كل حالة صادقة طرفان متطابقان، ومن تطابقهما يأتي «الصدق» على اختلاف طبيعة تلك الأطراف باختلاف ميادين القول، والذي نود أن نلفت إليه النظر الآن، هو أن سياق حديثنا هنا منصبٌّ فقط على جانب العلوم الطبيعيَّة من المجال الأول، ولقد أدى التغاضي عن هذا التخصيص إلى سوء فهم وسوء تفاهم، كان لهما من الآثار السلبية ما لم نكن نتمنى حدوث شيء منه، إذن فلنكرر التحذير مرة أخرى لعلنا نفلح في توجيه الانتباه الوجهة التي نقصد إليها، وهي أن كل ما نذكره هنا من ضوابط المعنى التي تقتضيها دقة الفكرة المعينة عند عرضها، مرادٌ به نوع واحد من الأنواع الأربعة، وهو نوع الكلام الذي يَتبادل به الأفراد أفكارهم حين تكون تلك الأفكار دائرة حول أمور الواقع الحسي، وهي الحالة التي تختص بها العلوم الطبيعيَّة، كما تختص بها شئون النَّاس في حياتهم العملية، عندما يتحدثون أو يكتبون عن وقائع الحياة اليومية الجارية، أي إن أيًّا من ضوابط المعنى التي نذكرها هنا، لا يقصد بها العلوم الرياضية، ثم لا يقصد بها ما يُقال أو يُكتب في مجال الفكر الديني، أو في مجال الأدب والفن؛ لأن هذه الضروب من ضروب القول لها معايير صدقها الخاص، التي ذكرناها موجزة في الحديث السابق.

وبعد هذا التنبيه والتحذير، نقول: إن الشرط الضروري لكي تكون الجملة اللغوية صادقة في معناها لا بد لها من وسيلة يراجعها بها المتلقي على واقع معين هو الواقع الذي جاءت تشير إليه، فإذا قيل — مثلًا — إن نسبة الأمية في مصر تبلغ نحو ثلاثين في المائة من عدد الذين تضعهم أعمارهم في مراحل التعليم، وجب أن تكون هنالك الوثائق الإحصائية التي يعتمد عليها، أو قيل إن متوسط الدخل السنوي للمصري هو كذا، أو قيل إن عدد السكان سيصل إلى كذا في السنة الفلانية، أو قيلت حقائق عن بترول مصر ومعادنها وحركة السياحة وغيرها وغيرها، كل هذه وأمثالها ترد في حياة النَّاس، على المستويات المختلفة العلمية والسِّياسية وأحاديث النَّاس الخاصة، وكثيرًا جدًّا ما يريد المدقق أن يراجع القول على مَرْجِعه في عالم الواقع فلا يستطيع، وحتى إذا استطاع وجدته قانعًا بالمراجعة التقريبية، بغير تحليل ولا تفصيل.

على أن هنالك حالات كثيرة من الأقوال الصادقة، ذوات الإسناد الواقعية، شريطة أن نفهم «الواقع» فهمًا لا ينحصر في وقائع العالم الخارجي، بالمعنى المألوف، فهنالك — أولًا — أقوال المؤرخين فيما يكتبونه من تاريخ، فهم بالطبع يشيرون إلى أحداث مضت ولم يعد لها وجود نراه نحن ونلمسه، فكيف نفسر «صدق» الجملة التَّاريخيَّة؟ إن التحقيق هنا وسيلته الوثائق وغيرها من آثار الماضي، وما يمكن استدلاله منها استدلالًا صحيحًا، وعلماء التَّاريخ يعرفون كيف يتحققون من حجية وثائقهم ومراجعهم، فكأنهم بذلك يستندون إلى الواقع الفعلي الماثل بين أيدينا.

هنالك أقوال قد ترد مشيرة إلى كائنات، لا هي من كائنات الواقع الحاضر، ولا هي وقعت فعلًا فيما مضى، وإنما هي كائنات ابتدعها خيال الأدباء فيما أبدعوه، فلم يشهد التَّاريخ رجلًا حقيقيًّا اسمه «هاملت» وكان أميرًا للدنمارك، لكنه من مبدعات شكسبير، وليس بين الطيور في عالم الطير الحقيقي طائر يكون هو «الرخ» الذي أشارت إليه حكايات ألف ليلة وليلة، فإذا تحدث متحدث عن أمثال هذه الكائنات، فعلى أي أساس من الواقع الحقيقي يجيء الحكم بصدق القول أو بعدم صدقه؟ الجواب هو: إن ما هو «واقع» يرجع إليه هنا هو العمل الأدبي الذي ورد فيه الاسم الذي هو مدار التحقيق، فمسرحية «هاملت» هي مرجع الصدق فيما يزعمه متحدث عن هاملت، وحكايات ألف ليلة وليلة هي «الواقع» الذي يُقاس إليه الصدق فيما يقوله قائل عن طائر الرخ، وهكذا فالقاعدة العامة — إذن — هي أن يُحكم بالصدق أو بالانحراف عنه، بناءً على السياق الحقيقي الذي وردت فيه العبارة المراد التحقق من معناها ونصيب ذلك المعنى من الصواب.

وهنالك حالة ثالثة، تُضاف إلى أقوال المؤرخين، ومبدعات الأدباء، وهي حالة التصورات التي يمكن للإنسان أن يتصورها بدقة تامة في تفصيلاتها، لكنها لم تتجسد قط في وجود واقعي لا في الحاضر، ولا في الماضي، ولا هي وردت في كتاب، مثال ذلك أن يتخيل فرد من النَّاس خطة يهم بتنفيذها في رحلة سياحية، أو أن ترسم الدولة خطة لما تنوي إقامته من منشآت خلال فترة زمنية معينة، فها هنا يكون كل ما بين أيدينا «تصور» ذهني محض، فأين يجد الفاحص مشروعية صدقه؟ الجواب هو أن مشروعية الصدق تكمن في «إمكان» الحدوث الفعلي إذا حانت له فرصة الخروج من عالم الإمكان إلى عالم الواقع، وأنه لما يميز «الخيال» البناء عند الإنسان الناضج، من خيال الطفولة والمراهقة، بل ومن خيال الحالم أحلام النوم أو أحلام اليقظة، هو أن الخيال في الحالة الأولى خيال أقرب إلى رسم خريطة يهتدي بها المسافر في رحلة سفره، وأما الخيال في الحالات الأخرى، فهي تمويهات وهلوسات قد تمتع صاحبها، لكنها خلو من قابلية التنفيذ.

هكذا كان صاحبنا في أواخر الأربعينيات وأوائل الخمسينيات، قد أدرك مقدار ما تخلفت به أمثلة وحاول تشخيص الداء حتى رآه ماثلًا أمام عينيه، وهو أنه داء من أفلتت منه حقيقة عصره، وهي حقيقة تتمثل أوضح ما تتمثل في الكشف العلمي عن قوانين الكون، ثم تغيير واقع الحياة بناءً على أساس الرؤية العلمية، فيصبح السؤال هو: إن أمتنا أمة يغلب الوجدان على رؤيتها، ولا تفرق بين ما قد خُلق ليرضى عنه القلب والعاطفة، وما خُلق للعقل وإرادة التَّغيير، فأطلق العربي قلمه كاتبًا ولسانه ناطقًا بما تستريح له الآذان، بقدر ما ضيق المجال أمام العقل ووسائله في دقة التفكير وإحكام التخطيط.

فإذا كان صاحبنا قد أصاب في تحديده لموضع الداء، كان أول السير على طريق النهوض، دعوة مفصلة نحو علمية عصرنا، لتوضع في مجالها، تاركة لفروع الحياة الثَّقافيَّة الأخرى ميادينها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤