في سبيل الوضوح «١»

لم تكن المراحل التي اجتازها صاحبنا خلال سنوات عمره، منفصلًا بعضها عن بعض بخطوط حادة، بحيث جاءته المرحلة التالية بما وجده جديدًا كل الجدة بالنسبة لما خبره في المرحلة التي سبقتها، كلا بل إن «الحياة» في أية صورة من صورها، لا تعرف تلك الفواصل الحادة بين مراحل النمو، ومن ذا يستطيع أن يحدد أمثال تلك الفواصل الحاسمة في شجرة تنمو، أو في فرخ الطير يتحول من عجز إلى قدرة على شق السماء بجناحيه، أو في رضيع بشري وهو يجتاز مراحل الزمن ليصبح ما يصبح: قوة جبارة من قوى الدفع بالأمة كلها، أو بالإنسانية جمعاء في مدارج الصعود الحضاري، أو من قوى الشد إلى الوراء، لعل شريط الزمن يعود على يديه فينطوي ليبعث الماضي وينشر حاضرًا مرة أخرى، أو هو رضيع لن يظهر منه سوى إنسان من هؤلاء الملايين الذين يحيون حياة تتوالى فيها الأيام نسخات كربونية، أمسها كيومها، ويومها كغدها، وكأن العمر فيها يوم واحد كلما غربت عنه الشمس، عادت فأشرقت عليه هو نفسه لم يتغير منه شيء.

على أنه إذا كانت طبيعة الحياة، كائنة ما كانت صورتها، هي أن يتدرج فيها التَّغيير بحيث لا تظهر للعين المجردة فواصل تبين النقلة من حالة إلى الحالة التي تليها، إلا أن «الإنسان» ربما تميز عن سائر الكائنات الحية، في أن حياته ليست بيولوجية صرفًا، بل هي تضيف إلى الهيكل البيولوجي امتدادات «ثقافية»، وفي هذه الامتدادات يختلف فرد من النَّاس عن فرد، بمعنى أنه قد تَطَّرِد القشرة الثَّقافيَّة عند فرد اطرادًا يمكث معه سنوات لا يتغير وكأن القشرة قد تحجرت ولم تعد تنمو، بينما تتغير بالنمو تلك القشرة الثَّقافيَّة عامًا بعد عام عند فرد آخر، بحيث يأتي العام اللاحقي باتجاه جديد يتوجه به ذلك الفرد في سيرة حياته، على خلاف حاد في ذلك مع اتجاه العام الذي سبقه، وبين هذين النوعين من أفراد النَّاس، فيما يختص بحركة النمو في حياتهم الثَّقَافة، هنالك نوع ثالث، تتغير حياته تغيرات تجيء كل مرحلة منها بمثابة النبات الأخضر يخرج من بذور كانت مبذورة كامنة في مراحل العمر السابقة، ومن هذا النوع الثالث كان صاحبنا — على الأغلب — في تطوراته الثَّقافيَّة بصفة عامة، والجانب الفكري منها بصفة خاصة، حتى لتراه يستطيع أن يرد ما قد ظهر عنده من أفكار تولدت في مرحلة لاحقة، إلى بذورها التي كانت لم تزل في حالة الكمون في مراحل سابقة.

وهذا هو ما نعنيه إذ نقول عنه إن مراحل حياته الفكرية لم تكن منفصلًا بعضها عن بعض بفواصل حادة، ففي كل مرحلة يحدث أن تزهر وأن تظهر عناصر كانت في حقيقة أمرها موجودة كما توجد الأجنة في الأرحام، تولد عندما تتهيأ الظروف لولادتها، وكان الوليد الجديد الذي ظهر في أعوام الخمسينيات بعد أن اكتملت صورته، هو مبدأ «الوضوح» فيما يتبادله النَّاس من أفكار، إذ كان صاحبنا عندئذ على يقين — أو ما يقرب من اليقين — بأن الحياة العقلية، في الفرد الواحد، أو في الأمة بأسرها، إنما تزدهر وتبلغ نضجها، إذا ما غلب عليها «وضوح» الأفكار التي تدخل في دنيا التعامل والتبادل، فليست العبرة بكثرة المحصول الفكري، بل هي بوضوح ما قد حصله الإنسان من أفكار، والفرق بين الفكرة الواضحة والفكرة حين يلفها الغموض، هو أشبه بالفرق بين رحالة في حوزته خريطة واضحة التفصيلات، يستطيع السير على هداها فيصل آمنًا إلى غايته المنشودة، ورحالة آخر كل ما في حوزته في هذا الصدد ورقة خُطَّتْ عليها مجموعة مختلطة من خطوط، ولا ترسم شيئًا ولا تدل على شيء، فيضل طريقه في تيه الفلاة.

ولعله كان من أهم ما كشفت عنه التحليلات الفلسفية في هذا القرن العشرين، كشفًا لما يشهد تاريخ الفكر كله ما يقارن به دقة علمية، أقول: لعله كان من أهم ما كشف عنه عصرنا في تحليله «للفكر» وطبيعته، هو أن «الفكر» هو هو نفسه «اللغة» التي يظهر بها، وقد يتبادر إلى ظن القارئ، أن هذه النتيجة البسيطة لا يحق لها أن تتضخم في قيمتها بحيث نرتب عليها شيئًا ذا خطر، لكنها في حقيقة أمرها نتيجة قلبت لنا الموقف البحثي نورًا ظلام، لأننا لو بقينا نلف وندور حول مفهوم «الفكر» كما نتصوره بأذهاننا، لما وصلنا إلى نتيجة صحيحة حاسمة، ولو لبثنا نبدي في المشكلة ونعيد ألف ألف عام، أما وقد تبين لنا ذلك الدمج التام بين «الفكرة» و«لغتها» بمعنى أن تكون تلك هي هذه وهذه هي تلك، وليس أمرهما كما ألفنا أن نقرأ عنه ونسمعه، وأعني ما كان يُقال عن الجانبين في تشبيهات تجعلها كالإناء وما يمتلئ به ذلك الإناء، أقول: أما وقد تبين لنا ذلك الدمج في هوية واحدة، فقد أصبحنا أمام تركيبة من رموز لغوية، أو رموز من أعداد أو حروف (كما هي الحال في الرياضة)، ننظر كيف ركبت حين وضح المعنى، وكيف رُكِّبت حين غمض المعنى، وكيف ركبت حين خلت من المعنى، وحين ينصب البحث في ذلك على تركيب معين بين أيدينا نكون قد خلصنا أنفسنا من الضبابية الشبحية التي كانت تواجهنا عندما كنا ندير النظر فيما أسميناه «فكرًا» خالصًا ومجردًا من جسد يخرجه من ظلمات الخفاء إلى ضوء النهار.

وعلى هذا الأساس البسيط الواضح، إذا أردنا الحكم على «فكر» فلان وضوحًا وغموضًا، لم يكن مرجع حكمنا سوى الرجوع إلى «قوله»، ففي الطريقة التي رُكِّبت بها كلماته واتصلت بها عباراته بعضها ببعض — أو التي انفصلت بها بعضها عن بعض — وها هنا نجد المجال فسيحًا أمام النظر العلمي الذي نؤسس عليه الحكم بالوضوح أو بالغموض أو بالخلو من أي معنى، فليست المعاني مرهونة بمفردات اللغة، أو الرموز الرياضية، بقدر ما هي مرهونة بمجموعة العلاقات التي ربطت تلك المفردات ربطًا صارت به «فكرة»، ولو ارتبطت تلك المفردات ذاتها بمجموعة أخرى من العلاقات لتغير الموقف، بحيث صار الواضح غامضًا، أو الغامض واضحًا، أو اكتسب معنًى ما لم يكن يدل على معنًى، أو فقد معناه ما كان ذا دلالة تحدد معناه.

بل إن فكرة «المعنى» في حد ذاتها قد استوقفت أنظار الباحثين متسائلين: ماذا نريد على وجه التحديد، حين نقول عن جملة معينة إنها ذات «معنى» وعن جملة أخرى إنها ليست بذات «معنى»، ولم يكن هذا السؤال من الباحثين عابثًا، إذ ما نكاد نمعن النظر فيه، حتى يتبين أن الأمر في حاجة إلى شيء من الروية والتدبر؛ وذلك لأن المراد ﺑ «المعنى» ليس شيئًا واحدًا في جميع الحالات، فلعل القارئ يذكر ما عرضناه بشيء من التفصيل فيما سبق من أحاديث عن مجالات القول المختلفة: فهنالك أولًا: مجال القول العلمي، وهو يعود بدوره فينقسم قسمين أساسيين، هما: العلوم الرياضية والعلوم الطبيعيَّة بما فيها مجموعة العلوم الإنسانية، وهنالك ثانيًا: مجالات الفن والأدب، وأهم ما تشتمل عليه من فروع: الموسيقى، والأدب شعرًا ونثرًا، بما فيه الأدب الروائي والمسرحي، وهنالك ثالثًا: مجال القيم، التي هي بطبيعتها تمد سلطانها ليسري في العلم والفن والأدب جميعًا، والمصدر الأساسي للقيم هو «الدين»، ثم هنالك رابعًا: الفلسفة التي هي محاولة فكرية تسعى إلى الكشف عن الأساس الواحد، في كل عصر معين، الذي ترتكز عليه تلك المجالات كلها، وذلك إذا كانت الحياة الثَّقافيَّة إبان ذلك العصر حياة سوية، وشرط السواء هنا هو أن يكون هنالك ينبوع مشترك، أو سؤال واحد كبير مطروح للعصر المعين كي يجد عنده الجواب، ومن ثم يصطبغ العصر بلون ثقافي متميز يمكن تحديده، ولعل القارئ يذكر كذلك ما قد أسلفنا فيه القول مفصلًا، عما نعنيه في كل حالة من تلك الحالات الأربع، حين نصف قولًا معينًا بصفة «الصدق» أو الصواب؛ وذلك لأن ما نعنيه ﺑ «الصدق» يختلف في مجال عنه في سائر المجالات، لأن لكل مجال منها أساسه الخاص الذي يقيم عليه صدق القول، وإن تكن الأسس الأربعة تعود فتلتقي في كونها جميعًا تشير إلى جانبين يتطابقان، مع اختلافهما بعد ذلك في طبيعة الجانبين، وفي طريقة التطابق.

فإذا استعاد القارئ ما قد ذكرناه فيما سبق عن هذا كله، بات يسيرًا عليه أن يرى وجه الضرورة التي تقتضي ممن أراد الدقة، أن يمعن النظر فيما يُراد لكلمة «معنى» من دلالة، فمتى يكون لكلام المتكلم «معنى» ومتى لا يكون؟ فالجواب هنا يدور مع المجالات المختلفة لضروب القول، كما يدور مع الدلالات المختلفة لصفة «الصدق» في كل مجال على حدة، ففي العلوم الرياضية يغلب أن تجد بين يديك معادلات، أو نتائج معينة استنبطت من مقدمات مسلم بصحتها، وفي هذه الحالات يكون المطلوب ليس هو «المعنى» بل أن يكون هنالك «اتساق» — أي عدم التناقض — بين الأجزاء، فشطر المعادلة يتسق مع شطرها الآخر، والنتيجة المستنبطة تتسق مع مقدماتها التي استنبطت منها، وأما في العلوم الطبيعيَّة، أو ما يدور مدارها، وأعني كل قول أراد صاحبه أن يشير به إلى أي جزء من أجزاء الواقع، «فالمعنى» يستقيم للقول، إذا كان هنالك تطابق تام بين المركب اللفظي من جهة، والمركب الواقعي من جهة أخرى، بمعنى أن كل طرف ورد ذكره في القول يقابل طرفًا في الأمر الواقع المشار إليه، وكل «علاقة» تربط الأطراف في القول تقابلها علاقة بين أطراف الواقع، وبهذا تصبح الجملة صادقة المعنى إذا جاءت متماثلة التكوين تماثل إقليم معين وخريطته، أو تماثل شخص معين وصورته، فإذا قلت: في جيب سترتي ثلاثة جنيهات، وجب أن يجيء «معناها» متطابقًا من حيث الأطراف وما يربطها من علاقات: فهنالك شخص هو أنا، وسترة، وجيب، وجنيهات، وهنالك علاقة احتواء بين الجيب والجنيهات، وعلاقة شكلية بين الجنيهات والعدد ثلاثة، ولاحظ أن «معنى» الجملة هو هذا الأمر الواقع نفسه، وهكذا يُراد ﺑ «المعنى» في كل قول مشير إلى عالم الواقع في أي جزء من أجزائه هو أن نجد لذلك القول واقعًا يطابقه، إما على سبيل الحقيقة الفعليَّة، وإما على سبيل إمكان الحدوث.

وليس بنا حاجة إلى إعادة ما ذكرناه في مواضع سابقة من هذه الأحاديث، عن «معاني الصدق» في كل فرع من فروع الفن والأدب، وما ذكرناه عن صدق الإيمان في مجال العقيدة بصفة عامة، والعقيدة الدينيَّة بصفة خاصة.

فأين هذا كله مما نراه حولنا، حتى ممن كنا نتوقع عندهم مراعاة الدقة العلمية فيما يكتبون ويذيعون، أقول: أين هذا كله مما نراه حولنا من إرسال القول إرسالًا مهملًا، في غير حيطة ولا تحفظ، استخفافًا ﺑ «العقل» وﺑ «العلم» وبأمانة القول ودقته، فما أيسر أن تجد «الدين» قد اختلط ﺑ «العلم»، وأن «النقد الأدبي» قد اختلط ﺑ «الأدب»، وما أهون عند المتكلم فنيًّا أو الكاتب، حتى في أعلى مستويات القول والكتابة، أن يقذف بكلمات من قبيل «فقر» و«غنى» و«علم» و«جهل» ومئات غيرها وآلاف وكأنها كلمات محددة المعاني، وليست دالة على نسبة تختلف باختلاف الظروف.

وفي سبيل الوضوح الفكري، الذي رآه صاحبنا دائمًا علامة تشير إلى درجة الارتقاء في مضمار التطور الثقافي والعلمي، اضطر إلى مجادلة المعارضين في حالات كثيرة، كان منها أن أخذ يعرض على القراء مرة بعد مرة، وجوب التفرقة بين «الأدب» من ناحية، و«نقد الأدب» من ناحية أخرى، فالأدب إبداع لا يُسأل فيه المبدع عن صدق ما يعرضه على واقع الكون صدقًا علميًّا، وحتى عندما نصف أدبًا معينًا بأنه واقعي، فلسنا نعني بالواقعية هنا ما نعنيه بها في مطابقة الأقوال العلمية لواقع الطَّبيعة، وأما «النقد» فعملية «علمية» لما نتوخاه من «تحليل» و«تعليل»، فالناقد «يحلل» الرواية أو قصيدة الشعر إلى عناصرها، مع أن الإبداع الأدبي ذاته بعيد كل البعد عن التحليل؛ لأن «الحياة» نفسها لا تحلل الأشياء بل هي تبدع الكائنات، كل كائن بما يجعله كائنًا موحد الأجزاء، والناقد كذلك «يعلل» ارتفاع العمل الفني أو سقوطه، أي إنه يذكر الأسانيد التي يستند إليها في أحكامه، بأن يشير إلى عناصر معينة وردت في جسم العمل الفني المنقود، وعمليتا «التحليل» و«التعليل» كلتاهما، هما من صميم الوظائف العقلية التي يتميز بها رجال العلوم، وليس ثمة فرق كبير بين موقف «عالم الطَّبيعة» من موضوع بحثه، و«ناقد» الأدب أو الفن في موقفه من موضوع نقده، وكل الفرق هو أن بين يدي عالم الطَّبيعة «ظاهرة» طبيعية يريد استخلاص قوانينها، وأما الذي بين يدي الناقد في مجالات الأدب والفن، فهو منتج معين أبدعه أديب أو فنان، وحين يصدر الناقد حكمه في نهاية التحليل والتعليل، فإنما يصدره بناءً على سند هو أشبه بالقوانين العلمية في تجريده وتعميمه، ثم الوصول إليه فيما قيل، نتيجة لاستعراض ما قد خلده الزمن من آثار الأدب والفن، واستعراضًا يؤدي إلى استخراج ما هو مشترك في جميع الأعمال الخالدة.

وإنه لمما يؤدي إلى غموض الرؤية عند «الناقد» الذي يزعم لنفسه أن «النقد» معتمد على «تذوق» الناقد، والتذوق هو أدخل في مجال «الذات» منه في مجال «الموضوع»؛ ولذلك فهو أقرب إلى العملية الإبداعية منه إلى عمليات المشاهدة والتجربة والتحليل في منهج البحث العلمي، والرد على ذلك هو أنه لا حرج على ناقد في أن يعبر عن وقع الأثر الأدبي أو الفني في نفسه، تعبيرًا هو بغير شك يندرج تحت مقولة الإبداع، لكن ذلك الناقد قد أخطأ في هذه الحالة حين أطلق على نفسه صفة الناقد، اللهم إلا على سبيل التجوز الذي يبعده عن دقة الوصف، وإلا فما هو الفرق من حيث الجوهر بين مبدع وقف على شاطئ النيل في ظلال مجموعة من النخيل، فأحس النشوة، ثم أجاد التعبير عنها، وبين ناقد وقف أمام ديوان من الشعر، وأحس النشوة لما تلقاه عن قراءته من قصائد ذلك الديوان، ثم جلس ليعبر عن تلك النشوة فأجاد التعبير؟ إنه لا فرق يُعْتَدُّ به بين الحالتين؛ ولذلك فالتعبير عن النشوة هو إبداع أدبي في الحالتين، إذا أجاد الكاتب في وسيلة التعبير.

مجادلات كثيرة شارك بها صاحبنا في مجال النقد الفني والأدبي، سعيًا منه إلى توضيح المواقف والمعاني، ومثلها مجادلات شارك بها في مجال التفرقة بين «الدين» من جهة، وغيره من أوجه النشاط الفكري أو الشعوري من جهة أخرى، من ذلك أن وُجِّهَت إليه المؤاخذة الساخرة ذات يوم في إحدى الصحف، بأنه لا يدرك، أن «الدين» هو «علم» بكل ضوابط العلم ودقته، ولما كان ذلك الاتهام قد جاء من كاتب له مكانته، فإن صاحبنا لم يجد بدًّا من أن يعرض على النَّاس حقيقة القضيَّة، رغبة منه في إزاحة الغموض عن موضوع له أهميته الكبرى في الحياة الثَّقافيَّة، فالفرق بعيد بين «الدين» في طريقة تقبل المؤمن له، وبين الوقفة العلمية إزاء موضوع يريد العالم أن يقننه، ويمكن توضيح الموقف المثلث الأطراف بمثل قارئ جلس إلى مكتبه، وأضاء المصباح ليقرأ ما أراد قراءته، فها هنا ثلاثة أطراف أساسية؛ أولها: ضوء المصباح الذي يستضيء به القارئ، وثانيها: القارئ المهتدي بالضوء، وثالثها: «علم الضوء» كما ورد في الكتب العلمية التي تفصل القول في بحوث العلماء في هذا الصدد، وما استخرجوه عن الضوء من قوانين علمية تضبط طرائق سيره وانعكاسه وانكساره وسرعته إلخ، مرة أخرى نقول: هنا ضوء، ومستضيء، وعلم أُقيم على موضوع الضوء، ولنلحظ هنا أن وجود الضوء يظل وجودًا قائمًا بذاته حتى ولو لم يستضئ أحد وأن وجود الضوء والمستضيء قد يظل وجودًا قائمًا حتى ولو لم يقم العلماء على ظاهرة الضوء ما أقاموه من بحوث انتهت بهم إلى قوانين، وعلى أساس هذه الصورة انتقل إلى «الدين»، تجد الأطراف الثلاثة: فهنالك «دين» وهنالك «متدين» أو متدينون آمنوا بهذا الدين، وهنالك علوم تُقام على المضمون الديني، وكما رأينا في مثل الضوء والمستضيء وعلم الضوء، نرى هنا أيضًا إمكان أن ينزل «دين» ولا يجد متدينًا به، أو باحثًا يقيم عليه علمًا، ثم قد يتدين بذلك الدين متدينون، ومع ذلك فلا تُقام عليه علوم، مما يدل دلالة واضحة على استقلالية الدين عن علم الدين، والعكس غير صحيح؛ لأنه إذا وُجد ما يُسمى بعلم يُقام على المضمون الديني، فلا بد أن يكون قد سبقه دين، وليس أقطع دليل على هذه الاستقلالية، وهذا التحديد الذي يبين الفواصل بين الأطراف الثلاثة، من الآيات الكريمة في آخر ما نزل به وحي قرآني، وهي قوله تعالى: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْوَاجًا إلى آخر السورة الكريمة، وواضح من الآيات أن قد نزل «دين»، وأُعلن عن اكتماله بقوله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ، ثم كان هنالك متدينون بهذا الدين، وهم الذين دخلوا في دين الله أفواجًا، ثم انقضت عشرات السنين بعد ذلك، قبل أن تُقال كلمة واحدة في علم واحد من علوم الدين التي أخذت بعد أن بدأت، تتوالى ويتوالى فيها الجهد المبذول إلى يومنا هذا، إذن فواضح من ذلك كله أن «الدين» شيء، وأن «المتدينين» بهذا الدين شيء ثانٍ، وأن «علم الدين» شيء ثالث، ولم يقع المهاجم الساخر ذو المكانة في حياتنا فيما وقع فيه من خلط إلا بسبب ما يكتنف حياتنا الفكرية، في عمومها، من ضباب الغموض.

الحق إنه لو كانت جهود صاحبنا المتصلة إبان عقد الخمسينيات بصفة خاصة لتختصر تحت عنوان واحد، لكان ذلك العنوان هو «في سبيل الوضوح» والوضوح المُبتغى إنما ينصبُّ أساسًا على دائرة «العقل» وما ينضوي تحته من علوم وأفكار تتصل بالعالم الموضوعي على نحو ما تتصل العلوم وفروعها، وأما الدائرة الإدراكية الأخرى في الكيان البشري، وأعني جانب «العاطفة» وما تشتمل عليه من المواقف الإيمانية، والنظرات الفنية، وما دار في هذا الفلك، فهو على عظيم قدره في حياة الإنسان، وهو قدر ربما زاد على قدر التفكير العلمي والموضوعي بكل فروعه، إلا أنه لصلته الوثيقة ﺑ «الذات» ربما استعصى على «الوضوح» المطلوب في الجانب العلمي أو الفكر الموضوعي، الذي يُشترط له، فيما يُشترط، أن يتخلص من «الذات» في خصوصية نزعاتها وميولها، ولم تكن عناية صاحبنا ببث الإحساس العام بضرورة «الوضوح» الفكري في المسائل العامة، لتمس في كثير أو قليل ذلك الجانب الثاني من الحياة الإنسانية الذي يختص بالذات وخصوصية مشاعرها؛ لأن لهذا الجانب الشعوري ميادينه التي تختلف أبعد اختلاف عن ميدان التفكير العلمي أو ما يدور مداره، اللهم إلا أن يكون ذلك على سبيل المقارنات التي من شأنها أن تزيد الوضوح وضوحًا.

ومع هذا الحرص الشديد على التفرقة في عالم الإدراك، بين قسمين أحدهما فقط هو الذي تنصب عليه شروط الوضوح العلمي، فقد تعرض صاحبنا لكثير من النقد الصادر عن حماة الجانب العاطفي من الإنسان، وكان ذلك الجانب العاطفي حِكرًا احتكرته طائفة من النَّاس دون طائفة، وكان معظم النقد — إن لم يكن جميعه — ناشئًا عن خلط الناقدين بين دائرة التفكير العلمي من جهة، ودائرة التعبير عن حياة الشعور من جهة أخرى، بحيث ظن أولئك الناقدون أن ما أُريد تطبيقه على الجانب العلمي وحده من ضوابط وقيود، قد أُريد به كذلك أن ينطبق على المعتقد الديني، وعلى الشعر، وعلى الفن، وعلى كل ما تمتلئ به حياة الإنسانية من عاطفة التمست سبلها إلى التعبير بما يتفق مع طبيعتها.

وكان لهذا الخلط الذي حجب الحق عن أبصار الناقدين، موضعان أساسيان تركزت عليهما أسنة الأقلام الجارحة: أولهما، وأقلهما خطرًا، هو مجال القول إذا وردت في القول المعين كلمة أو كلمات دالة على قيمة من القيم الأخلاقية بصفة خاصة، كالحب والوفاء والكرم إلخ، فمن ناحية الوضوح العلمي، لا يجوز أن تُدرج أمثال هذه الأقوال في دائرة العلوم وما تخضع له من شروط وضوابط؛ لأن جملة تقول — مثلًا — إن قيسًا أحب ليلى، لا برهان عليها إلا ما قاله قيس عن ذلك الحب، وهو قول إذا تعرض لشك مرتاب، لم يكن في حدود الممكن أن نجد ما يزيل ذلك الشك وصولًا إلى يقين؛ وذلك كله بسبب أن حالة «الحب» حالة باطنية خاصة، لا يعرفها على سبيل اليقين إلا صاحبها، وصدق الشاعر القديم الذي قال:

لا يعرف الشوق إلا من يكابده
ولا الصبابة إلا من يعانيها

وهكذا قل في كل عبارة يقولها قائل زاعمًا بها قيام حقيقة باطنية شعورية عنده، وبناءً على ذلك فلا مفر من إخراج ذلك النوع من أقوال النَّاس، من مجال الفكر الموضوعي الذي هو ما أُريد له أن يخضع لشروط الوضوح العلمي، فما هو إلا أن نهض نفر ممن يغارون على الجانب الشعوري من الإنسان — وهو يتضمن المعاني القيمية كلها — ليوجه إلى صاحبنا تهمة التنكر «للأخلاق» والدعوة إلى هدمها.

لكن مثل هذا الاتهام لم يكن عند صاحبنا بذي خطر، ومع ذلك لم يفتر عن البيان والشرح ليزيل غمامة الغموض، لعل الغشاوة تزول عن الأبصار، وأما الجانب الذي كان له في نفسه أثر عميق وحزين، فهو الاتهام الثاني الذي زعم به أصحابه أن كل ما نشره عما رآه ضوابط للفكر الواضح هو في الحقيقة موجه نحو «الدين» كما هو متمثل في نصوصه؛ لأن تلك النصوص قلما تجيء على نحو ما تجيء القوانين العلمية، إذ أقل ما يُقال فيها هو أنها تخاطب في الإنسان قلبه وشعوره، جنبًا إلى جنب مع مخاطبتها لعقله العلمي، واستشهد أصحاب هذا الاتهام بكتاب أصدره صاحبنا سنة ١٩٥٣م وعنوانه «خرافة الميتافيزيقا».

وقد عُدِّل العنوان في الطبعات التالية ليصبح «الموقف من الميتافيزيقا»، وكانت خلاصة الاتهام الموجه، هي أن مؤلف ذلك الكتاب إنما أراد أن يقول إن الدين وما يدعو إليه من إيمان بالله إنما هو خرافة، نعم لقد اجترأ ناقد أن يوجه إلى صدر صاحبنا ذلك السهم المسموم لعله يصيبه في مقتل فيستريح الناقد ومن يشبهونه، وسرى هذا الظن الآثم الظالم من زيد إلى عمرو إلى خالد، دون أن يقرأ أحد منهم حرفًا من ذلك الكتاب ليرى إن كان قد عَدَلَ في ظنه أو ظلم، ولا يتسع المقام هنا إلا لشرح موجز شديد الإيجاز لقارئ اليوم الذي جاء بعد صدور الكتاب بنحو أربعين عامًا، والخلاصة هي أولًا: أن الكتاب مؤلف في موضوع فلسفي صرف، وليس الدين فلسفة ولا الفلسفة دينًا، وثانيًا: البحث الذي يُسمى في مجال الدراسة الفلسفية «ميتافيزيقا» هو بحث فيما يجاوز علوم الطَّبيعة من فروض، وذلك لأن ما يُقال عن «الطَّبيعة» المرئية الملموسة، إنما يُقال عن «ظواهرها»، وأما إذا جاوزنا بالبحث تلك الظواهر إلى «ما وراءها» فإن البحث عندئذ يكون خاصًّا ﺑ «ما وراء الطَّبيعة»، وثالثًا: كان الرأي الذي عرضه صاحبنا في كتابه ذاك، هو أن فيلسوف الميتافيزيقا، الذي يبدأ تفكيره من «مبدأ» يضعه هو لنفسه، ثم يستدل منه النتائج التي تتولد عنه، لا حق له في أن يزعم بأن نتائجه تلك هي التي تصور حقيقة الكون كما هي قائمة، ورابعًا: قدم صاحبنا رأيه في أن الميتافيزيقا المشروعة حقًّا والمفيدة حقًّا يجب أن تنصب على أقوال العلوم في العصر المعين الذي يكتب عنه الفيلسوف، ليستخرج من مجموعة تلك الأقوال العلمية ما قد أضمرته من فروض، حتى يصل به التحليل إلى آخر مداه، بأن يصل إلى أعمق قاع تُؤَسس عليه العلوم ما تقيمه من قوانين علمية، وعندئذ يكون ذلك القاع الخفي عن الأبصار، هو ما يمثل المحور الأساسي الذي تدور حوله مناشط العصر ووجهة نظره، وهو — بالتالي — الذي يصبغ العصر المعين كله بالطابع الذي يميزه من سائر العصور، وبمثل هذا التحديد لمجال البحث في ما هو «وراء» بأن يجعله «ما وراء البناء العلمي» في العصر المعين الذي يهمنا الإلمام بحقيقته وحقيقة ما يرمي إليه، نكون قد بذلنا الجهد فيما هو ممكن أولًا، وفيما هو نافع ثانيًا.

وسواء أكان هذا الرأي سديدًا أم لم يكن، فهو على أي الحالتين لا يتصل بمجال الدين من قريب أو من بعيد، لكن هكذا ضل مَن ضل مِن الناقدين، فأضلوا من أضلوهم ممن يهاجمون بغير سلاح إلا سلاح الخلط والتخليط، والتخبط في غياهب أوهام لا يتسلل إليها شعاع من نور، وأعني نور الفكر الواضح.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤