فلما كانت الليلة ٦٤٥

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الجمرقان لما وقع بينه وبين جوامرد القتال، قتله وقتل قومه وأسر منهم خلقًا كثيرًا وأخذ أموالهم وخيلهم وأثقالهم، وأرسلها مع ألف فارس إلى الكوفة. وأما الجمرقان وعساكر الإسلام، فإنهم نزلوا عن الخيل وعرضوا الإسلام على الأسارى فأسلموا قلبًا ولسانًا، فحلوهم من الرباط وعانقوهم وفرحوا بهم، وقد سار الجمرقان في جيش عظيم وأراح قومه يومًا وليلة، ثم رحل بهم عند الصباح قاصدًا بلاد الجلند بن كركر، وسار الألف فارس بالغنيمة حتى وصلوا إلى الكوفة، وأعملوا الملك غريبًا بما جرى، ففرح واستبشر والتفت إلى غول الجبل وقال له: اركب وخذ معك عشرين ألفًا واتبع الجمرقان. فركب سعدان الغول وأولاده في عشرين ألف فارس وقصدوا مدينة عمان، ووصل المنهزمون من الكفار إلى المدينة وهم يبكون ويدعون بالويل والثبور، فاندهش الجلند بن كركر وقال لهم: ما مصيبتكم؟ فأخبروه بما جرى لهم، فقال لهم: ويلكم، وكم كانوا؟ فقالوا: يا ملك، كانوا عشرين علمًا، وكل علم تحته ألف فارس. فلما سمع الجلند هذا الكلام قال: لا طرحت الشمس فيكم بركةً، يا ويلكم! أيغلبكم عشرون ألفًا وأنتم سبعون ألف فارس، وجوامرد مقوم بثلاثة آلاف في حومة الميدان؟ ومن شدة غمه سلَّ سيفه وصاح فيهم وقال لمَن حضر: عليكم بهم. فسلَّ القوم سيوفهم على المنهزمين، فأفنوهم عن آخِرهم ورموهم للكلاب، ثم بعد ذلك صاح الجلند على ابنه وقال له: اركب في مائة ألف فارس وامضِ إلى العراق وخرِّبه على الإطلاق. وقد كان ابن الملك الجلند اسمه القورجان، ولم يكن في عسكر أبيه أفرس منه، وكان يحمل على ثلاثة آلاف فارس، فأخرج القورجان خيامه وابتدرت الأبطال وخرجت الرجال، وأخذوا أهبتهم ولبسوا عدتهم، ورحلوا يتلو بعضهم بعضًا والقورجان قدام العسكر، وقد أعجب بنفسه وأنشد هذه الأبيات:

أَنَا الْقُورَجَانُ وَذِكْرِي اشْتَهَرْ
قَهَرْتُ أَهَالِي الْفَلَا وَالْحَضَرْ
فَكَمْ فَارِسٍ حِينَ أَرْدَيْتُهُ
يَخُورُ عَلَى الْأَرْضِ مِثْلَ الْبَقَرْ
وَكَمْ مِنْ عَسَاكِرَ فَرَّقْتُهُمْ
وَدَحْرَجْتُ هَامَاتِهِمْ كَالْأُكَرْ
فَلَا بُدَّ أَنِّي أَغْزُو الْعِرَاقَ
وَأُبْدِي دِمَاءَ الْعِدَا كَالْمَطَرْ
وَأَسْبِي غَرِيبًا وَأَبْطَالَهُ
فَيَضْحَوْا نِكَالًا لِأَهْلِ النَّظَرْ

ثم سار القوم اثني عشر يومًا، فبينما هم سائرون وإذا هم بغبار قد ثار حتى سد الأفق، فصاح القورجان على السعاة وقال: ائتوني بخبر هذا الغبار. فساروا حتى عبروا تحت الأعلام وعادوا للقورجان وقالوا: يا ملك، إن هذا غبار المسلمين. ففرح وقال لهم: هل أحصيتموهم؟ فقالوا: عددنا من الأعلام عشرين علمًا. فقال: وحق ديني ما أجرد عليهم أحدًا، وإنما أخرج لهم وحدي، وأجعل رءوسهم تحت حوافر الخيل. وكان هذا الغبار غبارَ الجمرقان، وقد نظر إلى عساكر الكفار فرآهم مثل البحر الزاخر، فأمر قومه بالنزول ونصب الخيام، فنزلوا وأقاموا الأعلام وهم يذكرون الملك العلَّام خالق النور والظلام، رب كل شيء الذي يَرَى ولا يُرَى، وهو بالمنظر الأعلى سبحانه وتعالى، لا إله إلا هو. ونزل الكفار ونصبوا خيامهم وقال لهم: خذوا أهبتكم، واحملوا عُدَدكم، ولا تناموا إلا وأنتم بأسلحتكم، فإذا كان الثلث الأخير فاركبوا ودوسوا هذه الشرذمة القليلة. وكان جاسوس الجمرقان واقفًا يسمع ما دبَّرَتْه الكفار، فعاد وأخبر الجمرقان، فالتفت لأبطاله وقال: احملوا سلاحكم وإذا أقبل الليل ائتوني بالبغال والجمال، وائتوني بالجلاجل والقلاقل والأجراس، واجعلوها في أعناق الجمال والبغال. وكانت أكثر من عشرين ألف جمل وبغل، وصبروا على الكفار حتى دخلوا في المنام، ثم أمر الجمرقان قومه بالركوب، وعلى الله توكَّلوا وطلبوا النصر من رب العالمين، ثم قال لهم: سوقوا الجمال والدواب نحو الكفار، وانخسوها بأسِنَّة الرماح. ففعلوا ما أمرهم بسائر البغال والجمال، ثم هجموا على خيام الكفار، وقد قعقعت الجلاجل والقلاقل والأجراس، والمسلمون خلفهم وهم يقولون: الله أكبر. وقد طنت الجبال والتلال بذِكْر الملك المتعال، مَن له العظمة والجلال، وهجمت الخيل لما سمعت هذه الحيلة العظيمة، وداست الخيام والناس نيام. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤