الفصل الثامن

أسرة النبيِّ

منذ ثبتت للبيت الحرام تلك المكانة العالية بين العرب كافة، وجبت له أمانة الخدمة بما له من حق محفوظ وشرف ملحوظ، ووجب لخدامه السمت الذي يجمل بهذا المقام، وهو فوق مقام الرئاسة الدنيوية، وعلى مثابة من مقام العبادة والتقديس.

ولم يقم بهذه الأمانة أحد كما قام بها أجداد النبي — عليه السلام — من بني هاشم، فقد حفظوا حقها، وعرفوا سمتها، بل طبعوا عليه فطرة بغير كلفة، وبدا منهم الإيمان بها في مآزق الشدة التي يمتحن فيها الإيمان بحب النفس، وحب البنين، فيغلب الإيمان على حب المرء لنفسه وحبه لبنيه.

وقد تنافس بنو هاشم وبنو أمية على هذا الشرف، فأسفرت المنافسة بينهما عن فارق في الطباع ملحوظ الأثر في خلائق الأسرتين من أيام الجاهلية إلى ما بعد الإسلام بعدة قرون، ومهما تجد من ندين متناظرين في هاشم وأمية إلا وجدت بينهما هذا الفارق على نحو من الأنحاء.

كان بنو هاشم أصحاب عقيدة وأريحية ووسامة، وكان بنو أمية أصحاب عمل وحيلة ومظهر مشنوء، وينعقد الإجماع أو ما يشبه الإجماع على أخبار الجاهلية التي تنم على هذه الخصال في الأسرتين، وبقى الكثير منها إلى ما بعد قيام الدولة الأموية فلم يفندوه.

ومن هذه الأخبار أخبار المنافرات المتتالية تجمعها منافرة حرب وعبد المطلب إلى نفيل جد عمر بن الخطاب؛ إذ يقضي لعبد المطلب ويخاطب حربًا قائلًا: أتنافر رجلًا هو أطول منك قامة، وأعظم منك هامة، وأوسم منك وسامة، وأقل منك لامة، وأكثر منك ولدًا، وأجزل منك صفدًا، وأطول منك مذودًا؟

أبوك معاهر وأبوه عف
وذاد الفيل عن بلد حرام

والنسابون يؤيدون ما تواترت به هذه المنافرات، فيقول دغفل النسابة لمعاوية وقد سأله عن جده أمية: «رأيته رجلًا قصيرًا ضريرًا يقوده عبده ذكوان»، قال معاوية: «ذلك ابنه أبو عمرو!» قال دغفل: «ذلك شيء تقولونه أنتم، أما قريش فلم تكن تعرف إلا أنه عبده.»

ويقول الكلبي في أبناء عبد المطلب: «كانوا إذا طافوا بالبيت يأخذون البصر.»

قلنا في كتابنا عن ذي النورين عثمان بن عفان: «وقد يتردد المؤرخ في قبول بعض الروايات المتقدمة على علاتها، ولكنه لا يحتاج إلى المشكوك فيه من تلك الروايات ليعلم هذا الفارق الواضح من خلائق العشيرتين فيما أُثر عنهم قبل الإسلام وبعد الإسلام، ففي حلف الفضول قام بنو هاشم بالأمر، وقام به معهم بنو أسد وبنو زهرة وبنو تيم، وتخلى عنه بنو عبد شمس فلم يشتركوا فيه … وخلاصة قصته أنَّ رجلًا يمانيًّا قدم مكة ببضاعة فاشتراها رجل فلواه بحقه، وأبى أن يرد عليه بضاعته، فقام في الحجر أو في مكان على شرف وصاح يستغيث، وكان من أجل ذلك أن تعاهد أناس من بني هاشم وأحلافهم ألا يظلم بمكة غريب ولا قريب، ولا حر ولا عبد، إلا كانوا معه حتى يأخذوا له بحقه من أنفسهم ومن غيرهم، وعمدوا إلى ماء من زمزم، فجعلوه في جفنة، وبعثوا به إلى البيت، فغسلت به أركانه وشربوه. وقد أبى الأمويون وبنو عبد شمس عامة على أحد منهم أن يدخل هذا الحلف، فكان أحدهم عتبة بن ربيعة يقول: لو أنَّ رجلًا وحده خرج من قومه لخرجت من عبد شمس حتى أدخل حلف الفضول.»

وربما خفي السبب الذي يرجع إليه هذا الفارق بين الأسرتين، فقد يرى بعضهم أنه يرجع إلى النسب المدخول، وقد رُمي الأمويون الأوائل بشبهات كثيرة في عمود النسب، وعَرَّضَ لهم بذلك أناس من ذوي قرباهم في صدر الإسلام، وأشهر ما اشتهر من هذه الشبهات قصة ذكوان الذي يقولون إنه من آبائهم، ويقول النسابون: إنه عبد مستلحق على غير سنة العرب في الجاهلية.

ومما يعلل به هذا الفارق أنَّ بني أمية كانوا يغيبون عن ديارهم ويعودون إليها، فلا يطيب للمقيمين فيها أن يعترفوا لهم بدعوى الزعامة عليهم، وأنهم أكثروا من الرحلة في بادئ الأمر لحاجتهم وقلة محصولهم من نتاج النعم وأرباح التجارة، وليس بالبعيد أنَّ «المعاهرة» التي أشار إليها المحكمون بينهم وبين الهاشميين قد أورثتهم بعض أمراضها، ودست في أخلاقهم شيئًا من خبائثها، وليس بالبعيد أيضًا أنَّ الفارق بين الأسرتين إنما كان من قبيل تلك الفوارق التي نراها بين الإخوة كأنها قسمت بينهم ميراث الأخلاق، فذهب أحدهم بالحول، وذهب أخوه بالحيلة، أو ذهب أحدهم بالكرم والأريحية، وذهب أخوه بنقائضها من خِلال الأثرة والدعوى.

وأيًّا ما كان سر هذا الفارق البين، لقد كان بنو هاشم — أسرة النبي — أصحاب رئاسة، وكانت لهم أخلاق رئاسة.

عرفوا بالنبل والكرم والهمة والوفاء والعفة، وبرزت كل خليقة من هذه الخلائق في حادثة مأثورة مذكورة، فلم تكن خلائقهم هذه من مناقب الأماديح التي يتبرع بها الشعراء، أو من الكلمات التي ترسل إرسالًا على الألسنة ولا يراد بها معناها.

كان هاشم غياث قومه في عام المجاعة، فبذل طعامه لكل نازل بمكة أو وارد عليها، وسمي بالهاشم من ذلك اليوم لهشمه الثريد ودعوة الجياع إلى قصاعه:

عمرو الذي هشم الثريد لقومه
ورجال مكة مسنتون عجافُ

ومما يروي عنه أنه كان أول من سن الرحلتين لقريش: رحلة الصيف ورحلة الشتاء، وحقيقة ذلك فيما يخلص لنا من سوابق الرحلات أنه كان يحمي تلك الرحلات وينظمها، فنسب إليه أنه أول من سنها.

ومكانته في غير قريش — وفي مدن التجارة الخاصة — تدل عليها مصاهرته لبني النجار في المدينة، وزواجه من سلمى بنت عمرو التي كانت — لشرفها وعزتها — تأبى أن تتزوج إلا أن يكون أمرها بيدها، ولو لم يكن لهاشم مقامه في الحجاز كله لما أصهر إلى القوم، ولا ارتضى القوم هذه المصاهرة من رجل يزور مدينتهم زيارة الطريق بين مكة والشام. وقد كان المعهود في بني عبد منافٍ أنهم لا يقعدون جميعًا في ديارهم، وأنهم لا تزال لهم همة طامحة في رحلاتهم وأسفارهم، ومات أكثرهم في غير وطنهم، فمات هاشم بغزة في الشام، ومات عبد المطلب برومان إلى ناحية من أرض اليمن، ومات نوفل بسلمان في العراق.

وابن هاشم عبد المطلب سيد قريش غير مدافع، ويبلغ هذا التقابل بين الأسرتين أقصاه في عهد مناظرة حرب بن أمية، فكان كلاهما نمطًا في بابه من طرفي العقيدة والأريحية وطرف السعي والحيلة.

وكان عبد المطلب متدينًا صادق اليقين، مؤمنًا بمحارم دينه في الجاهلية؛ لأن ثقة الإيمان طبيعة في وجدانه، وهو أول من حلى الكعبة بالذهب من ماله، ويغنينا منه أنه كان في الحق نمطًا فريدًا بين أصحاب الطبائع التي فطرت على الاعتقاد ومناقب النبل والإيثار.

فلم تكن مناقبه من مناقب الطابع والوتيرة التي تتكرر على صورة واحدة بين المتصفين بها، ولم يكن كرمة ولا حزمه ولا شجاعته من قبيل الصفات التي تعرف بهذه الأسماء في جميع الكرماء وذوي الحزم والشجاعة.

بل كانت مناقبه مطلبية تدل عليه ولا تصدر من غيره، وكانت كلها مزيجًا من الأنفة والرصانة والاستقلال، ومواجهة الغيب على ثقة وصبر وأناة.

وهذه طائفة من أخباره لا نفتقد في واحدة منها تلك المناقب المطلبية التي تعز على خيال المتخيل ما لم يكن وراءها أصل تحكيه وترجع إليه.

وصل أبرهة الحبشي عام الفيل إلى أرباض مكة، وبعث رجلًا من العرب يسمى حناطة يسأل عن «أمير مكة»، ويبلغه أنَّ أبرهة لم يأت لقتالهم، وإنما أتي لهدم البيت الحرام، فإن لم يمنعوه فهم في أمان من حربه، فلما لقي الرسول عبد المطلب وأبلغه رسالة أبرهة، قال عبد المطلب: والله ما نريد حربه، وهذا بيت الله وبيت خليله إبراهيم، فإن يشأ منع بيته وحرمه، وإن لم يشأ تخلَّى عنه، ووالله ما عندنا من قتال.

قال الرسول: انطلق معي إلى الملك. فانطلق معه عبد المطلب إلى أن أتى معسكر أبرهة، وأدخلوه عليه.

يقول الرواة: وكان عبد المطلب رجلًا عظيمًا مهيبًا وسيمًا، فنزل أبرهة عن سريره، وأجلسه معه، وسأله عن طلبته، فقال عبد المطلب: الإبل التي ساقها جندك!

ويقول الرواة: فهان أمر عبد المطلب في نظر أبرهة وقال له: أتسأل عن البعير وتترك البيت الذي هو دين آبائك ودينك من بعدهم؟! فقال عبد المطلب: أنا رب الإبل، وللبيت رب يحميه. فأمر برد إبل عبد المطلب دون غيرها، فأخذها عبد المطلب وقلَّدها النعال وساقها هَدْيًا إلى الحرم، ووقف على باب الكعبة يقول:

يا رب لا أرجو لهم سواكا
يا رب فامنع منهم حماكا
إن عدو البيت من عاداكا
فامنعهم أن يخربوا قراكا

هذه هي «المطلبية» التي نعنيها في خصال هذا الرجل العظيم: لا تهور مع القوة الطاغية، ولكن لا خضوع لها؛ بل وَضْعٌ لها في موضعها، وقول يناسب كل مقام، فإذا خامر الظن أحدًا لا يفهم معنى هذه الأنفة التي تأنف من التهور كما تأنف من الجبن، فهناك الجواب الفعال الذي يغني ما ليس يغنيه المقال: ما سألت عن الإبل لأنني أضن بأثمانها، فإنني قد وهبتها بعد ذلك للبيت، ولكنني سألت عنها لأنها هي موضع سؤالي، وتركت السؤال عن البيت لأن استجداء الرحمة من أبرهة لبيت الله ينفي الثقة بالبيت وبالله.

وقد حدث بعد ذلك ما حدث مما لا شك فيه، وهو فتك الجدري بجنود أبرهة، وانهزامه عن البيت، وخوفه من أن يتقدم إليه بأذًى، وإنه لخبر قد يسهل إنكاره على المتحذلقة من أدعياء التاريخ الذين يجمعون التمحيص كله في الإنكار، لولا أنَّ حديث الجدري الذي فشا (في سنة ٥٦٩) مثبت كما تقدم في تاريخ بروكوب Procope الوزير البيزنطي المعروف.

وخبر آخر من أخبار هذه المناقب المطلبية: أنه عاش زمنًا قليل الولد لم يرزق غير ابنه الحارث الذي كان يكنى به. عيَّره عدي بن نوفل بن مناف يومًا فقال له: أتستطيل علينا عبد المطلب وأنت فذٌّ لا ولد لك؟ فأجابه عبد المطلب جوابه الذي أثر عن ذلك اليوم: أبالقلة تعيِّرني؟! فوالله لئن آتاني الله عشرة من الولد لأنحرن أحدهم عند الكعبة!

وسنعود إلى التعقيب على هذه القصة في حديث عبد الله أبي النبي — عليه السلام — ولكننا نجتزئ هنا بأن نقول: إننا لا نسقطها لمجرد اختلاف الروايات فيها، فإن أخبار الحاضر تتناقض أمامنا، ونحن لا ننكر وقوعها لهذا التناقض. وقد اختلفت الرواة في عبد الله بن عبد المطلب: هل هو أصغر أبنائه جميعً،ا أو أصغر أبنائه من أمه؟ وهل بلغ أبناؤه العشرة، أو حسب منهم أبناء الأبناء؟ وكل أولئك لا يسقط القصة، كما أسلفناه، وكما يجيء في سيرة عبد الله.

وملتقى الروايات في هذه القصة أنه أمر بنيه أن يكتب كل منهم اسمه في قدح، وطلب من صاحب القداح أن يضرب عليها، فخرج السهم باسم عبد الله، فَهَمَّ بإنفاذ نذره لو لم يتشفع عنده ابنه العباس ورجالات قريش، وتنادوا بينهم: لئن فعل ذلك لتكونن سنة، ولا يزال الرجل يأتي بابنه فيذبحه، فإن يكن فداء فبأموالنا جميعًا نفديه.

واحتكموا إلى عرافة بالحجاز فسألتهم: كم الدية فيكم؟ قالوا: عشرة من الإبل، قالت: قربوا عن ولدكم عشرة من الإبل، ثم اضربوا عليها وعلى ولدكم، ثم زيدوا الإبل كلما أخطأها السهم حتى يخرج السهم عليها فانحروها عنه؛ فقد رضي ربكم ونجا ولدكم.

يقول الرواة: وعادوا إلى مكة فقربوا عشرة من الإبل، وضربوا القداح، فخرج القدح على عبد الله، وجعلوا يزيدون عشرة فعشرة حتى بلغت مائة، وقيل ثلاثمائة، فخرج السهم عليها فنحروها وتركوها لا يُمْنَع من لحمها إنسٌ ولا وحشٌ ولا طيرٌ.

ومن أخباره أنَّ قريشًا خاصمته في ماء زمزم بعد أن احتفرها، وعارضوه في احتفارها، فاحتكموا إلى كاهنة بني سعد بن تميم بمشارف الشام، فركب عبد المطلب ومعه نفر من بني عبد مناف، وركب من كل قبيلة من قريش نفر يتقدمون، وفني ماء عبد المطلب عند بعض المفاوز بين الحجاز والشام؛ فظمئ أصحابه حتى أيقنوا بالهلكة، وطلبوا الماء ممن معهم من قريش فلم يسقوهم، فجمع أصحابه وسألهم: ما ترون؟ قالوا: رأيُنا تبع لرأيك، فمُرْنا بما شئت، قال: فإني أرى أن يحفر كلٌّ منا حفرته فيواريه فيها أصحابه إذا مات، حتى يكون آخركم موتًا قد وارى الجميع، فضيعة رجل واحد خير من ضيعة الركب كله …

ثم بدا له رأي أصوب من هذا الرأي فقال لأصحابه: والله إنَّ إلقاءنا أنفسنا بأيدينا للموت هكذا دون أن نضرب في الأرض ونبتغي لأنفسنا لهو العجز؛ فهلموا نرتحل. ولم يذهبوا في طريقهم غير يسير حتى انفجرت عين ماء عذب تحت خف راحلته، فشربوا وملئوا أسقيتهم، ثم دعا القبائل من قريش فقال: هلموا إلى الماء فقد سقانا الله، فقال أصحابه: لا نسقيهم والله؛ لأنهم لم يسقونا، قال: نحن إذن مثلهم. ولم يُرْضه أن يعمل مثل عملهم وهو أحق بالرجحان عليهم، وعرف القرشيون له هذا الحق فكفُّوا عن منازعته في ماء زمزم، وسلموا له السقاية التي كانوا ينفسونها عليه.

ويروى عنه أنه كان له جار يهودي يسمى أذينة، وكان له مال كثير، فطمع فيه حرب بن أمية وأغرى به فتيانًا من قومه فقتلوه، فلم يزل عبد المطلب يستقصي خبره حتى علم باغتياله ومن اغتالوه، فأبى إلا أن يُكْرِه حربًا على الدية، وأخذ منه مائة ناقة أسلمها إلى ابن عم اليهودي، وارتجع ماله إلا شيئًا هلك، فارتجعه من ماله.

وهذه هي المناقب «المخصصة» التي نقول: إنها لا تجري مجرى الطابع والوتيرة، ولا تغني عناوينها عن النظر في ملامح أصحابها ومميزاتهم في التفكير والعمل، وهي مناقب لا تخترع، ولا يضيرها أن يضاف فيها الخبر المخترع إلى الخبر الواقع؛ لأن الرواة المخترعين في هذه الحالة إنما ينقلون عن صورة أصيلة تمت في أذهانهم قبل اختراع أخبارهم عنها، فحاولوا أن تكون أخبارهم المخترعة مطابقة لحقيقتها.

ففي كل خبر من هذه الأخبار «المطلبية» إيمان وحزم ووفاء وجرأة على الخطر، ولكن في غير مغالطة ولا اصطناع، وإنما قوام ذلك كله حزم يملك زمامه، ويفعل واجبه كما يراه.

وأدعياء التاريخ خلقاء أن يسألوا أنفسهم هنا سؤالين لا يغفلهما أحد يفقه معنى تمحيص الخبر، وأولهما في هذا السياق: لماذا يخترع الرواة هذه الأخبار عن عبد المطلب دون غيره؟ وثانيهما: لماذا لم يخترعوها ولا اخترعوا أمثالها عن حرب بن أمية؟

فإذا كانت صورة الرجل في الأذهان هي علة الاختراع، فهناك حقيقة إذن ماثلة وراء هذه المخترعات، وهناك دلالة في اتفاق الأذهان على الاختراع أولى بالتصديق من اتفاقهم على رؤية العيان؛ لأن رؤية العيان تحتاج بعدها إلى البحث عما تدل.

وقد اتفقت الروايات كلها على صفات عبد المطلب قبل الاتفاق على أخباره، واتفقت الصفات والأخبار معًا على ملامح شخصية قوامها الإيمان والحزم والوفاء وضبط النفس في مواجهة القوة والخطر بعزيمة، لا تتهور في غير جدوى، ولا تنكص على عقبيها خوفًا من فوات الجدوى، وكلها صفات جديرة بآباء الأنبياء والمرسلين.

عبد المطلب

ولد عبد المطلب في المدينة وسمي «شيبة» تفاؤلًا له بطول العمر في أسرة لم يكن طول الأعمار من خصائصها، وتربى بعيدًا من آل أبيه، فصدق عليه في طفولته قول القائلين في عصرنا: إنَّ الطفل أبو الرجل؛ لأنه كان يلاعب الصبيان من لداته فيذكرون آباءهم، ويفخرون بهم عليه وهو لا يرى أباه بينهم، وحز ذلك في نفسه، فجعلت أمه تُسرِّي عنه وتحدثه عن آل أبيه ومآثرهم في جوار البيت الحرام، فطال اشتياقه إلى رؤيتهم والإقامة بينهم، بيد أنه أحجم عن السفر مع عمه «المطلب» حين قدم إلى المدينة لأخذه إلى مكة، وبصر بأمه في الدار حزينة واجمة تبكي لفراقه، وتستمهل عمَّه عسى أن يُبقيه لديها إلى عام قابل، فقهَر في تلك السن الباكرة شوقه إلى أهل أبيه، وقد عزَّ عليه في المدينة أن يفاخر بهم لداته بين آبائهم وذويهم، وقهَر في إبان الطفولة ذلك التطلع إلى المجهول، وذلك الحنين إلى الغرائب، وتلك الرغبة في كل حركة وكل انتقال من مكانه الذي هو فيه، وقال لعمه بعد أن تهلل لمرآه ورحب بالعودة معه إلى قومه: لن أترك أمي، أو تأذن لي بالسفر معك راضية!

وفي سفرته تلك سُمي عند مدخل مكة بعبد المطلب؛ لأن أهلها رأوه مع المطلب لأول مرة، فحسبوه عبدًا اشتراه، وجعلوا يدعونه باسم «عبد المطلب» كلما أرادوا أن يميزوه من أبنائه، فغلبت عليه.

وشبَّ الغلامُ عَزُوفًا أبيًّا لا يستكين للهضيمة، ولا ينزل عن حق له أو حق كان لأبيه، فلما أراد عمه نوفل أن يستأثر بمنزلة أبيه هاشم وميراثه لديه تحيَّن الفرصة للسفر إلى المدينة، وعاد إلى مكة بعصبة من أقارب أمه وأخواله، وهم أولو عصبة أشداء يشاد بغوثهم في مدائح الشعراء:

ولو بأبي وهب أنختُ مطيتي
غدت من نداه رحلها غير خائب

فتلقاهم عمه نوفل مرحبًا، ودعاهم إلى ضيافته، فلم يقبلوها أو يُرضي فتاهم، فصالحهم على ما يرضيهم ويرضيه.

وصح التفاؤل في عبد المطلب، فعاش حتى ناهز المائة أو جاوزها، ومات والنبي — عليه السلام — دون العاشرة، فعهد به إلى كفالة عمه أبي طالب شقيق أبيه.

وكل ما تفرقت فيه الروايات من أمره قد استقرت على صفة لا تتفرق فيها روايتان؛ وهي: صدق التدين والإيمان بمحارم الدين في سدانته أو في غير سدانته. واسم ولد من أولاده عبد العزي الذي اشتهر بعد ذلك باسم أبي لهب لزُهرة كانت في لون وجهه، ومن حديثه أنه كان يتعصب للعزى التي نمى إليها باسمه، وأنه زار أحد عبادها المتنسكين لها في مرض موته فوجده يبكي، فسأله: ما يبكيك؟ أمن الموت تبكي ولا مفر منه؟ قال الرجل: كلا، ولكني أخاف ألا تعبد العزى بعدي!

فقال أبو لهب: والله ما عبدت وأنت حي لأجلك، ولا تترك بعدك لموتك. فاطمأن الرجل ومات وهو يقول: الآن علمتُ أنَّ لي خليفة يرعاها.

وكانت العزى بوادي خراص على يمين المصعد إلى العراق، وكانت قريش قد حمت لها شعبًا يقال له: سقام، يضاهون به الكعبة، وهي التي يعنيها أبو جندب الهذلي إذ يقول في بعض غزله:

لقد حلفت جهدًا يمينًا غليظة
بفرع التي أحمت فروع سقام

ولها منحر تذبح فيه الذبائح، ويقصد إليه الحاج بعد منى كما يقول نهيكة الفزاري يخاطب عامر بن الطفيل:

يا عام لو قدرت عليك رماحنا
والراقصات إلى منى فالغبغب

وشأن هذه القصة في مناقب عبد المطلب أنَّ التدين لم يكن وسيلة من وسائل الرجل إلى طلب السيادة والسدانة، وأنه لم يتدين لأنه سادن الكعبة وصاحب المنفعة في تعظيمها؛ بل كان يعظم العزي ولا منفعة له في هذا التعظيم، وكان الدين عنده إيمانًا خالصًا من الحيلة ومن مآرب الكهانة.

ولا يخفى أنَّ الوراثة في الطبائع لا في الشعائر وظواهر العبادة، فمن كانت عنده عقيدة الإيمان بالغيب، والعلو بما يؤمن به عن عوارض الأهواء واللذات، وهان عليه نسيان المنافع والشهوات في سبيل رضاه، وطابت نفسه بالفداء وفرائض الطاعة والوفاء، فهذه هي الطبيعة التي تورث على اختلاف الشعائر والعبادات، ومثلها في ذلك مثل الشجاعة في القتال، ومثل السخاء بالمال؛ فإن الابن الذي يرث الشجاعة من أبيه لا يرث منه ميدانه، ولا تتوقف شجاعته الموروثة على سلاحه؛ فقد يحارب الابن بسلاح لم يعرفه أبوه، وفي ميدان غير ميدانه، وقد يبذل المال لإقامة مسجد ولم يبذل أبوه المال إلا لنحت صنم، أو ذبح قربان على وثن، ولا غضاضة على ما ورثه من شجاعة، ولا ما ورث من سخاء.

وهذه الطبيعة هي التي ينظر إليها الناظر في مناقب الأسرة الموروثة، فلو كان عبد المطلب ينافق بالتدين ليخدع به قومه، ويتذرع به إلى الرئاسة عليهم، لما كان هو عبد المطلب الذي تورث منه خصال الصدق والإيمان، ولكن تورث منه هذه الخصال حين يصدق في معتقده بالكعبة وبالعزى، وحين يدين الناس بما يدين به نفسه في رئاسة هؤلاء الناس.

أبو طالب

وكان أبو طالب — خليفته في الوصاية على النبي — أشبه أبنائه به في جميع خصاله ومناقبه.

والخلاف كثير في إسلام أبي طالب؛ إذ لم يتفق الرواة على إسلام أحد من أعمام النبي غير حمزة والعباس وهما في مثل سنِّه، والعباس يكبرهما بنحو ثلاث سنوات.

ولكن لا خلاف على حمايته له، وحبه إياه، وصبره على عداوة قريش كلها في سبيل نصرته، ورد أذاهم عنه، وقد لقي في ذلك ما يطيق وما لا يطيق، وعظم عليه الخطب، وأشفق من مغبته عليه وعلى ابن أخيه، فقال له في ساعة من أشد ساعات الحرج: «أبقِ على نفسك يا بني ولا تحملني من الألم ما لا أطيق.» فحزن النبي وحسب أنه سيخذله، وقال له وهو يهم بمفارقته: «والله يا عم، لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري، على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته.»

فلم يبرح النبي غير قليل حتى ناداه عمه وقال له وهو حزين لحزنه: «اذهب يا ابن أخي فقل ما أحببت، فوالله لا أسلمك لشيء أبدًا.»

وفي رواية ابن إسحاق: أنَّ رسول الله كان إذا حضرت الصلاة خرج إلى شعاب مكة وخرج معه علي بن أبي طالب مستخفيًا من أبيه أبي طالب ومن جميع أعمامه وسائر قومه، فيصليان الصلوات فيها، فإذا أمسيا رجعا، فمكثا كذلك ما شاء الله أن يمكثا، ثم إنَّ أبا طالب عثر عليهما يومًا وهما يصليان، فقال لرسول الله يا ابن أخي، ما هذا الدين الذي أراك تدين به؟ قال: «أي عم، هذا دين الله ودين رسله ودين أبينا إبراهيم، بعثني الله به رسولًا إلى العباد، وأنت — أي عم — أحق من بذلت له النصيحة ودعوته إلى الهدى، وأحق من أجابني إليه، وأعانني عليه.» فقال أبو طالب: «أي ابن أخي، إني لا أستطيع أن أفارق دين آبائي وما كانوا عليه، ولكن — والله — لا يخلص إليك بشيء تكرهه ما بقيت.»

وقال ابن إسحاق: «وذكروا أنه قال لعلىٍّ: أي بني، ما هذا الدين الذي أنت عليه؟ فقال: يا أبت آمنت بالله وبرسول الله، وصدقت بما جاء به، وصليت معه لله واتبعته. فزعموا أنه قال له: أما إنه لم يَدْعُك إلَّا إلى خير؛ فألزمه.»

وبرَّ أبو طالب بقسمه، وحمل السيف في سبيل نجدته، وروى القرطبي أنه ناجز أبا جهل وجلة قريش في مجموعهم يوم اعتدى ابن الزبعرى عليه في صلاته. وكان النبي — عليه السلام — قد دخل الكعبة ليصلي كعادته، فقال أبو جهل: من يقوم إلى هذا الرجل فيفسد عليه صلاته؟ فقام ابن الزبعرى فأخذ فرثًا ودمًا فلطخ به وجه النبي، وانفتل النبي من صلاته وقصد إلى عمه، فسأله عمه: من فعل هذا بك؟ قال: عبد الله بن الزبعرى، فقام أبو طالب ووضع سيفه على عاتقه ومشى معه حتى أتى القوم، فلما رأوه قد أقبل جعلوا ينهضون، فقال أبو طالب: والله لئن قام رجل لجللته بسيفي. فقعدوا حتى دنا منهم، وأخذ أبو طالب فرثًا ودمًا فلطخ به وجوههم ولحاهم، وانصرف وهو يغلظ لهم القول.

وقد تكفل أبو طالب بالنبي في طفولته الباكرة، وصحبه في غدواته وروحاته؛ خوفًا عليه من إساءة تمسه في غيابه، وانتوى السفر إلى الشام والنبي في نحو الثانية عشرة من عمره، فأشفق عليه أن يجشمه عناء السفر البعيد، ثم تهيأ للرحيل فتعلق به الغلام الودود وبكى لفراقه، فلم يقو على مفارقته وهو باكٍ، وقال لصحبه: والله لأخرجن به معي ولا يفارقني ولا أفارقه أبدًا.

ولقد كان الرجل الجليد يذكر أخاه كلما لمحت عيناه الغلام اليتيم فتشرق عيناه بالدموع، ويقول: ما أشبهه بعبد الله! وقد كان أبو طالب وعبد الله — كما تقدم — أخوين شقيقين، ولم يثبت قط أنَّ هذا العم الكريم تخلى طرفة عين عن ابن أخيه، أو أحزنه بكلمة لا ترضيه من طفولته إلى أن جهر بدعوته، ولم يخالف هذا الإجماع — من أخبار أبي طالب والنبي — أحد من المؤرخين، حتى أولئك المفسرين الذين حسبوا أنَّ أبا طالب هو المقصود بما جاء في القرآن في سورة الأنعام: وَإِن يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَّا يُؤْمِنُوا بِهَا ۚ حَتَّىٰ إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَٰذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ * وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ ۖ وَإِن يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ [الأنعام: ٢٥، ٢٦].

فقد وهم أولئك المفسرون أنَّ أبا طالب كان هو المقصود بهذه الآيات لأنه كان ينهي عن أذى النبي ولا يدين بدينه، ولم يكن أبو طالب ممن يلقون النبي ليجادلوه فيصدق عليه ذلك التفسير، وأوضح من خطأ هؤلاء المفسرين هنا ظنهم أنَّ أبا طالب مقصود بعد وفاته بقوله تعالى في سورة القصص: إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ [القصص: ٥٦]؛ فإن سورة الأنعام قد نزلت بعد سورة القصص كما جاء في كتاب الإتقان، فلا هداية ولا جدال ولا نهي عن أذى النبي بعد الوفاة.

وعلى الجملة تبدو لنا رعاية أبي طالب لابن أخيه — على الرغم من قريش — خلائق رحمة ونخوة ووفاء واعتداد بالجاه والكرامة، وتبدو لنا من سيرته كلها خلائق أخرى من قبيل هذه الخلائق التي تجمع بين الطيبة والقوة؛ فإننا نعلم أنه كان يلقب بسيد الأباطح، وأنه كان يخرج للتجارة آونة بعد أخرى، وأنَّ أباه عبد المطلب كان على ثراء عظيم، وكان سادات بني أمية ينافسونه بالغنى والسخاء، فلا يدركونه في هذا ولا ذاك.

ثم نعلم على كل هذا أنَّ أبا طالب قد لقي ضنكًا في شيخوخته، وأنَّ النبي قد أعانه بكفالة ابنه عليٍّ وتربيته في داره، ونعلم كذلك أنَّ النبي لم يكن على حال من الوفر قبل اشتغاله بتجارة السيدة خديجة، ومشاركته في ربح أموالها، فمصير ابن عبد المطلب وحفيده إلى حال من القلة بعد غنى الجدود الأوائل قد ينبئ عن نصيب الأسرة النبوية من السدانة، ومن مناصب الدين في البيت المعمور، فأكبر الظن أنها كانت مغرمًا يأخذ من أموالهم، ولم تكن مغنمًا يربحون منه الكثير أو القليل، ولولا سعة التجارة التي عمل فيها هاشم والمطلب حتى قيل: إنَّ أحدهما سن لقريش سنة الرحلتين إلى الشام واليمن لما وصل إليهما ذلك الثراء المشهور، ولا استطاعا النهوض بأعباء الشرف ومناصب الدين.

ولقد مر بنا من نجدة أبي طالب لابن أخيه ما تتم به فضيلة النجدة كاملة لهذا الشيخ الكريم، ولكنها كانت في الحق نجدة تتسع لكل قاصد ومستجير، ولو لم تكن حقوق ابن الأخ على عمه، فقد استجار به أبو سلمة صاحب بني مخزوم، فأجاره وأعلن على الملأ جواره، فمشى إليه رجال من بني مخزوم فقالوا: يا أبا طالب، ما هذا؟ منعت منَّا ابن أخيك محمدًا، فما لك ولصاحبنا تمنعه منا؟ قال: إنه استجار بي وهو ابن أختي، وإنَّ أنا لم أمنع ابن أختي لم أمنع ابن أخي.

فغضب أبو لهب في هذه المرة لأخيه الشيخ وثار بهم قائلًا: يا معشر قريش، والله لقد أكثرتم على هذا الشيخ، ما تزالون تتواثبون عليه في جواره من بين قومه، والله لتنتهن عنه أو لنقومن معه في كل ما قام فيه حتى يبلغ ما أراد. فخشي زعماء قريش مغبة الوفاق بين الأخوين في النجدة والجوار — وكان أبو لهب معهم على رسول الله في دعوته — فقالوا: بل ننصرف عما تكره يا أبا عتبة. وانصرفوا راغمين.

وحكي عن هشام بن السائب الكلبي عن أبيه في رواية لا نثبتها ولا ننفيها: أنَّ أبا طالب لما أحس الموت «جمع إليه وجوه قريش فأوصاهم فقال: يا معشر قريش، إني أوصيكم بمحمد خيرًا؛ فإنه الأمين في قريش، والصديق في العرب، وهو الجامع لكل ما أوصيكم به، وقد جاء بأمر قبله الجنان، وأنكره اللسان؛ مخافة الشنآن، وايم الله كأني أنظر إلى صعاليك العرب، وأهل الوبر والأطراف المستضعفين من الناس قد أجابوا دعوته، وصدقوا كلمته، وعظموا أمره، فخاض بهم غمرات الموت، فصارت رؤساء قريش وصناديدها أذنابًا، ودورها خرابًا، وضعفاؤها أربابًا، وإذا أعظمهم عليه أحوجهم إليه، وأبعدهم منه، وأحظاهم عنده، قد محضته العرب ودادها، وأصفت له فؤادها، وأعطته قيادها. يا معشر قريش، كونوا له ولاة، ولحزبه حماة، والله لا يسلك أحد سبيله إلا رشد، ولا يأخذ بهديه إلا سعد، ولو كان لنفسي مدة، ولأجلي تأخير؛ لكففت عنه الهزاهز، ولدفعت عنه الدواهي …»

وهذه الوصية لا يثبتها القارئ لها على هذا الأسلوب إلا أن تكون لسان حال لا لسان مقال، وإلا أن يكون ما قيل بعض لفظها وبعض معناها، ولم يكن كل ما جاء فيها.

العباس وحمزة

وعمان آخران غير أبي طالب كانت لهما شهرة وصلة بالدعوة النبوية عرفنا منها بعض ما اتصفا به من صفات وكفايات، وهما: العباس وحمزة، وكلاهما أخ لعبد الله غير شقيق.

فالعباس على صغره تولى السقاية بعد أبيه، وامتاز بين سادات قريش بالرأي والدهاء وطول الأناة، وكان له علم بالأنساب، وقدرة على تألُّف الناس ودفع العداوات، مع هيبة يحسب لها حسابها جلة قريش من هاشميين وأمويين، وهو جد بني العباس، ومن خلائقه خلائق أبنائه الكفاة الدهاة من كل رئيس مطاع في هذا البيت الفريد بين بيوتات الهاشميين.

وحمزة فارس الفرسان في خلائق الفروسية كلها من شجاعة وصدق وإيمان ودراية بالسيف والخيل، قال ابن إسحاق في قصة إسلامه: «فلم يلبث حمزة بن عبد المطلب — رضي الله عنه — أن أقبل متوشحًا قوسه، راجعًا من قنص يرميه ويخرج له، وكان إذا خرج من قنصه لم يصل إلى أهله حتى يطوف بالكعبة، وكان إذا فعل ذلك لم يمر على نادٍ من قريش إلا وقف وسلَّم وتحدث معهم، وكان أعز فتًى في قريش وأشد شكيمة، فلما مر بالمولاة — مولاة عبد الله بن جدعان — قالت له: يا أبا عمارة، لو رأيت ما لقي ابن أخيك محمد آنفًا من أبي الحكم بن هشام، وجده ها هنا جالسًا، فآذاه وسبه وبلغ منه ما يكره، ثم انصرف عنه ولم يكلمه محمد .

فاحتمل حمزة الغضب لما أراد الله به، من كرامته، فخرج يسعى ولم يقف على أحد، مُعدًّا لأبي جهل إذا لقيه أن يُوقع به، فلما دخل المسجد نظر إليه جالسًا في القوم فأقبل نحوه، حتى إذا قام على رأسه رفع القوس، فضرَبه بها فشجَّه شجة منكرة، ثم قال: أتشتمه؟ فأنا على دينه أقول ما يقول، فَرُدَّ ذلك عليَّ إن استطعت. فقامت رجال من بني مخزوم لينصروا أبا جهل، فقال أبو جهل: دعوا أبا عمارة؛ فإني والله قد سببت محمدًا ابن أخيه سبًّا قبيحًا …»

قال القوم: ما نراك يا حمزة إلا قد صبأت.

فقال حمزة: وما يمنعني وقد استبان لي منه ذلك … أنا أشهد أنه رسول الله.

ومن أعمام رسول الله غير حمزة والعباس رجلان لم يسلما؛ وهما: الزبير وعبد العزى أبو لهب، وكلاهما كان يحتفي بالطفل الصغير ويدلله ويواليه بالسؤال عنه، وكان الزبير يرقصه بأبيات الشعر يرجو له طول العمر والنجابة، ووهب له أبو لهب جاريته ثويبة ترضعه وتخدمه في طفولته. ولا نعرف من أخبار الزبير ما ينبئ عن صفاته وكفاياته، وأما أبو لهب فالمعروف عنه — ولا سيما في علاقاته بابن أخيه بعد الدعوة — غير قليل.

كان بنو هاشم وبنو المطلب جميعًا في نصرة النبي من آمن منهم به ومن لم يؤمن، ما عدا أبا لهب وبنيه، وفيه نزلت الآيات: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَىٰ عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَىٰ نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ [المسد: ١–٥].

وتعليل هذا الشذوذ أنه من لوازم الأسر الكبيرة التي لا تشذ منها أسرة ذات خطر في التاريخ، فهو هنا القياس المطرد مع طبائع الأمور، كان من علله أنه يدعى بعبد العزى؛ يتعصب لها ويغضب أن يحسب أحدٌ أمامه أنَّ عبادتها مرهونة بحياته كما تقدم.

وكان من علله أنفة الكبير أن ينقاد للصغير، ولا ننسى أنها أنفة لا تستغرب في عشائر البادية، وعشائر الرئاسة منها على التخصيص، ومن استغربها فليذكر أنَّ العباس وحمزة — عمي الرسول اللذين أسلما — كانا من لِدَاتِه عليه السلام، إلا سنوات ثلاثًا أو أربعًا تقدم بها العباس، فكان لها أثرها في تأخير إسلامه سنوات.

وكان من علل ذلك الشذوذ أنه كان على حلف ومشاركة لبيوتات قريش كلها؛ لكثرة ماله وسعة تجارته وأعماله، وقد قال للنبي في مجمع الأسرة: هؤلاء هم عمومتك وبنو عمك، فتكلم ودع الصبأة، واعلم أنه ليس لقومك بالعرب قاطبةً طاقةٌ، وأنا أحق من أخذك، فحسبك بنو أبيك، وإن أقمت عليه فهو أيسر عليهم من أن يَثبَ بك بطون قريش وتمدهم العرب، فما رأيت أحدًا جاء على بني أبيه بشرٍّ مما جئتهم به.

وفي مجلس آخر قال له أبو طالب: هؤلاء بنو أبيك مجتمعون، وإنما أنا أحدهم، غير أني أسرعهم إلى ما تحب، فامض لما أُمرت؛ فوالله لا أزال أحوطك وأمنعك، غير أنَّ نفسي لا تطاوعني على فراق دين عبد المطلب.

قال أبو لهب: هذه والله السوءة؛ خذوا على يديه قبل أن يأخذ غيركم. وانفض المجلس على غيظ يكظمه أبو لهب، وعهد يُبرمه أبو طالب ويقول فيه مُقسمًا: والله لنمنعنَّه ما بقينا.

وهذا هو الهوى الذي يزين لصاحبه أن يسوقه مساق الحكمة والحيطة، فيزعم أنه يدفع الشر عن ابن أخيه وعن قومه، ويجنبهم ما لا يطيقونه من جهاد العرب، وإنه في طَوِيَّته ليأنف أن ينقاد لمن هو أصغر منه، ويخشى ما يصيبه من جراء انقياده لو سلست له كبرياؤه.

•••

وليس من العلل التي تنسى في هذا المقام أنه كان زوجًا لأخت أبي سفيان، وأنَّ ولديه كانا متزوجين لرقية وأم كلثوم كريمتي رسول الله، وبين الزوجتين والزوجة إحَنٌ لا تهدأ، ولا تزال تتحين الفرصة للوقيعة والتفرقة والعداء.

وأيًّا ما كان من أبي لهب فهو الشذوذ الذي يستغرب ألا يكون، وليس بالغريب أن يكون!

وأشهر أبناء الأسرة من غير الأعمام ابن عمه الحبيب وابنه بالتربية: علي بن أبي طالب رضوان الله عليه، وصفاته وكفاياته تأخذ من كل سيد من ساداتها بنصيب: شجاعة، وطيبة، وفهم، وإقبال على المعرفة، وإيثار للمعروف.

أسرة لا تخرج النبوة وما خرجت قط من خير منها.

ونشأة النبي — عليه السلام — فيها أصدق المقدمات التي قلنا: إنها مقدمات التمهيد والتحضير، إلا أنها كسائر المقدمات التي مهدت من جانب لتقيم المصاعب كلها من جانب آخر.

أسرة عزيزة الآباء والأجداد، فخرها بالنسب أعظم من كل فخر، وسيادتها بالخلائق الموروثة أثبت من كل سيادة، ثم ينشأ لها من بينها نبي ينعى على الآباء والأجداد ما كانوا عليه من ضلالة، ويُنكرُ مِن الأبناء أن يسلكوا مسلكهم، ويهيموا على آثارهم، ويقول لهم كما قال إبراهيم: قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ [الأنبياء: ٥٤].

ويهيب بمن آمن منهم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ [التوبة: ٢٣].

ويدعوهم أن يتَّبعوا ما أنزل الله؛ لأن آباءهم لا يعقلون: وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ۗ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ [البقرة: ١٧٠].

لقد نشأ محمد في الأسرة التي تعطيه خير ما تعطي الأسر بنيها.

ولكنه جاءها بالنبوة التي لا يعطيها غير الله!

وكانت الأسرة تمهيدًا له فيما ورث منها.

ولكنها وما ورثت من قومها هي عقبة الأرض التي تمهدها السماء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤