فلما كانت الليلة ٦٩١

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن جميلًا قال لابن عمه أن يأخذ الجارية ويذهبا بها في الليل، ويكون عونًا له ومساعدًا مدة حياته، فلما سمع ذلك قال: يا ابن العم، حتى أشاورها في ذلك، فإنها عاقلة لبيبة بصيرة بالأمور. قال جميل: فلما جنَّ الليل وحان وقت مجيئها وهو ينتظرها في الوقت المعلوم، فأبطأت عن عادتها، فرأيتُ الفتى خرج من باب الخباء، وفتح وجعل يتنسَّم هبوب الريح الذي يهب من نحوها، وينشق ريَّاها، وينشد هذين البيتين:

رِيحُ الصِّبَا تُهْدِي إِلَيَّ نَسِيمُ
مِنْ بَلْدَةٍ فِيهَا الْحَبِيبُ مُقِيمُ
يَا رِيحُ فِيكِ مِنَ الْحَبِيبِ عَلَامَةٌ
أَفَتَعْلَمِينَ مَتَّى يَكُونُ قُدُومُ؟

ثم دخل الخباء وقعد ساعةً زمانية وهو يبكي، ثم قال: يا ابن العم، إن لابنة عمي في هذه الليلة نبأ، وقد حدث لها حادث أو عاقها عني عائق. ثم قال لي: كن مكانك حتى آتيك بالخبر. ثم أخذ سيفه وترسه، ثم غاب عني ساعة من الليل، ثم أقبل وعلى يديه شيء يحمله، ثم صاح عليَّ فأسرعتُ إليه، فقال: يا ابن العم، أتدري ما الخبر؟ فقلت: لا والله. فقال: لقد فُجِعت في ابنة عمي هذه الليلة؛ لأنها قد توجَّهَتْ إلينا، فتعرَّض لها في طريقها أسد فافترسها، ولم يُبْقِ منها إلا ما ترى. ثم طرح ما كان على يده فإذا هو مشاش الجارية، وما فضل من عظامها، ثم بكى بكاءً شديدًا ورمى القوس من يده، وأخذ كيسًا على يده، ثم قال لي: لا تبرح إلى أن آتيك إن شاء الله تعالى. ثم سار فغاب عني ساعة، ثم عاد وبيده رأس أسدٍ فطرحه من يده، ثم طلب ماء فأتيته به، فغسل فم الأسد، وجعل يقبِّله ويبكي، وزاد حزنه، وجعل ينشد هذه الأبيات:

أَلَا أَيُّهَا اللَّيْثُ الْمُعِزُّ بِنَفْسِهِ
هُلِكْتَ وَقَدْ هَيَّجْتَ لِي بَعْدَهَا حُزْنَا
وَصَيَّرْتَنِي فَرْدًا وَقَدْ كُنْتُ إِلْفَهَا
وَصَيَّرْتَ بَطْنَ الْأَرْضِ قَبْرًا لَهَا هُنَا
أَقُولُ لِدَهْرٍ سَاءَنِي بِفِرَاقِهَا
أَعُوذُ بِرَبِّي أَنْ تُرِينِي لَهَا خِدْنَا

ثم قال: يا ابن العم، سألتك بالله وبحق القرابة والرحم التي بيني وبينك أن تحفظ وصيتي، فستراني الساعة ميتًا بين يديك، فإذا كان ذلك فغسِّلْني وكفِّنْي أنا وهذا الفاضل من عظام ابنة عمي في هذا الثوب، وادفِنَّا جميعًا في قبر واحد، واكتب على قبرنا هذين البيتين:

كُنَّا عَلَى ظَهْرِهَا وَالْعَيْشُ فِي رَغَدٍ
وَالشَّمْلُ مُجْتَمِعٌ وَالدَّارُ وَالْوَطَنُ
فَفَرَّقَ الدَّهْرُ وَالتَّصْرِيفُ إِلْفَتَنَا
وَصَارَ يَجْمَعُنَا فِي بَطْنِهَا الْكَفَنُ

ثم بكى بكاءً شديدًا، ثم دخل الخباء وغاب عني ساعةً وخرج، وصار يتنهد ويصيح، ثم شهق شهقة ففارَقَ الدنيا، فلما رأيت ذلك منه عظم عليَّ وكبر عندي حتى كدتُ ألحق به من شدة حزني عليه، ثم تقدَّمْتُ إليه فأضجعته وفعلتُ به ما أمرني من العمل وكفَّنْتُهما جميعًا، ودفنتهما جميعًا في قبر واحد، وأقمت عند قبرهما ثلاثة أيام، ثم ارتحلتُ وأقمت سنتين أتردَّد إلى زيارتهما. وهذا ما كان من حديثهما يا أمير المؤمنين. فلما سمع الرشيد كلامه استحسنه، وخلع عليه، وأجازه جائزة حسنة.

حكاية الأعرابي وزوجته الوفية

وحُكِي أيضًا أيها الملك السعيد، أن أمير المؤمنين معاوية جلس يومًا في مجلس له بدمشق وكان الموضع مفتوح الطيقان من الجهات الأربع، يدخل فيه النسيم من كل جانب، فبينما هو جالس ينظر إلى بعض الجهات، وكان يومًا شديد الحر لا نسيم فيه، وكان ذلك في وسط النهار وقد اشتدت الهاجرة، إذ نظر إلى رجل يمشي وهو يتلظى من حر التراب، ويحجل في مشيه حافيًا، فتأمَّله وقال لجلسائه: هل خلق الله سبحانه وتعالى أشقى ممَّن يحتاج إلى الحركة في هذا الوقت وفي هذه الساعة مثل هذا؟ قال بعضهم: لعله يقصد أمير المؤمنين. فقال: والله لئن قصدني لَأعطينه، وإن كان مظلومًا لَأنصرنه. يا غلام قف بالباب فإذا طلب الدخول عليَّ هذا الأعرابي لا تمنعه من الدخول عليَّ. فخرج فوافاه الأعرابي، فقال له: ما تريد؟ قال: أريد أمير المؤمنين. قال له: ادخل. فدخل وسلَّمَ عليه. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤