المطبوعة الزرقاء «١»

أجهل الجاهلين جاهل يجهل أنَّه جاهل، لكن هذا القول في حاجة مِنَّا إلى تحديد وتوضيح، فليس على وجه الأرض إنسان يجهل كل شيء كلا، وليس عليها إنسان يعلم كل شيء، فحتى الرَّضيع الذي يحبو على أربع يكون قد بدأ يحصِّل معرفة بما حوله ومن حوله، وكذلك يكون أعلم علماء الدنيا في موضوع بذاته، على جهل بكثير جدًّا من حقائق الكون والحياة، ولا عيب في إنسان يعلم شيئًا ويجهل أشياء، فذلك النَّقص إنَّما هو حتم محتوم على البشر، شريطة أن يكون ذلك الإنسان على بيِّنَة من أمره ما يعلم وما يجهل؛ لكيلا يستبيح أن يكون له حق الرَّأي فيما يجهله، لكن العيب كل العيب هو أن يكون إنسان على جهل بموضوع مُعيَّن، ثم لا يدري أنَّه على جهل به، فيقتحمه بالرَّأي، فيضل هو، ويُضلل معه الآخرين.

ومحال علينا أن نقول هذا الذي قدمناه دون أن نذكر ذلك الرَّجل المعجزة: سقراط؛ فلقد كان سقراط على ظن من نفسه بأنه قليل العلم بأشياء كثيرة مما يراه ويسمعه، وكان لكل شيء من تلك الأشياء المجهولة له، من هو مختص فيه، ويتوهم — ويوهم النَّاس — بأنه محيط به علمًا، فمثلًا، هنالك شيء اسمه «الفن»، وهنالك من النَّاس من هو مشتغل بالفن، فيقصد — بداهة — ويتصور النَّاس معه، أنه لا بد أن يكون على علم واسع عميق، بحقيقة «الفن» ما هي؟ فيقصد إليه سقراط، راجيًا أن يتعلَّم من ذلك المُختص حقيقة ذلك الشَّيء الَّذي اخْتُصَّ فيه، لكنَّه ما يكاد يمضي معه في الحديث خُطوة أو خُطوتين، حتى ينكشف المستور، له ولمن يحاوره معًا، وهو أنَّ الرَّجل الذي حسب أول الأمر أنه على معرفة دقيقة بالفن وطبيعته، إنما هو في الحقيقة لا يعرف عنه شيئًا، أو ما يكاد يكون كذلك، وهكذا أخذ سقراط يدور على ميادين الحياة العملية والنظرية، واحدًا واحدًا، يسأل أصحاب التخصص ماذا يعرفونه عما قد تخصصوا في ممارسته عملًا، أو في الإلمام به فكرًا، فكان في كل مرة لا يعود من محاولته إلا بشيء واحد، وهو أن هؤلاء الأدعياء لم يكونوا يعلمون ما قد ظنوا به علمًا، فكل يجهل ميدان عمله أو فكره، لكنه يجهل أنه يجهله، فقصد الرجل إلى كاهنة عرافة، يعرض عليها الأمر لعلها تهديه إلى ما يُزيل عنه الحيرة، وعندئذ أدرك الفرق بينه وبين هؤلاء الأدعياء، فبينما هو لا يدري، ويعلم أنه لا يدري، فقد كانوا هم يجهلون حقائق الأشياء كما جهلها هو، إلا أنهم يجهلون أنهم جاهلون بما ادعوا به دراية وعلمًا.

إن اسم «المعرفة» إنما مطلق على غير مسماه، إذا أطلقته على خليط من معلومات غامضة ومهوشة، مما يتعلق بالمجال الذي تتوهم أنك قد درسته ومارسته وعرفته، فالطفل لا يكون قد عرف الشجرة أو السمكة أو العصفور، لمجرد أنه قد عرف أسماءها، بل إنه يظل يزداد بها علمًا كلما صعد درجات العلم درجة درجة، حتى إذا ما بلغ المرحلة التي يعرف عندها كيف يوغل في تفصيلات الخصائص في أي شيء يزعم أنه قد عرفه حق المعرفة، إيغالًا يمكنه من تحديد الفواصل التي يتميز بها شيء من شيء. لقد كان «ديكارت» فاتحة عصر علمي جديد، هو العصر الذي يُوصف بأنه العصر «الحديث» لأنه أعلن في النَّاس — بين ما أعلنه — منهجًا جديدًا للعلم، ولقد جعل أول شرط من شروط ذلك المنهج، ما أسماه ﺑ «الوضوح والتميز» فيما نقول عنه إننا قد عرفناه، و«الوضوح والتميز» جانبان، أو خطوتان، في أولاهما نلم بحقيقة الشيء الذي نريد له أن يكون موضوعًا للمعرفة، وأما الخطوة الثانية — أعني «التميز» — ففيها نتبين ما يختلف به ذلك الشيء عما سواه، فإذا كان كل نبات عند الطفل «شجرة» وكل ذي جناح «طائرًا» وكل سابح في البحر «سمكة»، فهو بهذه الأسماء لا يكون قد عرف من مسمياتها إلا القدرة المحدودة، على استخدام حفنة من ألفاظ، يدير عليها كلامه مع النَّاس، أما الأشياء: الشجرة، والطائر، والسمكة، فهو لم يعرف بعدُ شيئًا عنها، فمتى يبدأ علمه بها؟ إنه يبدأ بمعرفة حقائقها أولًا، وما يميزها عن سواها ثانيًا.

وهنا أبدأ حديثي فيما أردت التحدث عنه، وهو الموقف الطفلي الذي يسود حياتنا الفكرية، والذي تدور فيه ألسنتنا وأقلامنا، بمفردات من اللفظ، حتى إذا ما كان الأمر متصلًا ﺑ «الأشياء» التي جاءت تلك المفردات اللفظية لتشير إليها، وجدنا أنفسنا — في كثير من الحالات — في موقف من جهل حقيقة ما يتحدث عنه، ثم جهل أنه جهل، مما ينتهي بنا إلى أخلاط وأغلاط تصيب حياتنا العقلية بالشلل أو ما يقرب منه، وسبيلي في هذا الحديث، هو أن نتعاون معًا على رسم «مطبوعة زرقاء» كالتي يرسمها مهندسو العمارة حين يوضحون بخطوط بيضاء على رقعة زرقاء، تقسيم الأرض التي سيُقام عليها البناء ليستعين بها المقاول ومساعدوه على إخراج المبنى من عالم التصور والتصوير، إلى عالم التنفيذ والواقع، إلا أن العمارة التي أريد أن نتعاون على توضيح غرفها وأبهائها، هي حياتنا العقلية، فنحاول معًا أن نرسم الفواصل بين أجزائها؛ لتتحقق لنا بذلك الخطوة الأولى نحو «المعرفة» بمعناها الصحيح، فبأي الصفات يتميز «العلم» وبأي الجوانب يختلف عن «الأدب»، وما هو جوهر «الأدب» الذي يجعله أدبًا من جهة، ويختلف به عن «العلم» و«الدين» من جهة أخرى، وعلى أي نحو يستقل «الدين» بخصائص لا تكون في «العلم» ولا في «الأدب»، وهكذا سنحاول تبيين الفواصل ما استطعنا، لا فيما يختص بالرءوس الكبرى فقط، بل في بعض التفصيلات الداخلة في كل رأس من تلك الرءوس، ففي «العلم» — مثلًا — علوم رياضية، وأخرى طبيعية، وثالثة اجتماعية تختص بالإنسان، فأين تتلاقى تلك الأقسام وأين تختلف؟ وفي «الأدب» شعر ورواية ومسرح ومقالة، فما الذي يجمعها؟ وما الذي يفرقها؟ وفي «الدين» عقيدة، وشريعة، وعليها تُقام «علوم»؛ فعلى أي نحو يتم ذلك، حتى إذا تحققت لنا «المطبوعة الزرقاء» التي توضح لنا أقسام البيت الثقافي الذي نسكنه معًا، فقد تنفتح الأبصار على مواضع الخلط والخطأ حين ندمج ما ليس يندمج، أو حين نباعد بين ما ليس من شأنه أن يتباعد.

وأول ما نلفت إليه النظر في مطبوعتنا الزرقاء، هو أن تعدد الأجزاء والعناصر لا ينفي ما بينها من «وحدة عضوية» تجعل منها في الحقيقة الواقعة كيانًا واحدًا موحدًا، فتعدد الغرف والأبهاء والمنافذ في العمارة الواحدة لا يلغي وحدتها، كما أن تعدد الأعضاء ووظائفها في الإنسان، أو في أي كائن حي آخر غير الإنسان من نباتٍ وحيوان، لا ينفي وحدتها العضوية، وماذا تعني «الوحدة العضوية»؟ إنها تعني في المقام الأول، أنه لا غنى لأي جزء عن سائر الأجزاء، فالرئتان شيء ذو وظيفة معينة هي التنفس، والقلب شيء آخر ذو وظيفة أخرى، لكن أحدًا منهما لا يعمل إلا بمعونة الآخر، وهكذا قل في كل عضو من الكائن الحي، إذا جاءت حياته على الصورة المتكاملة التي أُريدت لها، وعلى أساس هذا المعنى «للوحدة العضوية» أقمنا المعيار النقدي في دنيا الأدب والفن، الذي نطلب به أن يكون كل ناتج من مبدعات الأدب والفن مترابط الأجزاء على ذلك النحو الذي أشرنا إليه في الكائنات الحية جميعًا.

وعلى هذا النَّحو نفسه، نريد لأجزاء المطبوعة الزَّرقاء التي نقدمها هنا تصويرًا للحياة الثَّقافيَّة كلها، أن تُفهم على أنها أجزاء من «كل» موحد متصل، وليس من ذلك التوحيد بينها مناص؛ لأنها أولًا وأخيرًا، تتصل بحياة مجتمع من النَّاس، لا يتم له معناه من حيث هو «مجتمع» إلا إذا كان موحدًا برغم تعدد أفراده، وإلا كان هؤلاء الأفراد كومة من المفردات المنفصل بعضها عن بعض، لا يربطها شيء سوى أن المُصادفة العمياء جمعتهم في مكان واحد، إبان فترة معينة من الزمن، فإذا وجدت أن مطبوعتنا الزرقاء قد اشتملت على «علم» و«دين» و«أدب» و«فن» وربما اشتملت كذلك على أجزاء أخرى إذا أردنا أن نتوسع فيها، فاعلم أنها برغم ذلك تشير إلى رباط حي يصل تلك الأجزاء في حياة إنسانية واحدة، ومع ذلك فلا بد لمن أراد الفهم الصحيح لحياته، أن يحلل تلك الوحدة إلى عناصرها، ليتمكن من رؤية كل عنصر وما يؤديه، على حدة لا يختلط فيها مع عنصر آخر، فلن نكون على إدراك واضح «للعلم» وحقيقته وطبيعته ووظيفته، إلا إذا وضعناه وحده في أنبوبة اختبار، وكذلك الأمر بالنسبة إلى كل قسم من الأقسام الأخرى، لكن هذا العزل لكل عنصر، على حدة، لا يعني أن الباحث العلمي وهو يضطلع بالعملية البحثية، يُلزم نفسه ببعض «القيم» التي جاءته أساسًا من «الدين»، فهو يلتزم «الصدق» و«الأمانة» في أدائه وفي نتائجه، ومن ذا الذي علم الإنسان وجوب الصدق والأمانة، إلا أن تكون أمثال هذه الأوامر، قد جاءته من مصدر خارج النطاق العلمي الذي يجد نفسه في مجاله أثناء قيامه ببحثه العلمي، وكذلك قل في مبدعات الأدب والفن، فهي وإن تكن معنية قبل أي شيء آخر — بالشكل البنائي الذي تقيم هيكله ليحمل المضمون الإنساني الذي يحمله — فإنها لا تعظم قدرًا، ولا تعلو رتبة، إلا إذا تضمنت في أعماقها المخبوءة أفكارًا وقيمًا، ما كان المبدع ليستطيع في عمله الفني أن يفصح عنها علانية وبصورة مباشرة، إلا إذا أراد أن يجعل من عمله «وعظًا» فإذا هو فعل خنق فنه خنقًا، وإنما هو عمل «الناقد» بعد ذلك، أن يحلل ناتج الأدب أو الفن الذي بين يديه، ليخرج من أغواره الخفية ما قد كمن في ثناياها أو اختفى وراء أستارها، وهنا يجيء السؤال: ومن أين للأديب أو الفنان بالأفكار العظيمة أو القيم الروحية التي يبثها فيما يبدعه؟ إنه لا سبيل إلى ذلك إلا أن يستقيها من مصادر أخرى كالعلم أو الدين أو الخبرة بالحياة العملية في دنيا الواقع.

أما وقد لفتنا الأنظار إلى ما تخفيه الأجزاء وتعددها، من وحدة بينها تربطها في كيان بشري واحد، فلنتحول الآن إلى مطبوعتنا الزرقاء وما تشتمل عليه؛ لنمعن النظر في أجزائها جزءًا جزءًا، وأول ما نبدأ به هو «العلم» وحقيقته؛ فنرى فيه أول ما نرى، وأن العلوم المختلفة لا تجري كلها في فلك واحد، وإن يكن بينها — وراء هذا الاختلاف — جذر واحد مشترك يربطها جميعًا في أسرة واحدة، وإلا لما جاز لنا أن ندرجها جميعًا تحت اسم واحد هو «علم»، فأما جانب الاختلاف بينها، فهو أنها تقع في مجموعات ثلاث، لكل منها موضوعها الخاص، فالمجموعة الأولى هي العلوم الرياضية، وموضوعها الخاص هو جانب «الكم» من أي شيء يمكن إخضاعه للقياس الكمي، وأما المجموعة الثانية فهي العلوم الطبيعيَّة، وموضوعها الخاص هو ظواهر الكون على اختلافها، وأرجوك أن تقف قليلًا عند كلمة «ظواهر» ليرسخ في ذهنك جيدًا، أن مهمة العلم الطبيعي تقف به عند ما هو «ظاهر» من الأشياء، وأقول ذلك لكثرة أولئك الذين يتوهمون أنهم لن يبلغوا الكمال في مجال العقيدة الدينيَّة إلا إذا أقاموا الدليل على تفاهة العلم، فتراهم يسألون في تحدٍّ: إن العلم يصف لنا ظاهر الكهرباء — مثلًا — لكنه يعجز عن بيان حقيقة الكهرباء الكامنة وراء ذلك الظاهر، ومن أجل هؤلاء الذين يجهلون ويجهلون أنهم يجهلون، وجهت الرجاء إلى القارئ أن يقف قليلًا عند كلمة «ظواهر» عندما حددنا الموضوع الخاص للعلوم الطبيعيَّة، وأما المجموعة الثالثة فهي العلوم الإنسانية، وموضوعها الخاص هو «الإنسان» فردًا ومجتمعًا.

ونكتفي بهذا التقسيم إبرازًا لجانب الاختلاف بين العلوم، أما ما تلتقي عنده كل تلك الفروع المختلفة لتبرر بهذا الالتقاء حقيقة كونها تنتمي إلى أسرة واحدة، فهو وجوب التزامها بمنهج «عقلي»، على اختلاف بينها بعد ذلك في صورة ذلك المنهج؛ لكي يتلاءم منهج البحث مع طبيعة الموضوع المطروح للبحث، فإذا كان الموضوع من مجموعة العلوم الرياضية، كان منهجه العقلي هو توليد النتائج من مقدماتها، و«التوليد» هنا مقصود بمعناه المباشر، كما تلد الأنثى ولدها، فقد كان الوليد مستبطنًا في جوف أمه، ثم جاءت الولادة فأظهرت ما كان مستبطنًا (وتأمل كلمة «مستبطن»، فهي تعني ما هو كامن في «البطن») ومنهج العلوم الرياضية هو كعملية الوليد، فيكون بين يديه حقيقة ما، كالعدد سبعة، أو ﮐ «المثلث» في الهندسة أو ما شئت من رموز الرياضة ومفرداتها، فولد منها ما قد استبطنته، ويكون عمله العلمي صحيحًا كلما كان الدليل قائمًا على أن هذا الوليد كان في جوف تلك الأم، وليلحظ هنا أمرًا بالغ الأهمية، وهو أن الرياضي في عمله ذاك لم يستخدم أية حاسة من حواسه، فلا هو استخدم العين لينظر، ولا الأذن لتسمع، بل ركز على «الرمز» الرياضي الذي بين يديه، ليستولده ما كان مكنونًا في جوفه، وأما إذا كان الموضوع من مجموعة العلوم الطبيعيَّة، فالمنهج في معالجته — وإن يكن مرتكزًا أيضًا إلى «العقل» — إلا أنه جِدُّ مختلف، وذلك في نقطتين أساسيتين، بين أشياء أخرى؛ أولاهما: هي أن المرتكز الأول إنما يستند إلى ما قد أدركته «الحواس» من بصر وسمع بصفة خاصة، وما يعين البصر والسمع من أجهزة تكفل زيادة في دقة ما يرى وما يسمع، فتكون تلك الحصيلة من مرئيات ومسموعات هي «المعطيات» التي يُقام عليها البناء، وأما النقطة الثانية: فهي أن الباحث العلمي، وهو يتفحص تلك المعطيات (التي قد يبلورها في إحصاءات أو في رسوم بيانية) لا «يستولدها» النتائج، كما كان يفعل زميله عالم الرياضيات، بل هو «يستلهما» ما عساها توحي إليه به من فكرة يفسر بها جميع تلك المعطيات المرئية أو المسموعة، وأمثالها من ظواهر الطَّبيعة، فإذا فتح الله عليه بأن ينقدحَ ذهنه عن فكرة كهذه، صِيغت صياغة دقيقة، قد يلجأ فيها إلى لغة الرياضة، أصبحت مشروع قانون علمي يعرضه للمراجعة والتوثيق.

وبقيت مجموعة العلوم الإنسانية، فهي كأختيها السابقتين، لا تستحق أن تنخرط في زمرة العلوم، إلا إذا انتهجت منهجًا يستند إلى منطق «العقل»، إلا أن الرأي في ذلك ينقسم إلى رأيين: أحدهما يريد لهذه المجموعة من العلوم منهجًا خاصًّا بها، لاختلاف الظواهر «الإنسانية» عن سائر ظواهر الكون، في حين يصر أصحاب الرأي الثاني على أن يكون المنهج واحدًا مشتركًا بين ظواهر الوجود الإنساني، وظاهر الأشياء الأخرى؛ لأن كلتيهما مدركة بالحواس، فإذا كان الإنسان متميزًا وحده بصفة ما، لم تكن تلك الصفة مما يخضع للبحث العلمي، وتُحال إلى مجال آخر من مجالات مطبوعتنا الزرقاء.

فلئن كانت العلوم بمجموعاتها الثلاث، تختلف فيما بينها منهجًا على النحو الذي ذكرناه، إلا أن مناهجها جميعًا تتفق في كونها مُقامة على منطق «العقل»، ولقد سبق لهذا الكاتب في مناسبات كثيرة؛ رغبة منه في أن تكون هذه الكلمة الهامة والخطيرة محددة المعنى تحديدًا لا لبس فيه ولا غموض، ومع ذلك فلا بأس في أن نعيد تحديدها مرة أخرى، فنقول: إن العملية الذهنية تكون «عقلًا» إذا كانت حركة استدلالية، ينتقل فيها الذهن من مقدمات موضوعة بين أيدينا، إلى نتائج تترتب عليها، وفي العلوم الرياضية تكون تلك المقدمات «فروضًا» يقدمها العالم الرياضي، وكان من حقه كما هو من حق غيره، أن يقدم فروضًا أخرى، وعندئذ تصبح النتائج مختلفة، ويصبح البناء الرياضي كله غير الذي كان، وأما في العلوم الطبيعيَّة، فنقطة البدء دائمًا تكون معطيات قدمتها لنا حواسنا عن الحقيقة الواقعة، ولا حق للباحث أن يغير مما هو واقع، بل محتوم عليه أن يلتزم به وبنتائجه.

وعند هذه النقطة نتحول إلى مجال «الدين» في مطبوعتنا الزرقاء، لنجد الفارق الواضح بين «علم» و«دين»، حتى إذا ما رأيناه في وضوحه الناصع، حق لنا أن نعجب من علماء أفاضل يخلطون بين المجالين، فيرون «علمًا» فيما هو «دين»، فلقد أوضحنا لك فيما أسلفناه عن «العلوم» بكل صنوفها، أنها قائمة أساسًا على منطق «العقل»، وحددنا لك ما نعنيه في هذا السياق بكلمة «عقل»، وهو أنه حركة استدلالية انتقالية يتحرك بها الفكر من مقدمات أو شواهد، إلى نتائج تكون هي نظريات العلم وقوانينه، أي إن «العقل» ينتهي إلى ما ينتهي إليه بطريق غير مباشر، إذ هو يلجأ إلى حركة انتقالية تتوسط بين المعطيات الأولية من جهة، والنتائج التي تولدت عنها من جهة أخرى، وأما العقيدة الدينيَّة فعمادها «إيمان»، والإيمان طريقه مباشر، فينزل الوحي الإلهي على نبي أو رسول، فيعلنه أمام النَّاس، فمن قبله كان مؤمنًا، والقبول هنا مباشر، لا واسطة فيه بين المسموع من جهة وقبوله من جهة أخرى، شأنه في ذلك شأن العملية الذوقية، تضع الطعام على اللسان فتذوقه بلمسة مباشرة، كما تلمس بأصابعك الحديد الساخن فتحس لسعته مباشرة، بغير وسيط بين الملموس واللامس، وهكذا أيضًا تكون النشوة الفنية، إذا استمعنا إلى بيان لغوي أخاذ، كقصيدة جيدة من الشعر أو إذا ما وقعت أبصارنا على موضع في الطَّبيعة أو في مبدعات الفن، وهكذا ينزل الوحي على القلوب فتنبض بالقبول، فيكون إيمانًا، وبالطبع قد يحدث بعد ذلك لمن آمن أولًا، أن يتناول ﺑ «العقل» ما كان قد آمن به، ليستدل منه ما يمكن استدلاله، وبهذا يتكون «علم الدين» أو «علوم الدين» حين تتعدد تلك العلوم بتعدد الزوايا التي ينظر بها الباحثون إلى النصوص التي كانوا، وما زالوا، يؤمنون بها إيمان «قلب»، سواء تناولها بعد ذلك «عقل» علمي أم لم يتناولها، فذلك لا يغير من إيمان المؤمنين شيئًا.

إنَّ من أخصِّ خصائص الدِّين، أنَّه مع الإيمان بالله ورسله، وكتبه، واليوم الآخر، يمد المؤمنين بمجموعة ضخمة من «قوانين» السلوك الصحيح، فهو آنًا «يأمر» بما يجب فعله، وآنًا آخر «ينهي» عما لا يجوز فعله، وواضح أن تلك القوانين الأخلاقية، الضابطة لسلوك المؤمنين بالدين المعين، تجيء «قبل» السلوك ذاته، حتى إذا ما أراد السالك أن يسلك طريقًا ما وجد بين يديه «القانون» الأخلاقي المُوجه له، وهنا نلفت النظر إلى فارق واضح آخر، غير الفارق الذي أسلفناه بين ما هو «علم» وما هو «دين»، فبينما قوانين العلم تأتي «بعد» وجود الظاهرة الكونية، التي استخلص منها العلماء قوانينها نرى قوانين الأخلاق — عند المؤمنين بالدين — تأتي «قبل» أن ينشأ السلوك الذي يهتدي بهديها.

فهل يجوز لنا بعد هذا كله، أن يلتبس الأمر علينا، فنخلط بين «علم» و«دين» خلطًا ذهب بنا إلى حد أن نبحث عن «العلوم»، في كتاب الله الكريم؟ فنسمع عن مؤتمر يُقام تلو المؤتمر، ويحضر تلك المؤتمرات علماء نجلهم أعظم إجلال، ونوقرهم أرفع توقير، يحضرونها ليبحثوا مرة عن علم الطب في القرآن الكريم، ومرة ثانية عن علم الاقتصاد، ولقد طالعتنا الصحف ذات يوم بالمهندسين يرجون أن يُقام مؤتمر للبحث عن العلوم الهندسية في القرآن الكريم، إنه إذا وردت «حقائق» معينة في الكتاب الكريم، عن هذا المجال أو ذاك، فهي «حقائق» ولكنها ليست «علومًا»؛ لأن جوهر «العلم» ليس هو مجموعة معينة من «حقائق»، بل جوهره «منهج» خاص يؤدي إلى الكشف عن تلك الحقائق، فإذا حدث أن تبين شيء من القصور أو الخطأ في تلك النتائج التي كان قد وصل إليها العلم بمنهجه ذاك، جاء من العلماء بعد ذلك من عرف كيف يسد وجه القصور أو يصحح موضع الخطأ، ولعله مما ينفع النَّاس في هذا السياق، أن نذكرهم بأنه عندما كان «للفلسفة» اليونانية التي نقلها العرب المسلمون في القرون الأولى من تاريخ الإسلام، نوع من ارتفاع المنزلة عند رجال الفكر يومئذ، فقد أحسوا بشيء من الغيرة على ما قد نزل به الدين الموحى به، فاتجهوا بجهدهم نحو أن يبينوا أن ما قد أنتجته حكمة الفلاسفة وارد في القرآن الكريم، ثم لم يلبث نفر من أئمة الفكر الإسلامي، كابن تيمية والغزالي، أن أخذهم القلق من ذلك الموقف الذي ربما دل على شعور بالنقص إزاء وافد عليهم من خارج دينهم، وتمضي القرون، وإذا بوافد آخر يأتينا من خارجنا، وهو هذه المرة «علوم» لا فلسفة، فواعجبًا أن نرى الغيرة القديمة قد أخذت علماءنا المحدثين والمعاصرين، فاتجهوا بجهدهم أيضًا ليقولوا إن ما قد جاءت به «العلوم» الحديثة، وارد في القرآن الكريم، وفي الرأي المتواضع لكاتب هذه السطور، أن «الدافع النفسي» في كلتا الحالتين لم يكن له ما يبرره، فإذا ظهرت فلسفات هناك، أو علوم هنا، فتلك وهذه ملك للإنسانية كلها، وواجبنا الصحيح هو المشاركة الإيجابيَّة الفعالة في هذه وتلك معًا، على قدم المساواة بيننا وبين سوانا، إذ ليس في الأمر ما يدعو أحدًا إلى هجوم ودفاع، إن القرآن الكريم هو كتاب الإسلام، والدين والعلم يتكاملان في الإنسان كما يتكامل فيه السمع والبصر، أو كما يتكامل القلب والرئتان دون أن يكون السمع بصرًا أو البصر سمعًا، ودون أن نقول عن الرئتين إنهما موجودتان داخل القلب، أو إن القلب موجود داخل الرئتين، وعلى هذا القياس لا يكون الصواب هو أن يقول المؤمن إن لي دينًا فيه العلم، وإنما الصواب هو أن يقول: إن لي دينًا، وعلمًا محكومًا بقيم الدين.

ها نحن أولاء قد فرغنا — في استطلاعنا لأقسام المطبوعة الزرقاء — من الحديث الموجز عن الدين والعلم، وما بينهما من فواصل وصلات، وبقيت أمامنا أقسام أخرى، كالأدب بفروعه، والفن وفروعه، والفلسفة ووظيفتها إزاء هذا كله، فليس لنا يد، إذا نحن أردنا لأنفسنا وضوح الفكر، من أن نكون على بينة من طبائع هذه الأقسام التي منها تتألف حياتنا الفكرية، ففي الخلط بينها زلل وخبط في الظَّلام.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤