الفصل الخامس

سيد الأنبياء

(١) نشأة الأنبياء

إنَّ وجهة الدعوة النبوية تتبين من نشأة النبي التى أعدَّه الله بها للقيام بتلك الدعوة، فإذا عرفنا نشأة النبي بين قومه عرفنا رسالته فيهم وعمله في هدايتهم، وعرفنا وجهة النبوة من وجهة النبي منذ هيأة الله حيث جعله أهلًا لرسالته.

ولكن غرائب التاريخ في أمر الأنبياء كثيرة، ومنها هذه الغريبة التي تكاد أن تشمل الأنبياء أجمعين، وهي الجهل التام بتفاصيل نشأتهم بين ذويهم وأقوامهم، فلا يحصي التاريخ شيئًا من هذه التفاصيل عن نشأة نبي من كبار الأنبياء غير محمد — عليه السلام — وكل من عداه من جلة الأنبياء فالعلم بأنباء طفولتهم مستفاد من سيرته بعد النبوة، أو مأخوذ مأخذ الاستقراء والاستنباط.

وعلى هذا يقل عدد الأنبياء الذين نحاول اختيارهم للمقابلة بين نشأتهم ومقاصد دعوتهم، ولا نستطيع أن نزيدَ على ثلاثة من كبارهم؛ وهم: إبراهيم وموسى وعيسى — عليهم السلام — وعلى بعض الأنبياء المذكورين في العهد القديم في مناسبات ظهورهم، وبعض هذه المناسبات يدل على النشأة التي نشئوها، والوجهة التي اتجهوا إليها.

خليل الرحمن

مهما يكن من بداءة «الخليل» إبراهيم فالأقوال متواترة على زعامته لقومه حين هاجر بهم من جنوب العراق إلى شماله، ومن شماله إلى أرض كنعان.

كانت مهمته إذن مهمة الزعامة المفروضة على الزعيم، وكان عليه أن يتولَّى هدايتهم في شئون دنياهم وشئون دينهم، وبخاصة حين يخشى الخطر عليهم من غضب الله ونقمته العاجلة من جراء المخالفة والعصيان.

وينبغي أن نذكرَ هنا أنَّ الوعيد بالغضب الإلهي كان خطرًا محذورًا قريبًا ممن تعبدوا لجميع الأرباب في الديانات الأولى، وأنَّ إيمان الناس بالإله في العهود الأولى إنما كان أقواه إيمانًا بحماية الرَّب الذي يعبدونه دون سائر الأرباب، فلم يكن لزعيم مؤمن أن يغرر بقومه وهو يعلم سبيل نجاتهم، وقد كان إبراهيم الخليل زعيم أسرته الذين هاجروا معه، فكان عليه أن يهديهم الطريق، وأن يهديهم كل طريق في هجرة الجسد والروح.

وتتفق الأقوال على أنَّ إبراهيم خالف أباه حين أنكر أرباب القوم، ودعا قومه إلى الكفران بالأصنام، وليس في هذا ما ينفي زعامته على الذين هاجروا معه من أسرته وذوي قرباه وتابعيه، فربما كان الخلاف على الإقامة والمصانعة وإرضاء ذوي السلطان بشيء من المداراة، فاستكان الشيخ للواقع، ونفر الكهل القوي من هذه الاستكانة. وقد رأينا أنَّ ثورة النفوس كانت تبلغ غاية مداها في سلالة إبراهيم حين يؤمرون بعبادة إنسان، أو إقامة الصنم مقام الإله الذي في السماء، فلعل المفترق بين إبراهيم وأبيه إنما كان على عبادة جديدة أقحمت على القوم من هذا القبيل، فنجا المؤمنون بأنفسهم وتبعوا الخليل في طريقه، وأدَّى لهم أمانة الزعامة بهذه النبوة وبهذه الرسالة.

فهذه النبوة مهمة زعيم أمين.

نبوة موسى

ويريد فرويد أنَّ يجعل قيادة موسى — عليه السلام — من قبيل هذه القيادة، ولكنه يذهب بعيدًا حين يزعم أنَّ موسى كان من المصريين الذين دانوا بعقيدة «أتون»، وكفروا بعقيدة آمون، فلما انقلب الكهنة على الوحدانية التي جاءت بها عقيدة أتون، تحول موسى إلى المستضعفين من اليهود في أرض مصر لينشر بينهم هذه العقيدة في الإله الواحد، وأضاف إليها ما تلقاه من العلم بدين «يهوا» حين نجا بنفسه إلى صحراء سيناء، والتقى في أرض مَدْيَن بنبي الصحراء.

ألَّف فرويد المشهور — وهو إسرائيلي — كتابًا خاصًّا عن موسى والوحدانية Moses and Monotheism، حاول فيه جهده أن يرجع بأصل موسى — عليه السلام — إلى الأسرة المصرية المالكة، وقال: إنَّ اسمه نفسه يدل على أصله المصري؛ لأنه مؤلف من كلمة ابن، ومن اللاحقة التي تشبه اللواحق في أسماء رعموسيس وتحتموسيس وأموسيس، وقصته في الماء — على رأي فرويد — تقابلها في البابلية قصة سراجون الملك، الذي وضعته أمه على حافة النهر وجعلت له مهدًا عائمًا من السلال.

وقد توسع فرويد في تخمينه فقال إن أدوناي التي أطلقها العبريون على الإله إنما هي أتون أو أتوم المصرية، وأن موسى — عليه السلام — وفَّق بين عبادتين ليقنع بني إسرائيل بدعوة أخناتون، وإلى هذا يرجع الاضطراب في النصوص العبرية القديمة.

وليست طريقة فرويد في تخمين التاريخ إلا أسلوبًا آخر من طريقته في كشف العقد النفسية بالتخمين والتأويل تفسيرًا لبواطن المريض، وقد يكون تفسير هذه البواطن قرينة على صحة الرجم بالغيب في استكشاف الأمراض الباطنية، ولكن تخميناته في سيرة موسى — عليه السلام — لا تعتمد على قرينة ولا على ظن مقبول، وليس لها سند من الآثار المصرية أو من الآثار العبرية، وفي وسع من يشاء أن يخمن مثلها على هذا المنوال، ويأتي بعشرين فرضًا متضاربًا من فروض الخيال.

أما سيرة موسى — عليه السلام — من المراجع الدينية، فليس فيها ما يدل على زعامة معترف بها بين بني إسرائيل، بل فيها إنكار هذه الزعامة بالقول الصريح؛ لأنه أراد أن يحكم بين خصمين من العبرانيين فقال له أحدهما: «من جعلك رئيسًا وقاضيًا علينا؟ ألعلك تريد قتلي كما قتلت المصري بالأمس؟»

ويرجح برستيد — أحد الثقات في التاريخ المصري القديم — أن موسى قد تخرج من المدارس المصرية الكبرى، واطلع على مكنونات علم الكهنة والحكماء، وكانت له منزلة فاضلة عند ولاة الأمر لعله كان يستخدمها في الشفاعة لقومه، والعلم بنيات الولاة وأوامرهم فيما يمس شئونهم، فتعود عقلاؤهم أن يلجئوا إليه ويوسِّطوه ليستشفعوا به فيما ينوبهم من الظلم وسوء الحال، وأصبح له حق الشورى عليهم كلما ارتبط الأمر بمشيئة الدولة ومطالب بني إسرائيل.

وعلى خلاف الصورة التي تخيلها «ميكال أنجو» للرسول العظيم، يؤخذ من أوصافه أنه كان وديعًا «حليمًا جدًّا أكثر من جميع الناس الذين على وجه الأرض»، كما جاء في كتاب العدد من العهد القديم، وأنه كان يشكو حبسة في لسانه؛ فهو يقول عن نفسه كما جاء في سفر الخروج: «لست أنا صاحب كلام منذ أمس، ولا أول من أمس، ولا من حين كلمت عبدك، بل أنا ثقيل الفم واللسان، قال له الرَّب: مَن صنَع للإنسان فمًا؟ أما أنا هو الرَّب؛ فالآن فاذهب وأنا أكون مع فمك، وأعلِّمك ما تتكلم به …»

ولم يخطر له بادئ الرأي أن يقود قومه في خروجهم من مصر، ولم يكن على أهبة للرسالة الدينية قبل هجرته إلى صحراء سيناء، ولقائه في أرض مَدْيَن للنبي العربي الذي يرجح الأكثرون أنه هو نبي الله شعيب، ولكنه على مختلف الروايات قد تعلم من ذلك النبي علومًا شتى في شئون التبليغ والقيادة، ولم يزل يتعلم منه، كما جاء في كتب العهد القديم بعد عودته إلى مصر، وخروجه منها مع قومه، وكان يثوب إليه كلما ساورته المخاوف، وأوشك أن ييأس من هداية القوم، أو يضيق ذرعًا بما يسومونه من شهوات الطعام ولدد الخصومة والمنافسة بين العشائر على صغائر الأمور.

فالسنوات التي قضاها إلى جوار نبي مَدْين كانت هي فترة الاستعداد، والرياضة الروحية، والتدبر الطويل فيما يمكن عمله لإخراج بني إسرائيل من مصر، وإحلالهم حيث حل على مقربة من سيناء وكنعان، ولا بدَّ أنه قد جاس خلال تلك الصحراء، ووطئ بقدميه أماكن الرحلة التي لا بدَّ منها قبل الإقدام على استقرارٍ في ذلك الجوار.

ولا شك أنه كان يصغي إلى نبي مَدْين فيما يبسطه له من أمر عقيدته وعبادته، وأنه حكى له ما عرفه من العقائد المصرية وعبادات الهياكل والكهان، ووازن طويلًا بين هذه العبادات وعبادة البادية كما تلقاها من أستاذه المديني، ومن هداية الوحي والإلهام.

فلما عاد إلى مصر ليخرج بقومه منها، كان هذا الخروج حيلةَ مَن لا حيلة له في البقاء، ودعاهم إليه باسم الله، فأطاعوه بعد لأْيٍ ومجاهدة، ولم يظهر من سلوكهم معه أنهم خفُّوا إلى الخروج من مصر طواعية بغير دعوة ملحة وإقناع عسير.

ولا يفهم من حادث واحد من حوادث الرحلة أنَّ القوم كانوا يؤثرون الفرار حرصًا على عقيدة دينية، فإنهم أسفوا على ما تعودوه من المراسم الدينية في مصر، وودوا لو أنهم يعودون إليها، أو يعيدونها منسوخة ممسوخة في الصحراء، وخطر لهم أنَّ الإله الذي دعاهم موسى إليه إنما غرر بهم ليهلكهم ويعفي على آثارهم، واحتاجوا في كل خطوة إلى توكيد الوعد بالأمان ورغد العيش بعد أعوام التيه والانتظار.

فمهمة الرسالة الموسوية بين هذه العوارض الطبيعية لا تفهم إلا على خطة واحدة ترتسم أمامنا كما كانت؛ لأنها هكذا ينبغي أن تكون.

هجر موسى مصر بعد مقتل المصري وتهديد بني إسرائيل قبل غيرهم بالإبلاغ عنه، فضلًا عما يخشاه من ملاحقة ولاة الأمور.

ولم يخطر له قبل تلك الهجرة أن يقنع قومه بالرحيل من الديار المصرية، فلما اختبر الصحراء وسمع ما سمع من هداية نبي مَدْين، ولمح بعينيه مطارح الرحلة والقرار بين مدين وسهوب سيناء وكنعان، وطاب له مقام البادية، فلم يستعظم المشقة في دعوة قومه إلى مثل هذا المقام، تدبر الأمر وصحح العزم على التحول بالقوم من مصر إلى أرض كنعان، وصرف الجهد الذي لا جهد بعده في إقناعهم باسم الإله الذي اختارهم للنجاة، ولم يزل يحذر عليهم ترك هذه الإله عند أيسر دعوة، وبغير إغراء على الترك في أكثر الأحيان.

وهذه أمثلة من تحذيراته تدل على الجهد الجهيد في تحويل قومه من العبادة التي كانوا عليها إلى العبادة التي دعاهم إليها.

فمن هذه التحذيرات في سفر التثنية يقول لهم: «لا تسأل عن آلهتهم قائلًا: كيف عبد هؤلاء الأمم آلهتهم؟ فأنا أيضًا أفعل هكذا. لا تعمل هكذا للرب إلهك؛ لأنهم قد عملوا لآلهتهم كل رجس مما يكرهه الرَّب.»

وحذرهم من الأنبياء: فإذا قام في وسطك نبي أو حالم حلمًا وأعطاك آية أو أعجوبة، ولو حدثت الآية أو الأعجوبة التي كلمك عنها قائلًا: «لتذهب وراء آلهة أخرى لم تعرفها وتعبدها؛ فلا تسمع لكلام ذلك النبي.»

وحذرهم من الأخ والابن والزوج والصاحب أن يغويهم قائلًا: «نذهب ونعبد آلهة أخرى … فلا ترض منه ولا تسمع له، ولا تشفق عينك عليه، بل قتلًا تقتله.»

وحذرهم من المدن التي يدخلونها أن يدعوهم اللئام إلى عبادة أربابها: «فضربًا تضرب سكان تلك المدينة بحد السيف، وتحرسها بكل ما فيها مع بهائمها بحد السيف.»

وإذا سُمِعَ عن أحد من إسرائيل «أنه يذهب ويعبد آلهة أخرى، ويسجد لها أو للشمس والقمر، أو لكل من جند السماء … فأخرج ذلك الرجل أو تلك المرأة وارجمه بالحجارة حتى يموت».

•••

ولا تتغير هذه الحقيقة بما يقال — تأييدًا أو تفنيدًا — لنسبة الكتب الخمسة الأولى من العهد القديم إلى موسى — عليه السلام — أو نسبة بعضها إليه، وبعضها إلى الأنبياء من تلاميذه وتابعيه، فإنَّ أنبياءَ بني إسرائيل جميعًا من عهد موسى إلى مبعث عيسى — عليه السلام — لم تكن لهم من مهمة غير هذه المهمة، وهي تحذير بني إسرائيل من عبادة إله غير الإله الذي دعاهم إليه صاحب الشعيرة، وتبكيتهم كلما انحرفوا عن طريقه، واستبدلوا بملَّته ملَّةَ أربابٍ آخرين.

وهؤلاء إلياس وأرميا وحزقيل من أشد النعاة على بني إسرائيل في هذا الأمر، لم يتجرد أحدهم لرسالة غير هذه الرسالة، ولم يكن هم إلياس إلا أن يحذرهم عاقبة «إغاظة الرب»؛ إذ كان عمري قد ملك على إسرائيل، «وعمل الشر في عيني الرَّب، وبلغت سيئاته أضعاف سيئات من قبله، وسار في جميع طريق يربعام بن نباط، وفي خطيئته التي جعل بها إسرائيل تخطئ لإغاظة الرَّب بأباطيلهم، وملك آخاب بن عمري فاتخذ ابنة ملك الصيدونيين زوجة، وسار وعبد البعل وسجد له، وأقام مذبحًا له في بيت البعل الذي بناه في السامرة».

ولم تكن رسالة أرميا إلا كهذه الرسالة؛ حيث أنذرهم في بعض مراثيه قائلًا:

… إنكم تبخرون للبعل وتسيرون وراء آلهة أخرى لم تعرفوها … الأبناء يلتقطون حطبًا، والآباء يوقدون النار، والنساء يعجن العجين ليصنعن كعكًا لملكة السماوات؛ ولسكب السكائب لآلهة أخرى كي يغيظوني …

ويمضي النبي منذرًا متوعدًا ناعيًا على عشائرهم جميعًا:

إنهم أبوا أن يسمعوا كلامي، وذهبوا وراء آلهة أخرى ليعبدوها، ونقض بيت يهودا وبيت إسرائيل عهدي الذي قطعته مع آبائهم.

ومثل هذا الوعيد يسمع من كتاب حزقيل؛ حيث يقول لشيوخ إسرائيل: «إنني آخذ بيت إسرائيل بقلوبهم؛ لأنهم كلهم قد ارتدوا عني بأصنامهم، وإنَّ كلَّ إنسانٍ من بيت إسرائيل، أو من الغرباء المغتربين في إسرائيل يرتد عني، ويصعد أصنامه إلى قلبه، ويجيء إلى النبي ليسأله عني؛ فإني أنا الرَّب أجيبه بنفسي، وأجعل وحيي ضد ذلك الإنسان، وأجعله آية ومثلًا، وأستأصله من وسط شعبي، فإذا ضل النبي وتكلم كلامًا، فأنا الرَّب قد أضللت ذلك النبي، وسأمد يدي عليه وأبيده من وسط شعبي إسرائيل …»

فشعب بني إسرائيل لم يستغنِ قط عن الإقناع المتتابع للإيمان بالإله الواحد، الذي دعاهم إليه موسى — عليه السلام — ولم يتحرك من مصر فرارًا بعقيدته، بل كانت هذه العقيدة هي وسيلة الإقناع لحمله على النجاة بنفسه من عواقب البقاء حيث طاب له البقاء، ولم يزل في الطريق يحتاج إلى تجديد هذا الإقناع في كل مرحلة، ويحن إلى العودة بعد كل نقلة، وظل كذلك بعد انتهاء أيام التيه وإيوائه إلى القرار عند أرض كنعان.

•••

ونشأة موسى التي عرفناها من مصدرها، الذي لا مصدر لنا غيره، هي التي تطابق بين هذه النشأة وبين الرسالة الموسوية، كما وضحت من الكتب المنسوبة إلى موسى، والكتب التي نسبت إلى الأنبياء من بعده. فخلاصة هذه النشأة أنَّ كليم الله تربَّى في مصر، وخرج منها خفية بعد مقتل المصري الذي صرعه موسى انتصارًا لرجل من بني إسرائيل، ولم يكن خاطر الخروج ببني إسرائيل قد خطر له أو لأحد من ذوي الزعامة بين عشائر قومه، ولكنه عاش في البرية إلى جوار الهداية النبوية في أرض مَدْين، وراض نفسه على حياة النسك والاستلهام وهو يفكر في أسرته وقومه، ويزور الأرض من حوله.

وتلقَّى الدعوة الإلهية بعد طول التدبر والرياضة، فعاد إلى مصر لإقناع قومه بدعوته، وإقناع السادة الحاكمين بها إن تيسَّرَ له ذلك دفعًا للخطر عن ملَّته وعقيدته، ولم يكن يرضيه فيما بدا من طوالع السيرة وخواتيمها أن يبقى شعب بني إسرائيل حيث استطاب البقاء؛ لأنه رأى لهم مصيرًا في البادية أكرم من هذا المصير، ورأى أنَّ العقيدة التي دعاهم إليها كفيلة بحمايتهم من الضياع بين العشائر والملل في أرض البادية أو أرض الحضارة.

وهذا هو حكم التوفيق بين النشأة والرسالة في حياة الكليم عليه السلام.

وقد عرضت لنا في خلال هذه السيرة قصة مدين ودعوتها النبوية التي أشارت إليها كتب إسرائيل من بعيد، ولم تُذكر بشيء من التفصيل في غير القرآن الكريم، ولكنها جاءت بالنشأة والرسالة متوافقتين ذلك التوافق الذي يغني عن كل دليل على صحة الأصل الأصيل.

قُلنا عن مدن القوافل في كتابنا عن أبي الأنبياء إبراهيم الخليل: «أما الأسباب السيئة التي أوجبت قيام الدعوات النبوية في تلك المدن، فهي أسباب كثيرة، لم تكن توجد يومئذ في غيرها بهذه القوة وبهذه الكثرة، وأقوى تلك الأسباب مساوئ الاحتكار والاستغلال؛ فإنَّ تجارة العالم إذا توقفت على مدينة هنا ومدينة هناك صارت في كل مدينة إلى فئة قليلة من السادة وأصحاب اليسار، يحتكرون المقايضة والنقل، ويبرعون في أساليب المماكسة ورفع الأسعار، وزيادة الضرائب والأجور على الرحال والمطايا وجند الحراسة.

ويغتنم هؤلاء المحتكرون فرصتهم فيخدعون البسطاء، ويحتالون على الأصول والشرائع، ويأخذون باليمين والشمال من الوارد والصادر، والغادي والرائح، ولا حيلة للتجار فيهم ولا لناقلي التجارة؛ لأنهم قابضون على الزمام، وليس في قدرة دولة أن تحاربهم إلا بالاشتباك في حرب مع دولة أخرى، أو بإنفاق أموال في الغزو والحصار تزيد على الأموال التي يغتصبها المحتكرون أو يختلسونها. وقد يغلو هؤلاء المحتكرون في الجشع والتحكم حتى يدفعوا الدول إلى المجازفة بالغارة مرة تريحها من مرات.»

«كذلك صنع أنتيجون خليفة الإسكندر مع أهم هذه المدن في زمانه، وهي سلع — أي البتراء — فجرد عليها حملتين، ولم يفلح في غزوها، وهاجمها تراجان بقوة كبيرة فدمَّرها وحوَّل الطريق منها إلى بصرى، ولم يبقَ من حولها غير مدن صغار.»

إنَّ آفة مدين هي آفة هذه المدن على مدرجة الطرق، وإن قصتها في القرآن الكريم هي قصة التجارة المحتكرة، والعبث بالكيل والميزان، وبخس الأسعار، والتربص بكل منهج من مناهج الطريق، وليس أدل على حدوثها من التوافق بين النشأة والرسالة كما جاءت في مواضع مختلفة من السور، وإحداها سورة الأعراف.

وَإِلَىٰ مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا ۗ قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ ۖ قَدْ جَاءَتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ ۖ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ۚ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا ۚ وَاذْكُرُوا إِذْ كُنتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ ۖ وَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ * وَإِن كَانَ طَائِفَةٌ مِّنكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَّمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّىٰ يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَنَا ۚ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ * قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا ۚ قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ * قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُم بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللهُ مِنْهَا ۚ وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا إِلَّا أَن يَشَاءَ اللهُ رَبُّنَا ۚ وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا ۚ عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنَا ۚ رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ * وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَّخَاسِرُونَ * فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ * الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَن لَّمْ يَغْنَوْا فِيهَا ۚ الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ * فَتَوَلَّىٰ عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ ۖ فَكَيْفَ آسَىٰ عَلَىٰ قَوْمٍ كَافِرِينَ [الأعراف: ٨٥–٩٣].

•••

فرسالة شعيب — عليه السلام — إنما كانت رسالة خلاص من شرور الاحتكار والخداع في البيئة، التي تعرضت له بحكم موقعها من طريق التجارة والمرافق المتبادلة بين الأمم. والأغلب على التقدير أنَّ جزيرة العرب تعرضت لضروب من هذه الآفات، وجاءتها الرسالات التي تصلحها في إبان الحاجة إليها، ومنها رسالات هود وصالح وذي الكفل وإخوانهم من الرسل الصالحين الذين لم تُقصص علينا أخبارهم في كتاب.

عيسى عليه السلام

وقد اختُتِم عهد النبوة والرسالة في بني إسرائيل بظهور عيسى — عليه السلام — ولا نعرف عن نشأته في طفولته غير القليل، ولا نعرف شيئًا عن أيامه من الثانية عشرة إلى الثلاثين مبعثه إلى قومه من بني إسرائيل، ولكن نشأة العصر كله من وجهة الاستعداد للنبوة معروفة ببعض التفصيل، كما أشرنا إلى ذلك في كتاب حياة المسيح.

ففي عصر الميلاد «ترقبت النفوس بشائر الدعوة الإلهية من كل جانب كما يترقب الراصدون كوكبًا حان موعد طلوعه»، وكان موعد الألف الرابعة من تاريخ الخليقة موعدًا مقدورًا في عرف الأكثرين لظهور المخلِّص الموعود.

وكان اليهود في عصر الميلاد فريقين: فريق يترقب الخلاص على يد رسول من ذرية داود — عليه السلام — وفريق آخر، وهم السامريون، بنوا لهم هيكلًا خاصًّا في جرزيم «ومن المحقق أنَّ هؤلاء السامريين كان لهم شأن في تطور الفكرة المسيحية، أو فكرة الخلاص المنتظر على يد الرسول الموعود … وهم ينتسبون إلى يعقوب، ويدعون أنهم دون غيرهم الجديرون باسم الإسرائيليين …»

وقد تكاثر النذيرون قبيل مولد المسيح، وهم المنذورون لصحبة المخلص المنتظر؛ لأن مولده عليه السلام «وافق نهاية الألف الرابعة من بدء الخليقة على حساب التقويم العبري»، وهو الموعد الذي كان منتظرًا لبعثة المسيح الموعود؛ لأنهم كانوا ينتظرونه على رأس كل ألف سنة، ومنهم من كان يقول: إنَّ اليوم الإلهي كان ألف سنة كما جاء في المزامير.

وإنَّ عمر الدنيا أسبوع إلهي تنقضي ستة أيام منه في العناء والشقاء، ويأتي اليوم السابع بعد ذلك كما يأتي يوم السبت للراحة والسكينة، فيدوم ألف سنة كاملة هي فترة الخير والسلام قبل فناء العالم، ولا يزال الغربيون يعرفونها باسم الألفية Millennium، ويطلقونها على كل عصر موعود بالسعادة والسلام. والذين قدروا أنَّ القيامة تقوم بعد سبعة آلاف سنة من بدء الخليقة كانوا يؤجلون قيام ملكوت السماء على الأرض إلى نهاية الألف السادسة، ويومئذ تسود دولة المسيح الموعود، لكنهم كانوا كغيرهم في انتظار رسول من عند الله كلما انتهت ألف سنة من بدء الخليقة.

وكانت بداءة الألف الخامسة موعدًا منظورًا أو منذورًا يكثر فيه النذيرون، لعلهم يحسبون من جند الخلاص، أو لعل واحدًا منهم يسعده القدر فيُكْتَب الخلاصُ على يديه. والمهم في أمر النذيرين بالنسبة إلى السيد المسيح أن النبي يحيى المغتسل — يوحنا المعمدان — كان علمًا من أعلامهم المعدودين، وكان السيد المسيح يتعمد على يديه، أو يأخذ العهد عليه، وأنَّ بعض المؤرخين يحسب السيد المسيح من النذيرين، ويلتبس عليه الأمر بين النذيري والناصري، وهما في اللفظ العبري متقاربان.

ومن هؤلاء المؤرخين من يزعم أنه لم يكن من الناصرة؛ بل يزعم أنَّ الناصرة لم يكن لها وجود؛ لأنها لم تذكر قط في كتب العهد القديم، ولكن الأرجح في اعتقادنا أنَّ الناصرة نفسها كانت تسمى نذيرة بمعنى الطليعة، عندما كانت على تخوم الأرض التي فتحها العبريون قديمًا، وأنها كانت مرقبًا صالحًا للاستطلاع؛ لأن التلول التي تحيط بها تكشف جبل الشيخ والكرمل والمرج المعروف باسم مرج ابن عمير …

ولا شك أنَّ السيد المسيح قد اتجه بدعوته إلى إسرائيل، وابتغى منها الهداية «لخراف بيت إسرائيل الضالة»، ولكنه عمم الدعوة بعد تكرارها على القوم ولجاجتهم في الإعراض عنها، فوجهها إلى كل مستمع لها مقبل عليها، وقال لهم: إنَّ العاملين بالخير ذرية لإبراهيم الخليل أقرب وأوفى ممن يدعون النسبة إليه بالسلالة؛ لأنهم هم أبناؤه بالروح، وضرب لهم المثل بوليمة العرس التي لم يحضرها المدعوون إليها، «فغضب السيد وقال لعبده: اذهب عجلًا إلى طرقات المدينة وأزقتها وهات إليَّ بمن تراه من المساكين، فعاد العبد وقال لسيده: قد فعلت كما أمرت ولا يزال في الرحبة مكان، قال السيد: فادع غيرهم من أعطاف الطريق وزواياه حتى يمتلئ بيتي، فلن يذوق عشائي أحد من أولئك الذين دعوت فلم يستجيبوا الدعاء.»

ولم تكن رسالة السيد المسيح رسالة تشريع؛ لأن الشريعة الدينية كانت في أيدي أحبار الهيكل، والشريعة الدنيوية كانت في أيدي أتباع قيصر، ولكنه عليه السلام قد جاء بالفتح المبين الذي لم يسبقه إليه سابق من المرسلين في تصحيح الشرائع بجملتها، فقد حطم عنها قيود النصوص، ونقلها إلى مقياسها الصحيح وهو مقياس الضمير، ومن تحطيم النصوص أن يكون أبناء النبي هم أتباعه بالروح، وإن لم يكونوا من ذريته بالجسد، ومن تحطيم النصوص كذلك أن يكون الخير في ضمير الإنسان لا في مظهر من مظاهر العالم؛ فإن ملك ضميره فقد ملك كل شيء، وإن ضيع ضميره لم يغنِ عنه العالم بما وسع من أناس وحطام.

(٢) رسالة النور الجديد

ومما تقدم تنجلي المطابقة بين النشأة والرسالة النبوية عن مقاصد ثلاثة تنطوي في هذه الرسالات: فمنها الرسالة التي تنطوي في تكاليف الزعامة، فتأتي الدعوة الإلهية لتمكين زعيم القوم من هدايتهم الروحية؛ لأنه مطالب بقيادتهم في جميع الشئون.

ومنها الرسالة التي تقوم على منفعة أمة من الأمم لحراستها في وجه الأمم الأخرى، والمثابرة على تذكيرها بحاجتها إلى تلك الحراسة.

ومنها الرسالة التي ينتظرها القوم تحقيقًا لوعود متعاقبة يفسرها كل منهم بما يبتغيه.

ثم قامت بعد هذه الرسالات جميعًا رسالة محمد — عليه السلام — فلم يستغرقها مقصد من هذه المقاصد؛ إذ لم تكن تكاليف زعامة ولا رسالة مقصورة على منفعة أمة، ولا تحقيقًا لوعود منتظرة يفسرها كل واحد بما يبتغيه.

رسالة محمد — عليه السلام — رسالة إلهية قوامها أنَّ الله حق وهدى، وأنَّ الإيمان به جل وعلا مطلوب؛ لأنه حق وهدى، هذا الإيمان أعلى وأقدس من كل إيمان؛ لأنه إيمان بالحق والهدى.

لم تكن زعامة محمد على قومه مناط تلك الرسالة؛ لأنه جاء بها بشرًا كسائر البشر، عليه من أمانة الهداية ما على الإنسان للإنسان زعيمًا كان أو غير زعيم.

ولم تكن منفعة الأمة العربية مناط تلك الرسالة؛ لأنها إيمان برب العالمين، ولا فضل فيها لعربي على أعجمي ولا لقرشي على حبشي إلا بالتقوى.

ولم تكن مقاضاةً لوعود؛ لأنَّ الإسلام لم يعد أحدًا من العالمين بغير ما وعد به الناس كافةً في جميع البقاع والأرضين.

نزاهة العبادة

تعود بعض المصابين بداء الهذر من المؤرخين الغربيين أن يتكلموا عن نزاهة العبادة، ويذكروا النعيم السماوي كما وصفه الإسلام بين النقائض التي تقدح في العبادة النزيهة.

وما من دين من الأديان خلا من مبدأ الثواب والعقاب، وما من أمة من الأمم في عصر الدعوة الإسلامية كانت صور النعيم السماوي عندها مقصورة على صورة واحدة تؤمن بها ولا تؤمن بغيرها.

فليس الإيمان بالثواب والعقاب مخلًّا بنزاهة الدين، وما من دين يستحق أن يسمى دينًا يسوي بين الصالحين والمفسدين، أو يحجر على النفوس أن تطمح إلى النعيم الذي ترتضيه.

إنما الميزان الحق للعبادة النزيهة هو الصفة التي يتصف بها الإله المعبود، ومن أجلها يتعبد له المؤمنون.

وأنزه العبادات — ولا ريب — هي العبادة التي يدين بها المؤمن لله — جل وعلا — لأنه حق وهدى؛ ولأن الإيمان به هو الصدق والصواب.

هذه العبادة أنزه من العبادة التي تتجه بها الأمة إلى الله لأنه يقوم لها مقام الحارس في وجه الأمم التي تخشاها، وهي أنزه من العبادة التي تقوم على تقاضي الوعود، أو العبادة التي تقوم على تعلق المرءوس بتكاليف الرئاسة والزعامة.

أمانة إنسان يدعو بها إخوانه في الإنسانية، ويرفعها مكانًا فوق مكانها، إنها نشأت في جزيرة العرب حيث لا غرابة أن تكون الرسالة أمانة زعامة، أو تكون حراسة أمة ذات عصبية، أو تكون على الإجمال منفعة محدودة في وجه العالم، كما تحد الصحراء ما حولها من البقاع والأرضين.

سيد المرسلين بحق من جاء بالرسالة المنزهة المثلى. وهذه هي رسالة محمد بشهادة العقل حين يقابل بين القرائن والأمثال، قبل شهادة المتدين لدينه، أو المتعصب لعصبته، والمقلد لما يمليه التقليد عليه.

الوساطة

يقوم الإسلام على خمس فرائض؛ هي: الشهادتان، والصلاة، والصيام، والزكاة، والحج إلى بيت الله.

ولا تتوقف فريضة من هذه الفرائض الخمس على وساطة بين الخالق والمخلوق، فحيثما وجد المسلم ففي وسعه أن يؤدي صلاته فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ [البقرة: ١١٥].

وإذا وجبت صلاة الجماعة، فكل مسلم يحسن الصلاة يجوز له أن يؤم المصلين حيث اجتمعوا، ولا يشترط اجتماعهم في مسجد معلوم.

ويحتاج المسلمون إلى الحاكم لتوقيت شهر الصيام، ولكنهم يحتاجون إليه لأن وسائل الرصد والتعميم تتيسر له حيث لا تتيسر لكل فرد من أفرادهم، شأنه — فيما عدا ذلك — كشأن جميع المسلمين.

•••

وإذا حج المسلم إلى بيت الله فليس في بيت الله كاهن يقدم له قربانه، أو يملي عليه شعائره، وإنما يقرب لنفسه ويقوم بشعائره لنفسه، فإن جهل حكمًا من أحكام الحج فإنما يسأل عنه سؤال المتعلم للمعلم، ولا يحتاج في قبوله إلى وساطة من وسيط.

ويصح للمسلم أن يؤدي زكاته، كما يصح له أن يسلمها لولي الأمر ليجمعها ويفرقها على مستحقيها، ولا عمل له فيها يتمم به الفريضة بعد أدائها.

هذه الفرائض التي تنزهت عن الوساطة بين الإنسان وربه قد تفهم على أنها مصادفات متكررة على صعوبة التكرار والتوافق بين هذه المصادفات، لولا أنها متممة مستوفاة بعقيدة التنزيه التي ارتفعت إلى غايتها في الإسلام، فالإله في العقيدة الإسلامية منزه عن المشابهة والمقارنة والرمز والمحاكاة، وليس كمثله شيء، ولا وسيلة لإنسان إلى رؤيته من حيث لا يراه الآخرون.

•••

ومن العسير على بعض المشتغلين بالمقارنة بين الأديان من الغربيين أن يدينوا للإسلام بهذا التقدم الكبير في تنزيه العقيدة، وتنزيه الفكرة الإلهية، وأيسر من ذلك عليهم أن يحسبوه ضرورة من ضرورات النشأة في الصحراء، حيث يتعود الحس التجريد، ولا يرمز إلى الفخامة بروعة البناء.

ولكن العقائد الدينية نشأت في صحراء العرب وفي غيرها من الصحاري قبل الإسلام، ولم تنشأ في إحدى هذه الصحاري مجردة من شوائب الوثنية والطوطمية، وضروب الكهانات والوساطات بين الإنسان وطبقات من الأرباب دون مقام الإله الواحد المنزه عن الأشباه والنظراء، وكانت الكعبة في مكة ملأى بالأصنام والأوثان يتخذونها — كما يقولون — لتقربهم إلى الله زلفى، ولا يحسون أنها تناقض طبيعتهم الصحراوية في التدين والعبادة.

ومما فات أصحاب المقارنات أن يذكروه في هذا الصدد: أنَّ الأمم التي تدين لسلطان الهياكل، وتقدر على تفخيم البناء، إنما كانت تثوب إلى هيكل واحد تتبعه سائر الهياكل، ويستأثر كاهنه الأعلى بالوساطة بين أتباعه وبين الله، ويضفي من قداسته ما يشاء على ما يشاء، فإذا وجد في الصحراء هيكلًا متفقًا عليه بين القبائل؛ فهو أحرى أن يمتاز بالتعظيم والتقديس، وأن تحيطه الندرة برعاية خاصة لا تظفر بها المعابد حيث يكثر البناء.

وأولى من ذلك بالتنبيه أنَّ الإسلام يحارب كل سيطرة توجد في الهياكل، أو توجد في صوامع الصحراء وخيامها، وفي التوابيت التي تحمل من مكان إلى مكان كتابوت بني إسرائيل؛ لأنها سيطرة الكهان والرهبان التي تسلط الناس على رقاب الناس باسم الدين يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ [التوبة: ٣٤].

وكل مسلم منهي بحكم دينه أن يقتفي آثار الأمم الذين حكَّموا فيهم رؤساء دينهم واتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ [التوبة: ٣١].

•••

فليس لرئيس الدين في الإسلام من فضيلة غير فضيلة العلم والموعظة الحسنة، وتنبيه الغافلين من ذوي السلطان: وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً ۚ فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ [التوبة: ١٢٢]، وتلك هي الفريضة العامة التي يندب لها مَن يقدر عليها من ورثة الأنبياء وهم أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ۚ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [آل عمران: ١٠٤].

•••

هذا موقف للإنسان في الكون كله بين يدي الله بغير وساطة، ولا فاصل، ولا حجاب، تقدم به الإسلام ولم تمهده له البادية ولا المدينة، ولكنه نتيجة من تلك النتائج الإلهية الكثيرة التي تقصر عنها السوابق والمقدمات.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤