إرادة التغيير «٢»

عندما نُودي بإقامة عدالة اجتماعية، لتكون محورًا لما قامت ثورة الضباط الأحرار في شهر يوليو من سنة ١٩٥٢ من أجل تحقيقه، أخذت تتفرع أمامنا تلك الصياغة المحورية فروعًا فروعًا، وكأن كل الأهداف النبيلة التي تعلق بها طموح الإنسان على امتداد تاريخه محتواة في هاتين الكلمتين: «عدالة اجتماعية»، والحق أن مثل هذه المرونة في مصطلح معين، ليتسع بها وعاؤه إلى أقصى ما يريد له الإنسان أن يتسع، بحيث يمكن أن تجتمع في جوفه كل ما يريد صاحب المصلحة أن يضعه فيه، إنما هي صفة تلحق دائمًا بكبريات «القيم» التي هي الموجهات للإنسان في ميادين نشاطه، ولولا هذه المرونة الشديدة في القوة الدلالية لأسماء تلك القيم، لما استطاع كل اسم منها أن يستوعب ما لا حصر له من المواقف المختلفة في حياة النَّاس برغم كثرتهم، وتنوع مناشطهم، ولو راجعت الحركات الإصلاحية الكبرى، التي تغيرت بها صور الحياة الإنسانية على أيدي عمالقة الفكر، لرأيت كل حركة منها قد قامت لتُحقِّق «مبدأً» جديدًا، يغلب فيه أن يكون أوسع أفقًا، وأعلى رتبة من «المبدأ» الذي كانت تُقام عليه الحياة من قبل، ولم يعد يصلح بسبب ما قد طرأ على أوضاع الحياة العملية من تغير تطورت به حاجات الإنسان وضروراته إلى أمام وإلى أعلى في آنٍ معًا، فكان لا بد للحياة أن تفرز من أبنائها من يقوى على حمل رسالة جديدة، أو مبدأ جديد، لتتبدل الصورة، فينشأ جديد ويفنى قديم، ومثل هذا «المبدأ» الجديد الذي يُوضع للحضارة الجديدة التي يبشر بها المصلح العملاق، موضع العنوان من الكتاب قد ينحصر في كلمة واحدة، أو بضع كلمات قليلة، لكنها اخْتِيرت من ذوات المرونة الدلالية التي أشرنا إليها، ليتسع مداها إلى جميع ما سوف تتكون به أوجه الحياة النظرية والعملية معًا.

لكن تلك السعة الدلالية التي تتميز بها أسماء «القيم»، كالحريَّة والعدالة، والحب، والخير، وما إليها، تستتبع بالضرورة غموضًا في المعنى، وهذا «الغموض» النسبي في تلك الأسماء، هو هو نفسه الذي أتاح لكل اسم منها أن يكتسب مرونة المعنى، فبينما اسم «الحريَّة» يمكن أن يحمل في معناه إضافات يظل الإنسان يضيفها إليه عصرًا بعد عصر، نجد اسم «المثلث» لا يتحمل إلا معنًى محددًا واحدًا مهما تعاقبت عليه عصور العلم نماءً وارتقاءً، وبسبب مرونة المعنى في اسم «الحريَّة» كان غموض نسبي في ذلك المعنى، وكذلك بسبب تحديد المعنى في اسم «المثلث» كان وضوحه المطلق، الذي لا يحتمل لبسًا، ومن هنا رأينا الغموض النسبي في الحالة الأولى، كثيرًا ما يفرق بين النَّاس في معتقداتهم ووجهات أنظارهم، إلى حد القتال في ميادين الحرب أحيانًا، بينما استحال عليهم في الحالة الثانية أن يختلف بينهم الرأي، بل إن كلمة «الرأي» نفسها غير واردة في مجال الوضوح العلمي، ولكنها ترد ورودًا طبيعيًّا في حالة الغموض النسبي الذي يكتنف عالم «القيم»، فليس من المقبول أن يقول لنا قائل: إن «رأيي» في المثلث هو أنه سطح تحيط به ثلاثة أضلاع، بينما نقبل أن يقول: إن رأيي في الحريَّة هو أنها حق فطري لكل إنسان.

فلما نودي في ثورة ١٩٥٢ بمبدأ «العدالة الاجتماعيَّة» فإنما جاء ذلك النداء ليفصح عما أضمرته الصدور، ولو استثنينا أفرادًا قلائل ممن كانوا ينعمون بامتيازات هائلة: ثراءً وجاهًا ونفوذًا وسلطانًا، وبالتالي لم يكن في مصلحتهم أن تسود عدالة تتناول الجميع على حدٍّ سواء، أقول: لو استثنيت هؤلاء الأفراد القلائل، لأمكن القول بأن الدعوة إلى عدالة اجتماعية، إنما كانت صدى لما يكنه أبناء الشعب جميعًا، لكن أحدًا لم يسأل: ما هي تلك «العدالة» المنشودة، وماذا في خصائصها قد جعلها «اجتماعية»؟ أهي من جنس «العدالة» التي تسعى إلى تحقيقها المحاكم، بأن ترد إلى أصحاب الحقوق الضائعة حقوقهم ممن اغتصبوها ظلمًا؟ وإن كان ذلك كذلك فأين الجديد الذي تنشده الثورة، وينشده معها أبناء الشعب جميعًا؟ أم تكون عدالة المحاكم تُعنى بحقوق «الأفراد» أو من يتخذ لنفسه صفة الفرد من هيئات وجماعات، وأما «العدالة الاجتماعيَّة» التي جاءت الثورة لتحقق وجودها بعد أن لم يكن، فمقصود بها النسب القائمة بين «طبقات» المجتمع؟ وإذا كان هذا هو شأنها، فقد افترضت مقدمًا — إذن — وجود طبقات اجتماعية منها ما يعلو ومنها ما يسفل على نحو لا يبرر للأعلى أن يكون أعلى، وللأسفل أن يكون أسفل.

وليست هذه الأسئلة وأشباهها هي ما يعنينا في المقام الأول خلال هذا الحديث، لكن الذي نحن معنيون به الآن، هو ما قد أخذ يتولد عن فكرة «العدالة الاجتماعيَّة» من مبادئ فرعية، وكان من بينها القول ﺑ «إرادة التعيير»، وهي عبارة وصفية أُطلقت لتدل على مطلب من مجموعة المطالب الشعبية التي كانت قد جمعت معها في الدعوة إلى «عدالة اجتماعية»، ومرة أخرى نجد أنفسنا أمام «قيمة» من القيم التي يُراد بها أن تقنن فكر الإنسان السوي وسلوكه في المجتمع الجديد الذي قامت الثورة لتحقيقه، وهي «قيمة» يلتقي عندها الرأي، فسواء أفصح المواطن المعين عن رأيه في ذلك أم سكت عن ذكره، فقد انطوت الضمائر كلها يومئذ على وجوب «إرادة التَّغيير»، ولم يكن يكفي الناطقين أن يقولوا بوجوب «التَّغيير» دون أن تسبقها كلمة «إرادة» حتى لا يسبق الظن إلى أحد، بأنه تغيير مفروض على الشعب ولم يكن يريده، فمن حيث هي «قيمة» عُليا كانت إرادة التَّغيير صيحة مقبولة من الجميع، ولكنها أيضًا وفي الوقت نفسه من حيث هي قيمة عُليا كانت مغلفة بالغموض فيما تعنيه.

كان صاحبنا كغيره يومئذ — ونحن معه الآن في الأعوام الأولى بعد ثورة ١٩٥٢ — يؤمن بوجوب التَّغير، كما يؤمن بأن يكون هناك في الأذهان تصور إجمالي لما يُراد الوصول إليه بذلك التَّغير، وكأن أرجح الظن عنده هو أن كثرة الشعب الغالبة لم تكن واضحة الرؤية لمثل ذلك التصور المطلوب؛ لأن تلك الكثرة قد ألفت أن تقبل الأفكار — أو ترفضها — على علاتها (كما يقولون) إذ هي نادرًا ما تفرق بين واضح وغامض فيما تقبله أو ترفضه من الأفكار، ومثل هذا الموقف «الشعبي» الذي يشمل مع عامة الجماهير عددًا كبيرًا من «المثقفين» أو إن شئت عبارة أدق، فقل من «المتعلمين» الذين ظفروا بحظٍّ من التعليم قد يصل بهم إلى الدرجات العُليا، فهؤلاء قد يكونون على شيء من الحذر وهم في ميادين تخصصاتهم العلمية، لكنهم يخففون القيد المنهجي عن عقولهم فيما هو خارج تلك الحدود، فيقبلون غوامض الأفكار قبول الرضا، ولعل هذه الحقيقة عن حياتنا العقلية، كانت من أهم ما حفز صاحبنا على أن يبذل معظم جهده الفكري مُنصبًّا على لفت الأنظار نحو ضرورة «الوضوح» في الأفكار المحورية — على الأقل — التي ندير حولها نشاطنا الحيوي، فها هي ذي ثورة قد قامت لتقوِّم شيئًا مما اعوجت به حياتنا، وهو تقويم لا يتأتى إلا إذا كانت هنالك تصورات واضحة لما نريد أن نشكل به المواطن الجديد … ثم المجتمع الجديد في نهاية المطاف، أما أن نترك أنفسنا في ضباب الغموض لا ندري معه على وجه الدقة ماذا نريد بأنفسنا لأنفسنا، فما ذاك إلا موقف شبيه بمن ركب سيارة وأمر سائقها أن ينطلق بالسيارة مسرعًا، وإذا سأل السائق: إلى أين؟ أجابه بقوله: لا أدري.

وأمسك صاحبنا بمجهره المنهجي ليقلب به النظر إلى «إرادة التَّغيير» التي رفعت شعارًا — مع زميلات لها — ليعلم السائرون الثائرون إلى أين يكون السير، فماذا يكمن في جوف هذه التركيبة اللفظية من عناصر المعنى؟ هكذا تساءل صاحبنا ومجهر التحليل في يده، فجاءه الجزء الأول من الجواب، وهو أن هذه العبارة حين أضافت كلمة «تغيير» إلى كلمة «إرادة» كانت كأنها لم تضف شيئًا مع إيهامها السامع بأنها قد أكملت «المعنى» المطلوب، فنتج عن هذا الإيهام وما أحدثه في النَّاس من وهم، أن اكتفى هؤلاء النَّاس بما سمعوا.

لكن تعالوا معي ننظر مع صاحبنا في مجهره إلى كلمة «إرادة» وهي مستقلة وحدها، فماذا عساها تعني؟ ما هي الحالة البسيطة أو المركبة التي جاءت تلك اللفظة لتشير إليها في عالم الكائنات، باطنها وظاهرها جميعًا، بناءً على ما اتفق عليه أبناء اللغة بالنسبة إلى هذا المفرد اللغوي، ولست أعني هنا ما هو وارد عنها في معاجم اللغة فقط، بل أعني كذلك ما هو أهم من المعاجم، وهو الشحنة التي شُحنت بها اللفظة خلال استعمالها، ويُضاف إلى ذلك ما يقوله العلماء المعنيون بالموضوع الذي خُلقت تلك اللفظة لتدل عليه، واللفظة في سياق حديثنا هذا هي «إرادة»، ولو أذن لي القارئ بأن أوجز المعنى مع مراعاة هذه التحفظات كلها لقلت في شأن «الإرادة»: إنها حالة ينشط بها الإنسان ليخرج رغبة أحسها في باطنه، إلى صورة فعل يحقق وجودها أو على الأقل يحاول ذلك. وراقب نفسك عن كثب، ولنفرض أنك أحسست بالظمأ ورغبت في شربة ماء؛ فسوف نراك وقد تحرك بدنك قيامًا وسيرًا وحركة تنتهي بتحقيق ما أردت تحقيقه، إن هذه السلسلة كلها من أول حلقة فيها إلى آخر حلقة هي إرادة واحدة وفعلها، ولو حدث أن اعترض سيرها ما يحبطها، فتجهض قبل أن تكمل حلقاتها، كنا أمام حالة تعطلت فيها الإرادة، فلم يكتمل تكوينها وامتنع ظهورها، وعندما يقول الله سبحانه وتعالى إنه: فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ فهو جل وعلا ينبهنا إلى الفرق بين إرادته المطلقة وإرادة الإنسان المقيدة بظروف تنفيذها، فبينما إرادة الله عز وجل لا بد لها أن تكتمل حلقاتها، نرى إرادة الإنسان قد تبدأ لكنها تُوءد قبل اكتمالها.

وما دام «الفعل» المراد هو حلقة ضرورية ليتم للإرادة كيانها، ثم ما دام كل فعل إنما هو تغيير وقع في دنيا الأشياء نتج لنا أن «التَّغيير» جزء لا يتجزأ من «الإرادة»، فإذا لم يحدث تغيير حكمنا بأنه لم تكن هنالك إرادة مكتملة، ولا يقلل من صدق هذا الرأي، أن تجهض إرادة اعتزمها زيد من النَّاس في موقف من المواقف لأي سبب من الأسباب، إذ الذي نزعمه هو أنه لو ادعى فرد أو مجموعة أفراد أنه قد أراد ولكن إرادته أُحبطت فذلك معناه أنه لم يكن هناك «إرادة» يحسب حسابها، فالجنين الذي يموت قبل ولادته لا يُحسب في إحصاء السكان.

لم يكن المهم — إذن — أن نرفع شعار «إرادة التَّغيير» ولكن المهم حقًّا هو أن يحدد في وضوح — أو فيما يقرب من الوضوح — شكل التَّغيير المعتزم إيجاده في عالم الواقع الفعلي، أما التَّغيير مطلق التَّغيير فذلك قد ضمنا حدوثه ما دمنا قد ضمنا تحرك الإرادة فيمن أراد، تلك نقطة أولى التقطها صاحبنا بمجهر التحليل، ننتقل بعدها إلى نقطة ثانية، فإذا كانت الصيحة تنادي بإرادة التَّغيير نشأ — أو كان ينبغي أن ينشأ — سؤالان: أولهما يسأل قائلًا: إرادة من؟ ثانيهما يسأل عن الصورة التي اعتزمت تلك الإرادة استحداثها في حياة النَّاس، فأما عن هذا الشق الثاني فقد يقال إنه قد فُصِّلَ (بالفاء مضمومة والصاد مشددة) فيه القول حين وضع أولو الأمر مجموعة المبادئ التي حددوها لتكون خطة عمل نحو تحقيق التَّغيير المنشود، وأما عن الشق الأول الذي يسأل: إرادة من؟ فقد كان يسيرًا على أولى الأمر أن يجيبوا بقولهم إنها إرادة الشعب، لكن مثل هذه الإجابة في حاجة إلى تحديد الصورة التي تمت بها إرادة شعب، على أنه أيًّا ما كانت عليه تلك الصورة، فلن تكون هنالك إرادة لشعب إلا إذا وجدنا ذلك الشعب قد اجتمع أفراده على «هدف» واحد، فحتى المبادئ الأساسية التي رسم بها أولو الأمر عندئذ «أهدافهم» من التَّغيير الاجتماعي الذي أرادوه فإن تلك المبادئ ذاتها إن هي إلا وسائل يُراد بها الوصول إلى الغاية الحضاريَّة والثَّقافيَّة المراد استحداثها، ومثل هذه الغاية الواحدة، الواضحة، لم يكن لها في حياتنا عندئذ وجود ظاهر، وإلا لما احتاج الأمر إلى اتخاذ إجراءات تجاه المخالفين على النحو الذي وقع، ويكفينا في هذا الصدد أن ننظر فنرى: جماعة قد جعلت غايتها احتذاء السلف، وجماعة أخرى قد جعلت غايتها احتذاء الشرق الأوروبي، وجماعة ثالثة جعلت غايتها احتذاء الغرب الأوروبي مضافًا إليه الجانب الأمريكي، وجماعة رابعة قد وضعت ثقلها مع رأي يأخذ بالتحديث مع وقفة محايدة بالنسبة إلى محاور القوى، وقد رأينا هذه الاتجاهات المتعارضة كلها منعكسة في الحياة الثَّقافيَّة كما نشط بها أصحابها، وإن صاحبنا ليذكر في هذا الصدد خبرة حية وقعت له أكثر من مرة حيرته حيرة لم يجد لنفسه منها مخرجًا، فهو بطبعه لا يجد ما يبرر له أن ينغمس في تيار دون آخر من تيارات السياسة العملية، وإنما تَهُمُّه الوقفة «الثَّقافيَّة» بغض النظر عن تيارها السِّياسي ماذا يكون في حساب الأمر الواقع، إنه يرى أن الترتيب الصحيح لخطوات السير يجب أن تبدأ من مشكلات حقيقية في حياتنا التي نحياها بالفعل: قد تكون في مجال التعليم، أو الجمارك والضرائب، أو التوسع في الأراضي المزروعة، أو توليد الكهرباء، أو غير ذلك، فتجيء بعد تحديد المشكلة المعينة محاولة حلها قدر المستطاع، ولا يهمنا بعد ذلك من أين يأتي الحل … أهو من صنع علمائنا؟ أم أخذناه عن هذا البلد أو ذاك ممن نجد عنده ما يعين على الحل المنشود؛ فإذا كان هذا النظر إلى أمور الواقع بما يكتنفه من مشكلات هو «السياسة» إذن فصاحبنا منغمس في تلك السياسة إلى أذنيه، ولكنه في حالة كهذه يدهش أن نفرق في حل مشكلاتنا الحقيقية بين مصدر ومصدر، ومهما يكن من أمر في هذا الصدد فالذي حدث بالفعل في دنيانا الثَّقافيَّة إبان الفترة التي نتحدث عنها، هو أن رواد الفكر وغير الفكر من مقومات الحياة الثَّقافيَّة، ومن أيدهم من أتباع، قد انقسموا على أنفسهم في «الغاية» التي يتغياها كل منهم تحقيقًا للمواطن الجديد، وبالتالي للمجتمع الجديد، فإذا كانت أرضنا يومئذ قد تشققت تحت أقدامنا لنصبح في تيارات متعارضة لكل تيار منها غايته، إذن فقد كان «التَّغيير» الذي حملته في جوفها العزمة الإرادية حين ذاك، مجهول القسمات مبهم المعالم والملامح، ولقد ظهرت لذلك الغموض الفكري — بالطبع — نتائجه الطبيعيَّة فيما رأيناه من أحداث.

وكيف كان يمكن للغاية القومية أن تتوحد هدفًا حتى وإن اختلفت الوسائل إليها، ما لم تكن هناك حياة ثقافية متجانسة المناخ برغم اختلاف وسائل التعبير في مجالات الإبداع؟ إن الإنسان يتحرك برأسه قبل أن يتحرك بقدميه، أي إن فكره وإرادته يرسمان له طريق السير، ويحددان له أهداف الحياة، وبعد ذلك يجيء نشاط السلوك المنظور على الصورة التي يظن لها أن تكون محققة لما فكر صاحبه وأراد، ومجموع الشعب أو الأمة تتجانس أفكاره ومشاعره وتتقارب الأهداف عند أفراده أو أفرادها، بفضل ما يتشربه هؤلاء الأفراد قطرة قطرة من ذويهم ومعلميهم، وما يقرءونه وما يشاهدونه وما يتناقله الأصدقاء والزملاء من أخبار وآراء وهكذا، وذلك الذي يتشربونه إنما يُستقى من مصادر هي نفسها المصادر التي تُسمى آخر الأمر بكلمة «ثقافة»، فإذا توحدت تلك الثَّقَافة روحًا برغم اختلاف ميادينها ومضموناتها، فهي كفيلة بإحداث ذلك المناخ العام المشترك الذي يتنفسه الجميع على حد سواء، ولا ضير بعد ذلك أن يتفاوت أفراد الأمة الواحدة في مقدار ما يتنفسونه من ذلك المناخ المشترك وفي رتبته من درجات الارتفاع.

ولا بأس في أن نعيد هنا ما قد ذكرناه للقارئ أكثر من مرة في مناسبات أخرى، وهو أن اختلاف وسائط التعبير في أنواع الفن والأدب إبان عصر معين، لا ينفي أن يكون بينهما — رغم ذلك الاختلاف الظاهر — تشابه أعمق هو الذي يجمعها جميعًا تحت عنوان واحد، وذلك التشابه الأعمق إنما يكمن في طريقة التكوين، وأعني الإطار أو الشكل أو «الفورم»، فإذا كان العنوان الواحد الذي يميز العصر المعين والأمة المعينة، هو «العقلانية» — مثلًا — رأيت ما يبرز هذه الصفة في ألحان الموسيقى وفي نظم الشعر، وفي شكل الرواية أو المسرحية، وفي فنون التصوير بالنحت والعمارة، فبينها جميعًا رباط كالرباط الذي يكون بين «النظائر»، وانظر إلى العلاقة بين الخريطة الجغرافية وقارنها بالإقليم نفسه، الذي جاءت تلك الخريطة لتصوره، تجد اختلافًا واسعًا بين الطرفين، لكنهما مع ذلك يتشابهان تشابه النظائر، بمعنى أن كل جزء في أحد الطرفين يشير إلى جزء يقابله في الطرف الآخر، وهكذا تكون الحال بين مبدعات الفن والأدب على تباين أنواعها وبين «الحياة» الفعليَّة التي تقابلها، وذلك — بالطبع — مشروط بأن تكون الفاعلية الإبداعية سوية، وهي سوية إذا كانت كلها تستهدف — عن وعي أو عن غير وعي — غاية موحدة، ونسأل: ومن الذي يضع للأمة الواحدة في عصر معين تلك الغاية الموحدة التي يهتدي بها المبدعون في عملهم؟ إن ذلك لا يجيء طاعة لأمر يصدره الحاكم، بل تمليه الظروف التَّاريخيَّة إملاءً، أو توحي به إيحاءً إذا لم تكن هناك قوة قسرية تحول دون أن يبدع المبدعون وفق ما توجههم إليه مشاعرهم.

وكانت الفرصة مواتية بعد إجماع الجمهور على تأييد ثورة ١٩٥٢ ودعوتها إلى عدالة اجتماعية، لكننا لم نلبث على اتفاقنا إلا قليلًا، ثم أخذنا نتفرق غايات مختلفة، إذ فسرت العدالة الاجتماعيَّة تفسيرات تناقض بعضها مع بعض تناقضًا لم يُبْقِ من الغاية المشتركة إلا الصيغة اللفظية التي سُميت بها، وكيف نتفق وبعضنا يريد أن يعيد الماضي ليكون هو الحاضر أيضًا، وكأنه لم يكن هنالك امتداد زمني بيننا وبينه، وبعضنا الآخر يريد أن نترجم أرواحنا ترجمة كاملة إلى صور ثقافية غريبة ليست منا ولسنا منها. على أن ما هو أهم من هذا كله أن روح الوحدة الغائبة بين أفراد الأمة لم تترك لتمليها علينا ظروف التَّاريخ، فيجري المبدعون في إبداعهم طواعية وفق ما أرادت لهم المرحلة التَّاريخيَّة أن يسيروا، بل نزلت بها أوامر وقرارات من أصحاب السلطان.

نعم إن الفرصة كانت مواتية لولادة ثقافة حركية تتلاءم مع طموح الأمة في أن تنفض عن نفسها غبار الركود وبلادة الوخم كي تنهض مع الناهضين فتشارك في بناء عصرها مع سائر البناة؛ وذلك أولًا: أن تبلورت لها «الغاية» التي تستحق أن تتحرك نحوها إرادة البعث والتجديد، وثانيًا: بأن أُقيمت لنا أجهزة تعين على النشاط الثقافي؛ فأنشئت وزارة للثقافة، ووزارة للإعلام، ومجلس أعلى للثقافة، أُطلق عليه عند نشأته اسم «المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب» وبعد قليل أُضيفت العلوم الاجتماعيَّة إلى الفنون والآداب، وفيما بعد أصبح الاسم «المجلس الأعلى للثقافة» ثم أُقيمت أكاديمية للعلوم والبحث العلمي وأكاديمية للفنون وأُقيمت مجالس قومية متخصصة، كان للتعليم والبحث العلمي والثَّقَافة والإعلام والفنون نصيبها الضخم في جهودها، فكان يمكن لتلك الأجهزة كلها أن تفعل فعلها في توحيد «الغاية» التي تستقطب مبدعات المبدعين واستعدادات المتلقين استقطابًا يجعل من الحركة كلها موكبًا يعرف لماذا أُقيم وإلى أين يتجه، ولكن الأمر الواقع هو أن زاوية التفرق في الغايات ووجهات النظر قد ازدادت انفراجًا، وأسوأ من انفراجها أن ركنت بعض التيارات المتعارضة إلى أخذ خصومها بالتهديد والإرهاب.

ولما كانت السيئة تلد السيئة، فقد تولد لنا عن روح الفرقة الثَّقافيَّة ما هو أسوأ منها، إلا وهو تميع معنى الثَّقَافة بين الرواد أنفسهم، فما بالك بالأتباع، وأعني أن الجسم الثقافي نفسه قد اختلف على طبيعته؛ فما هو «ثقافة» عند هذا، هو غثاثة وتفاهة عند ذاك، نعم إن «الثَّقَافة» اسم أُطلق ويُطلق على عناصر متباينة متباعدة على نحو يثير الحيرة أين يقع اللقاء بين هذه المتباينات المتباعدات بحيث تستحق أن يُطلق عليها اسم واحد يضمها جميعًا في أسرة واحدة، فاختلفت في طبيعتها الآراء اختلافًا بعيدًا، لكننا برغم هذا كله نستطيع من واقع ما حفظه لنا التَّاريخ على أنه من عناصر المركبات الثَّقافيَّة في العصور المختلفة أن نخلص إلى خصائص نطمئن إليها، فناتج الفاعلية الثَّقافيَّة لا يُؤكل ولا يُشرب … لكنه هو الذي تُنسج من خيوطه إنسانية الإنسان، وتميز الفرد أو الشعب من سائر الأفراد أو الشعوب، إنك لا تأكل المعزوفة الموسيقية ولا ترتدي ثوبًا من قصيدة الشعر، ولا تشرب ماءك من لوحة الفنان، إنك تذهب إلى المسرح أو إلى السينما لتشهد رواية تدفع ثمنًا لما شاهدته ولا يعطونك لقاء مالك المدفوع إلا كلامًا ومشاهدة، فماذا — إذن — يأخذ المتلقي من النواتج الثَّقافيَّة مما يراه جديرًا بالمال يدفعه أو بالوقت يقضيه؟ إن ما هو ضرورات مادية لحياة الإنسان لا يحتاج إلى توصية من أحد برعايته؛ لأن ضرورته تلزم الإنسان إلزامًا بأن يرعاه، وأما الذي قد يبدو ترفًا لا تحتمه الضرورة — كالمبدعات في الفن والأدب — فهي التي تحتاج إلى لفت أنظار الغافلين. إن الإنسان إذ يحيا حياته العملية، عاملًا أو زارعًا أو تاجرًا أو قاضيًا أو طبيبًا أو ما شئت من طرق العيش، فإنما يحيا بما تقتضيه الحرفة أو المهنة أو الطعام والثياب والمسكن ووسائل المواصلات، ومن ذلك كله تُقام الحياة العملية من كل وجوهها، فتأتي جماعة موهوبة بقدرات مختلفة لا يكتفي أفرادها بأن يحيوا حياتهم الضرورية كسائر عباد الله، بل تدفعهم مواهبهم إلى ترجمة تلك الحياة ذاتها ترجمات تختلف باختلاف المواهب، فهذا يترجمها إلى أنغام وهذا يترجمها إلى كلمات نُظمت شعرًا، وثالث يجريها ألوانًا وخطوطًا، ورابع يبثها في رواية أو في مسرحية يصنعها خياله … فإذا اجتمعت هذه المبدعات كلها، وما يجري مجراها في صلته بالحياة الإنسانية كما ينشط بها أصحابها، أقول: إذا اجتمعت هذه العناصر كلها ونفذت في أحشائها أشعة «الناقد» المبصر البصير، فوجد فيها روحًا واحدة تسري في جنباتها سريان الدماء في الجسم الحي كانت هي «الثَّقَافة» الناتجة ليتلقاها من يتلقاها.

س سؤال: ولماذا يتلقاها خيالًا، بعد أن عاشها هو بنفسه لحمًا ودمًا؟

ج جواب: لأنه يريد أن يرى نفسه مصورة بطريقة أخرى، فيراها شارحة مشروحة ليخرج وقد تحركت فيه «الإرادة» لأن يُقوِّم من نفسه عوجها أو ليبقي على ما يستحق البقاء، واختصارًا فإن المتلقي لمبدعات الثَّقَافة إنما يتلقى ما يصنع له «الضمير»، فهل أنجزت لنا أوجه النشاط الثقافي، بكل مواهبها وأجهزتها من وزارات ومجالس عُليا ولجان، ما ينشئ فينا الضمير القومي الحي ويهديه؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤