الفصل الثاني

الأحوال العالمية قبل الدعوة المحمدية

مقدِّماتُ النِّبوة

والآن، وقد أقررنا الطوالع والعلامات في قرارها الذي يسهل الاتفاق عليه، نطرق الأبواب الواسعة التي تتفتح أمامنا للبحث في مقدمات النبوة الإسلامية، وهي أبواب البحث في الحوادث التاريخية والآيات الكونية، وليس أثبت منها في مقام الكلام على النبوة الإسلامية بصفة خاصة بين سائر النبوءات.

تاريخ العالم كله — قبيل عصر الدعوة الإسلامية — هو تاريخ هذه المقدمات حول بلاد العرب، وفي صميم الجزيرة العربية من أجوافها إلى أطرافها.

فلم يكن للعالم كله في تلك الفترة حالة لا توصف بالسوء، ولا يقال فيها بالإجمال: إنها حالة فساد وانحلال.

فلا حالة للعلم ولا للسياسة ولا للأخلاق ولا للمرافق العامة لا توصف بتلك الصفة، ولا تغلب فيها السيئات كل الغلب على الحسنات.

وإذا نظرنا إلى الأحوال في جملتها وجدنا أنها هي الأحوال التي تنادي في كل مكان بالحاجة إلى الدعوة الدينية.

إنَّ ظاهرة واحدة كانت تلف تلك الظواهر جميعًا في طياتها، وهي فقدان الثقة بكل شيء، ولا معنى لذلك في كلمة موجزة، إلا أنَّ الثِّقةَ هي المطلوبة، وأنَّ الإيمانَ هو دواءُ هذا الداء الذي استشرى في كل مكان.

ونبدأ بالأديان الكبرى التي شاعت في العالم المعمور قبيل الدعوة المحمدية، وهي على حسب قدمها: المجوسية واليهودية والمسيحية.

المجوسية

فلم يكن أتباع دين من هذه الأديان على استقرار في عقيدتهم، أو على ثقة بأحبارهم وأئمتهم، وأولها وأشدها اضطرابًا ديانة الدولة الفارسية أو دياناتها المتعددة التي تشملها الثنوية؛ أي الإيمان برب للنور ورب للظلام، وعالم للخير وعالم للشر في كون واحد.

فقد كانت هذه المجوسية تستعصي على الدعاة المصلحين من أيام الوثنية الآرية الأولى التي اشترك فيها الهنود والفارسيون، وقد عمل «زرادشت» جهده لتطهيرها من الوثنية، وإخلائها من شعائر الهياكل والمحاريب الخفية، فلم يتيسر له من ذلك غير القليل، وجاء بعده مصلحون من أتباعه مزجوا الفلك بالتنجيم بالخرافة بالعبادة في نحلة واحدة، ولم يعرف الناس عنهم على البعد إلى عصر الميلاد المسيحي إلا أنهم رصدة للكواكب، طلعة للخفايا والغيوب من وراء حجاب الظلام.

وقام «ماني» الذي تنسب إليه المانوية في القرن الثالث للميلاد، فأراد أن يغلق باب الوثنية في الشرق، ويرجع إلى ثنوية قريبة من ثنوية «زرادشت» وتوحيد الفلسفة العقلية، فحول قومه من الكتابة البهلوية إلى الكتابة الآرامية أو السامية، وكاد أن يفلح في إقناع ولاة الأمر بآرائه في الإصلاح والتنزيه لو لم تفسدهم عليه دسائس الكهان والوزراء، فقضى في السجن، وقيل: إنهم سلخوا جلده وعلقوه مصلوبًا لسباع الطير.

ثم كانت الطامة الكبرى في عهد قباذ أبي كسرى أنوشروان، الذي حضر بَعْثة النبي، وتلقى رسالته بالسخط والوعيد …

ففي عهد قباذ هذا ظهر «مزدك» داعية الإباحة والفوضى في الأموال والأعراض، ولم يتزحزح هذا الداعية خطوة واحدة من الثنوية إلى التوحيد أو ما يشبه التوحيد، وقال كما قال «ماني» من قبله: إنَّ العالمَ كلَّه في قبضة إله النور وإله الظلام. غير أنه زاد عليه: «إنَّ النور يفعل بالقصد والاختيار، وإنَّ الظلمة تفعل على الخبط والاتفاق، وإنَّ النور عالم حساس، والظلمة جاهلة عمياء، وإنَّ المزاج كان على الاتفاقِ والخبطِ لا بالقصد والاختيار، وكذلك الخلاص إنما يقع بالاتفاق دون الاختيار.»

وزعم مزدك هذا أنه جاء ليبطل الخلاف بين العقائد والأمم، وينهاهم عن المباغضة والقتال، وأنه لما كان أكثر ذلك إنما يقع بسبب النساء والأموال، فقد أَحلَّ النساء، وأباحَ الأموالَ، وجعل الناسَ شركة فيها كاشتراكهم في الماء والنار والكلأ، وردَّ القُوى الكونية إلى أربع؛ هي: التميز، والفهم، والحفظ، والسرور، وكل منها يعمل بسبعة من الوزراء، يتبع الوزير منهم اثنا عشر روحانيًّا، وكل إنسان اجتمعت له أسرار الأربعة والسبعة والاثني عشر صار ربانيًّا في العالم السفلي، وارتفع عنه التكليف، وأنَّ ملك الملوك في العالم العلوي إنما يدبر بالحروف التي مجموعها الاسم الأعظم، ومن تصور من تلك الحروف شيئًا انفتح له السر الأكبر، ومن حرم ذلك بقي في عمى الجهل والنسيان والبلادة والغمِّ في مقابلة القوى الأربع الروحانية.١

ويقال عن مزدك هذا إنه كان عظيم الدهاء، خبيرًا بفنون الإقناع والإغراء، وإنه بلغ من سلطانه على قباذ أنه أقنعه ببذل زوجته لمن يشتهيها؛ ليعلم الناس الصدق في إيمانه، ويقتدوا به في ترك التباغض والملاحاة على الأعراض والعروض، فأوشك قباذ أن يفعل ما أوحاه إليه، لولا أن علم وليُّ عهدِه كسرى فدخل عليه باكيًا متضرعًا يتوسَّل إليه ألا يذله هذا الإذلال، ويبتذل أمه أمام الناس هذا الابتذال، ثم تمالأت عصبة ولي العهد فقتلوه، وتعقبوا شيعته بالقمع والتشريد.

وعلى الرغم من تتابع المصلحين الذين اجتهدوا غاية اجتهادهم في تطهير الديانة المجوسية من الوثنية والمراسم الهيكلية، لم تزل عقيدتهم جميعًا في الأرواح والشياطين حائلًا بينهم وبين التوحيد، بل حائلًا بينهم وبين الثنوية على بساطتها الأولى؛ فإن موالاة الأرواح ومحاذرة الشياطين تسوقانهم إلى ضروب من العبادة والزلفى لطوائف شتى من الأرباب الصغار عدا الإلهين الأقدمين: إله النور وإله الظلام، ولا يزال المجوس إلى اليوم يبدءون صلاتهم بعد منتصف الليل، ويقضون ساعات الصلاة الأولى في تلاوة الأناشيد التي يسترضون بها شياطين الظلام، قبل انبثاق النور الأعظم عند الصباح.

اليهودية والمسيحية

أمَّا اليهودية فقد كان قيام المسيحية في معقلها الأكبر إيذانًا حيًّا بنفادها وانتهائها إلى الغاية من الجمود والضيق؛ إذ كانت المسيحية في الواقع حركة إصلاح واسع في جميع العقائد اليهودية التي جمدت على النصوص والمراسم، وتحولت من الدين إلى نقيض الدين، ولا شيء يناقض الدين كما ناقضته تلك الأنانية القومية التي حسبت الإله المعبود مِلكًا لها دون سائر عباده، يبيح لها في سائر الأقوام ما لا يباح في شريعة ولا قسطاس مستقيم.

وفي عصر الميلاد نفسه ظهر من حكماء اليهود من أحس الحاجة إلى إصلاح عقائد قومه وشعائرهم، فاختار فيلون الحكيم أسلوب التعبير الرمزي لتفسير مسائل الكتاب التي لا تقبلها الحكمة، وكان مما يلفت النظر في هذا الصدد أنه رجع إلى قصة إبراهيم وسارة وهاجر، فعبَّرها على أسلوبه تعبير الرموز؛ لأن المسلك الذي نسب فيها إلى إبراهيم لا يعقل من خليل الرحمن؛ فعنده أنَّ سارة هي الحكمة الإلهية، وأنَّ هاجر هي الذِّرْبَة الدنيوية، وأنَّ زواج الخليل من سارة لم يثمر في أول الأمر لأنه لم ينضج له قبل التمرس بحقائق الحياة.

وقد كان هذا أسلوب الفلسفة الذي أدخله بولس الرسول في أسلوبه الديني، فقال في رسالة غلاطية: «إنه مكتوب أنه كان لإبراهيم ابنان: واحد من الجارية والآخر من الحرة، لكن الذي من الجارية ولد حسب الجسد، وأما الذي من الحرة فبالموعد، وكل ذلك رمز؛ لأن هاتين هما العهدان؛ أحدهما من جبل سيناء الوالد للعبودية، الذي هو هاجر؛ لأن هاجر جبل سيناء في العربية، ولكنه يقابل أورشليم الحاضرة؛ فإنها مستعبدة مع بنيها، وأما أورشليم العليا التي هي أمنا جميعًا فهي حرة …»

وهذه ثورة على تفسير موعد إبراهيم بأسلوب العصبية والأنانية، تلفت النظر فيما نحن بصدده، وتومئ إلى ما يأتي بعدها في الزمن المتطاول. ثم سرى الإصلاح المسيحي مسراه، فمضى معه من اليهود من صلح له، وبقى الجامدون على شر مما كانوا عليه قبل الدعوة المسيحية، وجنى العناد والإصرار على الباطل جنايته المعهودة، فذهبت ريح الكهانة والمراسم الهيكلية، وتفرقت مراجع الديانة مع كل مجمع، وكل معبد، وكل طائفة ذات مذهب في التوراة أو التلمود، أو تقاليد الأحبار والربانيين.

وكان من آثار هدم الهيكل سنة سبعين للميلاد أنَّ أشياعه فقدوا وحدة المراسم بعد أن فقدوا وحدة العقيدة والروح، فلم يأتِ عصر البَعْثة المحمدية حتى استفحل الخطب بينهم من جراء تفسيراتهم الكثيرة، فنهضت بينهم طلائع الطائفة التي عرفت بعد ذلك بطائفة القرائين، وأنكرت كل رأي غير النصوص والحروف في الكتب المنسوبة إلى موسى الكليم، فكان خوف التفرق سبيل النكسة إلى أيام العصبية والأنانية القومية، ولم يكن سبيلًا إلى الحرية والتجديد.

ومما يلفت النظر مرة أخرى أنَّ إصلاح هذا الجمود الجديد إنما أتى من قبل البلاد الإسلامية على يد سعديا المصري وابن ميمون الأندلسي، وأنَّ حكماء اليهود في القرن الثالث للهجرة لم يكن لهم مذهب في تنزيه الإله غير مذهب علماء الكلام من المسلمين.

وكذلك كان يهود العالم في عصر البعثة المحمدية بين أشتات يذهب كل منها مذهبه على حسب المجمع أو المعبد الذي ينتمي إليه، وبين شراذم متعنتين في الجمود على الحروف والنصوص، يرجعون بهذه النكسة إلى الداء الذي قامت المسيحية لإصلاحه قبل بضعة قرون.

فتلك حاجة جديدة إلى إصلاح جديد.

محنة المسيحية

وقد جاء الإسلام والمسيحية منتشرة في بلاد الدولة الرومانية شرقًا وغربًا، يدين بها ملوكها ورؤساؤها ومعظم رعاياها، وكان هؤلاء الملوك والرؤساء — قبل تنصرهم — يضطهدون المسيحيين ويعذبونهم، ولا يتورعون عن لون من ألوان العذاب يصبُّونه عليهم، فكانت محنة عظيمة صبر لها المسيحيون الأولون صبر المؤمنين الصادقين، ولكن هؤلاء الملوك والرؤساء كانت محنتهم للمسيحية — بعد تنصرهم — أشد عليهم من محنة الاضطهاد والتعذيب؛ لأنهم لم يكفوا عن الظلم، وزادوا عليه عبث السياسة بالعقائد والآراء، فدسوا مطامعهم بين المختلفين على تفسير المسيحية الأولى، وفرقوهم شيعًا متباغضة متنافرة، يرمي بعضها بعضًا بالكفر والضلالة، وينشب بينها الجدل فلا تتفق على قول حتى تتفتح أمامها مذاهب الخلاف على أقوال.

ولم يكن خلاف المذاهب يومئذ كخلاف المذاهب في العصر الحاضر يسمح بوجهات النظر، ولا يستلزم طرد المخالفين جميعًا من حظيرة الدين، بل كان بحث الآباء الأولين في سبيل الوصول إلى أركان العقيدة، وتقرير ما يسمى بالمسيحية وما لا يحسب منها، وإنما يحسب من الكفر والضلالة؛ فلم تبق نحلة من النحل الكثيرة إلا حكمت على مناقضيها بالمروق والهرطقة.

وتعددت هذه النحل بين الأريوسية والنسطورية واليعقوبية والملكية على تباعد الأقوال في الطبيعة الإلهية ومنزلة الأقانيم الثلاثة منها، ويأتي النزاع بين الكنيستين الشرقية والغربية فيقضي على البقية الباقية من الثقة والطمأنينة، ولا يدع ركنًا من أركان العقيدة بمبعدة من الجدل والاتهام، فلا جرم يتردد على الألسنة ويدون في كتب التاريخ يومئذ أنَّ القوم جميعًا قد استحقوا العقاب الإلهي، وأنَّ أبناءَ إسماعيل قد جاءوا من الصحراء بأمر الله عقابًا للظالمين والمارقين.

ويستطيع القارئ أن يترجم هذه البلبلة بحوادث السياسة ومنازعات العروش، فلا يرى من حوادثها يومئذ إلا زعازع من هذا القبيل على عروش الدول والإمارات، وأولها عرش الأكاسرة وعرش القياصرة رؤساء أكبر الدول في ذلك الحين، فلم يكن بين الملوك الخمسة أو الستة الذين تعاقبوا على عرش فارس أو عرش بيزنطية من مات حتف أنفه، أو مات مستقرًّا على عرشه، ولم يكن منهم أحد كان له حق واضح في السلطان حين وثب عليه، ويتقلب العرش بين الغاصبين، فيفزع من كان آمنًا، ويأمن من كان مهددًا أو مشردًا في البلاد مع اختلاف الحظوة والنقمة بين الأنصار والخصوم، فلما تمادى الأمر على ذلك عامًا بعد عام، لم يبق من يأمن على نفسه وماله في زمن أنصارٍ ولا زمن خصومٍ، وعَمَّ الخوف أقرب الناس إلى السلطان وأبعدهم منه على حد سواء.

وتمت المحنة الكبرى بالقتال الدائم بين الدولتين، فإذا بالبلد الواحد يتقلب في الحكم بين سيادة الفرس وسيادة الروم، فلا تهدأ له حال في نظام، ولا في سلام، ولا في معاش يأمن الناس على مرافقه ومسالكه بين ميادين القتال، وبطل الأمان كما بطل الإيمان، فلا خلاصة لهذه الأحوال جميعًا غير خلاصة واحدة هي ضياع الثقة بكل منظور ومستور، فلا أمان من السياسة، ولا من الدين، ولا من الأخلاق، ولا من الواقع، ولا من الغيب.

هذه أحوال العالم، وهذه هي مقدمات الدعوة الإسلامية، من تلك الأحوال: مقدمات لا تأتي بنتائجها على وتيرة الداء الذي يتبعه الفناء، ولكنها مقدمات العناية الإلهية التي تدبر الدواء المستحكم على غير انتظار وبغير حسبان، عالم إذا صح أن يقال عنه: إنه كان ينتظر شيئًا من وراء الغيب، فإنما كان ينتظر عناية من الله.

١  الشهرستاني في الملل والنحل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤