فلما كانت الليلة ٦٨٦

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن أمير المؤمنين لما سمع هذه الأبيات من البنت أعجبته ملاحتها وفصاحتها، فقال لها: يا بنت الكرام، أهذا من مقولك أم من منقولك؟ قالت: من مقولي. قال: إذا كان كلامك صحيحًا، فأمسكي المعنى وغيِّرِي القافية. فأنشدت تقول:

قُولِي لِطَيْفِكِ يَنْثَنِي
عَنْ مَضْجَعِي وَقْتَ الْوَسَنْ
كَيْ أَسْتَرِيحَ وَتَنْطَفِي
نَارٌ تَأَجَّجُ فِي الْبَدَنْ
دَنِفٌ تُقَلِّبُهُ الْأَكُـ
ـفُّ عَلَى بِسَاطٍ مِنْ شَجَنْ
أَمَّا أَنَا فَكَمَا عَلِمْـ
ـتِ فَهَلْ لِوَصْلِكِ مِنْ ثَمَنْ

فقال لها: والآخَر مسروق؟ قالت: بل كلامي. فقال: إن كان كلامك أيضًا، فأمسكي المعنى وغيِّري القافية. فجعلت تقول:

قُولِي لِطَيْفِكِ يَنْثَنِي
عَنْ مَضْجَعِي وَقْتَ الرُّقَادْ
كَيْ أَسْتَرِيحَ وَتَنْطَفِي
نَارٌ تَأَجَّجُ فِي الْفُؤَادْ
دَنِفٌ تُقَلِّبُهُ الْأَكُـ
ـفُّ عَلَى بِسَاطٍ مِنْ سُهَادْ
أَمَّا أَنَا فَكَمَا عَلِمْـ
ـتِ فَهَلْ لِوَصْلِكِ مِنْ سَدَادْ

فقال لها: والآخر مسروق؟ فقالت: بل كلامي. فقال لها: إن كان كلامك فأمسكي المعنى وغيِّري القافية. فقالت:

قُولِي لِطَيْفِكِ يَنْثَنِي
عَنْ مَضْجَعِي وَقْتَ الْهُجُوعْ
كَيْ أَسْتَرِيحَ وَتَنْطَفِي
نَارٌ تَأجَّجُ فِي الضُّلُوعْ
دَنِفٌ تُقَلِّبُهُ الْأَكُـ
ـفُّ عَلَى بِسَاطٍ مِنْ دُمُوعْ
أَمَّا أَنَا فَكَمَا عَلِمْـ
ـتِ فَهَلْ لِوَصْلِكِ مِنْ رُجُوعْ

فقال لها أمير المؤمنين: من أي هذا الحي؟ قالت: من أوسطه بيتًا وأعلاه عمودًا. فعلم أمير المؤمنين أنها بنت كبير الحي، ثم قالت له: وأنت من أي رعاة الخيل؟ فقال: من أعلاها شجرة وأينعها ثمرةً. فقبَّلَتِ الأرض وقالت: أيَّدَك الله يا أمير المؤمنين. ودعت له، ثم انصرفت مع بنات العرب، فقال الخليفة لجعفر: لا بد من زواجها. فتوجَّهَ جعفر إلى أبيها وقال له: إن أمير المؤمنين يريد ابنتك. فقال: حبًّا وكرامةً تُهدَى جارية إلى حضرة مولانا أمير المؤمنين. ثم جهَّزَها وحملها إليه وتزوَّجها، ودخل بها، فكانت عنده من أعز نسائه، وأعطى والدها ما يستره بين العرب من الأنعام، ثم بعد ذلك انتقل والدها إلى رحمة الله تعالى، فورد على الخليفة خبر وفاة أبيها، فدخل عليها وهو كئيب، فلما شاهدته وعليه الكآبة نهضت، ودخلت إلى حجرتها، وخلعت كل ما كان عليها من الثياب الفاخرة، ولبست الحداد وأقامت النعي عليه، فقيل لها: ما سبب هذا؟ فقالت: مات والدي. فمضوا إلى الخليفة، فأخبروه فقام وأتى إليها وسألها مَن أخبرك بهذا الخبر؟ قالت: وجهك يا أمير المؤمنين. قال: وكيف ذلك؟ قالت: لأني منذ استقررْتُ عندك ما رأيتُك هكذا إلا في هذه المرة، ولم يكن لي مَن أخاف عليه إلا والدي لكِبَره، وتعيش رأسك يا أمير المؤمنين. فتغرغرتْ عيناه بالدموع، وعزَّاها فيه، وأقامت مدة حزينة على والدها، ثم لحقت به رحمة الله عليهم أجمعين.

حكاية الأصمعي والبنات الثلاث

وحُكِي أيضًا أن أمير المؤمنين هارون الرشيد أرق أرقًا شديدًا في ليلة من الليالي، فقام من فراشه وتمشَّى من مقصورة إلى مقصورة، ولم يزل قَلِقًا في نفسه قَلَقًا زائدًا، فلما أصبح قال: عليَّ بالأصمعي. فخرج الطواشي إلى البوابين وقال: يقول لكم أمير المؤمنين أرسلوا لي الأصمعي. فلما حضر أُعلِم به أمير المؤمنين، فأمر بإدخاله وأجلسه ورحَّبَ به وقال له: يا أصمعي، أريد منك أن تحدِّثني بأجود ما سمعتَ من أخبار النساء وأشعارهن. فقال: سمعًا وطاعة. لقد سمعتُ كثيرًا، ولم يعجبني سوى ثلاثة أبيات أنشدهن ثلاث بنات. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤