فلما كانت الليلة ٧١١

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن أحمد اللقيط لما جرى قدَّام الشاطر علي وأراه القاعة وعرفها، قبض على الولد، وأراد أن يخلص منه الدينار فلم يقدر، فقال له: رح تستاهل الإكرام؛ لأنك زكي كامل العقل والشجاعة، وإن شاء الله إن عملت مقدمًا عند الخليفة أجعلك من صبياني. فراح الولد. وأما علي الزيبق المصري فإنه أقبل على القاعة، وطرق الباب، فقال أحمد الدنف: يا نقيب افتح الباب، هذه طرقة علي الزيبق المصري. ففتح له الباب ودخل على أحد الدنف وسلَّم عليه وقابله بالعناق، وسلَّم عليه الأربعون، ثم إن أحمد الدنف ألبسه حلة، وقال له: إني لما ولَّاني الخليفة مقدمًا عنده، كسا صبياني، فأبقيت لك هذه الحلة. ثم أجلسوه في صدر المجلس بينهم، وأحضروا الطعام فأكلوا، والشراب فشربوا وسكروا إلى الصباح، ثم قال أحمد الدنف لعلي المصري: إياك أن تشق في بغداد، بل استمر جالسًا في هذه القاعة. فقال له: لأي شيء؟ فهل جئتُ لأُحْبَس؟ أنا ما جئتُ إلا لأجل أن أتفرَّج. فقال له: يا ولدي، لا تحسب أن بغداد مثل مصر، هذه بغداد محل الخلافة، وفيها شطار كثير، وتنبت فيها الشطارة كما ينبت البقل في الأرض. فأقام علي في القاعة ثلاثة أيام، فقال أحمد الدنف لعلي المصري: أريد أن أقربك عند الخليفة لأجل أن يكتب لك جامكية. فقال له: حتى يئين الأوان. فترك سبيله.

fig16
كان قاعدًا في القاعة، فانقبَضَ قلبُه وضاق صَدْرُه.
fig17
فطلبَت منه زينب أن يقصد جبْرَ قلبها، ومشت وتَبِعها من زقاقٍ إلى زقاقٍ.

ثم إن عليًّا كان قاعدًا في القاعة يومًا من الأيام، فانقبض قلبه وضاق صدره، فقال لنفسه: قم شق في بغداد ينشرح صدرك. فخرج وسار من زقاق إلى زقاق، فرأى في وسط السوق دكانًا، فدخل وتغدى فيه، وطلع يغسل يديه، وإذا بأربعين عبدًا بالشريطات البولاد واللبد، وهم سائرون اثنين اثنين، وآخِر الكل دليلة المحتالة راكبة فوق بغلة، وعلى رأسها خوذة مطلية بالذهب وبيضة من بولاد وزردية، وما يناسب ذلك، وكانت دليلة نازلة من الديوان إلى الخان، فلما رأت علي الزيبق المصري تأمَّلَتْ فيه فرأته يشبه أحمد الدنف في طوله وعرضه، وعليه عباءة وبرنس وشريط من بولاد ونحو ذلك، والشجاعة لائحة عليه تشهد له ولا تشهد عليه، فسارت إلى الخان، واجتمعت ببنتها زينب، وأحضرت تخت رمل، فضربت الرمل فطلع لها اسمه علي المصري، وسعده غالب على سعدها وسعد بنتها زينب. فقالت لها: يا أمي أي شيء ظهر لك حين ضربتِ هذا التخت؟ فقالت: أنا رأيت اليوم شابًّا يشبه أحمد الدنف، وخائفة أن يسمع أنك أعريتِ أحمد الدنف وصبيانه، فيدخل الخان ويلعب معنا منصفًا لأجل أن يخلِّص ثأر كبيره، وثأر الأربعين، وأظن أنه نازل في قاعة أحمد الدنف. فقالت لها بنتها زينب: أي شيء هذا؟ أظن أنك حسبت حسابه. ثم لبست بدلة من أفخر ما عندها، وخرجت تشق في البلد. فلما رآها الناس صاروا يتعشقون فيها، وهي توعد وتحلف وتسمع وتسطح، وسارت من سوق إلى سوق حتى رأت عليًّا المصري مُقبِلًا عليها، فزاحمَتْه بكتفها والتفتت، وقالت: الله يحيي أهل النظر. فقال لها: ما أحسن شكلك! لمَن أنت؟ فقالت: للغندور الذي مثلك. فقال لها: هل أنت متزوجة أم عازبة؟ فقالت: متزوجة. فقال لها: عندي أم عندك؟ فقالت: أنا بنت تاجر، وزوجي تاجر، وعمري ما خرجت إلا في هذا اليوم، وما ذاك إلا أني طبخت طعامًا وأردت أن آكل فما لقيت لي نفسًا، ولما رأيتك وقعتْ محبتُك في قلبي، فهل يمكن أن تقصد جبر قلبي، وتأكل عندي لقمة؟ فقال لها: مَن دُعِي فَلْيُجِبْ.

ومشت وتبعها من زقاق إلى زقاق، ثم قال في نفسه وهو ماشٍ خلفها: كيف تفعل وأنت غريب؟ وقد ورد مَن زنى في غربته ردَّه الله خائبًا، ولكن ادفعها عنك بلطف. ثم قال: خذي هذا الدينار واجعلي الوقت غير هذا. فقالت له: والاسمِ الأعظمِ ما يمكن إلا أن تروح معي في هذا الوقت إلى البيت وأصافيك. فتبعها إلى أن وصلت باب دارٍ عليها بوابة عالية والضبة مغلقة، فقالت له: افتح هذه الضبة. فقال لها: وأين مفتاحها؟ فقالت له: ضاع. فقال لها: كلُّ مَن فتح ضبة بغير مفتاح يكون مجرمًا، وعلى الحاكم تأديبه، وأنا ما أعرف شيئًا حتى أفتحها بلا مفتاح. فكشفت الإزار عن وجهها، فنظرها نظرة أعقبته ألف حسرة، ثم أسبلت إزارها على الضبة وقرأت عليها أسماء أم موسى ففتحتها بلا مفتاح، ودخلت فتبعها، فرأى سيوفًا وأسلحة من البولاد، ثم إنها خلعت الإزار وقعدت معه، فقال لنفسه: استوفِ ما قدَّرَه الله عليك. ثم مال عليها ليأخذ قبلةً من خدها، فوضعت كفها على خدها، وقالت له: ما صفاء إلا في الليل. وأحضرت سفرة طعام ومدام فأكلا وشربا، وقامت ملأت الإبريق من البئر وكبت على يديه فغسلهما. فبينما هما كذلك وإذا بها دقت على صدرها وقالت: إن زوجي كان عنده خاتم من ياقوت مرهون على خمسمائة دينار، فلبسته فجاء واسعًا فضيَّقته بشمعة، فلما أدليت الدلو سقط الخاتم في البئر، ولكن التفت إلى جهة الباب حتى أتعرَّى، وأنزل البئر لأجيء به. فقال لها: عيب عليَّ أن تنزلي وأنا موجود، فما ينزل إلا أنا. فقلع ثيابه، وربط نفسه في السلبة، وأدلته في البئر، وكان الماء فيه غزيرًا، ثم قالت له: إن السلبة قد قصرت مني، ولكن فك نفسك وانزل. ففكَّ نفسه ونزل في الماء وغطس فيه قامات، ولم يحصل قرار البئر، وأما هي فإنها لبست إزارها وأخذت ثيابه، وراحت إلى أمها. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤