مقدمة المقدمات

«مطلع النور» عنوانُ هذه الصفحات، ومدار البحث فيها على البعثة النبوية — بعثة محمد عليه السلام — وما تقدمها من أحوال العالم، وأحوال جزيرة العرب، وأحوال الأسرة الهاشمية، وأحوال أبويه الشريفين.

ويدور البحث فيها على نوعين من المقدمات: مقدمات تمهد لنتائجها وتفضي إليها.

ومقدمات تأتي النتائج بعدها كأنها ردُّ فعلٍ لها، وعلاج لأسبابها وعواقبها.

مقدمات من قبيل الداء يأتي بعده الموت، فهو نتيجته وعقباه على الشِّرْعة المعهودة في طبائع الأشياء.

ومقدمات من قبيل الداء يأتي بعده الدواء، فليس هو بنتيجة له إلا على معنًى واحد، وهو لحاق الدواء بالداء، وظهور الشفاء بعد الحاجة إليه.

مقدمات تتحققُ بها قوانين الطبيعة، ومقدمات تتحققُ بها عناية الله.

ولا سيما حين تأتي الحاجة إلى الشفاء من غير المريض، بل تأتي على الرغم منه، وعلى خلاف ما يرجوه ويبتغيه.

كيف نشأ التوحيد بعد التباس الوحدانية بالشرك، واختلاط الأديان بين الآلهة والأوثان؟

كيف نشأت ديانة الإنسانية بعد ديانات العصبية والأثرة القومية؟

كيف نشأت نبوة الهداية بعد نبوة الوقاية والقيادة؟

كيف أصبحت المعجزة تابعة للإيمان بعد أن كان الإيمان تابعًا للمعجزة؟

كيف ظهر الإسلام بعد عبادات لا تمهد له ولا يبقي عليها؟ مقدماتٌ لم تكن واحدة منها ممهدة لنتائجها، وإن مهدت لها خطوة في الطريق، فقد تنكص بها بعد ذلك خطوات وخطوات.

وهذه هي المقدمات التي لا تأتي بعدها النتائج الصالحة إلا بعناية من الله، واتجاه بقوانين الكون وعوامله إلى حيث يشاء.

فليست الجاهليَّةُ مقدمةً للإسلام.

وليس الفسادُ في العالم سببًا للصلاح.

وليست قريشٌ ولا جزيرةُ العرب، ولا دولةُ القياصرة، ولا أُبَّهة الأكاسرة هي التي بعثت محمدًا لينكر العصبية على قريش، ويعلم العرب تسفيه التراث الموروث من الآباء والأجداد، ويَثُلَّ العروش التي قام عليها الطغاة، وتألَّه عليها الجبابرة من دون الله.

هؤلاء جميعًا كانوا ضحيَّةَ البَعْثة المحمدية.

وهؤلاء جميعًا كانوا مريضها الذي شفي على يديها بغير شعور منه بالمرض، وبغير سعي منه إلى الشفاء.

وتلك هي المقدمات ونتائجها كما تتجه بها عناية الله.

رسول يُوحَى إليه فيصنعُ الأعاجيبَ.

ذلك ما يقوله المؤمنون بعناية الله.

فإذا استطاع المنكرون أن يقولوا غير ذلك فليقولوا وليفسروه. فلا تفسير له عندهم إلا أنَّ الفسادَ يصلح الفساد، وأنَّ الداءَ يشفي الداء، وأنَّ الأسبابَ تمضي في طريقها فتختلف بها الطريق، وتذهب إلى حيث لا يفضي الذهاب.

جاء محمد بدين الإنسانية في أمة العصبية.

جاء ينكر كل إله غير الواحد الأحد في عالم يؤمن بكل إله غير الواحد الأحد، أو يؤمن به كأنه صنم من الأصنام يُتَعَبَّد في كل بيعة وكل مقام.

أمحمد وحده يقدر على ذلك؟!

أمحمد يقدر عليه بعناية من الله؟!

أدنى القولين إلى عقل العاقل أدناهما إلى الإيمان، وأنآهما عن الصواب أنآهما عن الله.

ولولا تدبير من الله لما ادخرت جزيرة العرب لهذه الرسالة لتخرج بالتاريخ الإنساني كله إلى عالم جديد.

•••

وسنرى فيما يلي من هذه الصفحات كيف تتناقض النتائج والمقدمات فلا تستقيم إلا بمقدمة واحدة، وهي رسالة النبوة وعناية الله.

وسنبدأ بالمقدمات من طوالع الغيب في تأويل المتأولين إلى وقائع الحس والعيان في أحوال العالم، وأحوال الجزيرة، وأحوال الأسرة، وأحوال البيت الذي طلع منه نورُ النبوة، وبزغ منه فجر التاريخ الجديد في كل ما حوله، وتحققت به عناية الله.

ونرجو في نهاية المطاف أن نبلغ بها نتيجة النتائج كما تتفق عليها نظرة الفكر وبديهة الإيمان.

وعلى بركة الله.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤