الفصل السابع

الكعبة

ونعود بعد هذه المقدمات جميعًا إلى حديث الكعبة أو الكعبات التي ثابت إلى قبلة واحدة: هي قبلة الكعبة المكية خاتمة المطاف.

يدور البحث ما يدور في تاريخ العرب الديني ثم يتصل من إحدى نواحيه بتلك البيوت التي تعرف ببيوت الله، أو البيوت الحرام، ويقصدها الحجيج في مواسم معلومة يشترك فيها القبائل من سكان البقاع القريبة، ويتعاهدون على المسالمة في جوارها.

وكان منها في الجزيرة العربية عدة بيوت مشهورة، وهي بيت الأقيصر، وبيت ذي الخلصة، وبيت صنعاء، وبيت رضاء، وبيت نجران، وبيت «مكة» أشهرها وأبقاها، عدا بعض البيوت الصغار التي يعرفها الرحالون، ولا تقصد من مكان بعيد.

وكان بيت الأقيصر في مشارف الشام مقصد القبائل من قضاعة ولخم وجذام وعاملة، يحجون إليه ويحلقون رءوسهم عنده، ويلقون قبضة من الدقيق مع كل شعرة، وهو الذي عناه زهير بن أبي سلمى بقوله:١
حلفت بأنصاب الأقيصر جاهدًا
وما سحقت فيه المقاديم والقمل!

وبيت «ذي الخلصة» كان يدعى بالكعبة اليمانية في أرض خثعم بين مكة واليمن على مسيرة سبع ليالٍ من مكة، وروى البخاري أنَّ النبي — عليه الصلاة والسلام — أمر بهدمه فهُدم، وأنَّ الذين كانوا يسمونه بالكعبة اليمانية كانوا يطلقون اسم الكعبة الشامية على كعبة مكة تمييزًا بين الكعبتين.

وكان بصنعاء بيت رئام يحجون إليه وينحرون عنده، فطلب حبران «يقرآن التوراة» من ملك اليمن أن يأمر بهدمه «لأنه شيطان» يفتن الناس، فأذن لهما فهدماه.

وفي بيت رضاء يقول المستوغر بن ربيعة بن كعب حين هدمه بعد الإسلام:

ولقد شددت على رضاء شدة
فتركتها قفرًا بقاع أسحما
وأعان عبد الله في مكروهها
وبمثل عبد الله أغشى المحرما

أما كعبة نجران فقد تعفت آثارها، وكشفها الرحالة عبد الله فلبي في رحلته (٢٥ يونيو سنة ١٩٣٦)، وهي التي قال فيها الأعشي يخاطب ناقته:

فكعبة نجران حتم عليـ
ـك حتى تناخي بأبوابها
نزور يزيد وعبد المسيـ
ـح وقيسًا هُمُ خير أربابها
ويقول بعض المؤرخين — ومنهم أبو المنذر٢ — إنَّ هذا البيت وبيت سنداد بين الكوفة والبصرة لم يكونا من بيوت العبادة، وإنما كانا من المزارات الشريفة التي يذكرها السياح.

اسم الكعبة

وقد ذهب المؤرخون مذاهب شتى في تفسير اسم الكعبة، فقال بعضهم: إنها كانت كلمة رومية أطلقت على كعبة مكة لتكعيبها، وأنَّ بنَّاءً من الروم عمل في بنائها وهندستها، فاستعير اسمها من اللغة الرومية، وقيل: بل كان بناؤها من الحبشة، ومنها — أي من الحبشة — عرف العرب بناء هذه المعابد وأمثالها؛ لأنهم أمة خيام لم تتأصل فيهم صناعة البناء.

وهؤلاء المؤرخون وأشباههم يتشبثون بالفرع ويغفلون الأصل بجذوره وجذوعه عليه.

فمهما يكن من لغة البناء الرومي أو الحبشي فالقبائل العربية لم تبن تلك البيوت؛ لأن البناء من الروم أو من الحبش، ولم ترد أن تنشئ لها بيتًا يسمى «الكعبة» أو المكعبة في اللغة الرومية، وإنما وُجدت الحاجة إلى البيت الحرام، ثم وُجدت الوسيلة إلى تلك الغاية، ولو لم يبنه أحد من الروم أو الحبش؛ لبناه أحد من فارس أو مصر أو الهند أو غيرها من الأمم التي تقدمت في هذه الصناعات. وقد احتاج سليمان بن داود إلى بناء هيكله، فاستعان بالصناع العاملين في الحجر والمعدن والحديد من شواطئ البحر الأبيض إلى جواره في الشمال، ولم تقم العقيدة تبعًا لأصحاب الصناعة؛ بل كان أصحاب الصناعة جميعًا ممن يخالفون تلك العقيدة، ويتسمون بسمة الكفر والإنكار عند المعتقدين بها.

ولم نعرف أنَّ معبدًا سمي بشكله، أو كان له شكل غير أشكال الأبنية التي يغلب عليها التكعيب مع بعض الاستطالة، وليست مادة «كعب» بالغريبة عن اللغة العربية؛ لأنهم كانوا يعرفون كعوب الفتاة، ويسمون الفتاة كاعبًا إذا كعب ثدياها، ويلعبون بالكعوب، ويتسلحون بالرماح وهي من القصب أو من الأقنية، فيغلب أن يكون اليونان هم الذين أخذوا من العرب كلمة الكعب وكلمة القناة، فتصحفت في لغتهم إلى القانون، وهو العصا التي تتخذ للقياس.

البيوت الحرام

ومهما يكن من أصول هذه الأسماء والأشكال، فالأمر الذي لا يجوز فيه الشك أنَّ «البيوت الحرام» وجدت في الجزيرة العربية لأنها كانت لازمة، ولم توجد فيها العبادات والمعبودات لأن أحدًا اخترعها لتُعبد وتُقصد، وإنما كانت العبادات والمعبودات مرعية موروثة، ثم أقيم لها المكان الذي تعبد فيه وتقصد من أجله.

وقد اجتمع لبيت «مكة» من البيوت الحرام ما لم يجتمع لبيت آخر في أنحاء الجزيرة؛ لأن مكة كانت ملتقى القوافل بين الجنوب والشمال، وبين الشرق والغرب، وكانت لازمة لمن يحمل تجارة اليمن إلى الشام، ولمن يعود من الشام بتجارة يحملها إلى شواطئ الجنوب، وكانت القبائل تلوذ منها بمثابة مطروقة تتردد عليها، ولم تكن فيها سيادة قاهرة على تلك القبائل في باديتها أو في رحلاتها.

فليست في مكة دولة كدولة التبابعة في اليمن، أو المناذرة في الحيرة، أو الغساسنة في الشام، وليس من وراء أصحاب الرئاسة فيها سلطان كسلطان دولة الروم، أو دولة فارس، أو دولة الحبشة وراء الإمارات العربية المتفرقة على الشواطئ، أو بين بوادي الصحراء، فهي — أي مكة — مثابة عبادة وتجارة، وليست حوزة ملك يستبد بها صاحب العرش فيها، ولا يبالي من عداه، وهي إنْ لم تكن كذلك من أقدم أزمانها، فقد صارت إلى هذه الحالة بعد عهد جُرْهُم والعماليق، الذين روى عنهم الرواة أنهم كانوا يعشرون كل ما دخلها من تجارة.

•••

كانت «مكة» عربية لجميع العرب، ولم تكن كسروية ولا قيصرية ولا تبعية ولا نجاشية، كما عساها كانت تكون لو استقرت على مشارف الشام، أو عند تخوم الجنوب، ولهذا تمت لها الخصائص التي كانت لازمة لمن يقصدونها، ويجدون فيها من يبادلهم ويبادلونه على حكم المنفعة المشتركة، لا على حكم القهر والإكراه.

ولقد حاولت الدول الكبرى أن تستغني عنها بتحويل الطريق منها، أو هدم كعبتها فلم تفلح، وبقيت لها مكانتها وقداستها كما كانت من أقدم عهودها، وهي قديمة سابقة لكتابة أسفار العهد القديم في التوراة، فإنها هي «ميشة» المشار إليها في سفر التكوين، وهي «ميشة» التي يقول الرحالة «برتون»: إنها كانت بيتًا مقصودًا لعبادة أناس من أبناء الهند، ويقول الرَّحالون الشرقيون: إنها كانت كذلك بيتًا مقصودًا للصابئين الذين أقاموا في جنوب العراق قبل الميلاد بأكثر من عشرة قرون، ونرجح نحن ترجيح الظن أنَّ سكان شواطئ الهند وخليج فارس وجدوا فيها سماحة لعبادة أربابهم العلوية وأفلاك السماء، كلما ترددوا عليها في تجارتهم من أقدم عهود التاريخ، فكان حكمهم فيها حكم القبائل البادية التي وجدت فيها محلًّا لعبادة أوثانها في مواسم الحج والإحرام.

ومن المحاولات التاريخية التي لا شك في بواعثها محاولة عام الفيل، ومحاولة عثمان بن الحويرث أن يدخل مكة في حوزة الروم، وأن تستولي دولة الروم من ثم على تجارة المشرق كلها من شواطئ اليمن إلى مشارف الشام.

فالحبشة كانت تخشى نفوذ الفرس في اليمن، وكانت تلقى من دولة الروم معونة على مقاتلة التبابعة اليمانيين، وكانت تحذر دولة الروم؛ لأنها كانت تملك الوصول إلى بلادها من وادي النيل، وتملك طريق البحر الأحمر في نهايته القصوى، فلما خرجت جيوش الحبشة بقيادة أبرهة وأرياط كانت دولة الروم من وراء هذه الغزوة، وانتهت بهزيمة ذي نواس ملك اليمن، فاقتحم البحر بجواده ليغرق فيه، وسفر أبرهة عن غايته بعد التمكن من اليمن وشواطئها فبنى «القُليْس» في صنعاء.

ويجوز أن تكون مصحَّفة من كلمة الكليس اليونانية بمعنى المعبد والمجمع، أو من كلمة الكلس بمعنى التكليس أو الطلاء، فلما تم بناؤها أمر بتحويل الحج إليها، وكتب إلى النجاشي يقول: «إنه ليس بمنتهٍ حتى يصرف إليها العرب أجمعين» … فقيل فيما قيل: إنَّ أناسًا من العرب كانوا يذهبون إلى هذه الكعبة الجديدة ليدنسوها، وإنَّ سيدًا من سادات تميم فعل ذلك وتحدى أربابها أن تصيبه بأذاها إن كانت لها قدرة الأرباب، فكان من جراء ذلك هجوم أبرهة على مكة في عام الفيل المشهور.

هذه محاولة لا شك في الغرض منها، وهو الاستيلاء على طريق الحجاز من اليمن إلى الشام.

والمحاولة الأخرى كانت من محاولات السياسة الخفية لتمليك سيد من العرب على مكة يدين بالولاء لدولة الروم، فارتضى قيصر لملك مكة رجلًا من ساداتها هو عثمان بن الحويرث بن أسد بن عبد العزى، وكتب له رسائل يبلغها قومه، فعاد بها وجمع القوم إليه يرغبهم في حسن الجزاء من قيصر، ويُنذرهم بسوء العاقبة في الشام إذا هم عصوه، وأهون ما هنالك أن يغلق أبوابها في وجوههم وهم يذهبون إليها ويعودون منها كل عام، قال: «يا قوم، إنَّ قيصر قد علمتم أمانكم ببلاده، وما تصيبون من التجارة في كنفه، وقد ملكني عليكم وأنا ابن عمكم وأحدكم، وإنما آخذ منكم الجراب من القرظ والعكة٣ من السمن والأوهاب، فأجمع ذلك ثم أذهب إليه، وأنا أخاف إن أبيتم ذلك أن يمنع منكم الشام فلا تتجروا به، وينقطع مرفقكم منه.»

وهذه المحاولة السياسية غرضها — كما هو ظاهر — كغرض تلك المحاولة العسكرية، وكلتاهما تثبت شيئًا واحدًا، وهو قيام كعبة الحجاز على كره من ذوي السلطان في الجنوب، وأنَّ دولة الروم لم تكن تريدها باختيارها، وإنما كانت مشغولة بها، معنية بتحويلها إلى حوزتها، فلم تستطع أن تنال منها منالها، واستطاعت «الكعبة» أن تحفظ مكانها على الرغم من خلو مكة من العروش الغالبة على أنحاء الجزيرة بجميع أطرافها؛ بل استطاعت ذلك لخلوها من تلك العروش، وقيام الأمر فيها على التعميم دون التخصيص، وعلى تمثيل جملة العرب بمأثوراتهم ومعبوداتهم دون أن يسخرهم المسخرون، أو يستبد بهم فريق يسخرهم تسخير السادة للأتباع المكرهين على الطاعة وبذل الإتاوة.

قداسة الكعبة

والأساس المهم الذي قامت عليه مكانة البيت المكي: أنَّ البيت بجملته كان هو المقصود بالقداسة غير منظور إلى الأوثان والأصنام التي اشتمل عليها، وربما اشتمل على الوثن المعظم يقدسه بعض القبائل وتزدريه قبائل أخرى، فلا يغض ذلك من مكانة «البيت» عند المعظمين والمزدرين، واختلفت الشعائر والدعاوى التي يدعيها كل فريق لصنمه ووثنه، ولم تختلف شعائر البيت كما يتولاها سدنته المقيمون إلى جواره، والمتكفلون بخدمته، فكانت قداسة البيت هي القداسة التي لا خلاف عليها بين أهل مكة وأهل البادية، وجاز عندهم — من ثم — أن يحكموا بالضلالة على أتباع صنم معلوم، ويعطوا البيت غاية حقه من الرعاية والتقدير …

وعلى هذا كان يتفق في موسم الحج أن يجتمع حول البيت أناس من العرب يأخذون بأشتات متفرقة من المجوسية واليهودية والمسيحية وعبادات الأمم المختلفة، ولا يجتمع منها دين واحد يؤمن به متعبدان على نحو واحد، وما من كلمة من كلمات الفرائض لم تعرف بين عرب الجاهلية بلفظها وجملة معناها كالصلاة والصوم والزكاة والطهارة، ومناطها كلها أنها حسنة عند رب البيت أو عند الله. وجاء في صحيح مسلم عن عبد الله بن الصامت، أنَّ أبا ذر قال له: «يا ابن أخي! صليت مرتين قبل مبعث النبي ، فسأله: فأين كنت توجه؟ قال: حيث وجهني الله!»

وجاء في الأغاني أنَّ زيد بن عمرو بن نفيل كان يستقبل الكعبة في صلاته ويقول:

لبيك حقًّا حقًّا
تعبُّدًا ورقًّا
عذت بما عاذ به إبراهم
مستقبل الكعبة وهو قائم
يقول إني لك عان راغم
مهما تجشمني فإني جاشم

وذكر صاحب كتاب حجة الله البالغة أنهم كانوا يصومون يوم عاشوراء، وكان صيامهم من الفجر إلى مغرب الشمس، وكانت لهم بقايا من العبادات التي عرفت بين أهل الكتاب، ولم تكن معروفة على وتيرة واحدة بين أتباع دين من الأديان، وإنما يرغبهم فيها أنها أعمال تُرضي «الإله»، وأنهم يعرفون إلهًا أعظم من سائر الآلهة يتوجهون إليه بالدعاء. وهي حقيقة لا يعتورها الشك؛ لأنهم كانوا يسمون «عبد الله»، ويلبون فيقولون: اللهم لبيك، ولا يدعون أحدًا من الأصنام «رب البيت»، فإذا قالوا: «رب البيت» أرادوا به ربًّا فوق جميع الأرباب.

إننا في هذه الرسالة نذكر المقدمات ونقسمها — كما قلنا — في مفتتحها إلى قسمين: قسم ينقطع دون النتائج التي جاءت بعده، وقسم يتصل بنتائجه، ويسير من مبدئه إلى غايته في مجرى الحوادث، وليس بين هذه المقدمات المتصلة ما هو أحكم اتصالًا بين أوائله وخواتيمه من قيام البيت في مكة وتوثيقه قبائل العرب على حرمة واحدة.

وقد سميت الكعبة «الحمساء»، وانتسب إليها «الحمس»، وهم طوائف متشددون في فرائضهم وخلائقهم يدينون أنفسهم بالتقشف والزهد في مواسم العبادة، فيقضون زمنًا في العراء لا يحول بينهم وبين السماء حائل من سقف أو ستار، ويحرمون على أنفسهم في الأشهر الحرم أكل الأقط والسمن، ولبس النسيج من الوبر والشعر، ولا يجيزون لغيرهم أن يطوف بالبيت في غير الثياب الأحمسية، ويجعلون المطاف بالليل للنساء إذا لم تكن عليهن هذه الثياب.

•••

ومن رعاية جوار البيت حلف الفضول الذي تعاهد عليه أناس من عِلْية قريش لينصُرُنَّ كل مظلوم، ويَرُدُّنَّ الحق إلى كل مغصوب، ولَيَكُونُنَّ يدًا واحدة في قتال كل غاصب يلج في ظلمه وغصبه اعتزازًا بماله، أو بعصبته وحزبه. وما من مقدمة للدعوة المحمدية كانت ألزم ولا أكرم من هذه المقدمة؛ تيسيرًا لاجتماع الكلمة على الخير، وتوحيد أبناء الجزيرة العربية في دعوة واحدة ليست لذي سلطان من ملوك اليمن، أو خليج فارس، أو مشارف الشام، الذين يدينون بالولاء للأكاسرة وللقياصرة وللنجاشيين؛ بل هي دعوة الله يتلقاها أصحاب التيجان والعروش كما يتلقاها عامة الخلق من عباد الله.

١  البيت في هذه الرواية في «الأصنام»: ٣٨.
٢  انظر «الأصنام»: ٤٥.
٣  العكة: وعاء من جلد مستدير.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤